الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٧

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٧

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-199-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٤

فلما نزلت أتيته فجعلت أحدثه ، فقلت : يا رسول الله ، ما المال الذي ليست عليّ فيه تبعة من ضيف ضافني ، أو عيال كثروا عليّ؟

قال : «نعم المال الأربعون ، والأكثر الستون ، وويل لأصحاب المئين إلا من أعطى من رسلها ونجدتها ، وأطرق فحلها ، وأفقر ظهرها ، [ومنح غزيرتها] ، ونحر سمينها ، وأطعم القانع والمعتر».

قال : يا رسول الله ، ما أكرم هذه وأحسنها ، إنه لا يحل بالوادي الذي أنا فيه لكثرة إبلي.

فقال : «فكيف تصنع بالطروقة»؟

قال : قلت تغدو الإبل ويغدو الناس ، فمن شاء أخذ برأس بعير فذهب به.

قال : «فكيف تصنع في الأفقار»؟

قلت : إني لأفقر الناب المدبرة والضرع الصغير.

قال : «فكيف تصنع في المنيحة»؟

قلت : إني لأمنح في كل سنة مائة.

قال : «فمالك أحب إليك أم مال مواليك»؟

قلت : لا ، بل مالي.

قال : «إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو أعطيت فأمضيت ، وسائره لمواليك».

فقلت : والله لئن بقيت لأقلن عددها (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٩٩ و ٤٠٠ عن الطبراني في الكبير ج ١٨ ص ٣٣٩

١٦١

قال الحسن البصري : فعل والله. فلما حضرت قيسا الوفاة جمع بنيه فقال : يا بني ، خذوا عني ، فإنكم لن تأخذوا من أحد هو أنصح لكم مني. إذا أنا مت فسوّدوا أكابركم ، ولا تسوّدوا أصاغركم ، فتسفّهكم الناس وتهونوا عليهم ، وعليكم بإصلاح المال فإنه سعة للكريم ويستغنى به عن اللئيم ، وإياكم والمسألة فإنها آخر كسب المرء ، وإذا أنا مت فلا تنوحوا عليّ فإن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم ينح عليه ، وقد سمعته ينهى عن النياحة ، وكفنوني في ثيابي التي كنت أصلي فيها وأصوم ، وإذا دفنتموني فلا تدفنوني في موضع يطلع عليه أحد ، فإنه قد كان بيني وبين بني بكر بن وائل حماسات في الجاهلية ، فأخاف أن ينبشوني ، فيصيبون في ذلك ما يذهب فيه دينكم ودنياكم.

قال الحسن : نصح لهم في الحياة ، ونصح لهم في الممات (١).

تعظيم قيس بن عاصم لماذا؟! :

قد تضمنت النصوص التي نقلناها آنفا ثناء من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على قيس بن عاصم ، يرويه لنا قيس بن عاصم نفسه ، كما أن من يراجع كتب التراجم يجد نصوصا أخرى تعطيه المزيد من الأوسمة في

__________________

والإصابة ج ٣ ص ٢٥٣ ، ومجمع الزوائد ج ١٠ ص ٢٤٢ ، وتهذيب الكمال ج ٢٤ ص ٦٤ ، وتاريخ المدينة ج ٢ ص ٥٣١ ، وراجع إمتاع الأسماع ج ٤ ص ٣٥٥.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٩٩ والإصابة ج ٣ ص ٢٥٣ والإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ٣ ص ٢٣٤ ، والمعجم الكبير للطبراني ج ١٨ ص ٣٤٠ ، والأحاديث الطوال للطبراني ص ٥١ ، ومجمع الزوائد ج ٣ ص ١٠٨.

١٦٢

الجاهلية وفي الإسلام ، وفيها : أنه حرم الخمر على نفسه في الجاهلية (١) ، وأنه سيد أهل الوبر وغير ذلك كثير (٢).

ونحن لا نرى في هذا الرجل ما يستحق ذلك كله ، ونشك في صحته .. فهذا الرجل كما روى هؤلاء أنفسهم كان يئد بناته ، حتى وأد منهنّ ثمانية ، كما اعترف به لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٣).

__________________

(١) الإصابة ج ٣ ص ٢٥٣ ، وتاريخ المدينة ج ٢ هامش ص ٥٢٣ ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٤٥.

