الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٧

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٧

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-199-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٤

الفصل الثالث :

وفادات أشخاص قليلة التفاصيل

١٤١
١٤٢

وفود فروة بن عمرو الجذامي :

وقالوا : بعث فروة بن عمرو الجذامي إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رسولا بإسلامه ، وأهدى له بغلة بيضاء ، هي فضة ، وفرسا يقال له : الظرب ، وحمارا يقال له : يعفور ، وأثوابا ، وقباء مذهبا ، فقبل هديته. وأعطى رسوله مسعود بن سعد الجذامي اثني عشرة أوقية فضة (١).

وكان فروة عاملا لقيصر ملك الروم على من يليه من العرب ، وكان منزله معان وما حولها من أرض الشام.

فلما بلغ الروم ذلك من أمر إسلامه طلبوه حتى أخذوه ، فحبسوه عندهم ، فقال في محبسه :

طرقت سليمى موهنا أصحابي

والروم بين الباب والقروان

صد الخيال وساءه ما قد رأى

وهممت أن أغفي وقد أبكاني

لا تكحلنّ العين بعدي إثمدا

سلمى ولا تدننّ للإتيان

__________________

(١) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٥ ص ١٩٢ ، وتاريخ مدينة دمشق ج ٥٨ ص ٩ ، والإصابة ج ٦ ص ٧٨ ، والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ٢٦٢ و ٢٨١ وج ٧ ص ٤٣٥.

١٤٣

ولقد علمت أبا كبيشة أنني

وسط الأعزة لا يحص لساني

فلئن هلكت لتفقدن أخاكم

ولئن بقيت لتعرفن مكاني

ولقد جمعت أجل ما جمع الفتى

من جودة وشجاعة وبيان

فلما أجمعت الروم على صلبه على ماء لهم بفلسطين ، يقال له عفراء ، قال :

ألا هل أتى سلمى بأن حليلها

على ماء عفرى فوق إحدى الرواحل

على ناقة لم يضرب الفحل أمها

مشذبة أطرافها بالمناجل

فزعم الزهري ابن شهاب أنهم لما قدموه ليقتلوه قال :

أبلغ سراة المسلمين بأنني

سلم لربي أعظمي ومقامي

ثم ضربوا عنقه ، وصلبوه على ذلك الماء ، والله تعالى أعلم (١).

ونقول :

دلالات في إسلام فروة :

إن هذا الرجل ـ أعني فروة الجذامي ـ : لم يسلم حين أسلم طمعا في مال أو مقام ، أو جاه ، لأن ذلك كان حاصلا له ، بل هو بإسلامه قد خاطر بجاهه ، ومقامه ، وبحياته أيضا .. كما ان هذا الرجل لم ير رسول الله «صلى

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٩١ عن ابن إسحاق ، والمواهب اللدنية وشرحه للزرقاني ج ٥ ص ١٩٢ وراجع : الإصابة ج ٣ ص ٢١٣ عن ابن إسحاق وابن شاهين ، وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٨ ص ٢٧٣ ، والإصابة ج ٥ ص ٢٩٥ ، والوافي بالوفيات ج ٢٤ ص ٦ ، وعيون الأثر ج ٢ ص ٢٩٧.

١٤٤

الله عليه وآله» ، ليمكن أن يتوهم أنه قد تأثر بشخصيته ، أو بقوة بيانه ، كما أنه لم يكن له طمع بمال قدمه إليه ، أو بجاه أو مقام عرضه عليه ..

بل جاءته الدعوة الإلهية بكل صفائها ، ونقائها ، ووضوحها ، لا تشوبها أية شائبة ، من ترهيب أو ترغيب أو غيرهما ، فانصاع لها عقله ، ورضيها وجدانه ، وانسجمت معها فطرته. وأصبحت عنوان وجوده ، وحقيقة شخصيته وكيانه ، ووجد أن التفريط بها معناه : التفريط بهويته ، وبإنسانيته ، ولأجل ذلك آثر أن يصر عليها ، وأن يحتفظ بها ولا يساوم عليها ، مع أنه كان قادرا على كتمان أمره ، والإسرار بدخيلة نفسه ..

