دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

أ ـ الدليل الشرعي اللفظي

الدلالة

تمهيد :

لمّا كانت دلالة الدليل اللفظيّ ترتبط بالنظام اللغويّ العامّ للدلالة نجد من الراجح أن نمهِّد للبحث في دلالات الأدلّة اللفظية بدراسةٍ إجماليةٍ لطبيعة الدلالة اللغوية ، وكيفية تكوّنها ، ونظرةٍ عامّةٍ فيها.

ما هو الوضع والعلاقة اللغوية؟

في كلّ لغةٍ تقوم علاقات بين مجموعةٍ من الألفاظ ومجموعةٍ من المعاني ، ويرتبط كلّ لفظٍ بمعنىً خاصٍّ ارتباطاً يجعلنا كلّما تصوّرنا اللفظ انتقل ذهننا فوراً إلى تصوّر المعنى ، وهذا الاقتران بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى وانتقال الذهن من أحدهما إلى الآخر هو ما نطلق عليه اسم «الدلالة» ، فحين نقول : «كلمة الماء تدلّ على السائل الخاص» نريد بذلك أنّ تصوّر كلمة «الماء» يؤدّي إلى تصوّر ذلك السائل الخاصّ ، ويسمّى اللفظ «دالاًّ» والمعنى «مدلولاً».

وعلى هذا الأساس نعرف أنّ العلاقة بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى تشابه إلى درجةٍ مّا العلاقة التي نشاهدها في حياتنا الاعتيادية بين النار والحرارة ، أو بين

٨١

طلوع الشمس والضوء ، فكما أنّ النار تؤدّي إلى الحرارة وطلوع الشمس يؤدّي إلى الضوء كذلك تصوّر اللفظ يؤدّي إلى تصوّر المعنى ، ولأجل هذا يمكن القول بأنّ تصوّر اللفظ سبب لتصوّر المعنى ، كما تكون النار سبباً للحرارة وطلوع الشمس سبباً للضوء ، غير أنّ علاقة السببية بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى مجالها الذهن ؛ لأنّ تصوّر اللفظ والمعنى إنّما يوجد في الذهن ، وعلاقة السببية بين النار والحرارة أو بين طلوع الشمس والضوء مجالها العالم الخارجي.

والسؤال الأساسيّ بشأن هذه العلاقة التي توجد في اللغة بين اللفظ والمعنى هو السؤال عن مصدر هذه العلاقة وكيفية تكوّنها ، فكيف تكوّنت علاقة السببية بين اللفظ والمعنى؟ وكيف أصبح تصوّر اللفظ سبباً لتصور المعنى ، مع أنّ اللفظ والمعنى شيئان مختلفان كلّ الاختلاف؟

ويذكر في علم الاصول عادةً اتّجاهان في الجواب على هذا السؤال الأساسي.

يقوم الاتّجاه الأوّل على أساس الاعتقاد بأنّ علاقة اللفظ بالمعنى نابعة من طبيعة اللفظ ذاته ، كما نبعت علاقة النار بالحرارة من طبيعة النار ذاتها ، فلفظ «الماء» ـ مثلاً ـ له بحكم طبيعته علاقة بالمعنى الخاصّ الذي نفهمه منه ، ولأجل هذا يؤكّد هذا الاتّجاه أنّ دلالة اللفظ على المعنى ذاتية ، وليست مكتسبةً من أيِّ سببٍ خارجي.

ويعجز هذا الاتّجاه عن تفسير الموقف تفسيراً شاملاً ؛ لأنّ دلالة اللفظ على المعنى وعلاقته به إذا كانت ذاتيةً وغير نابعةٍ من أيِّ سببٍ خارجيٍّ ، وكان اللفظ بطبيعته يدفع الذهن البشريّ إلى تصوّر معناه فلماذا يعجز غير العربيّ عن الانتقال إلى تصوّر معنى كلمة «الماء» عند تصوّره للكلمة؟ ولماذا يحتاج إلى تعلّم اللغة العربية لكي ينتقل ذهنه إلى المعنى عند سماع الكلمة العربية وتصوّرها؟ إنّ هذا دليل

٨٢

على أنّ العلاقة التي تقوم في ذهننا بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى ليست نابعةً من طبيعة اللفظ ، بل من سببٍ آخر يتطلّب الحصول عليه إلى تعلّم اللغة ، فالدلالة إذن ليست ذاتية.

وأمّا الاتّجاه الآخر فينكر بحقٍّ الدلالة الذاتية ، ويفترض أنّ العلاقات اللغوية بين اللفظ والمعنى نشأت في كلّ لغةٍ على يد الشخص الأوّل ، أو الأشخاص الأوائل الذين استحدثوا تلك اللغة وتكلّموا بها ، فإنّ هؤلاء خصّصوا ألفاظاً معيّنةً لمعانٍ خاصّة ، فاكتسبت الالفاظ نتيجةً لذلك التخصيص علاقةً بتلك المعاني ، وأصبح كلّ لفظٍ يدلّ على معناه الخاصّ ، وذلك التخصيص الذي مارسه اولئك الأوائل ونتجت عنه الدلالة يسمّى ب «الوضع» ، ويسمّى المُمارِس له «واضعاً» ، واللفظ «موضوعاً» ، والمعنى «موضوعاً له».

