دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

وإنّما يمكن تصوير العلم الإجماليّ بالنسبة إلى الخصوصيّات اللحاظيّة التي تحدّد كيفيّة لحاظ المولى للطبيعة عند أمره بها ؛ لأنّه إمّا أن يكون قد لاحظها مطلقةً أو مقيّدة ، غير أنّ هذا ليس علماً إجماليّاً بالتكليف ليكون منجّزاً.

وهكذا يتّضح أنّه لا يوجد علم إجماليّ منجّز ، وأنّ البراءة تجري عن الأمر العاشر المشكوك كونه جزءً للواجب فيكفيه الإتيان بالأقلّ.

[حالة الشكّ في إطلاق الجزئيّة :]

ولا فرق في جريان البراءة عن مشكوك الجزئيّة بين أن يكون الشكّ في أصل الجزئيّة ، كما إذا شكّ في جزئيّة السورة ، أو في إطلاقها بعد العلم بأصل الجزئيّة ، كما إذا علمنا بأنّ السورة جزء ولكن شككنا في أنّ جزئيّتها هل تختصّ بالصحيح ، أو تشمل المريض أيضاً؟ فإنّه تجري البراءة حينئذٍ عن وجوب السورة بالنسبة إلى المريض خاصّة.

وهناك صورة من الشكّ في إطلاق الجزئيّة وقع البحث فيها ، وهي : ما إذا ثبت أنّ السورة ـ مثلاً ـ جزء في حال التذكّر وشكّ في إطلاق هذه الجزئيّة للناسي ، فهل تجري البراءة عن السورة بالنسبة إلى الناسي لكي نثبت بذلك جواز الاكتفاء بما صدر منه في حالة النسيان من الصلاة الناقصة التي لا سورة فيها؟

فقد يقال : إنّ هذه الصورة هي إحدى حالات دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر ، فتجري البراءة عن الزائد.

ولكن اعترض على ذلك : بأنّ حالات الدوران المذكورة تفترض وجود أمرٍ موجّهٍ إلى المكلّف على أيّ حال ، ويتردّد متعلّق هذا الأمر بين التسعة أو العشرة مثلاً ، وفي الصورة المفروضة في المقام نحن نعلم بأنّ غير الناسي مأمور بالعشرة ـ مثلاً ـ بما في ذلك السورة ؛ لأنّنا نعلم بجزئيّتها في حال التذكّر ، وأمّا

٤٠١

الناسي فلا يحتمل أن يكون مأموراً بالتسعة ، أي بالأقلّ ؛ لأنّ الأمر بالتسعة لو صدر من الشارع لكان متوجّهاً نحو الناسي خاصّة ؛ لأنّ المتذكّر مأمور بالعشرة لا بالتسعة ، ولا يعقل توجيه الأمر إلى الناسي خاصّة ؛ لأنّ الناسي لا يلتفت إلى كونه ناسياً لينبعث عن ذلك الأمر ، وعليه فالصلاة الناقصة التي أتى بها ليست مصداقاً للواجب يقيناً ، وإنّما يحتمل كونها مسقطةً للواجب عن ذمّته ، فيكون من حالات الشكّ في المسقط ، وتجري حينئذٍ أصالة الاشتغال ، وتأتي تتمّة الكلام عن ذلك في حلقةٍ مقبلةٍ إن شاء الله تعالى.

حالة احتمال الشرطيّة :

عالجنا في ما سبق حالة احتمال الجزء الزائد ، والآن نعالج حالة احتمال الشرط الزائد ، كما لو احتمل أنّ الصلاة مشروطة بالإيقاع في المسجد على نحوٍ يكون إيقاعها في المسجد قيداً شرعيّاً في الواجب.

وتحقيق الحال في ذلك : أنّ مرجع القيد الشرعيّ ـ كما تقدّم (١) ـ عبارة عن تحصيص المولى للواجب بحصّةٍ خاصّةٍ على نحوٍ يكون الأمر متعلّقاً بذات الفعل وبالتقيّد ، فحالة الشكّ في شرطيّة شيءٍ مرجعها إلى العلم بوجوب ذات الفعل والشكّ في وجوب التقيّد.

وهذا أيضاً دوران بين الأقلّ والأكثر بالنسبة إلى ما أوجبه المولى على المكلّف ، وليس دوراناً بين المتباينين ؛ فلا يتصوّر العلم الإجماليّ المنجّز ، بل تجري البراءة عن وجوب التقيّد.

