الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٧

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٧

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-199-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٤

عسلان (١).

٤ ـ عن رجل من مزينة أو جهينة قال : صلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الفجر ، فإذا هو بقريب من مائة ذئب قد أقعين. [وكانوا] وفود الذئاب.

فقال لهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «هؤلاء وفود الذئاب ، سألتكم أن ترضخوا لهم شيئا من فضول طعامكم ، وتأمنوا على ما سوى ذلك».

فشكوا إليه حاجة.

قال : «فادنوهن». فخرجن ولهم عواء (٢).

٥ ـ عن سليمان بن يسار مرسلا قال : أشرف النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على الحرّة ، فإذا ذئب واقف بين يديه ، فقال : «هذا يسأل من كل سائمة شاة». فأبوا ، فأومأ إليه بأصابعه ، فولى (٣).

طبع الذئاب :

قد يقول قائل : إن افتراس الذئاب للغنم ولغيرها لم يبدأ في زمن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويكفي أن نذكر ما تعلل به أخوة يوسف «عليه‌السلام» لإخفاء مكرهم بأخيهم يوسف حيث ادّعوا أن الذئب قد أكله ، وجاؤوا على

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٦ ص ١٦٦ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٤٤٠ عن ابن سعد ، وأبي نعيم ، وقال في هامشه : أخرجه ابن سعد في الطبقات ١ ج ق ٢ ص ٨٦ ، وأبو نعيم في الدلائل (١٣٣) ، وانظر البداية والنهاية ج ٥ ص ٩٥. والعسلان : هو السرعة وراجع : أسد الغابة ج ٢ ص ١٧٢ وإمتاع الأسماع للمقريزي ج ٥ ص ٢٣٥.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٤٤٠ عن الدارمي ، وابن منيع في مسنده ، أبي نعيم.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٤٤٠ عن الواقدي ، وأبي نعيم.

١٠١

قميصه بدم كذب ..

كما أن الذئاب كانت تفترس ما تقدر عليه طيلة سنوات كثيرة بعد بعثة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قبل وفادة الذئاب عليه ، فما معنى أن تأتي أخيرا هذه الذئاب إليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لتتقدم بهذا الطلب حتى تخرج بتلك النتيجة التي ذكرتها الروايات السابقة؟!

والجواب : أن كل ذلك صحيح ، ولكنه لا يمنع من أن يكون الله سبحانه أراد أن يظهر الكرامة لنبيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بتكليم السباع له ، وظهور معرفته بلغة الحيوانات ، وطاعتها له ، وتعريف الناس بأن لنبينا «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ميزة على كل أنبياء الله «عليهم‌السلام» الذين سبقوه ، تمثلت في عرض تقدمه هذه الذئاب بالتخلي حتى عن طباعها المتأصلة فيها على مدى آلاف السنين ، والرضا بما يفرضه الناس لها من نصيب في مواشيهم والتعهد بعدم التعرض لسواه ، وذلك إكراما لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وتمييزا له عن جميع البشر ..

إختلاف الروايات :

أما هذا الإختلاف الذي يظهر في الروايات المتقدمة .. فيمكن معالجته ، بأن من الجائز أن يكون الحدث قد تكرر في المواضع والأزمنة ، والحالات المختلفة ، وقد حضر في كل مرة أناس غير الذين حضروا في المرات الأخرى ، وبذلك نفسر أيضا الإختلاف في عدد الذئاب التي حضرت ، وغير ذلك من أمور وتفاصيل.

١٠٢

الفصل الثاني :

أشخاص علم تاريخ وفادتهم

١٠٣
١٠٤

وفادة خفاف بن نضلة :

عن ذابل بن الطفيل بن عمرو الدوسي : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قعد في مسجده منصرفه من الأباطح ، فقدم عليه خفاف بن نضلة بن عمرو بن بهدلة الثقفي ، فأنشد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» :

كم قد تحطمت القلوص في الدجى

في مهمه قفر من الفلوات

فل من التوريس ليس بقاعه

نبت من الأسنات والأزمات

إني أتاني في المنام مساعد

من جن وجرة كان لي وموات

يدعو إليك لياليا

ثم احزألّ ، وقال لست بآت

فركبت ناجية أضربنيها

جمز تجب به على الأكمات

حتى وردت إلى المدينة جاهدا

كيما أراك مفرج الكربات

قال : فاستحسنه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وقال : «إن من البيان كالسحر ، وإن من الشعر كالحكم» (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٢٩ عن البيهقي في دلائل النبوة ، وعن أبي سعيد النيسابوري في شرف المصطفى ، ونقله في هامشه عن صحيح مسلم ٤ / ٢٠٥٥ (٧ / ٢٦٧٠) وعن البخاري ١٠ / ٥٣٧ (٦١٤٥) وكنز العمال ج ٣ ص ٨٦٠.