(٢) راجع : الإصابة ج ٣ ص ٢٥٣ و ٢٥٤ ، والمجموع للنووي ج ٢ ص ١٥٢ ، ومقاتل الطالبيين ص ٥٦ ، وأمالي المرتضى ج ١ ص ٧٢ ، والنيسابوري في المستدرك ج ٣ ص ٦١١ ، ومجمع الزوائد ج ٣ ص ١٠٧ وج ٩ ص ٤٠٤ وج ١٠ ص ٢٤٢ ، وفتح الباري ج ٥ ص ١٢٤ ، والأدب المفرد للبخاري ص ٢٠٣ ، وبغية الباحث عن زوائد مسند الحارث لإبن أبي أسامة ص ١٥٢ ، والمفاريد عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للموصلي ص ١٠٦ ، والأحاديث الطوال للطبراني ص ٥٠ ، والإستيعاب ج ٣ ص ١٢٩٥ ، والتمهيد لابن عبد البر ج ٤ ص ٢١٣ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ١٢٨ و ١٣٠ ، والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ٢٩٤ وج ٧ ص ٣٦ ، ومعرفة الثقات للعجلي ج ٢ ص ٢٢١ ، والثقات لابن حبان ج ٣ ص ٣٣٨ وج ٦ ص ٣٢٠ ، ومشاهير علماء الأمصار لابن حبان ص ٦٨ ، وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٠ ص ٣٥٩ ، وأسد الغابة ج ٢ ص ٢٣٥ وج ٤ ص ٢١٩ ، وتهذيب الكمال ج ٢٣ ص ٤٤٨ وج ٢٤ ص ٥٨ و ٥٩ و ٦١ ، والإصابة ج ٢ ص ٥٠٥ وج ٥ ص ٣٦٧ و ٣٦٩ ، وتهذيب التهذيب ج ٨ ص ٣٥٧ ، وغيرها.

(٣) الإصابة ج ٣ ص ٢٥٣ عن ابن مندة ، وراجع هامش الأعلام للزركلي ج ٥ ص ٢٠٧ نقلا عن الإصابة : ت ٧١٩٤ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٤٣٤ والنقائض ، (طبعة ـ

١٦٣

وعن عبد الله بن مصعب ، قال : قال أبو بكر لقيس بن عاصم : ما حملك على أن وأدت. وكان أول من وأد.

فقال : خشيت أن يخلف عليهن غير كفؤ (١).

وقد ارتد بعد وفاة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وآمن بسجاح ، وكان مؤذنها ، وقال في ذلك :

أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها

وأصبحت أنبياء الله ذكرانا

ثم لما تزوجت سجاح بمسيلمة ، وآمنت به آمن به قيس معها. ولما قتل مسيلمة أخذ قيس أسيرا الخ .. (٢).

بل إنه بعد أن أسلم بلغه أن أحدهم استأذن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بغزوه حين أبطأ في إعلان إسلامه ، فقال للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أما لي سبيل إلى الرجوع؟!

قال : لا.

__________________

ليدن) ١٠٢٣ ورغبة الآمل ج ٣ ص ١٠ وج ٤ ص ٩٩ و ٢٣٤ ويؤخذ منه أنه كان يئد بناته في الجاهلية ، وج ٥ ص ١٤٤ و ١٤٨ والمرزباني ص ٣٢٤ وحسن الصحابة ص ٣٢٩ وخزانة البغدادي ج ٣ ص ٤٢٨ و ٤٢٩ و ٥٠٩ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٤٠٤ وسمط اللآلي ٤٨٧ والمحبر ٢٣٨ و ٢٤٨ ، والتبريزي ج ٤ ص ٦٨ ومجالس ثعلب ص ٣٦.

(١) الإصابة ج ٣ ص ٢٥٣ عن الزبير بن بكار وفي (ط دار الكتب العلمية) ج ٥ ص ٣٦٧.

(٢) الأغاني ج ١٢ ص ١٥٩ و ١٦٠.

١٦٤

قال : لو كان لي إلى الرجوع سبيل لأدخلت على عتبة ونسائه الذل (١).

قدوم أعشى بني مازن :

عن نضلة بن طريف : أن رجلا منهم يقال له : الأعشى ، واسمه عبد الله بن الأعور كانت عنده امرأة يقال لها : معاذة ، وخرج في رجب [يمير أهله من هجر ، فهربت امرأته بعده ناشزا عليه ، فعاذت برجل منهم يقال له : مطرف بن بهصل المازني ، فجعلها خلف ظهره.

فلما قدم لم يجدها في بيته ، وأخبر أنها نشزت عليه ، وأنها عاذت بمطرف بن بهصل ، فأتاه ، فقال : يا ابن عم أعندك امرأتي معاذة فادفعها إلي.

قال : ليست عندي ، ولو كانت عندي لم أدفعها إليك.

قال : وكان مطرف أعز منه.

قال : فخرج الأعشى حتى أتى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فعاذ به وأنشأ يقول :].