والحقيقة أنّ هذا الاتّجاه وإن كان على حقٍّ في إنكاره للدلالة الذاتية ولكنّه لم يتقدّم إلاّخطوةً قصيرهً في حلّ المشكلة الأساسية التي لا تزال قائمةً حتّى بعد الفرضية التي يفترضها أصحاب هذا الاتّجاه ، فنحن إذا افترضنا معهم أنّ علاقة السببية نشأت نتيجةً لعملٍ قام به مؤسِّسو اللغة ، إذ خصَّصوا كلّ لفظٍ لمعنىً خاصٍّ فلنا أن نتساءل : ما هو نوع هذا العمل الذي قام به هؤلاء المؤسِّسون؟

وسوف نجد أنّ المشكلة لا تزال قائمة ؛ لأنّ اللفظ والمعنى ما دام لا يوجد بينهما علاقة ذاتية ، ولا أيّ ارتباطٍ مسبق ، فكيف استطاع مؤسِّس اللغة أن يوجِد علاقة السببية بين شيئين لا علاقة بينهما؟ وهل يكفي مجرّد تخصيص المؤسِّس للَّفظ وتعيينه له سبباً لتصوّر المعنى لكي يصبح سبباً لتصوّر المعنى حقيقةً؟

وكلّنا نعلم أنّ المؤسِّس وأيَّ شخصٍ آخر يعجز أن يجعل من حمرة الحبر الذي يكتب به سبباً لحرارة الماء ، ولو كرَّر المحاولة مائة مرّةٍ قائلاً : خصَّصتُ حمرة الحبر الذي أكتبُ به لكي تكون سبباً لحرارة الماء. فكيف استطاع أن ينجح في جعل اللفظ

٨٣

سبباً لتصوّر المعنى بمجرّد تخصيصه لذلك دون أيّ علاقةٍ سابقةٍ بين اللفظ والمعنى؟

وهكذا نواجه المشكلة كما كنّا نواجهها ، فليس يكفي لحلِّها أن نفسِّر علاقة اللفظ بالمعنى على أساس عمليةٍ يقوم بها مؤسِّس اللغة ، بل يجب أن نفهم محتوى هذه العملية ؛ لكي نعرف كيف قامت علاقة السببية بين شيئين لم تكن بينهما علاقة.

والصحيح في حلّ المشكلة : أنّ علاقة السببية التي تقوم في اللغة بين اللفظ والمعنى توجد وفقاً لقانونٍ عامٍّ من قوانين الذهن البشري.

والقانون العام هو : أنّ كلّ شيئين إذا اقترن تصوّر أحدهما مع تصوّر الآخر في ذهن الإنسان مراراً عديدةً ولو على سبيل الصدفة قامت بينهما علاقة ، وأصبح أحد التصوّرين سبباً لانتقال الذهن إلى تصوّر الآخر.

ومثال ذلك في حياتنا الاعتيادية : أن نعيش مع صديقين لا يفترقان في مختلف شؤون حياتهما نجدهما دائماً معاً ، فإذا رأينا بعد ذلك أحد هذين الصديقين منفرداً ، أو سمعنا باسمه أسرع ذهننا إلى تصوّر الصديق الآخر ؛ لأنّ رؤيتهما معاً مراراً كثيرةً أوجدت علاقةً في تصوّرنا ، وهذه العلاقة تجعل تصوّرنا لأحدهما سبباً لتصوّر الآخر.

وقد يكفي أن تقترن فكرة أحد الشيئين بفكرة الآخر مرّةً واحدةً لكي تقوم بينهما علاقة ، وذلك إذا اقترنت الفكرتان في ظرفٍ مؤثّر ، ومثاله : إذا سافر شخص إلى بلدٍ ومُنِيَ هناك بالملاريا الشديدة ، ثمّ شُفِي منها ورجع فقد ينتج ذلك الاقتران بين الملاريا والسفر إلى ذلك البلد علاقة بينهما ، فمتى تصوّر ذلك البلد انتقل ذهنه إلى تصوّر الملاريا. وإذا درسنا على هذا الأساس علاقة السببية بين اللفظ والمعنى زالت المشكلة ، إذ نستطيع أن نفسِّر هذه العلاقة بوصفها نتيجةً لاقتران تصوّر المعنى بتصوّر اللفظ بصورةٍ متكرّرة أو في ظرفٍ مؤثّر ، الأمر الذي أدّى إلى قيام علاقةٍ بينهما ، كما وقع في الحالات المشار إليها.

٨٤

ويبقى علينا بعد هذا أن نتساءل : كيف اقترن تصوّر اللفظ بمعنىً خاصٍّ مراراً كثيرة ، أو في ظرفٍ مؤثّرٍ فأنتج قيام العلاقة اللغوية بينهما؟

والجواب على هذا السؤال : أنّ بعض الألفاظ اقترنت بمعانٍ معيّنةٍ مراراً عديدةً بصورةٍ تلقائيةٍ فنشأت بينهما العلاقة اللغوية. وقد يكون من هذا القبيل كلمة «آه» إذ كانت تخرج من فم الإنسان بطبيعته كلّما أحسّ بالألم ، فارتبطت كلمة «آه» في ذهنه بفكرة الألم ، فأصبح كلّما سمع كلمة «آه» انتقل ذهنه إلى فكرة الألم.

ومن المحتمل أنّ الإنسان قبل أن توجد لديه أيُّ لغةٍ قد استرعى انتباهه هذه العلاقة التي قامت بين الألفاظ ، من قبيل «آه» ومعانيها نتيجةً لاقترانٍ تلقائيٍّ بينهما ، وأخذ يُنشِئ على منوالها علاقاتٍ جديدة بين الألفاظ والمعاني. وبعض الألفاظ قرنت بالمعنى في عمليةٍ واعيةٍ مقصودةٍ لكي تقوم بينهما علاقة سببية.

وأحسن نموذجٍ لذلك : الأعلام الشخصية ، فأنتَ حين تريد أن تسمّي ابنك «عليّاً» تقرن اسم عليٍّ بالوليد الجديد لكي تُنشِئ بينهما علاقةً لغوية ويصبح اسم «عليٍّ» دالاًّ على وليدك ، ويسمّى عملك هذا «وضعاً» ، فالوضع هو : عملية تقرن بها لفظاً بمعنىً نتيجتها أن يقفز الذهن إلى المعنى عند تصوّر اللفظ دائماً.

ونستطيع أن نشبِّه الوضع على هذا الأساس بما تصنعه حين تسأل عن طبيب العيون فيقال لك : هو (جابر) ، فتريد أن تركِّز اسمه في ذاكرتك وتجعل نفسك تستحضره متى أردت ، فتحاول أن تقرن بينه وبين شيءٍ قريبٍ من ذهنك ، فتقول مثلاً : أنا بالأمس قرأت كتاباً أخذ من نفسي مأخذاً كبيراً اسم مؤلِّفه جابر ، فلأتذكّر دائماً أنّ اسم طبيب العيون هو اسم صاحب ذلك الكتاب. وهكذا توجِد عن هذا الطريق ارتباطاً خاصّاً بين صاحب الكتاب والطبيب جابر ، وبعد ذلك تُصبِح قادراً على استذكار اسم الطبيب متى تصوّرت ذلك الكتاب.

