دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

٥
٦

كلمة المؤتمر :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

منذ منتصف القرن العشرين ، وبعد ليل طويل نشر أجنحته السوداء على سماء الامة الإسلامية لعدة قرون ، فلفّها في ظلام حالك من التخلّف والانحطاط والجمود ، بدأت بشائر الحياة الجديدة تلوح في افق الامّة ، وانطلق الكيان الإسلامي العملاق ـ الذي بات يرزح تحت قيود المستكبرين والظالمين مدى قرون ـ يستعيد قواه حتى انتصب حيّاً فاعلاً قويّاً شامخاً بانتصار الثورة الإسلاميّة في إيران تحت قيادة الإمام الخميني قدس‌سره يقضّ مضاجع المستكبرين ، ويبدّد أحلام الطامعين والمستعمرين.

ولئن أضحت الامّة الإسلاميّة مدينة في حياتها الجديدة على مستوى التطبيق للإمام الخميني قدس‌سره فهي بدون شك مدينة في حياتها الجديدة على المستوى الفكري والنظري للإمام الشهيد الصدر قدس‌سره ، فقد كان المنظّر الرائد بلا منازع للنهضة الجديدة ؛ إذ استطاع من خلال كتاباته وأفكاره التي تميّزت بالجدة والإبداع من جهة ، والعمق والشمول من جهة اخرى ، أن يمهّد السبيل للُامّة ويشقّ لها الطريق نحو نهضة فكرية إسلاميّة شاملة ، وسط ركام هائل من التيّارات الفكرية المستوردة التي تنافست في الهيمنة على مصادر القرار الفكري والثقافي في المجتمعات الإسلاميّة ، وتزاحمت للسيطرة على عقول مفكّريها وقلوب أبنائها المثقّفين.

لقد استطاع الإمام الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر قدس‌سره بكفاءةٍ عديمة النظير أن ينازل بفكره الإسلامي البديع عمالقة الحضارة الماديّة الحديثة ونوابغها الفكريّين ، وأن يكشف للعقول المتحرّرة عن قيود التبعيّة الفكريّة والتقليد الأعمى ،

٧

زيف الفكر الإلحادي ، وخواء الحضارة الماديّة في اسسها العقائديّة ودعائمها النظريّة ، وأن يثبت فاعليّة الفكر الإسلامي وقدرته العديمة النظير على حلّ مشاكل المجتمع الإنساني المعاصر ، والاضطلاع بمهمّة إدارة الحياة الجديدة بما يضمن للبشريّة السعادة والعدل والخير والرفاه.

ثم إنّ الإبداع الفكري الذي حقّقته مدرسة الإمام الشهيد الصدر ، لم ينحصر في إطار معيّن ، فقد طال الفكر الإسلامي في مجاله العام ، وفي مجالاته الاختصاصيّة الحديثة كالاقتصاد الإسلامي والفلسفة المقارنة والمنطق الجديد ، وشمل الفكر الإسلامي الكلاسيكي أيضاً ، كالفقه والاصول والفلسفة والمنطق والكلام والتفسير والتاريخ ، فأحدث في كل فرع من هذه الفروع ثورةً فكريّة نقلت البحث العلمي فيه إلى مرحلة جديدة متميّزة سواء في المنهج أو المضمون.

ورغم مضيّ عقدين على استشهاد الإمام الصدر ، ما زالت مراكز العلم ومعاهد البحث والتحقيق تستلهم فكره وعلمه ، وما زالت الساحة الفكريّة تشعر بأمسّ الحاجة إلى آثاره العلميّة وإبداعاته في مختلف مجالات البحث والتحقيق العلمي.

ومن هنا كان في طليعة أعمال المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر إحياء تراثه العلمي والفكري بشكل يتناسب مع شأن هذا التراث القيّم.

وتدور هذه المهمّة الخطيرة ـ مع وجود الكمّ الكبير من التراث المطبوع للشهيد الصدر ـ في محورين :

أحدهما : ترجمته إلى ما تيسّر من اللغات الحيّة بدقّة وأمانة عاليتين.