يا مالك الناس وديان العرب

إني لقيت ذربة من الذرب

غدوت أبغيها الطعام في رجب

فخلفتني في نزاع وهرب

أخلفت العهد ولظت بالذنب

وهن شر غالب لمن غلب

[فكتب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى مطرف : «انظر امرأة هذا معاذة فادفعها إليه».

فأتاه كتاب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فقرئ عليه ، فقال : «يا معاذة ،

__________________

(١) الإصابة ج ٣ ص ٢٥٤ وفي (ط دار الكتب العلمية) ج ٥ ص ٣٦٩.

١٦٥

هذا كتاب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيك ، وأنا دافعك إليه.

قالت : خذ لي العهد والميثاق ، وذمة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ألا يعاقبني فيما صنعت.

فأخذ لها ذلك ، ودفعها إليه ، فأنشأ يقول :

لعمرك ما حبي معاذة بالذي

يغيره الواشي ولا قدم العهد

ولا سوء ما جاءت به إذ أذلها

غواة رجال إذ يناجونها بعدي (١)

ولسنا بحاجة إلى التعليق على هذه الوفادة.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٧٥ عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند ، والشيرازي في الألقاب ، وابن أبي خيمة ، والحسن بن سفيان ، وابن شاهين ، وأبي نعيم ، وفي هامشه عن البداية ج ٥ ص ٧٤ ومكاتيب الرسول ج ١ ص ٢٨٨ عن : الإصابة ج ٣ ص ٥٥٦ (٨٧١٥) وج ٢ ص ٢٧٦ (٤٥٣٥) في عبد الله بن الأعور ، وأسد الغابة ج ١ ص ١٠٢ في ترجمة الأعشى المازني وج ٥ ص ٥٤٦ في معاذة ، ومسند أحمد ج ٢ ص ٢٠٢ وأعلام السائلين ص ٤٢ ورسالات نبوية ص ٢٦٥ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٥ ص ٥٠ وج ٧ ق ١ ص ٣٧ و (ط دار صادر) ص ٥٣ و ٥٤ والإستيعاب ج ٢ ص ٢٦٦ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٧٤ والوثائق السياسية ص ٢٤٢ / ١٢٦ (عن جمع ممن تقدم وعن الفائق للزمخشري في مادة «دين» ولسان العرب مادة «اثب» و «ذرب» و «خلف» وديوان الأعشى المسمى بالصبح المنير ص ٢٨٢ و ٢٨٣ مع الحواشي عن المكاثرة للطيالسي ص ١٣ وألف باء لأبي الحجاج البلوي ج ١ ص ٨٣٢ والمقاصد النحوية ج ٢ ص ٢٨٩ وحسن الصحابة لعلي فهمي ص ١١٣ ومعجم الصحابة لابن قانع خطية : ورقة ١١ ومجمع الزوائد ج ٤ ص ٢٣١.

١٦٦

وفادة أبي حرب :

قال : وقدم على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أبو حرب بن خويلد بن عامر بن عقيل ، فقرأ عليه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» القرآن ، وعرض عليه الإسلام.

فقال : أما وأيم الله ، لقد لقيت الله أو لقيت من لقيه ، وإنك لتقول قولا لا نحسن مثله ، ولكني سوف أضرب بقداحي هذه على ما تدعوني إليه وعلى ديني الذي أنا عليه ، وضرب بالقداح ، فخرج عليه سهم الكفر ، ثم أعاده ، فخرج عليه ثلاث مرات. فقال لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أبى هذا إلا ما ترى.

ثم رجع إلى أخيه عقال بن خويلد ، فقال له : قلّ خيسك ، هل لك في محمد بن عبد الله يدعو إلى دين الإسلام ، ويقرأ القرآن ، وقد أعطاني العقيق أن أنا أسلمت.

فقال له عقال : أنا والله أخطك أكثر مما يخطك محمد. ثم ركب فرسه ، وجر رمحه على أسفل العقيق ، فأخذ أسفله وما فيه من عين.

ثم إن عقالا قدم على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فعرض عليه الإسلام ، وجعل يقول له : «أتشهد أن محمدا رسول الله؟

فيقول : أشهد أن هبيرة بن المفاضة نعم الفارس ، يوم قرني لبان.

ثم قال : «أتشهد أن محمدا رسول الله»؟

قال : أشهد أن الصريح تحت الرغوة.

ثم قال له الثالثة : «أتشهد»؟

قال : فشهد وأسلم.

١٦٧

قال : وابن المفاضة هبيرة بن معاوية بن عبادة بن عقيل ، ومعاوية هو فارس الهرّار ، والهرّار : اسم فرسه ، ولبان : اسم موضع (١).