وهذه الطريقة في إيجاد الارتباط لا تختلف جوهرياً عن اتّخاذ الوضع كوسيلةٍ

٨٥

لإيجاد العلاقة اللغوية.

وعلى هذا الأساس نعرف أنّ من نتائج الوضع : انسباق المعنى الموضوع له وتبادره إلى الذهن بمجرّد سماع اللفظ بسبب تلك العلاقة التي يحقّقها الوضع. ومن هنا يمكن الاستدلال على الوضع بالتبادر ، وجعله علامةً على أنّ المعنى المتبادر هو المعنى الموضوع له ؛ لأنّ المعلول يكشف عن العلّة كشفاً إنّياً ، ولهذا عُدَّ التبادر من علامات الحقيقة.

ما هو الاستعمال؟

بعد أن يوضع اللفظ لمعنىً يصبح تصوّر اللفظ سبباً لتصوّر المعنى ، ويأتي عندئذٍ دور الاستفادة من هذه العلاقة اللغوية التي قامت بينهما ، فإذا كنت تريد أن تعبِّر عن ذلك لشخصٍ آخر وتجعله يتصوّره في ذهنه فبإمكانك أن تنطق بذلك اللفظ الذي أصبح سبباً لتصوّر المعنى ، وحين يسمعه صاحبك ينتقل ذهنه إلى معناه بحكم علاقة السببية بينهما ، ويسمّى استخدامك اللفظ بقصد إخطار معناه في ذهن السامع «استعمالاً». فاستعمال اللفظ في معناه يعني : إيجاد الشخص لفظاً لكي يعدَّ ذهن غيره للانتقال إلى معناه ، ويسمّى اللفظ «مستعمَلاً» ، والمعنى «مستعمَلاً فيه» ، وإرادة المستعمل إخطار المعنى في ذهن السامع عن طريق اللفظ «إرادة استعمالية».

ويحتاج كلّ استعمالٍ إلى تصوّر المستعمل للَّفظ وللمعنى ، غير أنّ تصوّره لِلَّفظ يكون عادةً على نحو اللحاظ الآليّ المرآتي ، وتصوّره للمعنى على نحو اللحاظ الاستقلالي ، فهما كالمرآة والصورة ، فكما تلحظ المرآة وأنت غافل عنها وكلّ نظرك إلى الصورة كذلك تلحظ اللفظ بنفس الطريقة بما هو مرآة للمعنى وأنت غافل عنه وكلّ نظرك إلى المعنى.

فإن قلت : كيف ألحظُ اللفظَ وأنا غافل عنه ، هل هذا إلاّتناقض؟

٨٦

أجابوك : بأنّ لحاظ اللفظ المرآتيّ إفناء لِلَّفظ في المعنى ، أي أنّك تلحظه مندكّاً في المعنى وبنفس لحاظ المعنى ، وهذا النحو من لحاظ شيءٍ فانياً في شيءٍ آخر يجتمع مع الغفلة عنه.

وعلى هذا الأساس ذهب جماعة كصاحب الكفاية رحمه‌الله (١) إلى استحالة استعمال اللفظ في معنيين ؛ وذلك لأنّ هذا يتطلّب إفناء اللفظ في هذا المعنى وفي ذاك ، ولا يعقل إفناء الشيء الواحد مرّتين في عرضٍ واحد.

فإن قلت : بإمكاني أن اوحِّد بين المعنيين بأن اكوِّن منهما مركّباً مشتملاً عليهما معاً ، وافني اللفظ لحاظاً في ذلك المركّب.

كان الجواب : أنّ هذا ممكن ، ولكنّه استعمال لِلَّفظ في معنىً واحد ، لا في معنيين.

الحقيقة والمجاز :

ويقسَّم الاستعمال : إلى حقيقيٍّ ومجازي ، فالاستعمال الحقيقيّ هو : استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له الذي قامت بينه وبين اللفظ علاقة لغوية بسبب الوضع ، ولهذا يطلق على المعنى الموضوع له اسم «المعنى الحقيقي».

والاستعمال المجازي هو : استعمال اللفظ في معنىً آخر لم يوضع له ، ولكنّه يشابه ببعض الاعتبارات المعنى الذي وضع اللفظ له ، ومثاله : أن تستعمل كلمة «البحر» في العالم الغزير علمه ؛ لأنّه يشابه البحر من الماء في الغزارة والسعة ، ويطلق على المعنى المشابه للمعنى الموضوع له اسم «المعنى المجازي» ، وتعتبر علاقة اللفظ بالمعنى المجازيّ علاقةً ثانويةً ناتجةً عن علاقته اللغوية الأوّلية بالمعنى الموضوع

__________________

(١) كفاية الاصول : ٥٣

٨٧

له ؛ لأنّها تنبع عن الشبه القائم بين المعنى الموضوع له والمعنى المجازي.

والاستعمال الحقيقيّ يؤدّي غرضه ـ وهو انتقال ذهن السامع إلى تصوّر المعنى ـ بدون أيّ شرط ؛ لأنّ علاقة السببية القائمة في اللغة بين اللفظ والمعنى الموضوع له كفيلة بتحقيق هذا الغرض.

وأمّا الاستعمال المجازيّ فهو لا ينقل ذهن السامع إلى المعنى ، إذ لا توجد علاقة لغوية وسببية بين لفظ «البحر» و «العالم» ، فيحتاج المستعمل لكي يحقِّق غرضه في الاستعمال المجازيّ إلى قرينةٍ تشرح مقصوده ، فإذا قال مثلاً : «بحرٌ في العلم» كانت كلمة «في العلم» قرينةً على المعنى المجازي ، ولهذا يقال عادةً : إنّ الاستعمال المجازيّ يحتاج إلى قرينةٍ دون الاستعمال الحقيقي.

