الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٧

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٧

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-199-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٤

١
٢

٣
٤

الفصل الثاني عشر :

السرايا ما قبل الأخيرة

٥
٦

هدم الكعبة اليمانية :

روى الشيخان عن جرير بن عبد الله البجلي : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال له : «ألا تريحني من ذي الخلصة»؟ وكان بيتا لخثعم وبجيلة ، فيه نصب تعبد ، تسمى الكعبة اليمانية.

قال جرير : فنفرت في مائة وخمسين راكبا من أحمس ، وكانوا أصحاب خيل ، وكنت لا أثبت على الخيل ، فضرب في صدري حتى رأيت أثر أصابعه في صدري ، وقال : «اللهم ثبته على الخيل ، واجعله هاديا مهديا» (١).

قال : فأتيناه ، فكسرناه ، وحرقناه ، وقتلنا من وجدنا عنده.

وبعثت إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رجلا يبشره يكني أبا أرطأة. فأتى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : «يا رسول الله ، (والذي بعثك بالحق) ما جئتك حتى تركناها كأنها جمل أجرب».

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٤٤ والإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ١ ص ٢٣٤.

وراجع : طبقات ابن سعد (ط ليدن) ج ١ ق ٢ ص ٧٨ وأسد الغابة ج ١ ص ٢٨٠ وتاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ١٥٨ وصحيفة النبي ص ١٢١ والمصباح المضيء ج ١ ص ٢٤٨ والإصابة ج ١ ص ٢٣٢ والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج ١ ص ٢٣٤ عمدة القاري ج ١٤ ص ٢٧٩ وإمتاع الأسماع ج ١٢ ص ٥٥.

٧

قال : «فبرك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على خيل أحمس ورجالها خمس مرات».

قال جرير : فأتيت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فدعا لنا ولأحمس (١).

ونقول :

١ ـ قال أبو عمر : كان إسلام جرير في العام الذي توفي فيه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

قال جرير : أسلمت قبل موت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأربعين يوما (٢).

وقال العسقلاني : وهو غلط ، ففي الصحيحين عنه : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال له : استنصت الناس في حجة الوداع ، وجزم الواقدي : بأنه

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٤٤ عن الشيخين ، وفي هامشه عن : البخاري في الصحيح (كتاب المغازي) (٤٣٥٥) انتهى. وراجع : طبقات ابن سعد (ط ليدن) ج ١ ق ٢ ص ٧٨ وأسد الغابة ج ١ ص ٢٨٠ وتاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ١٥٨ وصحبة النبي ص ١٢١ والمصباح المضيء ج ١ ص ٢٤٨ والإصابة ج ١ ص ٢٣٢ والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج ١ ص ٢٣٤ ومسند أحمد ج ٤ ص ٣٦٠ و ٣٦٢ وصحيح البخاري ج ٤ ص ٣٨ وج ٥ ص ١١٢ وصحيح مسلم ج ٧ ص ١٥٧ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ١٧٤ وعمدة القاري ج ١٥ ص ١٠ وج ١٨ ص ١١ والسنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ٢٠٤ وأمالي المحاملي ص ٣٤٩ والمعجم الكبير ج ٢ ص ٣٠٠ والإستيعاب ج ٤ ص ١٥٩٦ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٤٣٢ وج ٥ ص ٩٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٧١٢ وج ٤ ص ١٥٣.

(٢) الإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ١ ص ٢٣٣ و (ط دار الحيل) ص ٢٣٧ والإصابة ج ١ ص ٢٣٢ وأعيان الشيعة ج ٤ ص ٧٢.

٨

وفد على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في شهر رمضان سنة عشر (١).

وله ذكر في حديث موت النجاشي. وموته قد كان قبل سنة عشر (٢).