أبو حرب يسلم استنادا لقداحه :

وأغرب ما قرأناه هنا : أن أبا حرب يعترف بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لقي الله ، أو لقي من لقيه ، ولكنه لا يسلم إلا إذا وافقت قداحه على إسلامه ..

وهذا يشير إلى خفة وسفه ، وقلة عقل ، فإن الحق إذا ظهر فهو أحق أن يتبع ، وكيف يمكن أن يجري إنسان سليم العقل قرعة على الحق والباطل ، وبين الإيمان الذي ظهرت دلائله ووضحت آياته وبين الكفر الخاسئ البيّن الغي؟!

وماذا عليه لو أسلم وأخذ العقيق ، فإنه يكون قد ربح الدنيا والآخرة.

وأما إعطاء أخيه عقال له أرضا أوسع من العقيق ، فإنه إن أفاده في الدنيا شيئا ، فسيكون ممحوق البركة سيء الآثار ، وهو بالتالي إلى فناء وزوال ، وسوف يتركه إلى غيره لينتعم به من بعده ، ويذهب هو في الآخرة

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٨٤ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٥٠٣ عن :

الطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ٣٠٢ وفي (ط ليدن) ج ١ ق ٢ ص ٤٥ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٩٠ ورسالات نبوية ص ١٤٨ ونشأة الدولة الإسلامية ص ٣٦٥ ومدينة البلاغة ج ٢ ص ٢٩٤ والإصابة ج ٣ ص ٤٢٣ في ترجمة مطرف بن عبد الله بن الأعلم. ومجموعة الوثائق السياسية ص ٣١٢ و ٢١٦ عن الطبقات ، ورسالات نبوية ، وقال : قابل معجم البلدان مادة عقيق ، وانظر اشپرنكر ج ٣ ص ٥١٣.

١٦٨

إلى الجحيم ، وإلى العذاب الأليم ، والخزي المقيم ..

إسلام عقال :

ولست أدري ما أقول في أجوبة عقال لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فإنها أجوبة المهزوم والعاجز عن المواجهة ، والباحث عن مهرب ، أو لعلها أسئلة من يريد أن يمتحن صبر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، علما بأن الصبر لم يكن من صفات الإنسان العربي الذي يعيش في الصحراء بين الحيوانات المفترسة ، أو بين سباع الغارة والقتل ، والسلب والنهب ، بل هو الرجل النزق ، والسريع المبادرة للعنف ، وقلّ أن تجد فيهم حليما.

معاوية بن حيدة :

عن معاوية بن حيدة قال : أتيت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فلما دفعت إليه قال : «أما إني سألت الله عزوجل أن يعينني عليكم بالسّنة (المراد سنة القحط) فتحفيكم ، وبالرعب أن يجعله في قلوبكم».

فقال معاوية بن حيدة بيديه جميعا : أما إني خلقت هكذا وهكذا ، أي لا أؤمن بك ولا أتبعك ، فما زالت السّنة تحفيني ، وما زال الرعب يرعب في قلبي حتى وقفت بين يديك ؛ فبالله الذي أرسلك ، بماذا بعثك الله به عزوجل؟

قال : «بعثني بالإسلام».

قال : وما الإسلام؟

قال : «شهادة ألا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وتقيموا الصلاة ، وتؤتوا الزكاة ، أخوان نصيران ، لا يقبل الله عزوجل من أحد توبة أشرك بعد

١٦٩

إسلامه».

قال : قلت : يا رسول الله ، ما حق زوج أحد منا عليه؟

قال : «يطعمها إذا طعم ، ويكسوها إذا اكتسى ، ولا يضرب الوجه ، ولا يقبح ، ولا تهجر إلا في المبيت».

وفي رواية : ما تقول : في نساءنا؟

قال : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) (١).

قال فينظر أحدنا إلى عورة أخيه.

قال : «لا».

قال : فإذا تفرقا.

قال : «فضم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إحدى فخذيه على الأخرى ، ثم قال : «ههنا تحشرون ، ههنا تحشرون ، ههنا تحشرون ـ ثلاثا ـ يعني الشام ـ ركبانا ومشاة ، وعلى وجوهكم. موفون يوم القيامة سبعين أمة ، أنتم آخر الأمم ، وأكرمها على الله تعالى وعلى أفواهكم الفدام ، وأول ما يعرب عن أحدكم فخذه» (٢).

ونقول :

إن في هذا الحديث مواضع للنظر ، فلاحظ يلي :

__________________

(١) الآية ٢٢٣ من سورة البقرة.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٤١٣ عن أحمد ، والبيهقي ، وفي هامشه عن : السنن الكبرى للبيهقي ج ٧ ص ٢٩٥ ومسند أحمد ج ٥ ص ٣ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٥ ص ٣٧٨ ، والمعجم الكبير للطبراني ج ١٩ ص ٤٢٦ ، وفتح القدير ج ٤ ص ٥١٣ ، وتاريخ مدينة دمشق ج ١ ص ١٧٦ و ١٧٨.