ونميِّز المعنى الحقيقيّ عن المعنى المجازيِّ بالتبادر من حاقّ اللفظ ؛ لأنّ التبادر كذلك يكشف عن الوضع ، كما تقدم.

قد ينقلب المجاز حقيقةً :

وقد لاحظ الاصوليّون بحقٍّ أنّ الاستعمال المجازيّ وإن كان يحتاج إلى قرينةٍ في بداية الأمر ، ولكن إذا كثر استعمال اللفظ في المعنى المجازيّ بقرينةٍ وتكرّر ذلك بكثرةٍ قامت بين اللفظ والمعنى المجازيّ علاقة جديدة ، وأصبح اللفظ نتيجةً لذلك موضوعاً لذلك المعنى ، وخرج عن المجاز إلى الحقيقة ، ولا تبقى بعد ذلك حاجة إلى قرينة ، وتسمّى هذه الحالة بالوضع التعيّني. بينما تسمّى عملية الوضع المتصوّر من الواضع بالوضع التعييني.

وهذه الظاهرة يمكننا تفسيرها بسهولةٍ على ضوء طريقتنا في شرح حقيقة الوضع والعلاقة اللغوية ؛ لأنّنا عرفنا أنّ العلاقة اللغوية تنشأ من اقتران اللفظ بالمعنى مراراً عديدة ، أو في ظرفٍ مؤثّر ، فإذا استعمل اللفظ في معنىً مجازيٍّ مراراً

٨٨

كثيرةً اقترن تصوّر اللفظ بتصوّر ذلك المعنى المجازيِّ في ذهن السامع اقتراناً متكرّراً ، وأدّى هذا الاقتران المتكرِّر إلى قيام العلاقة اللغوية بينهما.

تصنيف اللغة إلى معانٍ اسميّةٍ وحرفيّة :

تنقسم كلمات اللغة ـ كما قرأتم في النحو ـ إلى اسمٍ وفعلٍ وحرف.

فالأسماء تدلّ على معانٍ نفهمها من تلك الأسماء ، سواء سمعنا الاسم مجرّداً أو في ضمن كلام.

وأمّا الحرف فلا يتحصّل له معنىً إلاّإذا سمعناه ضمن كلام. ومدلول الحرف دائماً هو الربط بين المعاني الاسمية على اختلاف أنحائه ، ففي قولنا : «النار في الموقد تشتعل» تدلّ «في» على ربطٍ مخصوصٍ بين مفهومين اسميّين ، وهما : النار والموقد.

والدليل على أنّ مفاد الحروف هو الربط أمران :

أحدهما : أنّ معنى الحرف لا يظهر إذا فُصِل الحرف عن الكلام ، وليس ذلك إلاّ لأنّ مدلوله هو الربط بين معنيين ، فحيث لا توجد معانٍ اخرى في الكلام لا مجال لافتراض الربط.

والآخر : أنّ الكلام لا شكّ في أنّ مدلوله مترابط الأجزاء ، ولا شكَّ في أنّ هذا المدلول المترابط يشتمل على ربطٍ ومعانٍ مرتبطة ، ولا يمكن أن يحصل هذا الربط ما لم يكن هناك دالّ عليه ، وإلاّ أتت المعاني إلى الذهن وهي متناثرة غير مترابطة ، وليس الاسم هو الدالّ على هذا الربط ، وإلاّ لَما فهمنا معناه إلاّضمن الكلام ؛ لأنّ الربط لا يفهم إلاّفي إطار المعاني المترابطة ، فيتعيَّن أن يكون الدالّ على الربط هو الحرف.

وتختلف الحروف باختلاف أنحاء الربط التي تدلّ عليها ، ولمّا كان كلّ ربطٍ يعني نسبةً بين طرفين صحّ أن يقال : إنّ المعاني الحرفية معانٍ ربطية نسبية ، وإنّ

٨٩

المعاني الاسمية معانٍ استقلالية ، وكلّ ما يدلّ على معنىً ربطيٍّ نسبيٍّ نعبِّر عنه اصوليّاً بالحرف ، وكلّ ما يدلّ على معنىً استقلاليٍّ نعبِّر عنه اصولياً بالاسم.

وأمّا الفعل فهو مكوَّن من مادةٍ وهيئةٍ ، ونريد بالمادة : الأصل الذي اشتقّ الفعل منه ، ونريد بالهيئة : الصيغة الخاصّة التي صيغت به المادة.

أمّا المادة في الفعل فهي لا تختلف عن أيِّ اسمٍ من الأسماء ، فكلمة «تشتعل» مادتها الاشتعال ، وهذا له مدلول اسمي ، ولكنّ الفعل لا يساوي مدلول مادته ، بل يزيد عليها ، بدليل عدم جواز وضع كلمة «اشتعال» موضع كلمة «تشتعل» ، وهذا يكشف عن أنّ الفعل يزيد بمدلوله على مدلول المادة ، وهذه الزيادة تنشأ من الهيئة ، وبذلك نعرف أنّ هيئة الفعل موضوعة لمعنى ، وهذا المعنى ليس معنىً اسمياً استقلالياً ، بدليل أنّه لو كان كذلك لأمكن التعويض عن الفعل بالاسم الدالّ على ذلك المعنى والاسم الدالّ على مدلول مادته ، مع أنّا نلاحظ أنّ الفعل لا يمكن التعويض عنه في سياق الكلام بمجموع اسمين ، وبذلك يثبت أنّ مدلول الهيئة معنىً نسبيّ ربطي ، ولهذا استحال التعويض المذكور. وهذا الربط الذي تدلّ عليه هيئة الفعل ربط قائم بين مدلول المادة ومدلولٍ آخر في الكلام ، كالفاعل في قولنا : «تشتعل النار» فإنّ هيئة الفعل مفادها الربط بين الاشتعال والنار.

ونستخلص من ذلك : أنّ الفعل مركّب من اسمٍ وحرفٍ ، فمادته اسم ، وهيئته حرف ، ومن هنا صحّ القول بأنّ اللغة تنقسم إلى قسمين : الأسماء والحروف.