١٠٥

ونقول :

قد تضمنت هذه الأبيات أمورا : أهمها : أنه يرى أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مفرج الكربات في الأزمات ، وقد تحدثنا عن ذلك فيما سبق ، فلا نعيد.

في وفود خشين إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله :

عن محجن بن وهب قال : قدم أبو ثعلبة الخشني على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو يتجهز إلى خيبر ، فأسلم وخرج معه فشهد خيبر ، ثم قدم بعد ذلك سبعة نفر من خشين ، فنزلوا على أبي ثعلبة ، فأسلموا وبايعوا ورجعوا إلى قومهم (١).

الوفد الأول لثقيف :

هناك وفاداتان لأناس من ثقيف ، إحداهما : وفادة شخصية ، بمعنى : أن الوافدين لم يكونوا مبعوثين من قبل قومهم ، ولا يتكلمون باسمهم ، بل هم يعلنون البراءة منهم ، والعداء لهم ، ويقطعون صلتهم بهم.

وهي وفادة رجلين قدما على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قبل إسلام ثقيف ، بل ربما قبل فتح مكة أيضا ، كما قد يستفاد من تشدد ذينك الرجلين في قطع صلتهما بقومهما ، وإظهار براءتهما منهم ، فقد قالوا :

كان أبو المليح بن عروة ، وقارب بن الأسود قدما على رسول الله «صلى

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٣٤ عن ابن سعد ، عن الواقدي ، والإصابة ج ٤ ص ٣٠ والطبقات الكبرى ج ١ ص ٣٢٩ وج ٧ ص ٤١٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٦ ص ١٠٠.

١٠٦

الله عليه وآله» قبل وفد ثقيف ، حين قتل عروة بن مسعود يريدان فراق ثقيف ، وألا يجامعاهم على شيء أبدا ، فأسلما ، فقال لهما رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «توليا من شئتما».

فقالا : نتولى الله ورسوله (١).

أي أنهما قد وطّنا النفس على قطع أية علاقة مع معسكر الكفر والشرك ، حتى لو لزم من ذلك البراءة من الأهل والعشيرة .. ولأجل ذلك أفسح «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهما المجال ليتوليا من شاءا ، وتكون بينهما وبينه علاقة الولاء ـ أعني ولاء ضمان الجريرة ، ليمكن التوارث بينهما ، فاختارا ولاء الله ورسوله ..

وإنما يصح ولاء ضمان الجريرة فيما إذا لم يكن للمضمون وارث.

وفود ضمام بن ثعلبة :

روي عن الزهري وثابت ، وشريك بن عبد الله كلاهما عن أنس ، وابن عباس ما ملخصه ومضمونه :

أن أنس في رواية ثابت قال : «نهينا في القرآن أن نسأل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن شيء. كان يعجبنا أن نجد الرجل من أهل البادية العاقل ، فيسأله ونحن نسمع».

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٩٧ وعيون الأثر ج ٢ ص ٢٧٣ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٩٦٨ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٣٠ والإصابة ج ٥ ص ٣٠٦ وأسد الغابة ج ٤ ص ١٨٧ وج ٥ ص ٣٠٤ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٥ ص ٥٠٤ والدرر لابن عبد البر ص ٢٤٩.

١٠٧

وفي حديث أبي هريرة : «بينا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مع أصحابه متكئا ، أو قال جالسا في المسجد ، إذ جاء رجل على جمل ، فأناخه في المسجد ، ثم عقله».

وفي حديث ابن عباس قال : «بعث بنو سعد بن بكر ، ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقدم عليه وأناخ بعيره على باب المسجد ، ثم دخل المسجد ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جالس في أصحابه ، وكان ضمام رجلا جلدا ، أشعر ذا غديرتين ، فأقبل حتى انتهى إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..».

قال أنس في رواية شريك : «فقال : أيكم محمد»؟ أو «أيكم ابن عبد المطلب؟ والنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» متكئ بين ظهرانيهم.