١٧٠

أسئلة لا تجد لها جوابا :

قد تضمن هذا النص أمورا عديدة هي مثار أسئلة حقيقية ، ولا يمكن المرور عليها مرور الكرام ، بل هي تفرض على الإنسان المنصف أن يدير ظهره لنصوص لا تستطيع أن تجيب على ما ينقضها. ونحن نجمل هذه الأسئلة على النحو التالي :

١ ـ ماذا يمثل معاوية بن حيدة من خطورة على مسيرة أهل الإيمان ، حتى يواجهه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بهذا الخطاب الذي يعبر عن أن ابن حيدة يمثل موقعا أساسيا في التحدي المفعم بالبغي على الإسلام وأهله ، إلى حد أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» طلب من ربه أن يأخذهم بالرعب وبالسنين حتى تحيفهم (أي تلح عليهم بشدة واستقصاء بالغ).

٢ ـ وحين أصابت السّنة قريشا ، وهم أعدى أعدائه ، إن قريشا ليس فقط لم تبادر إلى الإسلام ، بل هي أصرت على حربه ، واستئصال شأفته ، ولم يجبرها إلحاح السنين على التخلي عن موقفها ، فلماذا يدعو النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بإلحاح السنين وهو قد جربها وعرف أن لا أثر لها؟! فهل كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أخطأ التقدير والعياذ بالله ، فظن أن للسنين أثرا؟!

٣ ـ وهل كان الله سبحانه يعامل الناس بهذه الطريقة ليجبرهم على قبول دينه؟! وإذا كان الأمر كذلك ، فلماذا لم يستعمل هذه الوسيلة بالنسبة لجميع الأمم السالفة .. ليوفر على الأنبياء بعضا من عنائهم؟!

أم أنه فعل ذلك ولم يؤثر شيئا في السابق ، فلماذا عاد في اللاحق إلى وسيلة لا أثر لها؟!

٤ ـ نلاحظ : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يترك قريشا تكابد الجوع حتى

١٧١

يضطروا إلى قبول الإسلام والدخول فيه ، بل بادر لإرسال المعونات لهم إلى مكة ، ولأبي سفيان بالذات (١).

فهل كان غير راغب بإسلامهم آنئذ ، أم أنه ندم على ما فرط منه. أي أنه كان قد طلب من الله أن يبتليهم بالقحط حتى إذا استجاب الله تعالى له بادر إلى نقضه ، بتقديم المعونات ودفع آثار القحط عنهم؟!

٥ ـ لم نفهم ما معنى أن يضم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فخذيه حين سئل عن أنه إذا تفرق الزوجان فما العمل؟!

٦ ـ وقد ذكر أن المحشر والمنشر في الشام ..

ونقول :

أولا : لماذا كان الحشر في الشام ـ كما ذكرته هذه الرواية ، ولا يكون في اليمن ، أو في فلسطين ، أو في غير ذلك من البقاع ..

ثانيا : ألا ينافي ذلك ما رووه من أن بيت المقدس هو الذي يكون فيه المحشر والمنشر (٢).

٧ ـ والأدهى من ذلك كله أن يكون أول ما يعرب عن كل امرئ فخذه في يوم القيامة ، فلماذا لا تعرب عنه يده أو أنفه ، أو لسانه أو رأسه ، وما إلى ذلك؟!

وقد قال الله سبحانه : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ

__________________

(١) راجع : تقدمت مصادر ذلك في بعض فصول هذا الكتاب.

(٢) البحار ج ٥٧ ص ٢٥١ و ٢١٨ ، ومجمع الزوائد ج ٤ ص ٦ ، ومسند أبي يعلى ج ١٢ ص ٥٢٣.

١٧٢

وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١).

وقال : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ) (٢).

ولنفترض : أن المقصود بالرجل هو : الفخذ (وإن كان ذلك من التحكم غير المقبول) فإننا نقول :

ليس في الآية ما يدل أن الفخذ هو أول من يشهد. بل إن تكلم الأيدي قد ذكر في الآية قبل تكلم الرجلين.

وفود جرم :

إن هناك وفدين من جرم قدما على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» :

الوفد الأول : عن مرة الجرمي قال : وفد على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رجلان منا يقال لأحدهما : الأصقع بن شريح بن صريم بن عمرو بن رياح ، والآخر هوذة بن عمرو بن يزيد بن عمرو بن رياح فأسلما. وكتب لهما رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كتابا (٣).