٢ ـ قد تقدم في أول الكتاب : أنهم بسبب حسدهم للكعبة أنشأوا الكعبة الشامية واليمانية ، وما إلى ذلك ، بل إن أبرهة جاء من اليمن بفيلته ليهدم الكعبة ، فأهلكه الله هو وجيشه ، ونزلت سورة الفيل لتحكي لنا قصتهم.

٣ ـ إن هؤلاء يصنعون آلهتهم ، ويتخذون أربابا لأنفسهم (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (٣) ، في مناقضة منهم ظاهرة لحكم العقل ، والمنطق ، والفطرة ، والوجدان ..

٤ ـ أما ما ادّعته الروايات لجرير بن عبد الله البجلي من دعاء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» له ، فنحن نشك فيه ، بل نعتقد أنه مصنوع له ، مكافأة له على مواقفه من علي «عليه‌السلام».

فقد روي : أن مسجد جرير من المساجد الملعونة ، فعن أبي جعفر «عليه‌السلام» : فأما المساجد الملعونة ، فمسجد ثقيف ، ومسجد الأشعث ، ومسجد

__________________

(١) الإصابة ج ١ ص ٢٣٢ وص ٥٨٢ وراجع : عمدة القاري ج ١٦ ص ٢٨٢ وتهذيب التهذيب ج ٢ ص ٦٤ وأعيان الشيعة ج ٤ ص ٧٢ والمسح في وضوء الرسول للآمدي ص ١٣٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣١٢.

(٢) الإصابة ج ١ ص ٢٣٢ وص ٥٨٢ وراجع : والمسح في وضوء الرسول للآمدي ص ١٣٨ وأعيان الشيعة ج ٤ ص ٧٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣١٢.

(٣) الآية ٢٠ من سورة النحل.

٩

جرير بن عبد الله البجلي ، ومسجد سمّاك بن أبي خرشة (١).

وقد قال هو والأشعث بن قيس لضبّ مر بهما : يا أبا الحسن (أو يا أبا الحسل) ، هلم نبايعك.

فبلغ ذلك عليا «عليه‌السلام» ، فقال : الخ .. (٢).

وجددت أربعة مساجد بالكوفة ، فرحا بقتل الحسين «عليه‌السلام» : مسجد الأشعث ، ومسجد جرير ، ومسجد شبث (٣).

ونظن : أن المقصود هو : فرحهم بقتل علي «عليه‌السلام» ، لأن جريرا توفي قبل استشهاد الإمام الحسين «عليه‌السلام» سنة أربع وخمسين ، أو سنة إحدى وخمسين (٤).

وكان فارق عليا «عليه‌السلام» إلى معاوية ، وخرب علي «عليه‌السلام»

__________________

(١) تهذيب الأحكام ج ٣ ص ٢٥٠ والوسائل (ط دار الإسلامية) ج ٣ ص ٥١٩ وراجع : المزار للمشهدي ص ١١٨ والمفيد من معجم رجال الحديث للجواهري ص ١٠٤ ومجمع البحرين للطريحي ج ١ ص ٣٦٢.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ٤ ص ٧٥.

(٣) الكافي ج ٣ ص ٤٩٠ والخصال ج ١ ص ٣٠٠ وتذكرة الفقهاء للحلي (ط ج) ج ٢ ص ٤٢٦ و (ط ج) ج ١ ص ٩٠ ونهاية الإحكام ج ١ ص ٣٥٤ وذكرى الشيعة ج ٣ ص ١١٩ وجواهر الكلام ج ١٤ ص ١٣٩ وتهذيب الأحكام للطوسي ج ٣ ص ٢٥٠ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٥ ص ٢٥٠ و (ط دار الإسلامية) ج ٣ ص ٥٢٠ والمزار للمشهدي ص ١١٩ والبحار ج ٤٥ ص ١٨٩ والعوالم للبحراني ص ٣٧٧ وجامع احاديث الشيعة ج ٤ ص ٥٤٦.

(٤) المعارف لابن قتيبة ص ٩٩ والإصابة ج ١ ص ٢٣٢ والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج ١ ص ٢٣٤ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٥٣٦.