منطق الغالب هو المغلوب :

واللافت هنا : هو هذه القسوة التي عامل الروم بها عاملهم ، حيث إنهم بمجرد معرفتهم بإسلامه طلبوه حتى أخذوه ، فحبسوه عندهم ، ثم قتلوه ، وصلبوه (١).

وهذا معناه :

١ ـ أنه قد جرت مطاردة واسعة ، واستنفار عام من قبل الروم لملاحقة هذا الرجل ، حتى تمكنوا أخيرا من أخذه.

٢ ـ إننا لم نرهم سألوه عن سبب اعتناقه الإسلام ، ولا ناقشوه في صحة هذا الدين ..

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٩٠ عن ابن سعد ، والطبقات الكبرى لابن سعد (ط ليدن) ج ٢ ص ١١٥ وفي (ط دار صادر) ج ٧ ص ٤٣٥ ، ومعجم ما استعجم ج ٤ ص ١٢٤٢ ، والبحار ج ٢١ ص ٤٠٩.

١٤٥

٣ ـ إن هذا الفعل منهم يشير إلى أنهم يريدون فرض النصرانية على الناس بقوة السيف. فلا صحة لما يزعمونه من أن دينهم دين سلام ومحبة ، وتسامح .. وليس لهم أن يتهموا الإسلام بأنه دين القهر ، والعنف ، وأنه إنما انتشر بالسيف وبالأكراه!!

فإن الإسلام هو الذي أطلق القاعدة الشاملة لكل عصر ومصر ، ولكل دين ونحلة ولجميع الفئات والأقوام ومختلف الشرائح ، والتي تقول : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١).

وإذا كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد حارب بعض الأقوام ، فإنما حاربهم دفاعا عن النفس ..

على أنه ليس لمن تقدم له الأدلة والبراهين الفطرية والعقلية ، ويظهر عجزه عن مواجهتها ، حيث تكون أمامه أظهر من الشمس ، وأبين من الأمس ـ ليس له ـ أن يرفض الخضوع لها ، استكبارا منه وعتوا .. وإلا سقطت المعايير ، واختل نظام الحياة ، ولا بد أن يسقط الناس معها في هوة سحيقة من الظلم والفوضى ، وضياع الحقوق في ظل حكومة الأقوياء ، والجباريين ، والمستكبرين ..

٤ ـ إن صلبهم لفروة بعد قتله يدل على أنهم أرادوا أن يجعلوا منه عبرة ورادعا لكل من يمكن أن يمر في خياله أو يخطر على باله أن يفكر بالإسلام كخيار له في هذه الحياة. فالتفكير ، بل وحتى تخيل هذا الأمر ممنوع على

__________________

(١) الآية ٢٥٦ من سورة البقرة.

١٤٦

الناس تحت وطأة صولة الجبارين ، وبقوة السيف ، لا بقوة الدليل ، ولا بسلطان البرهان ..

وفود رجل من عنس :

عن رجل من عنس بن مالك ، من مذحج ، قال : كان منا رجل وفد على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأتاه وهو يتعشى فدعاه إلى العشاء ، فجلس. فلما تعشى أقبل عليه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : «أتشهد ألا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله»؟

فقال : أشهد ألا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله.

فقال : «أراغبا جئت أم راهبا»؟

فقال : أما الرغبة فو الله ما في يديك مال ، وأما الرهبة فو الله إني لببلد ما تبلغه جيوشك ، ولكني خوفت فخفت ، وقيل لي : آمن بالله فآمنت.

فأقبل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على القوم ، فقال : «رب خطيب من عنس».