فقلنا له : هذا الأبيض المتكئ».

أو قالوا : هذا الأمغر المرتفق.

قال : فدنا منه ، وقال : إني سائلك فمشدد عليك ، أو فمغلظ عليك في المسألة ، فلا تجد عليّ في نفسك.

قال : «لا أجد في نفسي ، فسل عما بدا لك».

قال أنس في رواية ثابت : فقال : يا محمد ، أتانا رسولك فقال لنا : إنك تزعم أن الله تعالى أرسلك؟

قال : «صدق».

قال : فمن خلق السماء؟

قال : «الله».

قال : فمن خلق الأرض؟

١٠٨

قال : «الله».

قال : فمن نصب هذه الجبال ، وجعل فيها ما جعل؟

قال : «الله».

فقال : «فأنشدك الله إلهك وإله من قبلك ، وإله من هو كائن بعدك».

أو قال : «فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال» ، «آلله أمرك أن نعبده وحده ، ولا نشرك به شيئا ، وأن ندع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون؟

قال : «اللهم نعم».

قال : «وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا».

قال : «صدق».

قال : فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك ، وإله من هو كائن بعدك ، آلله أمرك أن تصلي هذه الصلوات الخمس؟

قال : «اللهم نعم».

قال : «وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا».

قال : «صدق».

قال : أنشدك بالله ، آلله أمرك أن تأخذ من أموال أغنيائنا فترده على فقرائنا؟

فقال : «اللهم نعم».

قال : «وزعم رسولك أن علينا صوم شهر في سنتنا».

قال : «صدق».

قال : «وأنشدك الله ، آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟

١٠٩

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «اللهم نعم».

قال : «وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا».

قال : «نعم».

وفي حديث ابن عباس : «ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة ، فريضة الزكاة والصيام ، والحج ، وشرائع الإسلام كلها ، ينشده عن كل فريضة منها كما ينشده عن التي قبلها ، حتى إذا فرغ قال : فإني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله ، وسأؤدي هذه الفرائض ، وأجتنب ما تنهينّي عنه ، ثم لا أزيد ولا أنقص».

وفي رواية شريك : «آمنت بما جئت به ، وأنا رسول من ورائي من قومي ، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر».

وفي حديث أبي هريرة : «وأما هذه الهناة ، فو الله إن كنا لنتنزه عنها في الجاهلية».

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «إن صدق ليدخلن الجنة».

وفي حديث أبي هريرة : «فلما أن ولى قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «فقه الرجل».

وقال : «فكان عمر بن الخطاب يقول : «ما رأيت أحدا أحسن مسألة ، ولا أوجز من ضمام بن ثعلبة».

فأتى بعيره فأطلق عقاله ، ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه ، فكان أول ما تكلم به : بئست اللات والعزى.

فقالوا : مه يا ضمام! اتق البرص ، اتق الجذام ، اتق الجنون.

قال : «ويلكم»! إنهما والله لا يضران ولا ينفعان ، إن الله قد بعث رسولا

١١٠

وأنزل عليه كتابا ، فاستنقذكم به مما كنتم فيه ، وإني أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به وما نهاكم عنه».

قال : «فو الله ما أمسى من ذلك اليوم في حاضره رجل أو امرأة إلا مسلما».

زاد ابن سعد : «وبنوا المساجد ، وأذنوا بالصلوات».

قال ابن عباس : فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة (١).

متى وفد ضمام :

قال أبو الربيع : اختلف في الوقت الذي وفد فيه ضمام هذا على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقيل : سنة خمس ، ذكره الواقدي وغيره ، وقيل : سنة تسع ، (قال الزرقاني : في سنة تسع على الصواب ، وبه جزم ابن إسحاق ، وأبو عبيدة وغيرهما ، خلافا لما زعم الواقدي أنه سنة خمس كما أفاده

__________________

(١) راجع ما تقدم كلا أو بعضا في المصادر التالية : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٥٣ و ٣٥٤ و ٣٥٥ عن البخاري ، ومسلم ، وأحمد ، والترمذي ، وأبي داود ، والنسائي ، وابن ماجة ، وأبي القاسم البغوي ، وابن سعد ، وراجع : المواهب اللدنية وشرحه للزرقاني ج ٥ ص ١٩٢ ـ ٢٠٢ والإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ٢ ص ٢١٥ ـ ٢١٧ والإصابة ج ٢ ص ٢١٠ و ٢١١ ومسند أحمد ج ١ ص ٢٦٥ وسنن الدارمي ج ١ ص ١٦٧ والمستدرك للنيسابوري ج ٣ ص ٥٥ وعمدة القاري ج ٢ ص ٢٢ والإستيعاب ج ٢ ص ٧٥٣ وتاريخ المدينة للنميري ج ٢ ص ٥٢٣ وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٣٨٤ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٢٩٠ والبداية والنهاية لابن كثير ج ٥ ص ٧٣ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٩٩٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٥٥.