هيئة الجملة :

عرفنا أنّ الفعل له هيئة تدلّ على معنىً حرفي ـ أي على الربط ـ وكذلك الحال في الجملة أيضاً ، ونريد بالجملة : كلّ كلمتين أو أكثر بينهما ترابط ، ففي قولنا : «عليّ إمام» نفهم من كلمة «عليّ» معناها الاسمي ، ومن كلمة «الإمام» معناها الاسمي ،

٩٠

ونفهم إضافةً إلى ذلك ارتباطاً خاصّاً بين هذين المعنيين الاسميَّين ، وهذا الارتباط الخاصّ لا تدلّ عليه كلمة «عليّ» بمفردها ، ولا كلمة «إمام» بمفردها ، وإنّما تدلّ عليه الجملة بتركيبها الخاصّ ، وهذا يعني أنّ هيئة الجملة تدلّ على نوعٍ من الربط ، أي على معنىً حرفي.

نستخلص ممّا تقدّم : أنّ اللغة يمكن تصنيفها من وجهة نظرٍ تحليليةٍ إلى فئتين :

إحداهما : فئة المعاني الاسمية ، وتدخل في هذه الفئة الأسماء ، وموادّ الأفعال.

والاخرى : فئة المعاني الحرفية ـ أي الروابط ـ وتدخل فيها الحروف ، وهيئات الأفعال ، وهيئات الجمل.

الجملة التامّة والجملة الناقصة :

وإذا لاحظنا الجمل وجدنا أنّ بعض الجمل تدلّ على معنىً مكتملٍ يمكن للمتكلّم الإخبار عنه ، ويمكن للسامع تصديقه أو تكذيبه ، وبعض الجمل ناقصة لا يتأتّى فيها ذلك ، وكأنّها في قوّة الكلمة الواحدة ، فحينما تقول : «المفيد العالم» نبقى ننتظر كما لو قلت : «المفيد» وسكتَّ على ذلك ، بخلاف ما إذا قلت : «المفيد عالم» فإنّ الجملة حينئذٍ مكتملة وتامّة.

ومردّ الفرق بين الجملة التامّة والجملة الناقصة إلى نوع الربط الذي تدلّ عليه هيئة الجملة وسنخ النسبة ، فهيئة الجملة الناقصة تدلّ على نسبةٍ اندماجية ، أي يندمج فيها الوصف بالموصوف على نحوٍ يصبح المجموع مفهوماً واحداً خاصّاً وحصّةً خاصّة ، ومن أجل ذلك تكون الجملة الناقصة في قوّة الكلمة المفردة.

وأمّا الجملة التامّة فهي تدلّ على نسبةٍ غير اندماجيةٍ يبقى فيها الطرفان متميِّزين أحدهما عن الآخر ، ويكون أمام الذهن شيئان بينهما ارتباط ، كالمبتدأ والخبر.

٩١

وقد تشتمل الجملة الواحدة على نسبٍ اندماجيةٍ وغير اندماجية ، كما في قولنا : «المفيد العالم مدرِّس» فإنّ النسبة بين الوصف والموصوف المبتدأ اندماجية ، والنسبة بين المبتدأ والخبر غير اندماجية ، وتمامية الجملة نشأت من اشتمالها على النسبة الثانية.

ونحن إذا دقّقنا في الجملة الناقصة وفي الحروف من قبيل «من» و «إلى» نجد أنّها جميعاً تدلّ على نسبٍ ناقصةٍ لا يصحّ السكوت عليها ، فكما لا يجوز أن تقول : «المفيد العالم» وتسكت ، كذلك لا يجوز أن تقول : «السير من البصرة» وتسكت ، وهذا يعني أنّ مفردات الحروف وهيئات الجمل الناقصة كلّها تدلّ على نسبٍ اندماجية ، خلافاً لهيئة الجملة التامّة فإنّ مدلولها نسبة غير اندماجية ، سواء كانت جملةً فعليةً أو اسمية.

المدلول اللغويّ والمدلول التصديقي :

قلنا سابقاً (١) : إنّ دلالة اللفظ على المعنى هي أن يؤدّي تصوّر اللفظ إلى تصور المعنى ، ويسمّى اللفظ «دالاًّ» والمعنى الذي نتصوّره عند سماع اللفظ «مدلولاً».

وهذه الدلالة لغوية ، ونقصد بذلك : أنّها تنشأ عن طريق وضع اللفظ للمعنى ؛ لأنّ الوضع يوجد علاقة السببية بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى ، وعلى أساس هذه العلاقة تنشأ تلك الدلالة اللغوية ، ومدلولها هو المعنى اللغويّ لِلَّفظ.

ولا تنفكّ هذه الدلالة عن اللفظ مهما سمعناه ومن أيِّ مصدر كان ، فجملة «الحقّ منتصر» إذا سمعناها انتقل ذهننا فوراً إلى مدلولها اللغوي ، سواء سمعناها من

__________________

(١) في بحث الدلالة ، تحت عنوان : ما هو الوضع والعلاقة اللغويّة؟

٩٢

متحدِّثٍ واعٍ ، أو من نائمٍ في حالة عدم وعيه ، وحتّى لو سمعناها نتيجةً لاحتكاك حجرين ، فنتصوّر معنى كلمة «الحقّ» ونتصور معنى كلمة «منتصر» ، ونتصوّر النسبة التامّة التي وضعت هيئة الجملة لها ، وتسمّى هذه الدلالة لأجل ذلك «دلالة تصورية».

ولكنَّا إذا قارنَّا بين تلك الحالات وجدنا أنّ الجملة حين تصدر من النائم ، أو تتولّد نتيجةً لاحتكاكٍ بين حجرين لا يوجد لها إلاّمدلولها اللغويّ ذاك ، ويقتصر مفعولها على إيجاد تصوراتٍ للحقِّ والانتصار والنسبة التامة في ذهننا ، وأمّا حين نسمع الجملة من متحدّثٍ واعٍ فلا تقف الدلالة عند مستوى التصوّر ، بل تتعدّاه إلى مستوى التصديق ، إذ تكشف الجملة عندئذٍ عن أشياء نفسيةٍ في نفس المتكلّم ، فنحن نستدلّ عن طريق صدور الجملة منه على وجود إرادةٍ استعماليّةٍ في نفسه ، أي أنّه يريد أن يخطر المعنى اللغويّ لكلمة «الحقّ» وكلمة «المنتصر» وهيئة الجملة في أذهاننا ، وأن نتصوّر هذه المعاني.