فمكث يختلف إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ثم جاء يودعه ، فقال له رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «اخرج». وبتته أي أعطاه شيئا ، وقال : «إن أحسست شيئا فوائل إلى أدنى قرية» فخرج فوعك في بعض الطريق ، فوأل إلى أدنى قرية ، فمات رحمه‌الله واسمه ربيعة.

وعند الطبراني : اسمه ربيعة بن رواء العنسي (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٨٩ عن ابن سعد ، والطبراني ، والطبقات الكبرى لابن سعد (ط ليدن) ج ٢ ص ١٠٦ والإصابة ج ١ ص ٥٠٨ وفي (ط دار الكتب ـ

١٤٧

ونقول :

١ ـ لم تذكر الرواية لنا تاريخ هذا الوفد على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

٢ ـ قد تضمنت هذه الرواية إقرار العنسي أمام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأنه لم يسلم رهبا ولا رغبا .. وإنما أسلم حين ظهر له أن ثمة ما يدعو إلى الخوف من الآخرة ، فحكم عليه عقله بلزوم اتخاذ سبيل الإحتياط والحذر ، فأطاع عقله ، ولم يتأثر بما يمليه عليه هواه من تقليد الأباء ، والتزام ما ألفه واعتاده ، لأن الآباء قد يخطئون ، والإلف قد يكون لما فيه شر وفساد ، والعادة لا تدل على الحق ..

٣ ـ إن إيمانه بالله لم يكن إيمانا بشيء كان مترددا فيه ، بل كان إيمانا بشيء اقتنع به ، وانتقل من قناعاته تلك إلى تحصيل قناعات أخرى ، مثل أنه لم يخلقه عبثا ، وأنه لا بد أن يكلفه بما يحقق الهدف من خلقته ، وأن لا يرضى بمخالفة أوامره ، وإهمال تكاليفه. وأنه لا بد من مثوبة وعقوبة ، وسوف ينظر إلى نفسه ليريها موقعها من أوامره وزواجره وما ينتظرها من عقوبة ومثوبة .. فرأى أنه لا يستطيع أن يطمئن إلى مصيره ، فإن ثمة أمورا جعلته يخاف معها على نفسه .. ولذلك رأى نفسه مضطرا إلى الإيمان بما اقتنع به فكريا فآمن بالله ، وشهد للنبي يالعبودية والرسالة ، وواصل سيره باتجاه الحصول على ما يوجب له السلام والأمان في الدنيا والآخرة.

__________________

ـ العلمية) ج ٢ ص ٣٨٧ ، وراجع : مجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٩٤ ، والمعجم الكبير للطبراني ج ٥ ص ٦٦ ، وأسد الغابة ج ٢ ص ١٦٨.

١٤٨

٤ ـ غير أن هذه الرواية قد تضمنت دعوى أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال للعنسي : رب خطيب من عنس ، ونحن لا نجد أي تناسب لهذه الكلمة مع قول العنسي وفعله ، فهو لم يخطب ، بل أخبر عن إيمانه وسببه ، كما أننا لم نتأكد من وجود أية شهرة للعنسيين في الخطابة ..

إلا أن يقال : قد يكون عدم اشتهار العنسيين بالخطابة ، هو الذي دعا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى قوله : رب خطيب من عنس ـ أي عنس التي لا خطابة فيها يظهر منها خطيب .. فلاحظ.

وفود جعدة :

عن رجل من بني عقيل قال : وفد إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الرقاد بن عمرو بن ربيعة بن جعدة بن كعب. وأعطاه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالفلج ضيعة ، وكتب لهم كتابا وهو عندهم (١).

وفود الحجاج بن علاط السلمي :

عن واثلة بن الأسقع قال : سبب إسلام الحجاج بن علاط أنه خرج في ركب من قومه إلى مكة ، فلما جن عليه الليل وهو في واد موحش مخوف ، فقال له أصحابه : قم يا أبا كلاب فخذ لنفسك ولأصحابك أمانا.