١١١

الحافظ) (١). وبه جزم ابن حبيب أيضا.

ونقول :

أولا : قال في البداية : وفي سياق حديث ابن عباس ما يدل على أن ضماما رجع إلى قومه قبل الفتح ، لأن العزّى هدمها خالد بن الوليد أيام الفتح.

وقد يناقش في ذلك : بأن ذكر العزّى بالسوء ، حتى بعد هدمها على يد خالد كان كافيا لإحداث الخوف لدى أصحاب النفوس الضعيفة. من الإصابة بالجنون ، والجذام ، و.. و.. الخ .. فلا يدل ذكرها على أن هذه الحادثة قد حصلت بعد هدمها ، ونرد على هذه المسألة : بأن هذا الإحتمال بعيد ، لأن العزى لم تستطع أن تدفع الهدم عن نفسها ، ولا استطاعت أن توصل لمن تولى هدمها أي سوء. فهل يمكن أن نتوقع منها أن يبتلى من يشتمها بجنون ، أو بجذام ، أو بغير ذلك؟!

ثانيا : إن ضماما قد وفد على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سنة تسع ، لأن ابن عباس يقول في روايته لما جرى : «فقدم علينا» (٢). فيدل لك على أنه كان حاضرا في هذه المناسبة.

ومن الواضح : أن ابن عباس إنما قدم المدينة بعد فتح مكة.

النهي عن السؤال :

زعم أنس : أن القرآن قد نهاهم عن أن يسألوا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن شيء ، فكانوا يعجبهم مجيء الرجل من البادية ، فيسأله ، ويسمعون ..

__________________

(١) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٥ ص ١٩٣ و ١٩٧.

(٢) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٥ ص ١٩٧ عن أحمد والحاكم.

١١٢

ونقول :

إن ذلك غير مقبول ، بل غير معقول ..

أولا : إنهم قد زعموا أن القرآن قد نهاهم عن سؤال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، والذي نهاهم القرآن عنه هو السؤال عن بعض الأشياء التي لو أبديت لهم لساءتهم ، فكان يجب أن يصبروا حتى ينزل القرآن ببيانها ، لكان خيرا لهم.

ثانيا : لو فرضنا أنهم يزعمون : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد فسر لهم النهي عن توجيه أي سؤال له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فنقول : إن هذا غير معقول ، لأن الله تعالى قد أمرهم بسؤال أهل الذكر ، فقال : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١) ، فلا معنى لأن ينهاهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عما أمرهم الله تعالى به! وإن كان النهي عن ذلك قد صدر عن غير النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أي أن بعض الصحابة نهاهم عن ذلك ، أو فسر لهم النهي القرآني بما يفيد العموم ، فالسؤال هو : لماذا أطاعوا ذلك الناهي لهم في أمر يخالف به القرآن؟ بل لماذا لم يشتكوه إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ليرشده إلى الحق ويحمله عليه؟! أو على الأقل لماذا لم يسألوا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن صحة ما قيل لهم؟!

ولو فرضنا أنه قيل لهم ذلك ، فلماذا لا يأخذون بما روي عنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من أنه قال : سائلوا ، وخالطوا الحكماء ، وجالسوا الفقراء (٢).

__________________

(١) الآية ٤٣ من سورة النحل والآية ٧ من سورة الأنبياء.

(٢) البحار ج ١ ص ١٩٨ عن نوادر الراوندي.

١١٣

وعن الإمام الصادق «عليه‌السلام» : «إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون» (١).

وعنه «عليه‌السلام» : «إن هذا العلم عليه قفل مفتاحه السؤال» (٢).

وكان الإمام السجاد «عليه‌السلام» إذا جاءه طالب علم قال : مرحبا بوصية رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٣).