__________________

(١) الآية ٦٥ من سورة يس.

(٢) الآية ٢٤ من سورة النور.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٠٩ عن ابن سعد وقال في هامشه : أخرجه ابن سعد في الطبقات ج ٢ ص ٩٩ ، وفي (ط دار صادر) ج ١ ص ٣٣٥ ، ومكاتيب الرسول للأحمدي الميانجي ج ١ هامش ص ٢٥٠ نقلا عن اليعقوبي ج ٢ ص ٥٥ وراجع تاريخ الأمم والملوك للطبري ج ٢ ص ٤٠٦ والبداية والنهاية ج ٣ ص ٢٤٧ والبحار ج ١٩ ص ١٧٤ و ١٨٧ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٣٥ والوثائق السياسية ص ٢٦٦ / ١٥٨ ـ ألف (عن اليعقوبي ، وعن إمتاع الأسماع للمقريزي ج ١ ـ

١٧٣

الوفد الثاني : عن عمرو بن سلمة قال : كنا بحضرة ماء ممر الناس عليه ، وكنا نسألهم ما هذا الأمر؟

فيقولون : رجل يزعم أنه نبي ، وأن الله أرسله وأن الله أوحى إليه كذا كذا ، فجعلت لا أسمع شيئا من ذلك إلا حفظته ، كأنما يغرى في صدري بغراء ، حتى جمعت فيه قرآنا كثيرا.

قال : وكانت العرب تلوّم بإسلامها الفتح ، يقولون : انظروا ، فإن ظهر عليهم فهو صادق ، وهو نبي.

فلما جاءتنا وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم ، فانطلق أبي بإسلام حوائنا ذلك ، وأقام مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ما شاء الله أن يقيم (وتعلموا القرآن ، وقضوا حوائجهم).

قال : ثم أقبل فلما دنا منا تلقيناه ، فلما رأيناه قال : جئتكم والله من عند رسول الله حقا ، ثم قال : إنه يأمركم بكذا وكذا ، وينهاكم عن كذا وكذا ، وأن تصلوا صلاة كذا ، في حين كذا ، وصلاة كذا في حين كذا ، وإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم ، وليؤمكم أكثركم قرآنا أو نحو ذلك.

قال : فنظر أهل حوائنا فما وجدوا أحدا أكثر قرآنا مني الذي كنت أحفظه من الركبان. فدعوني فعلموني الركوع والسجود ، وقدموني بين أيديهم ، فكنت أصلي بهم وأنا ابن ست سنين.

__________________

ص ٥٥) وراجع الطبقات الكبرى ج ٢ ق ١ ص ٦ وراجع المفصل ج ٤ ص ٢٥١ و ٢٦٥ و ٢٦٧ و ٣١٢ و ٣٣٩ و ٤٣٢ و ٥٣٢ وج ٧ ص ٣٥٣ والدرر لابن عبد البر ص ٦٤ والمنتظم ج ٣ ص ٩٠.

١٧٤

قال : وكان عليّ بردة كنت إذا سجدت تقلصت عني ، فقالت امرأة من الحي : ألا تغطون عنا است قارئكم؟

قال : فكسوني قميصا من معقد البحرين.

قال : فما فرحت بشيء أشد من فرحي بذلك القميص (١).

وفي نص آخر : فقدموني ، فصليت بهم ، فما شهدت مجمعا إلا وأنا إمامهم إلى يومنا هذا (٢).

ونقول :

إن لنا بعض البيانات والمؤخذات على ما سبق ، فلاحظ ما يلي :

إمام الجماعة بعمر ست سنين :

إن ثمة إشكالا في صحة ما ذكر آنفا من أن ذلك الذي كان أكثر تلك الجماعة جمعا للقرآن ، وأصبح إماما لها. كان بعمر ست سنين ، فإن أحدا لا

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٠٩ عن البخاري ، وابن سعد ، وابن مندة ، والمعجم الكبير للطبراني ج ٧ ص ٤٩ ، والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ٣٣٧ وج ٧ ص ٩٠.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٠٩ عن ابن سعد ، وفي هامشه عن الطبقات الكبرى ج ٢ ص ٩٩ ، وأسد الغابة ج ٤ ص ١١٠ وج ٢ ص ٣٤٠ ، والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ٣٣٦ وج ٧ ص ٨٩ ، وإرواء الغليل للألباني ج ١ ص ٢٢٩ ، وعون المعبود ج ٢ ص ٢٠٨ ، وفتح الباري ج ٨ ص ١٩ ، والسنن الكبرى للبيهقي ج ٣ ص ٩٢ و ٢٢٥ ، وسنن أبي داوود ج ١ ص ١٤١ ، ومسند أحمد ج ٥ ص ٧١ ، والمصنف ج ١ ص ٣٧٩ ، وكنز العمال ج ٨ ص ٢٦٥.