فقام الحجاج بن علاط يطوف حولهم يكلؤهم ويقول : أعيذ نفسي ، وأعيذ صحبي ، من كل جني بهذا النقب ، حتى أؤوب سالما وركبي.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣١٤ عن طبقات ابن سعد (ط ليدن) ج ١ ق ٢ ص ٤٦ ومجموعة الوثائق السياسية ص ٣١٨.

١٤٩

فسمع قائلا يقول : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) (١).

فلما قدم مكة أخبر بذلك قريشا ، فقالوا : «صبأت والله يا أبا كلاب» إن هذا فيما يزعم محمد أنه أنزل عليه.

فقال : والله لقد سمعته وسمعه هؤلاء معي.

فسأل عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقيل له : بالمدينة.

فأتاه ، فأسلم (٢).

ولا ندري مدى صحة هذه الرواية التي تفرد بها واثلة بن الأسقع ، مع العلم بأنها مما تتوافر الدواعي على نقله ، ولا سيما من أولئك الذين سمعوا ما سمعه ابن علاط. وقد عجزت الروايات عن نسبة ذلك إلى ابن علاط نفسه ، مع أن هذا الأمر هو سبب إسلامه ..

والحال أن الرواة ينقلون لنا ما هو أبسط من ذلك بمراتب.

وفود فروة بن مسيك :

قال ابن إسحاق ، ومحمد بن عمر : قدم فروة بن مسيك المرادي وافدا

__________________

(١) الآية ٣٣ من سورة الرحمن.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٢١ عن ابن أبي الدنيا في الهواتف ، وابن عساكر ، والبحار ج ٦٠ ص ٢٩٩ وكنز العمال ج ١٣ ص ٣٤٨ وأسد الغابة ج ١ ص ٣٨١ والهواتف لابن أبي الدنيا ص ٣٨ والإستيعاب (ط دار الجيل) ج ١ ص ٣٢٥ والإصابة (دار الكتب العلمية) ج ٢ ص ٢٩ والوافي بالوفيات للصفدي ج ١١ ص ٢٤٥ وإمتاع الأسماع للمقريزي ج ٤ ص ٣٢ وأعيان الشيعة ج ٤ ص ٥٦٥.

١٥٠

على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، مفارقا لملوك كندة ، ومتابعا للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقال في ذلك :

لما رأيت ملوك كندة أعرضت

كالرجل خان الرجل عرق نسائها

قربت راحلتي أؤم محمدا

أرجو فواضلها وحسن ثرائها

ثم خرج حتى أتى المدينة ، وكان رجلا له شرف ، فأنزله سعد بن عبادة عليه ، ثم غدا إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو جالس في المسجد ، فسلم عليه ثم قال : يا رسول الله ، أنا لمن ورائي من قومي.

قال : «أين نزلت يا فروة»؟

قال : على سعد بن عبادة. وكان يحضر مجلس رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كلما جلس ، ويتعلم القرآن ، وفرائض الإسلام وشرائعه.

وكان بين مراد وهمدان قبيل الإسلام وقعة أصابت فيها همدان من مراد ما أرادوا ، حتى أثخنوهم في يوم يقال له : يوم الردم. وكان الذي قاد همدان إلى مراد ، الأجدع بن مالك في ذلك اليوم.

قال ابن هشام : الذي قاد همدان في ذلك اليوم ابن حريم الهمداني.

قال ابن إسحاق : فلما انتهى إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «يا فروة ، هل ساءك ما أصاب قومك يوم الردم»؟

قال : يا رسول الله ، من ذا يصيب قومه مثل ما أصاب قومي يوم الردم ولا يسوؤه ذلك؟

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أما إن ذلك لم يزد قومك في الإسلام إلا خيرا».