وقد يفصّل بين أن يكون ما يحتمل شرطيّته محتمل الشرطيّة في نفس

__________________

(١) مضى البحث تحت عنوان : قاعدة تنوّع القيود وأحكامها

٤٠٢

متعلّق الأمر ابتداءً ، أو في متعلّق المتعلّق ، أي الموضوع.

ففي خطاب «أعتق رقبة» المتعلّق للأمر هو «العتق» ، والموضوع هو «الرقبة» ، فتارةً يحتمل كون الدعاء عند العتق قيداً في الواجب ، واخرى يحتمل كون الإيمان قيداً في الرقبة.

ففي الحالة الاولى تجري البراءة ؛ لأنّ قيديّة الدعاء للمتعلّق معناها تقيّده والأمر بهذاالتقييد ، فيكون الشكّ في هذه القيديّة راجعاً إلى الشكّ في وجوب التقييد فتجري البراءة عنه.

وفي الحالة الثانية لا تجري البراءة ؛ لأنّ قيديّة الإيمان للرقبة لا تعني الأمر بهذاالتقييد ؛ لوضوح أنّ جعل الرقبة مؤمنةً ليس تحت الأمر ، وقد لا يكون تحت الاختيار أصلاً ، فلا يعود الشكّ في هذه القيديّة إلى الشكّ في وجوب التقييد لتجري البراءة.

والجواب : أنّ تقييد الرقبة بالإيمان وإن لم يكن تحت الأمر على تقدير أخذه قيداً ولكنّ تقيّد العتق بإيمان الرقبة المعتوقة تحت الأمر على هذا التقدير ، فالشكّ في قيديّة الإيمان شكّ في وجوب تقيّد العتق بإيمان الرقبة ، وهو تقيّد داخل في اختيار المكلّف ، ويعقل تعلّق الوجوب به ، فإذا شكّ في وجوبه جرت البراءة عنه.

حالات دوران الواجب بين التعيين والتخيير :

وقد يدور أمر الواجب الواحد بين التعيين والتخيير ، سواء كان التخيير المحتمل عقلياً أو شرعيّاً.

ومثال الأوّل : ما إذا علم بوجوبٍ مردّدٍ بين أن يكون متعلّقاً بإكرام زيدٍ كيفما اتّفق ، أو بإهداء كتاب له.

٤٠٣

ومثال الثاني : ما إذا علم بوجوبٍ مردّدٍ بين أن يكون متعلّقاً بإحدى الخصال الثلاث «العتق» أو «الإطعام» أو «الصيام» ، أو بالعتق خاصّة.

وفي هذه الحالات نلاحظ أنّ العنوان الذي يتعلّق به الوجوب مردّد بين عنوانين متباينين وإن كان بينهما من حيث الصدق الخارجيّ عموم وخصوص مطلق ، وحيث إنّ الوجوب يتعلّق بالعناوين صحّ أن يدّعى وجود علمٍ إجماليٍّ بوقوع أحد العنوانين المتباينين في عالم المفهوم متعلّقاً للوجوب ، ومجرّد أنّ أحدهما أوسع صدقاً من الآخر لا يوجب كونهما من الأقلّ والأكثر ما داما متباينين في عالم العناوين والمفاهيم الذي هو عالم عروض الوجوب وتعلّقه ، فالعلم الإجماليّ بالوجوب إذن موجود.

ولكنّ هذا العلم مع هذا غير منجّز للاحتياط ورعاية الوجوب التعيينيّ المحتمل ، بل يكفي المكلّف أن يأتي بالجامع ولو في ضمن غير ما يحتمل تعيّنه ؛ وذلك لاختلال الركن الثالث من أركان تنجيز العلم الإجماليّ المتقدّمة ، وهو : أن يكون كلّ من الطرفين مشمولاً في نفسه للبراءة بقطع النظر عن التعارض الحاصل بين الأصلين من ناحية العلم الإجمالي ، فإنَّ هذا الركن لا يصدق في المقام ؛ وذلك لأنّ وجوب الجامع الأوسع صدقاً ليس مجرىً للبراءة بقطع النظر عن التعارض بين الأصلين ؛ لأنّه : إن اريد بالبراءة عنه التوصّل إلى ترك الجامع رأساً فهذا توصّل بالأصل المذكور إلى المخالفة القطعيّة التي تتحقّق بترك الجامع رأساً ، فإذا كان أصل واحد يؤدّي إلى هذا المحذور تعذّر جريانه.