ثانيا : إن في تعليم العلم ، وإجابة السائلين مثوبات لا يرغب عنها الإنسان المؤمن ؛ فكيف برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

فقد روي عنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أنه قال : «العلم خزائن ، ومفتاحه السؤال ، فاسألوا يرحمكم الله ، فإنه يؤجر فيه أربعة : السائل ، والمعلم ، والمستمع ، والمجيب لهم».

وعن الإمام الصادق عن أبيه «عليهما‌السلام» نحوه (٤).

وهناك الأحاديث المثبتة لعقوبة من كتم علما نافعا ، فعنه «صلى الله عليه

__________________

(١) البحار ج ١ ص ١٩٨ عن منية المريد والحدائق الناضرة ج ١ ص ٧٨ والكافي ج ١ ص ٤٠ وجامع أحاديث الشيعة ج ١ ص ٩٥.

(٢) البحار ج ١ ص ١٩٨ عن منية المريد والكافي ج ١ ص ٤٠ ومنية المريد للشهيد الثاني ص ١٧٥ و ٢٥٩ والبحار ج ١ ص ١٩٨ وجامع أحاديث الشيعة ج ١ ص ١٠٢.

(٣) سفينة البحار ج ٦ ص ٣٤٨ والبحار ج ١ ص ١٦٨ وج ٤٦ ص ٦٢ و ٦٣ والمجموع للنووي ج ١ ص ٢٧ وروضة الطالبين للنووي ج ١ ص ٧٤ والخصال للصدوق ص ٥١٨ والأمالي للطوسي ص ٤٧٨.

(٤) البحار ج ١ ص ١٩٦ و ١٩٧ عن صحيفة الرضا «عليه‌السلام» ، وعن الخصال.

١١٤

وآله» قال : من كتم علما نافعا جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار (١).

ثالثا : لماذا ينهى أصحاب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن سؤاله ، ويباح للأعراب وأهل البادية أن يسألوه؟ ألا يشير ذلك إلى أن الذين نهوا عن سؤاله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هم أشخاص بأعيانهم؟!

بل لماذا لا يقال ـ كما أثبتته النصوص ـ : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان ينهى بعض الناس أو كلهم عن السؤال تعنتا؟! أو لأجل أنهم كانوا يسألونه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن أمور لا يصح السؤال عنها مطلقا ، أو إلا حين

__________________

(١) سفينة البحار ج ٦ ص ٣٥٨ والتحفة السنية للجزائري ص ١١ وأمالي الطوسي ص ٣٧٧ ومنية المريد للشهيد الثاني ص ٣٦٩ والبحار ج ٢ ص ٦٨ وج ٧ ص ٢١٧ والغدير ج ٨ ص ١٥٣ ومسند أحمد ج ٢ ص ٢٩٦ و ٤٩٩ و ٥٠٨ ومجمع الزوائد ج ١ ص ١٦٣ والمعجم الأوسط للطبراني ج ٢ ص ٣٨٢ وج ٥ ص ١٠٨ و ٣٥٦ والمعجم الكبير للطبراني ج ١١ ص ١١٧ والكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص ٥٤ وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ج ١ ص ٤ و ٥ و ٣٨ وتخريج الأحاديث والآثار للزيلعي ج ١ ص ٢٥٤ وكنز العمال ج ١٠ ص ١٩٦ و ٢١٦ وتفسير الصافي ج ١ ص ١٦٣ وتفسير نور الثقلين ج ٤ ص ٥١٨ وتفسير الميزان ج ٣ ص ٧٥ وتفسير القرآن للصنعاني ج ١ ص ٦٤ وأحكام القرآن للجصاص ج ١ ص ١٢٢ وتفسير الرازي ج ١ ص ١٨٤ والدر المنثور للسيوطي ج ١ ص ١٦٢ وتفسير الآلوسي ج ٢ ص ٢٦ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٤ ص ٣٣١ وضعفاء العقيلي ج ١ ص ٧٤ وج ٤ ص ١٦٠ والكامل ج ٣ ص ٤٥٥ وج ٤ ص ٣١٢ وج ٥ ص ٢١٢ وج ٦ ص ٣٤١ وكتاب الضعفاء للأصبهاني ص ٥٠ وتاريخ بغداد ج ٧ ص ٤١٨ وج ١٤ ص ٣٢٥ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٣ ص ٥٤١ وميزان الإعتدال للذهبي ج ٢ ص ٥٨٢ وغيرها.