١٥١

وفي ذلك اليوم يقول فروة بن مسيك :

مررن على لفات وهن خوص

ينازعن الأعنة ينتحينا

فإن نغلب ، فغلابون قدما

وإن نغلب ، فغير مغلبينا

وما إن طبنا جبن ولكن

منايانا ودولة آخرينا

كذاك الدهر دولته سجال

تكر صروفه حينا فحينا

فبينا ما نسر به ونرضى

ولو لبست غضارته سنينا

إذ انقلبت به كرات دهر

فألفيت الألى غبطوا طحينا

فمن يغبط بريب الدهر منهم

يجد ريب الزمان له خؤونا

فلو خلد الملوك إذا خلدنا

ولو بقي الكرام إذا بقينا

فأفنى ذلكم سروات قومي

كما أفنى القرون الأولينا

واستعمل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فروة بن مسيك على مراد ، وزبيد ومذحج كلها ، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة ، فكان معه في بلاده حتى توفي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

ونقول :

يستوقفنا في حديث فروة أمور ، نذكر منها :

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٩٢ و ٣٩٣ عن ابن إسحاق ، والواقدي ، وفي هامشه عن البداية والنهاية ج ٥ ص ٧١ ، وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٣٩٢ ، والبداية والنهاية ج ٥ ص ٨٣ ، وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٩٨ وج ٩ ص ٣٧٨ ، والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٠٤ ، وعيون الأثر ج ٢ ص ٢٩٠ ، والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ١٣٧ ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٥٩.

١٥٢

إن من الشعر لحكمة :

إن الشعر المنسوب لفروة بن مسيك يشير إلى أن هذا الرجل كان يملك عقلا ، وحكمة ، وبعد نظر ، وأن التجارب قد حنكته ، وتقلبات الزمان قد علمته ، وهذبته ..

ولأجل ذلك يقال : إن الإمام الحسين «عليه‌السلام» قد تمثل بنفس هذه الأبيات في واقعة كربلاء (١) ، لأنها تعطي صورة واقعية صادقة عن حركة الدهور ، وتقلبات الأزمان ..

يوم الردم في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وقد لاحظنا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يسأل فروة بن مسيك عن يوم الردم إن كان قد ساءه.

والسؤال هو : لماذا يطرح النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هذا السؤال؟! أليس تأثر الرجل بما يصيب قومه من نكبات أمرا طبيعيا؟!

ونجيب : بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يسأله عما بقى لذلك اليوم من آثار حزن في قلبه ، بل سأله هذا السؤال الذي لا يحتاج إلى جواب ، توطئة لما يريد أن يقوله بعد ذلك ، أي أنه أراد من فروة بن مسيك أن يستحضر صورة ما جرى ليتمكن «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من طرح العلاج الذي كان ضروريا ..

__________________

(١) مقتل الحسين للخوارزمي ج ٢ ص ٧ واللهوف ص ٥٤ وعن تاريخ ابن عساكر ج ٤ ص ٣٣٤.

١٥٣

فإنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يريد أن يبني مجتمعا متعاونا ، ومتراحما ، ليعيش الأخوّة في أعمق معانيها ، وهذا غير ممكن إلا باستلال الأحقاد من القلوب ، وتطهير النفوس ، والعقول من الوساوس والتزيينات الشيطانية ..

ولأجل ذلك : نجده «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يبادر إلى بلسمة الجرح من خلال التنويه بقيمة العوض الأسمى والأبقى الذي حصل عليه قوم فروة بن مسيك ، معتبرا أن الله قد زادهم في الإسلام خيرا مما أصيبوا به يوم الردم ، وقد كان سبب هذا العطاء هو نفس ما جرى عليهم في ذلك اليوم ..

والذي يبدو لنا هو : أن هؤلاء القوم قد تصرفوا بحكمة وأناة ، ولم ينساقوا وراء ردات الفعل ، فصبروا ، وكفوا أيديهم عن الأبرياء ، فاستحقوا أن يعوضهم الله عن ذلك بمزيد من الخير والفضل الذي حباهم به في الإسلام ..