١٠

داره بالكوفة ، كما هو معلوم (١).

سرية المغيرة لهدم الربة :

وقدم وفد ثقيف بعد رجوع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من تبوك.

فقد روى البيهقي عن عروة ، ومحمد بن عمر عن شيوخه ، وابن إسحاق عن رجاله ، قالوا : إن عبد ياليل بن عمرو ، وعمرو بن أمية أحد بني علاج الثقفيان لما قدما على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مع وفد ثقيف وأسلموا قالوا : أرأيت الربة ماذا نصنع فيها؟

قال : اهدموها.

قالوا : هيهات ، لو تعلم الربة أنّا أوضعنا في هدمها قتلت أهلنا.

قال عمر بن الخطاب : ويحك يا عبد ياليل ما أحمقك ، إنما الربة حجر لا تدري من عبده ممن لم يعبده.

قال عبد ياليل : إنّا لم نأتك يا عمر.

وقالوا : يا رسول الله ، اتركها ثلاث سنين لا تهدمها ، فأبى.

فقالوا : سنتين ، فأبى.

فقالوا : سنة. فأبى.

فقالوا : شهرا واحدا. فأبى أن يوقت لهم وقتا ، وإنما يريدون ترك الربة خوفا من سفهائهم والنساء والصبيان ، وكرهوا أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام.

__________________

(١) قاموس الرجال ج ٢ ص ٥٨٥ وراجع : الإصابة ج ١ ص ٢٣٢ والذريعة للطهراني ج ٢ ص ١٤١.

١١

وسألوا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يعفيهم من هدمها ، وقالوا : يا رسول الله ، اترك أنت هدمها ، فإنّا لا نهدمها أبدا.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أنا أبعث أبا سفيان بن حرب ، والمغيرة بن شعبة يهدمانها». فذكروا الحديث (١).

فعاد الوفد ، وأخبروا قومهم خبرهم وخبر الربة.

فقال شيخ من ثقيف قد بقي في قلبه شرك بعد : فذاك والله مصداق ما بيننا وبينه ، فإن قدر على هدمها فهو محق ونحن مبطلون ، وإن امتنعت ففي النفس من هذا بعد شيء.

فقال عثمان بن أبي العاص : «منتك والله نفسك الباطل وغرتك الغرور. الربة والله ما تدري من عبدها ومن لم يعبدها».

وخرج أبو سفيان بن حرب ، والمغيرة بن شعبة وأصحابهما لهدم الربة. فلما دنوا من الطائف قال المغيرة لأبي سفيان : تقدم أنت على قومك.

وأقام أبو سفيان بماله بذي الهرم ، ودخل المغيرة في بضعة عشر رجلا يهدمون الربة. فلما نزلوها عشاء باتوا ، ثم غدوا على الربة يهدمونها.

فقال المغيرة لأصحابه الذين قدموا معه : «لأضحكنكم اليوم من ثقيف».

فاستكفّت ثقيف كلها : الرجال ، والنساء ، والصبيان ، حتى خرج العواتق من الحجال حزنا يبكين على الطاغية ، لا يرى عامة ثقيف أنها

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٢٦ وقال في هامشه : أخرجه البيهقي في الدلائل ج ٥ ص ٣٠٢ وانظر البداية والنهاية ج ٥ ص ٣٣.

١٢

مهدومة ، ويظنون أنها ممتنعة.

فقام المغيرة بن شعبة واستوى على رأس الدابة ومعه المعول ، وقام معه بنو معتب دريئة بالسلاح مخافة أن يصاب كما فعل عمه عروة بن مسعود.