والآخر : إعادة تحقيقه للتوصّل إلى النصّ الأصلي للمؤلّف منزّهاً من الأخطاء التي وقعت فيه بأنواعها من التصرّف والتلاعب والسقط ... نتيجة كثرة الطبعات وعدم دقّة المتصدّين لها وأمانتهم ، ثمّ طبعه من جديد بمواصفات راقية.

ونظراً إلى أنّ التركة الفكرية الزاخرة للسيّد الشهيد الصدر قدس‌سره شملت العلوم والاختصاصات المتنوّعة للمعارف الإسلاميّة وبمختلف المستويات الفكريّة ، لذلك أوكل المؤتمر العالمي للشهيد الصدر مهمّة التحقيق فيها إلى لجنة علمية تحت

٨

إشراف علماء متخصّصين في شتّى فروع الفكر الإسلامي من تلامذته وغيرهم ، وقد وُفّقت اللجنة في عرض هذا التراث بمستوى رفيع من الاتقان والأمانة العلميّة ، ولخّصت منهجيّة عملها بالخطوات التالية :

١ ـ مقابلة النسخ والطبعات المختلفة.

٢ ـ تصحيح الأخطاء السارية من الطبعات الاولى أو المستجدة في الطبعات اللاحقة ، ومعالجة موارد السقط والتصرّف.

٣ ـ تقطيع النصوص وتقويمها دون أدنى تغيير في الاسلوب والمحتوى ، أمّا الموارد النادرة التي تستدعي إضافة كلمة أو أكثر لاستقامة المعنى فيوضع المضاف بين معقوفتين.

٤ ـ تنظيم العناوين السابقة ، وإضافة عناوين اخرى بين معقوفتين.

٥ ـ استخراج المصادر التي استند إليها السيّد الشهيد بتسجيل أقربها إلى مرامه وأكثرها مطابقة مع النصّ ؛ ذلك لأنّ المؤلّف يستخدم النقل بالمعنى ـ في عددٍ من كتبه وآثاره ـ معتمداً على ما اختزنته ذاكرته من معلومات أو على نوع من التلفيق بين مطالب عديدة في مواضع متفرّقة من المصدر المنقول عنه ، وربما يكون بعض المصادر مترجماً وله عدة ترجمات ؛ ولهذا تُعدّ هذه المرحلة من أشقّ المراحل.

٦ ـ إضافة بعض الملاحظات في الهامش للتنبيه على اختلاف النسخ أو تصحيح النصّ أو غير ذلك ، وتُختم هوامش السيّد الشهيد بعبارة : (المؤلف قدس‌سره) تمييزاً لها عن هوامش التحقيق.

وكقاعدة عامّة ـ لها استثناءات في بعض المؤلّفات ـ يُحاول الابتعاد عن وضع الهوامش التي تتولّى عرض مطالب إضافيّة أو شرح وبيان فكرةٍ مّا أو تقييمها ودعمها بالأدلّة أو نقدها وردّها.

٧ ـ تزويد كلّ كتاب بفهرس موضوعاته ، وإلحاق بعض المؤلفات بثبت خاص لفهرس المصادر الواردة فيها.

٩

وقد بسطت الجهود التحقيقيّة ذراعيها على كلّ ما أمكن العثور عليه من نتاجات هذا العالم الجليل ، فشملت : كتبه ، وما جاد به قلمه مقدمةً أو خاتمةً لكتب غيره ثم طُبع مستقلاًّ في مرحلة متأخرة ، ومقالاته المنشورة في مجلاّت فكريّة وثقافيّة مختلفة ، ومحاضراته ودروسه في موضوعات شتّى ، وتعليقاته على بعض الكتب الفقهيّة ، ونتاجاته المتفرّقة الاخرى ، ثمّ نُظّمت بطريقة فنيّة واعيد طبعها في مجلّدات أنيقة متناسقة.