وفد عامري ، وكلبي :

قال عبد عمرو بن جبلة بن وائل بن الجلاح الكلبي : شخصت أنا وعاصم ـ رجل من بني رقاش من بني عامر ـ حتى أتينا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فعرض علينا الإسلام ، فأسلمنا.

وقال : «أنا النبي الأميّ الصادق الزكي ، والويل كل الويل لمن كذبني وتولى عني وقاتلني ، والخير كل الخير لمن آواني ونصرني ، وآمن بي وصدق قولي ، وجاهد معي».

قالا : فنحن نؤمن بك ونصدق قولك ، وأنشأ عبد عمرو يقول :

أجبت رسول الله إذ جاء بالهدى

وأصبحت بعد الجحد بالله أوجرا

١٥٤

وودعت لذات القداح وقد أرى

بها سدكا عمري وللهو أهدرا

وآمنت بالله العلي مكانه

وأصبحت للأوثان ما عشت منكرا (١)

ونقول :

ويستوقفنا هنا ما يلي :

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمي ، صادق ، زكي :

لقد وصف النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفسه بالأوصاف المذكورة ، وليس يريد بهذا الثناء على نفسه ، بقدر ما يقصد به الإعلام ، أو فقل التذكير بما شاع وذاع عنه ، من أنه أمين وصادق ، وزكي.

فإن الأمية تشير إلى : أنه لم يقرأ كتب من مضى ، لكي يتهم بأنه قد أخذ منها ..

والصدق الذي عرف به ، وظهرت لهم دلائله في مطابقة ما أخبر به من غيوب للواقع ، يحتم عليهم قبول ما جاء به ، وبخوعهم لنبوته ..

وأما كونه زكيا ، فيشير إلى طهارته وأنه لا ينقاد إلى هواه ، ولا تتحكم به شهواته ، فلا معنى لأن يتوهم في حقه شيء مما يحاول الظالمون إلصاقه به ..

ولذلك رتب «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على جامعيته لهذه الأوصاف الثلاثة ، نتيجة هي : أن الويل كل الويل لمن كذبه ، وتولى عنه ، وقاتله. وأن الخير كل الخير لمن أواه ونصره ، وآمن به ، وصدق قوله ، وجاهد معه .. لأن

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٤٠١ عن ابن سعد في الطبقات (ط ليدن) ج ٢ ص ٩٢ وفي (ط دار صادر) ج ١ ص ٣٣٤ ، والإصابة ج ٤ ص ٣١٥.

١٥٥

من يكون جامعا للأوصاف الثلاثة المذكورة يكون صادقا في دعواه النبوة .. فتكذيبه ومحاربته لابد أن تجلب الويل كل الويل لصاحبها ، كما أن الخير كله سيكون من نصيب من صدقه وآمن به وجاهد معه ، لأن تلك الصفات تجعل ذلك المتحلّي مصونا ومحفوظا من أي خلل أو خطل ، وبعيدا عن التأثر بالأهواء ، والإنصياع للآراء الباطلة ، والخيالات المضللة ..

ما تعهد به عبد عمرو :

وقد تعهد عبد عمرو في شعره رفض الأوثان ، وترك شرب الخمر واللهو ، وأجاب إلى الإيمان بالله ، والإيمان بما جاء به رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

فأمّا البنسبة لما تعهد بتركه ورفضه ، فمن الواضح : أن عبادة الأوثان أصبحت أمرا معيبا في ذلك المجتمع ، الذي استيقظت فطرته ، وتنبه عقله ، وأدرك مدى سوء ووهن هذا الإعتقاد ، وسخف وسقوط ، وهجنة هذه العبادة.

أما الخمر ، فكان للعرب تعلق خاص بها ، حتى إن أعشى قيس قدم إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليسلم ، وقد مدحه بقصيدة ، فلما كان بمكة أو قريبا منها قيل له : إن محمدا يحرّم الزنا.