وجاء أبو سفيان وصمم على ذلك ، فأخذ الكرزين ، وضرب المغيرة بالكرزين ثم سقط مغشيا عليه يركض برجليه ، فارتج أهل الطائف بصيحة واحدة وقالوا : أسعد الله المغيرة ، قد قتلته الربة. زعمتم أن الربة لا تمتنع ، بلى والله لتمنعن ، وفرحوا حين رأوه ساقطا ، وقالوا : من شاء منكم فليقترب ، وليجتهد على هدمها ، فو الله لا يستطاع أبدا.

فوثب المغيرة بن شعبة وقال : قبحكم الله يا معشر ثقيف إنما هي لكاع ، حجارة ومدر ، فاقبلوا عافية الله تعالى ولا تعبدوها ، ثم إنه ضرب الباب فكسره ، ثم سورها وعلا الرجال معه ، فما زالوا يهدمونها حجرا حجرا حتى سووها بالأرض ، وجعل السادن يقول : ليغضبن الأساس ، فليخسفن بهم.

فلما سمع بذلك المغيرة حفر أساسها ، فخرّبه حتى أخرجوا ترابها ، وانتزعوا حليتها وكسوتها ، وما فيها من طيب وذهب وفضة ، وثيابها.

فبهتت ثقيف ، فقالت عجوز منهم : أسلمها الرضاع ، لم يحسنوا المصاع.

وأقبل أبو سفيان والمغيرة وأصحابهما حتى دخلوا على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بحليّها وكسوتها ، وأخبروه خبرهم ، فحمد الله تعالى على نصر نبيه ، وإعزاز دينه. وقسم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مال الطاغية من يومه ، وسأل أبو المليح بن عروة بن (مسعود بن معتب الثقفي) رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن (يقضي) عن أبيه عروة دينا كان عليه من مال الطاغية.

١٣

فقال له رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : (نعم).

فقال له قارب بن الأسود : وعن الأسود يا رسول الله فاقضه ، وعروة والأسود أخوان لأب وأم.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «إن الأسود مات مشركا».

فقال قارب : يا رسول الله ، لكن تصل مسلما ذا قرابة ، يعني نفسه ، إنما الدين علي ، وإنما أنا الذي أطلب به.

فأمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أبا سفيان أن يقضي دين عروة والأسود من مال الطاغية (١).

ونقول :

إن لنا هنا مؤاخذات ، وإيضاحات ، نذكرها فيما يلي :

خرافة تشغل بال الزعماء :

إن أول ما يطالعنا في النص المتقدم : أن ما يشغل بال عبد ياليل ، وعمرو بن أمية حتى بعد أن أسلما هو مصير الصنم الذي كانوا يعبدونه ، أو بالأحرى مصيرهم معه ، حيث الخوف منه كان مهيمنا عليهما ، وكانا يبحثان عن مخرج.

فلما قال لهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «إهدموها» ، أخذهما الخوف ، وتكلما بالمتناقضات .. فقالوا : هيهات لو تعلم الربة أننا أوضعنا في هدمها ، لقتلت أهلنا».

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٢٦ و ٢٢٧ والسيرة النبوية للحميري ج ٤ ص ٩٦٩ وعيون الأثر ج ٢ ص ٢٧٤.

١٤

فهم إذ يقرون بأن الربة تجهل ما يدبرونه في أمرها. فما معنى عبادتهم لصنم يجهل ما يدبره عبّاده في شأنه؟!

ثم عبّروا عن خوفهم من الربة أن تقتل أهلهم ، فلماذا تقدر على قتل أهلهم ، ولا تقدر على معرفة ما يريدونه في شأنها؟!

ولماذا خافوا أن تقتل الربة أهلهم ، ولم يخافوا من أن تقتلهم هم أنفسهم؟! إلا إذا كانوا قد تعودوا على نسبة كل ما يفرحهم أو يسوءهم إلى فعل الربة بهم ، بزعم أنها غاضبة أو راضية عليهم ، لسبب كذا ، أو كذا .. ثم هم يشيعون ذلك ويتداولونه ، فتتأكد رهبتها ومكانتها في نفوسهم بسبب جهلهم ، وسذاجتهم ..