١٧٥

يرضى بأن يأتم بصبي عمره ست سنين .. والمتوقع هو : أن يراجع الناس النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قبل أن يقدموا على هذا الأمر ..

ولم يكن هؤلاء الذين أسلموا لتوهم من أهل التقوى والإنقياد إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى حد أن يطيعوه في مثل هذا الأمر الذي تأباه نفوسهم.

ستر العورة في الصلاة واجب :

لو فرضنا أن أحدا يجهل أن ستر العورة مطلوب في الصلاة ، فإن من المعلوم : أن أحدا لا يستطيع كشفها ، من ناحية الأدب الإجتماعي ، فكيف يرضى أولئك القوم بأن يؤمهم من تنكشف عورته حين صلاته بهم؟!

على أن ما يحتاج إلى تفسير هنا هو : حضور النساء للجماعة ، ثم رؤيتهن لعورة الإمام حال الركوع والسجود ، مع أن المفروض هو : أنهن في هاتين الحالتين لا يقدرن على رؤية الإمام حتى لو تعمدن ذلك ، خصوصا إذا لاحظنا صغر حجمه ، إذا كان بعمر ست سنوات ، وكانت هناك صفوف من الرجال تفصل النساء عنه .. وتحجبهم بالتالي عن رؤيته في حالتي الركوع والسجود.

إلا إذا فرض أن النساء لم يكنّ في جملة المصلين ..

متى تعلّم الجرميون القرآن؟! :

وقد ذكر آنفا : أن وفد جرم عادوا إلى قومهم ، فسألوا عن الأقرأ للقرآن فوجدوا : أن سلمة بن قيس الجرمي هو الأكثر جمعا ، فقدموه فصلى بهم ، وكان إمامهم ..

١٧٦

فقد يقال : إذا كانت جرم لم تسلم بعد ، فلماذا يتعلم الناس فيها القرآن؟ ويشيع ذلك فيهم ، حتى يحتاج إلى معرفة الأكثر أخذا له ..

وقد يجاب : بأن هذا الوفد قد جاء إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وعاد من عنده بعد ظهور الإسلام في قبيلة جرم ..

وهو جواب غير دقيق ، فقد صرح عمرو بن سلمة بأنه قد حفظ القرآن في أيام الشرك حيث كانوا على ماء ممر الناس عليه ، فكانوا يسألونهم عن هذا الأمر ، فكانوا يجيبونهم ويقرأون عليهم بعض الآيات ، فكان عمرو بن سلمة يحفظ من ذلك أكثر من غيره.

أكثرهم قرآنا يؤم جماعتهم :

وسواء قلنا بصحة ما ذكروه حول ذلك الغلام أو بعدم صحته ، فإن ذلك لا يمنع من أن يكون النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قرر أن إمام القوم أكثرهم جمعا للقرآن ، وذلك على قاعدة : «قيمة كل امرئ ما يحسنه» ، واستجابة لواجب الحث والتشجيع على حفظ القرآن ، والإهتمام بجمعه ، غير أن سؤالا قد يطرح هنا ، وهو : أن الناس كانوا آنئذ بحاجة إلى معرفة أحكام دينهم ، مقدمة للإلتزام والعمل بها ، فلماذا لم يأمرهم بتقديم الأفقه والأعرف بأحكام دينه؟!

ويمكن أن يجاب : بأن القرآن أساس الدين ، وحصنه الحصين ، وفيه كل معارف الدين ، في عقائده ، وشرائعه ، وأحكامه ، ومفاهيمه ، وأخلاقياته ، وسياساته ، وعبره وعظاته ، وغير ذلك مما لا بد منه للإنسان المسلم والمؤمن ..

على أن نفس ربط الإنسان بالله ، وشعوره بأن الله هو الذي يتكلم معه ،

١٧٧

يجعله أكثر شعورا بحقيقته وحجمه ، ويدعوه للتواضع أمام عظمة الله ، ويدفع عنه الشعور بالكبر ، والخيلاء ، ويجعله يشعر بأنه محاسب ، ومسؤول ، ولا يستطيع أن يخفى شيئا من أفعاله ، أو أقواله ، أو نواياه ..