ومن جملة الكتب التي شملته الجهود التحقيقيّة المذكورة كتاب (دروس في علم الاصول) الذى أعدّه السيّد الشهيد قدس‌سره منهجاً دراسيّاً مبتكراً لطلبة العلوم الدينيّة في مجال علم اصول الفقه ، وقد تدرّج في بيان مسائل هذا العلم في ثلاث حلقات متناسقة من حيث المنهج والاسلوب بادئاً في كلّ واحدة منها بتعريف علم الاصول ومنتهياً ببحث التعارض في الأدلّة.

وقد امتاز تحقيق هذا الكتاب ـ بالإضافة إلى ما ذكرناه من الجهود العامّة التي بذلت في جميع كتب وآثار المؤلف الشهيد قدس‌سره ـ بمقابلة دقيقة للقسم الأخير منه (الجزء الثاني من الحلقة الثالثة) مع ما حصلنا عليه من النسخة المخطوطة التي اعتمد عليها السيد المؤلف قدس‌سره في الطبعة الاولى.

ولا يفوتنا أن نشيد بالموقف النبيل لورثة السيّد الشهيد كافّة سيّما نجله البارّ (سماحة الحجّة السيّد جعفر الصدر حفظه الله) في دعم المؤتمر وإعطائهم الإذن الخاصّ في نشر وإحياء التراث العلمي للشهيد الصدر قدس‌سره.

وأخيراً نرى لزاماً علينا أن نتقدّم بالشكر الجزيل إلى اللجنة المشرفة على تحقيق تراث الإمام الشهيد ، والعلماء والباحثين كافّة الذين ساهموا في إعداد هذا التراث وعرضه بالاسلوب العلمي اللائق ، سائلين المولى عزّ وجلّ أن يتقبّل جهدهم ، وأن يمنّ عليهم وعلينا جميعاً بالأجر والثواب ، إنّه سميع مجيب.

المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر قدس‌سره

أمانة الهيئة العلميّة

١٠

دروس في علم الاصول

الحَلقَةالاولى

كتاب دراسيّ في علم اصول الفقه

اعدّ للمبتدئين في دراسة هذا العلم

١١
١٢

إهداء :

بسم الله الرحمن الرحيم

يا إلهي وربي ، يا عليماً بضرّي وفاقتي ، يا موضع أملي ومنتهى رغبتي ، بعينك أي ربّ وتقرّباً إليك بذلت هذا الجهد المتواضع في كتابة الحلقات الثلاث لتكون عوناً للسائرين في طريق دراسة شريعتك والمتفقّهين في دينك ، فإن وسعته برحمتك وقبولك وأنت الذي وسعت رحمتك كلّ شيء فإنّي أتوسّل إليك ـ يا خير من دعاه داعٍ وأفضل من رجاه راجٍ ـ أن توصل ثواب ذلك هديّة منّي إلى ولدي البارّ وابني العزيز السيد عبدالغني الأردبيلي (١) الذي فجعت به وأنا على وشك الانتهاء من كتابة هذه الحلقات ، فلقد كان له ـ قدّس الله روحه الطاهرة ـ الدور البليغ في حثّي على كتابتها وإخراجها في أسرع وقت ، وكانت نفسه الكبيرة وشبابه الطاهر الذي لم يعرف مللاً ولا كللاً في خدمة الله والحق الطاقة التي أمدّتني ـ وأنا في شبه شيخوخة

__________________

(١) يقصد المصنّف قدس‌سره بذلك الفقيد العزيز العلاّمة الجليل حجّة الإسلام والمسلمين السيّد عبد الغني نجل سماحة آية الله السيّد أحمد الأردبيلي أحد عيون تلامذته تقوىً ونبلاً وفضلاً ، وقد تربّى على يده قرابة عشرين عاماً وهاجر إلى أردبيل وأسّس هناك حوزة جليلة ، وكان له دور كبير في حثّ السيّد المصنّف على إنجاز هذه الحلقات ، كما كان من أعزّ أبنائه عليه وأحبّهم إليه ، وقد فجع بوفاته ؛ إذ توفي في اليوم الثامن والعشرين من رجب ١٣٩٧ ه‍ ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون

١٣

متهدّمة الجوانب ـ بالعزيمة على أن أُنجز جلّ هذه الحلقات في شهرين من الزمن.