طلب تأجيل هدم الصنم (الربة)! :

ولعل المبرر لطلبهم تأجيل هدم الربة ثلاث سنين ، أو سنتين ، أو سنة ، أو شهرا .. هو أنهم يريدون أن يطمئنوا إلى أن ذلك الصنم سوف لا ينتقم منهم ، بسبب تركهم له ، وهذا الأمر لا ينتهي ، ولا مجال لحسمه ، إذ لعل أحدا منهم يأتيه أجله ، أو يتفق تعرضه لحادث ، فإنهم سوف يتوهمون أن الصنم هو الذي فعل ذلك بهم ، حنقا منه وغضبا عليهم ، وسيفكرون بالعودة إليه ، والتماس رضاه ..

وأية قيمة لإيمان من هذا القبيل ، حيث يكون ـ باستمرار ـ متمازجا مع اعتقادهم بتأثير الصنم في سعادتهم ، وشقائهم ، وحاجتهم إلى إرضائه ، والتزلف له باستمرار ..

والذي دلنا على أن هذا هو سبب طلبهم تأجيل هدمه هو قولهم : «لو

١٥

تعلم الربة أننا أوضعنا في هدمها قتلت أهلنا».

ويؤكد لنا ذلك : أنهم طلبوا من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يعفيهم من هدمها.

وكذلك قولهم له : فإنّا لا نهدمها أبدا .. كما تقدم.

فجاء الموقف الحاسم والحازم الذي يقضي بضرورة المبادرة إلى هدم ذلك الصنم ، لكي تنقطع علاقتهم به ، ويزول خوفهم منه ..

وبذلك يتضح عدم صحة التعليل الذي ذكره رواة النص الذي نقلناه ، وهو : أنهم أرادوا ترك الربة خوفا من سفهائهم ، والنساء والصبيان .. وكرهوا أن يروعوا قومهم بهدمها ، حتى يدخلهم الإسلام ، فقد عرفنا أن بقاء هذا الصنم ، سوف يكون مانعا قويا من دخول الإسلام إلى قلوبهم ..

سبب اختيار أبي سفيان والمغيرة :

وقد اختار «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهدم صنم ثقيف كلا من أبي سفيان ، والمغيرة بن شعبة ..

فلعل سبب اختياره لهذين الرجلين بالذات ، أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أراد أن يفهمهم أن مصدر قلق مشركي تلك المنطقة أمران :

الأول : خوفهم من أن تكون قريش تضمر لهم الشر والإنتقام ، فيما لو تبدلت الأحوال ، وعادت إلى الإمساك بمقاليد الأمور ، فإذا كانت قريش متمثلة بزعيمها الذي قادها لمحاربة الإسلام وأهله ، طيلة عشرين سنة ، هي التي تتولى هدم أصنامهم ، ومحاربة المصرّين على الشرك فيهم ، فلا يبقى مبرر لخوفهم ، أو لترددهم أو قلقهم ..

١٦

الثاني : الخشية من أن يكون لتلك الأصنام أدنى تأثير فيما يصيبهم أو يصيب أهلهم من رخاء أو بلاء ، أو سراء أو ضراء. فإذا تولى هدمها رجل ثقفي ، كالمغيرة ، ثم لم يصب في نفسه ، ولا في أهله بسوء ، فإن ذلك سوف يطمئنهم إلى صحة ما يقوله لهم الرسول الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، من أنها مجرد جمادات لا تضر ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تسمع ..

ويكون هدمها وسلامة من يتولى ذلك من موجبات تأكد التوحيد ، واقتلاع آثار الشرك من نفوسهم ، وفقا لما قاله ذلك الشيخ الثقفي : «فذاك والله مصداق ما بيننا وبينه ، فإن قدر على هدمها فهو محق ، ونحن مبطلون. وإن امتنعت ففي النفس من هذا بعد شيء».