كما نعرف أيضاً أنّ المتكلّم إنّما يريد مِنَّا أن نتصوّر تلك المعاني لا لكي يخلق تصوراتٍ مجرّدةً في ذهننا فحسب ، بل لغرضٍ في نفسه ، وهذا الغرض الأساسيّ هو في المثال المتقدم ـ أي في جملة «الحقّ منتصر» ـ الإخبار عن ثبوت الخبر للمبتدأ ، فإنّ المتكلم إنّما يريد منَّا أن نتصوّر معاني الجملة لأجل أن يُخبِرنا عن ثبوتها في الواقع ، ويطلق على الغرض الأساسيّ في نفس المتكلّم اسم «الإرادة الجدّية» ، وتسمّى الدلالة على هذين الأمرين ـ الإرادة الاستعماليّة والإرادة الجدّية ـ «دلالة تصديقيّة» ؛ لأنّها دلالة تكشف عن إرادة المتكلّم وتدعو إلى تصديقنا بها ، لا إلى مجرّد التصوّر الساذج.

وهكذا نعرف أنّ الجملة التامّة لها ـ إضافةً إلى مدلولها التصوّريّ اللغويّ ـ مدلولان تصديقيّان :

٩٣

أحدهما : الإرادة الاستعماليّة ، إذ نعرف عن طريق صدور الجملة من المتكلِّم أنّه يريد منّا أن نتصوّر معاني كلماتها.

والآخر : الإرادة الجدّية ، وهي الغرض الأساسيّ الذي من أجله أراد المتكلِّم أن نتصوّر تلك المعاني.

وأحياناً تتجّرد الجملة عن المدلول التصديقيّ الثاني ، وذلك إذا صدرت من المتكلّم في حالة الهزل ، لا في حالة الجدِّ ، وإذا لم يكن يستهدف منها إلاّمجرّد إيجاد تصوّراتٍ في ذهن السامع لمعاني كلماتها ، فلا توجد في هذه الحالة إرادة جدّية ، بل إرادة استعماليّة فقط.

والدلالة التصديقية ليست لغوية ، أي أنّها لا تعبِّر عن علاقةٍ ناشئةٍ عن الوضع بين اللفظ والمدلول التصديقي ؛ لأنّ الوضع إنّما يوجِد علاقةً بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى ، لا بين اللفظ والمدلول التصديقي ، وإنّما تنشأ الدلالة التصديقية من حال المتكلّم ، فإنّ الانسان إذا كان في حالة وعيٍ وانتباهٍ وجدّيةٍ وقال : «الحقّ منتصر» يدلّ حاله على أنّه لم يقل هذه الجملة ساهياً ولا هازلاً ، وإنّما قالها بإرادةٍ معيّنةٍ واعية.

وهكذا نعرف أنَّا حين نسمع جملةً كجملة «الحقّ منتصر» نتصوّر المعاني اللغوية للمبتدأ والخبر بسبب الوضع الذي أوجد علاقة السببية بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى ، ونكشف الإرادة الواعية للمتكلّم بسبب حال المتكلّم ، وتصوُّرنا ذلك يمثّل الدلالة التصوّرية ، واكتشافنا هذا يمثّل الدلالة التصديقية ، والمعنى الذي نتصوّره هو المدلول التصوّريّ واللغويّ لِلَّفظ ، والإرادة التي نكتشفها في نفس المتكلّم هي المدلول التصديقيّ والنفسيّ الذي يدلّ عليه حال المتكلّم.

وعلى هذا الأساس نكتشف مصدرين للدلالة :

أحدهما : اللغة بما تشتمل عليها من أوضاع ، وهي مصدر الدلالة التصوّرية.

٩٤

والآخر : حال المتكلّم ، وهو مصدر الدلالة التصديقية ، أي دلالة اللفظ على مدلوله النفسيّ التصديقي ، فإنّ اللفظ إنّما يكشف عن إرادة المتكلِّم إذا صدر في حال يقظةٍ وانتباهٍ وجدّيّة ، فهذه الحالة هي مصدر الدلالة التصديقية ، ولهذا نجد أنّ اللفظ إذا صدر من المتكلّم في حالة نومٍ أو ذهولٍ لا توجد له دلالة تصديقية ومدلول نفسي.

الجملة الخبرية والجملة الإنشائية :

تقسَّم الجملة عادةً إلى خبريةٍ وإنشائية ، ونحن في حياتنا الاعتيادية نحسُّ بالفرق بينهما ، فأنت حين تتحدّث عن بيعك للكتاب بالأمس وتقول : «بعتُ الكتابَ بدينارٍ» ترى أنّ الجملة تختلف بصورةٍ أساسيةٍ عنها حين تريد أن تعقد الصفقة مع المشتري فعلاً ، فتقول له : «بعتُكَ الكتابَ بدينار».

وبالرغم من أنّ الجملة في كلتا الحالتين تدلّ على نسبةٍ تامةٍ بين البيع والبائع ـ أي بينك وبين البيع ـ يختلف فهمنا للجملة وتصوّرنا للنسبة في الحالة الاولى عن فهمنا للجملة وتصوّرنا للنسبة في الحالة الثانية ، فالمتكلِّم حين يقول في الحالة الاولى : «بعتُ الكتابَ بدينارٍ» يتصوّر النسبة بما هي حقيقة واقعة لا يملك من أمرها فعلاً شيئاً ، إلاّأن يخبر عنها إذا أراد ، وأمّا حين يقول في الحالة الثانية : «بعتُكَ الكتابَ بدينارٍ» فهو يتصوّر النسبة لا بما هي حقيقة واقعة مفروغ عنها ، بل يتصوّرها بوصفها نسبةً يراد تحقيقها.