وكان يحثّني باستمرار على الإسراع لكي يدشّن تدريسها في حوزته الفتيّة التي أنشأها بنفسه وغذّاها من روحه من مواطن آبائه الكرام ، وخطّط لكي تكون حوزة نموذجيّة في دراستها وكلّ جوانبها الخلقيّة والروحيّة ، ولكنّك يا ربّ دعوته فجأة إليك ، فاستجاب طائعاً ووالله ما عرفته خلال العشرين عاماً التي تتلمذ فيها عليّ وترعرع إلى جنبي إلاّسريعاً إلى إجابتك ، نشطاً في طاعتك ، لايتردّد ولا يلين ، لا يتوقّف ولا يتلكّأ ، ووالله ما رأيته طيلة هذه المدّة غضب لنفسه ، وما أكثر ما رأيته يغضب لك وينسى ذاته من أجلك.

أي ربّ إنّي إذا كنت قد عجزت عن مكافأة هذا الولد البارّ الذي كان بالنسبة لي وبالنسبة إلى أبيه معاً مثالاً فريداً للولد المخلص الذي لا يتردّد في الطاعة والتضحية والفداء ، وإذا كنت قد فجعت به وأنا في قمّة الاعتزاز به وبما تجسّدت فيه من عناصر النبل والشهامة والوفاء والايثار وما تكاملت فيه من خصال التقوى والفضل والايمان ، وإذا كان القدر الذي لا رادّ له قد أطفأ في لحظة أملي في أن أمتدّ بعد وفاتي وأعيش في قلوب بارّة كقلبه وفي حياة نابضة بالخير كحياته ، فإنّي أتوسّل إليك يا ربي بعد حمدك في كل يسر وعسر أن تتلقّاه بعظيم لطفك وتحشره مع الصدّيقين من عبادك الصالحين وحسن اولئك رفيقاً ، وأن لاتحرمه من قربي ولا تحرمني من رؤيته بعد وفاته ووفاتي بعد أن حرمت من ذلك في حياته ، وأرجو أن لايكون انتظاري طويلاً للاجتماع به في مستقرّ رحمتك. وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربّ العالمين.

١٤

مُقدّمَة

[للحلقات الثلاث]

مناهج الحوزة العلميّة في دراسة هذا العلم.

مبرّرات استبدال الكتب الدراسيّة في هذا العلم.

عدّة محاولات للاستبدال.

الخصائص الملحوظة في هذه الحلقات.

إرشادات في مجال دراسة هذا الكتاب.

١٥
١٦

بسم الله الرحمن الرحيم(١)

[مناهج الحوزة العلميّة في دراسة هذا العلم] :

والحمد لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمدٍ وآله الطاهرين.

وبعد : فإنّ الدراسات العلميّة لعلم اصول الفقه تمرّ في مناهج الحوزة عادةً بمرحلتين : إحداهما تمهيديّة ، وهي ما تسمّى بمرحلة السطح.

والاخرى المرحلة العالية ، وهي ما تسمّى بمرحلة الخارج. وتتّخذ هذه الدراسة في مرحلتها التمهيديّة اسلوب البحث في كتبٍ معيّنةٍ مؤلَّفةٍ في ذلك العلم ؛ يدرسها الطالب على يد الأساتذة الأكفّاء ؛ ليتهيّأ من خلال ذلك لحضور أبحاث الخارج.