فقال : والله ، إن ذلك لأمر ما لي فيه من إرب.

فقيل له : وإنه ليحرم الخمر.

فقال : أما هذه ففي النفس منها لعلالات ، ولكني منصرف فأرتوي

١٥٦

منها عامي هذا ثم آتيه أسلم ، فمات في عامه ذاك ، ولم يوفق للإسلام (١).

كما أنهم يقولون : إن بني تغلب كانوا نصارى ، ولكنهم ما كانوا يتعلقون من النصرانية إلا بالزنا وشرب الخمر (٢). بل إن جميع نصارى العرب كانوا كذلك (٣).

غير أن من الواضح : أن التجاهر بالزنا لم يكن أمرا محمودا عندهم ، وكان ربما يجر عليهم المتاعب ، بل المصائب.

ولأجل ذلك نلاحظ : أن الشاعر عبد عمرو اعتبر نفسه مضحيا بتركه لذات قداح الخمر ، وهو يتمدح نفسه ويثني عليها من أجل رضاها بذلك ..

وفود بني الرؤاس بن كلاب :

عن أبي نفيع طارق بن علقمة الرؤاسي قال (٤) : قدم رجل منا يقال له :

__________________

(١) راجع : الروض الأنف ج ٢ ص ١٣٦ والبداية والنهاية ج ٣ ص ١٠١ و ١٠٢ و ١٠٣ و (ط دار إحياء التراث العربي) ص ١٢٧ وسيرة مغلطاي ص ٢٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٨٠ ، والسيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ٢٥ ـ ٢٨ ، والأغاني (ط ساسي) ج ٨ ص ٨٥ و ٨٦ ، والروض الانف ج ٢ ص ١٣٦ ، وسيرة مغلطاي ص ٢٥ ، وتفسير الميزان ج ٦ ص ١٣٤ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٦٢ ، ومحاضرات الأدباء المجلد الثاني ص ٤١٨ ، والشعر والشعراء لابن قتيبة ص ١٣٥.

(٢) المصنف للصنعاني ج ٦ ص ٧٢ وج ٧ ص ١٨٦ والسنن الكبرى ج ٩ ص ٢٤٨ ، وأسد الغابة ج ١ ص ٥٨.

(٣) المصنف للصنعاني ج ٦ ص ٧٢ و ٧٣ وج ٧ ص ١٨٦ والسنن الكبرى ج ٩ ص ٢١٧.

(٤) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٤٠ عن ابن سعد ، وفي هامشه عن طبقات ابن سعد (ط ليدن) ج ٢ ص ٦٥ وفي (ط دار صادر) ج ١ ص ٣٠٠ ، وراجع : الإصابة ج ٣ ص ١٣.

١٥٧

عمرو بن مالك بن قيس على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأسلم ثم أتى قومه ، فدعاهم إلى الإسلام ، فقالوا : حتى نصيب من بني عقيل بن كعب مثلما أصابوا منا.

فخرجوا يريدونهم ، وخرج معهم عمرو بن مالك ، فأصابوا منهم. ثم خرجوا يسوقون النعم ، فأدركهم فارس من بني عقيل يقال له : ربيعة بن المنتفق بن عقيل وهو يقول :

أقسمت لا أطعن إلا فارسا

إذا الكماة ألبسوا القلانسا

قال أبو نفيع : فقلت نجوتم يا معشر الرجالة سائر اليوم.

فأدرك العقيلي رجلا من بني عبيد بن رؤاس يقال له : المحرس بن عبد الله [بن عمرو بن عبيد بن رؤاس] ، فطعنه في عضده فاختلها ، فاعتنق المحرس فرسه وقال : يا آل رؤاس.

فقال ربيعة : رؤاس خيل أو أناس؟

فعطف على ربيعة عمرو بن مالك فطعنه ، فقتله.