١١٥

يحين وقتها. إذ لو أجيبوا عنها قبل ذلك كان فيه مضرة عليهم ، ويشير إلى ذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) (١).

وقد قال الخضر لموسى «عليهما‌السلام» : (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) (٢). وفي هذا دلالة على أن هناك أسئلة لا يرى المسؤول مصلحة في الإجابة عليها في وقت أو في مرحلة معينة ..

وربما كانوا يسألون عن علم يضرهم علمه ، أو يسألون عن علم لا يضرهم جهله ، ولا ينفعهم علمه ، فقد روي عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قوله في من وصف له بأنه علّامة ، لعلمه بأنساب العرب ، ووقايعها وأيام الجاهلية ، وبالأشعار والعربية : «ذاك علم لا يضر من جهله ، ولا ينفع من علمه» (٣).

وعن الإمام الكاظم «عليه‌السلام» ، أنه قال : «فلا تشغلن نفسك بعلم

__________________

(١) الآيتان ١٠١ و ١٠٢ من سورة المائدة.

(٢) الآية ٧٠ من سورة الكهف.

(٣) سفينة البحار ج ٦ ص ٢٤٤ عن أمالي الصدوق وتحرير الأحكام للحلي ج ١ ص ٤٠ وعوائد الأيام للنراقي ص ٥٥١ والكافي ج ١ ص ٣٢ والأمالي للصدوق ص ٣٤٠ ومعاني الأخبار للصدوق ص ١٤١ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٧ ص ٣٢٧ و (ط دار إحياء التراث العربي) ج ١٢ ص ٢٤٥ ومستطرفات السرائر لابن إدريس الحلي ص ٦٢٧ ومشكاة الأنوار للطبرسي ص ٢٤٢ وعوالي اللئالي ج ٤ ص ٧٩ والبحار ج ١ ص ٢١١ ومعارج الأصول للمحقق الحلي ص ٢٣.

١١٦

ما لا يضرك جهله» (١).

أيكم محمد؟! :

وقد تقدم : أن ذلك الوافد قال : أيكم محمد؟! فدلوه عليه ..

وهذا يدل على : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن يمتاز في مجلسه عن غيره من جلسائه.

وإن نور النبوة ، وجلال الإيمان ، وإن كان يحتم على كل قادم أن ينشدّ إليه ، وينبهر بإشراقة وجهه ، ويؤخذ بهيبته ، ويأسره وقاره.

ولكن ذلك لا يعفيه من السؤال عنه ، على قاعدة : (.. قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ..) (٢). لا سيما وأن هؤلاء الوافدين لم يعتادوا على مساواة الرؤساء أنفسهم بعامة الناس ..

ولعل عليا «عليه‌السلام» كان حاضرا ، وهو أخو رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأثار ذلك لدى ذلك الوافد بعض الإلتباس ، فاحتاج إلى تحصيل السكينة عن طريق السؤال ..

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يتكئ بين أصحابه :

وزعموا : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان متكئا بين أصحابه ..

__________________

(١) سفينة البحار ج ٦ ص ٢٤٤ عن إعلام الدين وعمدة الداعي للحلي ص ٦٨ ومستدرك سفينة البحار للشاهرودي ج ٧ ص ٣٤٩ وأعلام الدين في صفات المؤمنين للديلمي ص ٣٠٥.

(٢) الآية ٢٦٠ من سورة البقرة.

١١٧

ونحن نشك في صحة ذلك ، فقد روي : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ما اتكأ بين يدي رجل قط (١).

مناشدات ضمام ، ثم إسلامه :

وقد قرأنا في النص السابق مناشدات ضمام لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» واستحلافه له على صدق ما يقول ، وأنه أسلم بعد أن أخبره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بصحة ذلك كله ..

ونحن وإن كنا نرى أن ثمة قدرا من العفوية لدى أهل البادية ، الذين لا يجدون الكثير من الحوافز لديهم للإستفادة من أساليب المكر ، أو اتخاذ مواقف التزلف ، والمحاباة والرياء ، غير أن مما لا شك فيه أن ضمام بن ثعلبة لم يكن ذلك الرجل المغفل والساذج ، ولا مجال للإستهانة بالطريقة التي أسلم بها. بل هي أسلوب له دلالات ذات قيمة كبيرة ، وأهمية بالغة ، حيث إنها عبرت عن صفاء الفطرة ، وعن حسن الإدراك ، إذ لا شك في أن هذا الرجل لم يجد في هذه التعاليم أي شيء يصادم فطرته ، ويرفضه عقله ، أو يأباه ضميره ووجدانه ، بل هو لم يجد فيها أي غموض أو إبهام يستحق حتى الإستفهام عن معناه أو مغزاه ، أو عن مبرراته.