حزن وبكاء ثقيف على صنمها :

وقد سبق : أن عامة ثقيف كانت لا ترى أنها مهدومة ، ويظنون أنها ممتنعة. وهيمن عليهم جميعا الحزن والبكاء ..

ونرى : أن هذا الحزن والبكاء ناشئ عن خوفهم من أن تغضب عليهم وتهلكهم ، أو ترميهم بالبلايا والرزايا.

أو لعلهم كانوا يشعرون بالسلامة والأمن حين تكون إلى جانهبم ، فإذا فقدت ، فقد يراودهم الشعور بالضياع ، وصيرورتهم في مهب الرياح ، عرضة لكل طالب ، ونهزة لكل راغب ، من قاتل لهم أو سالب.

المغيرة .. يضحك أصحابه من ثقيف :

وبعد .. فإن المغيرة بن شعبة يقول لأصحابه : «لأضحكنكم اليوم من ثقيف» ثم تذكر الرواية : أنه حين ضرب الربة بمعوله تظاهر بالغشية الخ ..

١٧

ونقول :

هل كان المغيرة يعبد ذلك الصنم طيلة حياته بين أهله وعشيرته؟! أم لم يكن كذلك؟!

وهل كان يعتقد فيه ما يعتقدونه ، أو كان يخالفهم في ذلك؟!

وهل خرج حب الأصنام من قلبه حقيقة؟! أم أنه لا يزال على مثل ما هم عليه ..

إن كل ذلك قد لا نجد له جوابا واضحا وصريحا ..

غير أننا نعلم :

أن المغيرة كما قال «عليه‌السلام» : لم يسلم عن قناعة بالإسلام ، وإنما لفجرة وغدرة كانت منه بنفر من قومه ، فهرب ، فأتى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كالعائذ بالإسلام. والله ما رأى أحد عليه منذ ادّعى الإسلام خضوعا ولا خشوعا (١).

وقال أمير المؤمنين «عليه‌السلام» لعمار عن المغيرة : «إنه والله دائما يلبس الحق بالباطل ، ويموه فيه ، ولن يتعلق من الدين إلا بما يوافق الدنيا» (٢).

وهذا هو الذي يوضح لنا السبب في انحرافه عن علي «عليه‌السلام»

__________________

(١) البحار ج ٣٤ ص ٢٩٠ والغارات للثقفي ج ٢ ص ٥١٧ وشرح النهج للمعتزلي ج ٤ ص ٨٠ وقاموس الرجال ج ١٠ ص ١٩٤ وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» في الكتاب والسنة والتاريخ للريشهري ج ١١ ص ٣١٠ و ٣٢٦.

(٢) الأمالي للشيخ المفيد ص ٢١٨ والبحار ج ٣٢ ص ١٢٥ ومعجم رجال الحديث للسيد الخوئي ج ١٩ ص ٣٠٤ والمفيد من معجم رجال الحديث للجواهري ص ٦١٦ وقاموس الرجال للتستري ج ١٠ ص ١٩٤.

١٨

وممالأته لمعاوية ، ولكل حاكم طمع بأن ينال من دنياه شيئا ، ولذلك قالوا : سلم على عمر بقوله : «السلام عليك يا أمير المؤمنين» فجروا عليه (١). مع أن هذا الاسم خاص بأمير المؤمنين علي «عليه‌السلام».

وكان من الذين حرضوا على غصب الخلافة من علي أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، وقال لهم : وسعوها في قريش تتسع (٢) وأغرى أبا بكر بأن يجعل للعباس نصيبا ، ليضعف علي «عليه‌السلام» (٣).

وهو الذي أغرى معاوية بالبيعة لولده يزيد أيضا (٤).