وقد جرى العرف العامّ في حوزاتنا جميعاً على اختيار «المعالم» و «القوانين» و «الرسائل» و «الكفاية» كتباً دراسيّةً للمرحلة المذكورة ، وهذا عرف جرت عليه مناهج الحوزة منذ أكثر من نصف قرن ، ولم يطرأ تغيير ملحوظ باستثناء تضاؤل دور كتاب «القوانين» من بين هذه الكتب

__________________

(١) هذا بحث قيّم كتبه سماحة السيّد المؤلف (الإمام الشهيد الصدر قدس‌سره) مقدّمةً للحلقات الثلاث جميعاً ، لتوضيح الأسباب التي دعت إلى وضعها ، وما لوحظ فيها من خصائص ، وبعض الإرشادات في مجال تدريسها ، ويمكن الاستفادة منه أيضاً في التعرّف على مدى ضرورة استبدال الكتب الدراسيّة في المواد العلميّة الاخرى المطروحة في الحوزات العلميّة بما هو أفضل منها في مجال التدريس

١٧

الأربعة ككتابٍ دراسيٍّ بالتدريج ، وانصراف عددٍ كبيرٍ من الطلبة في الفترة الأخيرة عن دراسته ، واستبداله بكتاب «اصول الفقه» كحلقةٍ وسيطةٍ بين «المعالم» وكتابي «الرسائل» و «الكفاية».

والحقيقة أنّ الكتب الأربعة المتقدّمة الذكر لها مقامها العلمي ، وهي ـ على العموم ـ تعتبر حسب مراحلها التأريخية كتباً تجديديةً ساهمت إلى درجةٍ كبيرةٍ في تطوير الفكر العلميّ الاصوليّ على اختلاف درجاتها في هذه المساهمة ، وقد يكون اختيار هذه الكتب الأربعة كتباً دراسيةً نتيجة عاملٍ مشترك ، وهو ما أثاره كلّ واحدٍ منها عند صدوره من شعورٍ عميقٍ لدى العلماء بأهمّيته العلمية ، وما اشتمل عليه من أفكارٍ ونكات ، هذا ، إضافةً إلى ما تميَّزت به بعض تلك الكتب من إيجازٍ للمطالب ، وضغطٍ في العبارة ، كالكفاية مثلاً.

وقد أدّ ت هذ ه‍ ا لكتب الأ ر بعة ـ مشكو ر ةً ـ د ور اً جليلاً في هذا المضمار ، وتخرَّج من حلقاتها الدراسية خلال نصف قرنٍ الآلاف من الطلبة الذين وجدوا فيها سُلَّمهم إلى أبحاث الخارج. ولا يسعنا في هذا المجال إلاّأن نستشعر بعمقٍ بما لأصحاب هذه الكتب الأبرار ـ قدّس الله أسرارهم الزكية ـ من فضلٍ عظيمٍ على الحوزة ومسيرتها العلمية ، ومن جميلٍ لا يمكن أن ينساه أيّ شخصٍ عاش على موائد تلك الأفكار الحافلة ونهل من نمير علومها ، ونحن ـ إذ نقول هذا ـ نبتهل إلى المولى سبحانه أن يتغمَّد مؤلّفي هذه الكتب من علمائنا الأعلام بعظيم رحمته ، ويثيبهم بأفضل ثواب المحسنين.

غير أنّ هذ ا لا يحو ل د ون أن نحا ول تطو ير ا لكتب ا لدر ا سيّة وتحسينها إذا وجدت مبرِّرات تدعو إلى ذلك ، وأمكن وضع كتبٍ دراسيّةٍ أكثر قدرةً على أداء دورها العلميّ في تنمية الطالب وإعداده للمرحلة العليا.

١٨

[مبرّرات استبدال الكتب الدراسيّة في هذا العلم] :

وقد كنّا منذ زمنٍ نجد أكثر من سببٍ يدعو إلى التفكير في استبدال هذه الكتب بكتبٍ اخرى في مجال التدريس ، لها مناهج الكتب الدراسية بحقّ ، وأساليبها في التعبير وشرائطها. ومبرّرات التفكير في هذا الاستبدال وإن كانت عديدةً ولكن يمكن اختصارها في مبرِّراتٍ أساسيةٍ محدّدة ، كما يلي :