ونستخلص من ذلك : أنّ الجملة الخبرية موضوعة للنسبة التامة منظوراً إليها بما هي حقيقة واقعة وشيء مفروغ عنه ، والجملة الإنشائية موضوعة للنسبة التامة منظوراً إليها بما هي نسبة يراد تحقيقها.

٩٥

وهناك من يذهب من العلماء ـ كصاحب الكفاية رحمه‌الله (١) ـ إلى أنّ النسبة التي تدلّ عليها «بعتُ» في حال الإخبار و «بعتُ» في حال الإنشاء واحدة ، ولا يوجد أيّ فرقٍ في مرحلة المدلول التصوّري بين الجملتين ، وإنّما الفرق في مرحلة المدلول التصديقي ؛ لأنّ البائع يقصد بالجملة إبراز اعتبار التمليك بها وإنشاء المعاوضة عن هذا الطريق ، وغير البائع يقصد بالجملة الحكاية عن مضمونها ، فالمدلول التصديقيّ مختلف دون المدلول التصوّري.

ومن الواضح أنّ هذا الكلام إذا تعقّلناه فإنّما يتمّ في الجملة المشتركة بلفظٍ واحدٍ بين الإنشاء والإخبار ، كما في «بعتُ» ، ولا يمكن أن ينطبق على ما يختصّ به الإنشاء أو الإخبار من جمل. فصيغة الأمر ـ مثلاً ـ جملة إنشائية ولا تستعمل للحكاية عن وقوع الحدث ، وإنّما تدلّ على طلب وقوعه ، ولا يمكن القول هنا بأنّ المدلول التصوريّ ل «افعل» نفس المدلول التصوّري للجملة الخبرية ، وأنّ الفرق بينهما في المدلول التصديقي فقط. والدليل على عدم إمكان هذا القول : أنَّا نحسّ بالفرق بين الجملتين حتّى في حالة تجرّدهما عن المدلول التصديقي وسماعهما من لافظٍ لا شعور له.

الدلالات التي يبحث عنها علم الاصول :

نستطيع أن نقسّم العناصر اللغوية من وجهة نظرٍ اصوليةٍ إلى عناصر مشتركةٍ في عملية الاستنباط ، وعناصر خاصّةٍ في تلك العملية.

فالعناصر المشتركة هي : كلّ أداةٍ لغويةٍ تصلح للدخول في ايِّ دليلٍ مهما كان نوع الموضوع الذي يعالجه ذلك الدليل ، ومثاله : صيغة فعل الأمر ، فإنّ بالإمكان

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٧

٩٦

استخدامها بالنسبة إلى أيِّ موضوع.

والعناصر الخاصّة في عملية الاستنباط هي : كلّ أداةٍ لغويةٍ لا تصلح للدخول إلاّ في الدليل الذي يعالج موضوعاً معيّناً ، ولا أثر لها في استنباط حكم موضوعٍ آخر ، ككلمة «الإحسان» فإنّها لا يمكن أن تدخل في دليلٍ سوى الدليل الذي يشتمل على حكمٍ مرتبطٍ بالإحسان ، ولا علاقة للأدلّة التي تشتمل على حكم الصلاة ـ مثلاً ـ بكلمة «الإحسان» ، فلهذا كانت كلمة «الإحسان» عنصراً خاصّاً في عملية الاستنباط.

وعلى هذا الأساس يدرس علم الاصول من اللغة القسم الأوّل من الأدوات اللغوية التي تعتبر عناصر مشتركةً في عملية الاستنباط ، فيبحث عن مدلول صيغة فعل الأمر ، وأ نّها هل تدلّ على الوجوب ، أو الاستحباب؟ ولا يبحث عن مدلول كلمة «الإحسان».

ويدخل في القسم الأوّل من الأدوات اللغوية أداة الشرط أيضاً ؛ لأنّها تصلح للدخول في استنباط الحكم من أيِّ دليلٍ لفظيٍّ مهما كان نوع الموضوع الذي يتعلّق به ، فنحن نستنبط من النصّ القائل : «إذا زالت الشمس وجبت الصلاة» أنّ وجوب الصلاة مرتبط بالزوال بدليل أداة الشرط ، ونستنبط من النصّ القائل : «إذا هلّ هلال شهر رمضان وجب الصوم» أنّ وجوب الصوم مرتبط بالهلال ، ولأجل هذا يدرس علم الاصول أداة الشرط بوصفها عنصراً مشتركاً ، ويبحث عن نوع الربط الذي تدلّ عليه ونتائجه في استنباط الحكم الشرعي.

وكذلك الحال في صيغة الجمع المعرَّف باللام ؛ لأنّها أداة لغوية صالحة للدخول في الدليل اللفظيِّ مهما كان نوع الموضوع الذي يتعلّق به.

وفي ما يلي نذكر بعض النماذج من هذه الأدوات المشتركة التي يدرسها الاصوليّون :

٩٧

١ ـ صيغة الأمر :

صيغة فعل الأمر نحو «إذهب» و «صلِّ» و «صُمْ» و «جاهِدْ» إلى غير ذلك من الأوامر.

والمقرَّر بين الاصوليّين عادةً هو القول بأنّ هذه الصيغة تدلّ لغةً على الوجوب.

وهذا القول يدعونا أن نتساءل : هل يريد هؤلاء الأعلام من القول بأنّ صيغة فعل الأمر تدلّ على الوجوب أن صيغة فعل الأمر تدلّ على نفس ما تدلّ عليه كلمة الوجوب فتكونان مترادِفَتين؟ وكيف يمكن افتراض ذلك؟ مع أنّنا نحسّ بالوجدان أنّ كلمة الوجوب وصيغة فعل الأمر ليستا مترادفتين ، وإلاّ لجاز أن نستبدل إحداهما بالاخرى ، وما دام هذا الاستبدال غير جائزٍ فنعرف أن صيغة فعل الأمر تدلّ على معنىً يختلف عن المعنى الذي تدلّ عليه كلمة الوجوب ، ويصبح من الصعب عندئذٍ فهم القول السائد بين الاصوليين بأنّ «صيغة فعل الأمر تدلّ على الوجوب».