قال : ثم خرجنا نسوق النعم ، وأقبل بنو عقيل في طلبنا حتى انتهينا إلى تربة ، فقطع ما بيننا وبينهم وادي تربة ، فجعلت بنو عقيل ينظرون إلينا ولا يصلون إلى شيء ، فمضينا.

قال عمرو بن مالك : فأسقط في يدي وقلت : قتلت رجلا ، وقد أسلمت وبايعت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فشددت يدي في غل إلى عنقي ، ثم خرجت أريد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وقد بلغه ذلك.

فقال : «لئن أتاني لأضربن ما فوق الغل من يده».

فأطلقت يدي ثم أتيته فسلمت عليه ، فأعرض عني ، فأتيته عن يمينه ،

١٥٨

فأعرض عني ، فأتيته عن يساره ، فأعرض عني ، فأتيته من قبل وجهه ، فقلت : «يا رسول الله ، إن الرب ليترضى فيرضى ، فارض عني رضي الله عنك».

قال : «قد رضيت عنك» (١).

ونقول :

إن هذا الحديث إنما يرويه لنا مالك عن نفسه ، ونحن نشك في صحة ما نقله من رضا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عنه ، فإنه إن كان قد قتل مشركا ، فلماذا يتوعده «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بضرب ما فوق الغل من يده؟! ولماذا يغضب عليه ويعرض عنه ، ثم لا يرضى إلا بعد أن قال له الكلام السابق عنه؟!

وإن كان المقتول مسلما ، فإن المطلوب هو قتله قودا ، أو قصاصا .. وما معنى : أن يرضى عنه لمجرد أنه أتاه من قبل وجهه ، مع أنه قد اقترف هذا الذنب العظيم ، ألا وهو قتل امرئ مسلم؟!

ولماذا لم يبادر إلى تنفيذ ما كان تعهد به وهو : أن يضرب ما فوق الغل من يده ، فهل إطلاق يده يسقط العقوبة الإلهية عنه ، ويمنع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من تنفيذ ما تعهد به؟!

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٤٠ عن ابن سعد ، وفي هامشه عن طبقات ابن سعد (ط ليدن) ج ١ ق ٢ ص ٤٥ وفي (ط دار صادر) ج ١ ص ٣٠١ ، وراجع : الإصابة ج ٣ ص ١٣ ، والآحاد والمثاني للضحاك ج ٣ ص ١٧٨ ، والثقات لابن حبان ج ٣ ص ٢٧٠ ، وأسد الغابة ج ٥ ص ١٢ ، والإصابة ج ٤ ص ٥٦٠.

١٥٩

وفد زياد بن عبد الله الهلالي :

قالوا : وفد زياد بن عبد الله بن مالك على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلما دخل المدينة توجه إلى منزل ميمونة بنت الحارث زوج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وكانت خالة زياد ـ لأن أمه عزة بنت الحارث ـ وهو يومئذ شاب. فدخل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو عندها. فلما رآه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» غضب فرجع.

فقالت ميمونة : يا رسول الله ، هذا ابن أختي.

فدخل إليها ثم خرج حتى أتى المسجد ومعه زياد ، فصلى الظهر ، ثم أدنى زيادا فدعا له ، ووضع يده على رأسه ، ثم حدّرها على طرف أنفه ، فكانت بنو هلال تقول : ما زلنا نعرف البركة في وجه زياد.

وقال الشاعر لعلي بن زياد :

يا بن الذي مسح النبي برأسه

ودعا له بالخير عند المسجد

أعني زيادا لا أريد سواءه

من غائر أو متهم أو منجد

ما زال ذاك النور في عرنينه

حتى تبوأ بيته في الملحد

وفادة قيس بن عاصم :

وقدم قيس بن عاصم على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في سنة تسع (١).

وروى الطبراني بسند جيد عن قيس بن عاصم قال : قدمت على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلما رآني قال : «هذا سيد أهل الوبر».

__________________

(١) الإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ٣ ص ٢٣٢.

١٦٠