__________________

(١) راجع : عيون اخبار الرضا ج ١ ص ١٩٧ والبحار ج ٤٩ ص ٩١ وموسوعة أحاديث أهل البيت ج ٥ ص ٢٠٦ وإعلام الورى ج ٢ ص ٦٣ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٢ ص ٢٠٩ ومستدرك الوسائل ج ٨ ص ٤٣٩ وجامع أحاديث الشيعة ج ١٥ ص ٥٥٦ ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٤٥ ومستدرك سفينة البحار ج ٣ ص ١٨٧.

١١٨

بل غاية ما احتاج إليه هو مجرد تحصيل السكون والطمأنينة إلى مصدر هذه التعاليم ، وأنها تنتهي إلى الوحي الإلهي ..

وأما عن اكتفاء ضمام بشهادة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، على النحو الذي تقدم ، فإننا نقول :

إن هناك عوامل عدة تفرض على ضمام أن ينصاع لما يقرره النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فهو يعرف موقع بني هاشم في الأمة ، ومكانتهم في قريش ، والعرب ، ومكة ، ويعرف أيضا ما كان من عبد المطلب في عام الفيل. بالإضافة إلى معرفته بسيرة النبي الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» منذ طفولته حتى كهولته ، ولا شك في أن أحدا لم يكن يجهل معجزات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» طيلة أكثر من عشرين سنة ، والقرآن الكريم معجزة حاضرة لهم في كل زمان ومكان .. بل إن معجزات علي «عليه‌السلام» ومنها اقتلاعه باب خيبر ، وهي الأخرى معجزات للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ومن دلائل صحة النبوة. ولم يكن ذلك كله ليخفى على أحد في المنطقة العربية بأسرها ..

وهذا كله يعطي أن مطلوب ضمام هو الحصول على السكينة والطمأنينة ، باتصال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالله عن طريق جبرئيل من نفس رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بعد أن حصل على القناعات العقلية الكافية ، من خلال جميع ما أشرنا إليه وسواه.

اتق الجذام ، اتق البرص :

وواضح : أن ما كان يخشاه هؤلاء من اللّات والعزّى هي أمور حتى لو حصلت فعلا ، فإنه لا يمكن إقامة الدليل على أن لتلك الأصنام صلة بها.

١١٩

بل إن هذه الوفادة إن كانت قد حصلت بعد فتح مكة ، فإن هدم علي «عليه‌السلام» الأصنام التي كانت في الكعبة ، وغيرها مما هدمه «عليه‌السلام» منها بعد ذلك وعدم حصول أي شيء له طيلة هذه المدة يكفي لإثبات عدم صحة الزعم بقدرة الأصنام على شيء من ذلك.

والمفارقة هي : أن هؤلاء يستندون إلى وهم هنا ، وخيال هناك. ولكنهم يرفضون الإنصياع لما تقضي به فطرتهم ، وتحكم به عقولهم ، ألا وهو التوحيد ، وسائر الإعتقادات الحقة ، والتعاليم الصحيحة ، رغم تأييدها بالمعجزات والكرامات ، وكل شواهد الصدق ودلائله.

قدوم ذباب بن الحارث :

عن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي قال : لما سمعوا بخروج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وثب ذباب ـ رجل من بني أنس الله بن سعد العشيرة ـ إلى صنم كان لسعد العشيرة يقال له : فرّاض ، فحطمه ، ثم وفد إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وقال :

تبعت رسول الله إذ جاء بالهدى

وخلفت فرّاضا بدار هوان

شددت عليه شدة فتركته

كأن لم يكن والدهر ذو حدثان

ولما رأيت الله أظهر دينه

أجبت رسول الله حين دعاني

فأصبحت للإسلام ما عشت ناصرا

وألقيت فيه كلكلي وجراني

فمن مبلغ سعد العشيرة أنني

شريت الذي يبقى بآخر فاني (١)

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٢ ص ٢١١ وج ٦ ص ٣٣٨ عن ابن سعد ، والإصابة (ط

١٢٠