ومن شأن هذا أن يزيد في انقياده ، وعبوديته ، وسعيه لاستكمال ما يحتاج إليه لنيل رضا الله تبارك وتعالى ، والفوز بدرجات القرب منه. على أن الإستكثار من القرآن ، وجمعه ، وقراءته ، لا بد أن يفتح أمام الإنسان أبوابا عديدة للسؤال ، والإستقصاء عن الكثير الكثير من المعارف التي لولا قراءته للقرآن ، لم تخطر له على بال ، ولم تمر له في خيال.

ومع غض النظر عن ذلك كله .. فإن هذا الحكم النبوي لا بد أن يعطي الأمثولة الرائعة لتطبيق المعايير الإسلامية والإيمانية ، حين يصبح أصغر القوم إمامهم ، لا لأجل مال جمعه ، أو وصل إليه ، ولا لأجل دنيا أصابها ، أو جاه ظفر به ، وإنما لأنه سار في طريق رضا الله سبحانه ، ونال المعارف التي تيسّر له التقوى ، وتوصله إلى مقامات القرب والزلفى.

ثم إن ذلك يذكي الطموح لدى الآخرين ليدخلوا الحلبة ، وليستبقوا الخيرات ، والباقيات الصالحات ، لا ليستبقوا المآثم والموبقات.

وفود جعفي :

وقالوا : كانت قبيلة جعفي يحرمون أكل القلب في الجاهلية ، فوفد إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رجلان منهم : قيس بن سلمة بن شراحيل ، وسلمة بن يزيد ، وهما أخوان لأم ، وأمهما مليكة بنت الحلو. فأسلما. فقال لهما رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «بلغني أنكم لا تأكلون القلب».

١٧٨

قالا : نعم.

قال : «فإنه لا يكمل إسلامكما إلا بأكله».

ودعا لهما بقلب ، فشوي ، ثم ناوله سلمة بن يزيد ، فلما أخذه أرعدت يده ، فقال له رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «كله».

وكتب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لقيس بن سلمة كتابا نسخته :

«كتاب من محمد رسول الله لقيس بن سلمة بن شراحيل ، أني استعملتك على مران ومواليها ، وحريم ومواليها ، والكلاب ومواليها ، [من أقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وصدّق ماله وصفاه].

[قال الكلاب : أود ، وزبيد] وجزء ابن سعد العشيرة ، وزيد الله بن سعد ، وعائذ الله بن سعد ، وبنو صلاءة من بني الحارث بن كعب ..

ثم قالا : يا رسول الله ، إن أمنا مليكة بنت الحلو كانت تفك العافي ، وتطعم البائس ، وترحم المسكين ، وإنها ماتت وقد وأدت بنية لها صغيرة ، فما حالها؟

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «الوائدة والموؤدة في النار».

فقاما مغضبين.

فقال : «إلي فارجعا».

فقال : «وأمي مع أمكما».

فأبيا ، ومضيا وهما يقولان : والله ، إن رجلا أطعمنا القلب ، وزعم أن أمنا في النار لأهل ألّا يتبع. وذهبا. فلما كانا ببعض الطريق لقيا رجلا من أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» معه إبل من إبل الصدقة ، فأوثقاه ، وطردا الإبل.

١٧٩

فبلغ ذلك النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فلعنهما فيمن كان يلعن في قوله : «لعن الله رعلا ، وذكوان ، وعصية ، ولحيان ، وابني مليكة بن حريم ، ومران» (١).

وفادة أبي سبرة :

وقالوا : وفد أبو سبرة وهو يزيد بن مالك بن عبد الله الجعفي على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ومعه ابناه : سبرة وعزيز. فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعزيز : «ما اسمك»؟

قال : عزيز.

قال : «لا عزيز إلا الله ، أنت عبد الرحمن». فأسلموا.

وقال أبو سبرة : يا رسول الله ، إن بظهر كفي سلعة قد منعتني من خطام راحلتي.

فدعا له رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» [بقدح ، فجعل يضرب به على السلعة ، ويمسحها ، فذهبت ، فدعا له رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»] ولا بنيه.

وقال له : يا رسول الله ، أقطعني وادي قومي باليمن ، وكان يقال له : حردان. ففعل (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣١٤ و ٣١٥ والطبقات الكبرى لابن سعد (ط ليدن) ج ١ ص ٣٢٤ ـ ٣٢٦ ، والكافي ج ٨ ص ٧١ ، والبحار ج ٢٢ ص ١٣٧ وج ٥٧ ص ٢٣٢ ، ومستدرك البيسابوري ج ٤ ص ٨٢ ، والدر المنثور ج ٣ ص ٢٨٤ ، والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ٣٢٥.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣١٥ عن ابن سعد ، والطبقات الكبرى لابن سعد (ط ليدن) ج ٢ ص ٩٠ ، وفي (ط دار صادر) ج ١ ص ٣٢٦.

١٨٠