المبرِّرالأوّل : أنّ هذه الكتب الأربعة تمثّل مراحل مختلفةً من الفكر الاصولي ، فالمعالم تعبّر عن مرحلةٍ قديمةٍ تأريخياً من علم الاصول ، والقوانين تمثّل مرحلةً خطاها علم الاصول واجتازها إلى مرحلةٍ أعلى على يد الشيخ الأنصاريِّ وغيره من الأعلام ، والرسائل والكفاية نفسهما نتاج اصوليّ يعود لما قبل مائة سنةٍ تقريباً ، وقد حصل علم الاصول بعد الرسائل والكفاية على خبرة مائة سنةٍ تقريباً من البحث والتحقيق على يد أجيالٍ متعاقبةٍ من العلماء المجدِّدين ، وخبرة ما يقارب مائة سنةٍ من البحث العلميّ الاصولي جديرة بأن تأتي بأفكارٍ جديدةٍ كثيرةٍ وتطوّر طريقة البحث في جملةٍ من المسائل ، وتستحدث مصطلحاتٍ لم تكن ، تبعاً لما تتكوّن من مسالك ومبانٍ ، ومن الضروريّ أن تنال الكتب الدراسية حظّاً مناسباً لها من هذه الأفكار والتطوّرات والمصطلحات ؛ لئلاّ يفاجَأ بها الطالب في بحث الخارج دون سابق إعداد.

وهكذا يوجد الآن فاصل معنويّ كبير بين محتويات الكتب الدراسية الأربعة وبين أبحاث الخارج ، فبينما بحث الخارج يمثّل حصيلة المائة عام الأخيرة من التفكير والتحقيق ، ويعبّر بقدر ما يُتاحُ للُاستاذ من قدرةٍ عن ذروة تلك الحصيلة نجد أنّ كتب السطح تمثّل في أقربها عهداً الصورة العامّة لعلم الاصول قبل قرابة مائة عام ، ساكتةً عن كلّ ما استجدّ خلال هذه الفترة من أفكارٍ ومصطلحات.

١٩

ونذكر على سبيل المثال لما استجدّ من مطالب : أفكار باب التزاحم ، وما أشاده الميرزا من مسلك جعل الطريقية بتعميقاته وتفريعاته في مسائل قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي ، وحكومة الأمارات على الاصول ، ورفع قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ بجعل الحجيّة ، وفكرة جعل الحكم بنحو القضية الحقيقية بآثارها الممتدّة في كثيرٍ من أبحاث علم الاصول ، كبحث الواجب المشروط والشرط المتأخّر ، والواجب المعلّق ، وأخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم ، والوجه الجديد لبحث المعاني الحرفية الذي يختلف اختلافاً أساسياً عن الصورة الغريبة التي تخلقها آراء صاحب الكفاية في ذهن الطالب.

فإنّ هذه المطالب وغيرها ممّا أصبحت تشكّل محاور للفكر الاصوليّ الحديث هي نتاج الفترة المتأخّرة الذي يظلّ طالب السطوح جاهلاً به تماماً ، إلى أن يواجه أبحاث الخارج وهو لا يملك تصوّراتٍ ابتدائية أو وسطى عن تلك المطالب.

فالطالب لكي يتسلّل من كتب السطح إلى درس الخارج كأ نّه يكلّف بطفرة ، وبأن يقطع في لحظةٍ مسافةً لم يقطعها علم الاصول خلال تطوّره التدريجيّ إلاّفي مائة عام.

وكأنّ اختيار الكتب الدراسية من مراحل مختلفةٍ للفكر الاصوليّ نشأ من الشعور بلزوم التدرّج في الكتب الدراسية من الأبسط إلى الأعمق ، ولمّا كان علم الاصول في وضعه على عهد صاحب المعالم أبسط منه في عهد صاحب القوانين ، وفي هذا العهد أبسط منه في عهد الرسائل والكفاية فقد لوحظ أنّ هذا يحقّق التدرّج المطلوب إذا جعل الكتاب الدراسيّ الأوّل نتاج مرحلةٍ قديمةٍ من علم الاصول ، وما يتلوه نتاج مرحلةٍ متأخّرة ، وهكذا.

وهذا الشعور يشتمل على حقيقةٍ وعلى خطأ :

أمّا الحقيقة فهي لزوم التدرّج في الكتب الدراسية من الأبسط إلى الأعمق ،

٢٠