__________________

(١) قاموس الرجال للتستري (مؤسسة النشر الإسلامي) ج ١٠ ص ١٩٤ و (ونشر دار الكتاب ـ طهران) ج ٩ ص ٨٥ عن آداب الصولي.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٤٣ والسقيفة وفدك ص ٧٠ قاموس الرجال للتستري (مؤسسة النشر الإسلامي) ج ١٠ ص ١٩٦ وغاية المرام للبحراني ج ٥ ص ٣٠٧.

(٣) قاموس الرجال للتستري (مؤسسة النشر الإسلامي) ج ١٠ ص ١٩٦ والغدير ج ٥ ص ٣٧٣ وج ٧ ص ٩٣ والسقيفة وفدك ص ٤٩ وشرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ٢٢٠ وج ٢ ص ٥٢ والدرجات الرفيعة ص ٨٧ والوضاعون وأحاديثهم للأميني ص ٤٩٦ وأعيان الشيعة ج ٣ ص ٥٥٢.

(٤) راجع : قاموس الرجال للتستري (مؤسسة النشر الإسلامي) ج ١٠ ص ١٩٥ وراجع : الإمامة والسياسة ج ١ ص ١٨٧ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٢١٩ والكامل في التاريخ لابن الأثير ج ٣ ص ٢١٤ و ٢١٥ و (ط دار صادر) ص ٥٠٤ وتاريخ الأمم والملوك ج ٦ ص ١٦٩ و ١٧٠ والغدير ج ١٠ ص ٢٢٩ والنصائح الكافية ص ٦٤ وحياة الإمام الحسين «عليه‌السلام» للقرشي ج ٢ ص ١٩٢.

١٩

وأشار عليه أيضا باستلحاق زياد (١).

وقد تصور إبليس بصورته يوم قبض النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : أيها الناس ، لا تجعلوها كسرانية ، ولا قيصرانية ، وسعوها تتسع ، ولا تردوها في بني هاشم ، فينتظر بها الحبالى الخ .. (٢).

وقد حرص الخليفة الثاني على مكافأة المغيرة على تأييده لسياساتهم ومعونته لهم ، فعمل جاهدا على تبرئة ساحته ، ودفع حد الزنا عنه ، حين صد زياد بن أبيه عن أداء الشهادة كما هو حقها (٣).

ثم إنه حين عزله عن البصرة ـ التي زنا فيها ـ للتخلص من كلام الناس ، عاد فولاه الكوفة ، فصار ذلك مثلا ، فكان يقال : غضب الله عليك كما غضب عمر على المغيرة ، عزله عن البصرة واستعمله على الكوفة (٤).

__________________

(١) قاموس الرجال للتستري (مؤسسة النشر الإسلامي) ج ١٠ ص ١٩٥ وراجع : مروج الذهب للمسعودي ج ٣ ص ٦ والغدير ج ١٠ ص ١٩٠ والنصائح الكافية ص ٧٢.

(٢) الأمالي للطوسي ص ١٧٧ والبحار ج ٢٨ ص ٢٠٥ وتفسير الميزان ج ٩ ص ١٠٨ ومجمع النورين ص ٨٤ وقاموس الرجال للتستري (مؤسسة النشر الإسلامي) ج ١٠ ص ١٩٦.

(٣) راجع : الإيضاح لابن شاذان ص ٥٥٣ والنص والإجتهاد ص ٣٥٦ والسقيفة وفدك ص ٩٥ وأحكام القرآن لابن عربي ج ٣ ص ٣٤٨ وراجع : فتح الباري ج ٥ ص ١٨٧ وشرح معاني الآثار ج ٤ ص ١٥٣ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٢ ص ٢٣٧ وقاموس الرجال للتستري (مؤسسة النشر الإسلامي) ج ١٠ ص ١٩٥

(٤) قاموس الرجال للتستري (مؤسسة النشر الإسلامي) ج ١٠ ص ١٩٧ عن عيون الأخبار لابن قتيبة ج ٢ ص ٢١٦ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٤ ص ١٢١ عن ابن سيرين.

٢٠