والحقيقة أن هذا القول يحتاج إلى تحليل مدلول صيغة فعل الأمر لكي نعرف كيف تدلّ على الوجوب ، فنحن حين ندقِّق في فعل الأمر نجد أنّه يدلّ على نسبةٍ بين مادة الفعل والفاعل منظوراً إليها بما هي نسبة يراد تحقيقها وإرسال المكلف نحو إيجادها.

أرأيت الصيّاد حين يُرسِل كلب الصيد إلى فريسته؟ إنّ تلك الصورة التي يتصوّرها الصيّاد عن ذهاب الكلب إلى الفريسة وهو يرسله إليها هي نفس الصورة التي يدلّ عليها فعل الأمر ، ولهذا يقال في علم الاصول : إنّ مدلول صيغة الأمر هو النسبة الإرسالية.

٩٨

وكما أنّ الصياد حين يرسل الكلب إلى فريسته قد يكون إرساله هذا ناتجاً عن شوقٍ شديدٍ إلى الحصول على تلك الفريسة ورغبةٍ أكيدةٍ في ذلك ، وقد يكون ناتجاً عن رغبةٍ غير أكيدةٍ وشوقٍ غير شديدٍ ، كذلك النسبة الإرسالية التي تدلّ عليها الصيغة في فعل الأمر قد نتصوّرها ناتجةً عن شوقٍ شديدٍ وإلزامٍ أكيد ، وقد نتصوّرها ناتجةً عن شوقٍ أضعف ورغبةٍ أقلّ درجة.

وعلى هذا الضوء نستطيع الآن أن نفهم معنى ذلك القول الاصوليّ القائل : إنّ صيغة فعل الأمر تدلّ على الوجوب ، فإنّ معناه : أنّ الصيغة قد وضعت للنسبة الإرسالية بوصفها ناتجةً عن شوقٍ شديدٍ وإلزامٍ أكيد ، ولهذا يدخل معنى الإلزام والوجوب ضمن الصورة التي نتصوّر بها المعنى اللغويّ للصيغة عند سماعها دون أن يصبح فعل الأمر مرادفاً لكلمة الوجوب.

وليس معنى دخول الإلزام والوجوب في معنى الصيغة أنّ صيغة الأمر لا يجوز استعمالها في مجال المستحبّات ، بل قد استعملت كثيراً في موارد الاستحباب ، كما استعملت في موارد الوجوب ، ولكنّ استعمالها في موارد الوجوب استعمال حقيقي ؛ لأنّه استعمال للصيغة في المعنى الذي وضعت له ، واستعمالها في موارد الاستحباب استعمال مجازيّ يبرّره الشبه القائم بين الاستحباب والوجوب.

والدليل على أنّ صيغة الأمر موضوعة للوجوب بالمعنى الذي قلنا : هو التبادر ، فإنّ المنسبق إلى ذهن العرف ذلك ، بشهادة أنّ الآمر العرفيّ إذا أمر المكلّف بصيغة الأمر ولم يأتِ المكلّف بالمأمور به معتذراً بأنّي لم أكن أعرف أنّ هذا واجب أو مستحبّ ، لا يقبل منه العذر ، ويُلامُ على تخلّفه عن الامتثال ، وليس ذلك إلاّلانسباق الوجوب عرفاً من اللفظ وتبادره ، والتبادر علامة الحقيقة.

٩٩

٢ ـ صيغة النهي :

صيغة النهي نحو «لا تذهبْ» ، والمقرَّر بين الاصوليّين هو القول بأنّ صيغة النهي تدلّ على الحرمة ، ويجب أن نفهم هذا القول بصورةٍ مماثلةٍ لفهمنا القول بأنّ صيغة الأمر تدلّ على الوجوب مع فارق ، وهو : أنّ النهي إمساك ومنع ، والأمر إرسال وطلب ، فصيغة النهي إذن تدلّ على نسبةٍ إمساكية.

أي أنَّا حين نسمع جملة «إذهبْ» نتصوّر نسبةً بين الذهاب والمخاطب ، ونتصوّر أنّ المتكلّم يُرسِل المخاطب نحوها ويبعثه إلى تحقيقها ، كما يرسل الصيّاد كلبه نحو الفريسة. وأمّا حين نسمع جملة «لا تذهبْ» فنتصوّر نسبةً بين الذهاب والمخاطب ، ونتصوّر أنّ المتكلّم يُمسِك مخاطبه عن تلك النسبة ويزجره عنها ، كما لو حاول كلب الصيد أن يطارد الفريسة فأمسك به الصيّاد ، ولهذا نطلق عليها اسم «النسبة الإمساكية».

وتدخل الحرمة في مدلول النهي بالطريقة التي دخل بها الوجوب إلى مدلول الأمر ، ولنرجع بهذا الصدد إلى مثال الصيّاد ، فإنَّا نجد أنّ الصياد حين يمسك كلبه عن تتبّع الفريسة قد يكون إمساكه هذا ناتجاً عن كراهة تتبّع الكلب للفريسة بدرجةٍ شديدة ، وقد ينتج عن كراهة ذلك بدرجةٍ ضعيفة ، ونظير هذا تماماً نتصوّره في النسبة الإمساكية التي نتحدّث عنها ، فإنَّا قد نتصورها ناتجةً عن كراهةٍ شديدةٍ للمنهيِّ عنه ، وقد نتصورها ناتجةً عن كراهةٍ ضعيفة.

ومعنى القول بأنّ «صيغة النهي تدلّ على الحرمة» في هذا الضوء : أنّ الصيغة موضوعة للنسبة الإمساكية بوصفها ناتجةً عن كراهةٍ شديدةٍ وهي الحرمة ، فتدخل الحرمة ضمن الصورة التي نتصوّر بها المعنى اللغويَّ لصيغة النهي عند سماعها.

والدليل على أنّها موضوعة كذلك هو التبادر ، كما تقدم في صيغة الأمر.

١٠٠