وإن اريد بالبراءة عنه التأمين من ناحية الوجوب التخييريّ فقط فهو لغو ؛ لأنّ المكلّف في حالة ترك الجامع رأساً يعلم أنّه غير مأمونٍ من أجل صدور المخالفة القطعيّة منه ، فأيّ أثرٍ لنفي استناد عدم الأمن إلى جهةٍ مخصوصة؟

وبهذا يتبرهن أنّ أصل البراءة عن وجوب الجامع لا يجري بقطع النظر عن التعارض ، وفي هذه الحالة تجري البراءة عن الوجوب التعيينيّ بلا معارض.

٤٠٤

٣ ـ الاستصحاب

تعريف الاستصحاب :

عُرّف الاستصحاب : بأ نّه الحكم ببقاء ما كان ، وهو قاعدة من قواعد الاستنباط لدى كثيرٍ من المحقّقين ، ووظيفة هذه القاعدة على الإجمال : أنّ كلّ حالةٍ كانت متيقّنةً في زمانٍ ومشكوكةً بقاءً يمكن إثبات بقائها بهذه القاعدة التي تسمّى بالاستصحاب.

وقد اختلف القائلون بالاستصحاب في أنّ الاعتماد عليه هل هو على نحو الأماريّة (١) ، أو على نحو الأصل العملي (٢)؟

كما اختلفوا في طريقة الاستدلال عليه. فقد استدلّ بعضهم عليه بحكم العقل (٣) وإدراكه ولو ظنّاً بقاءَ الحالة السابقة ، وبعضهم بالسيرة العقلائيّة (٤) ، وبعضهم بالروايات (٥).

__________________

(١) ذكره المحقق النائيني في أجود التقريرات ٢ : ٣٤٣ عن القدماء الى زمان والد الشيخ البهائي قدس‌سره

(٢) كالشيخ الأعظم الأنصاري في فرائد الاصول ٣ : ١٣ والمحقّق الخراساني في كفاية الاصول : ٤٧٢

(٣) منسوب إلى العضدي ، راجع القوانين : ٢٧٨

(٤) منهم المحقق النائيني في فوائد الاصول ٤ : ٣٣٢

(٥) منهم الشيخ الأنصاري في فرائد الاصول ٣ : ٥٥ ، والمحقّق الخراساني في كفاية الاصول : ٤٤٠

٤٠٥

ومن هنا وقع الكلام في كيفيّة تعريف الاستصحاب بنحوٍ يكون محوراً لكلّ هذه الاتّجاهات ، وصالحاً لدعوى الأماريّة تارةً ، ودعوى الأصليّة اخرى ، وللاستدلال عليه بالأدلّة المتنوّعة المذكورة.

ولذلك اعترض السيّد الاستاذ على التعريف المتقدّم (١) : بأ نّه إنّما يناسب افتراض الاستصحاب أصلاً ، وأمّا إذا افترض أمارةً فلا يصح تعريفه بذلك ، بل يجب تعريفه بالحيثيّة الكاشفة عن البقاء ، وليست هي إلاّاليقين بالحدوث. فينبغي أن يقال حينئذٍ : إنّ الاستصحاب هو اليقين بالحدوث ، فلا يوجد معنىً جامع يلائم كلّ المسالك يسمىّ بالاستصحاب.

ويرد عليه :

أوّلاً : أنّ حيثيّة الكاشفيّة عن البقاء ليست ـ على فرض وجودها ـ قائمةً باليقين بالحدوث فضلاً عن الشكّ في البقاء ، بل بنفس الحدوث بدعوى غلبة أنّ ما يحدث يبقى ، وليس اليقين إلاّطريقاً إلى تلك الأمارة ، كاليقين بوثاقة الراوي ، فلو اريد تعريف الاستصحاب بنفس الأمارة لتعيّن أن يُعرّف بالحدوث مباشرةً.

وثانياً : أنّه سواء بُني على الأماريّة أو على الأصليّة لا شكّ في وجود حكم ظاهريّ مجعولٍ في مورد الاستصحاب ، وإنّما الخلاف في أنّه هل هو بنكتة الكشف ، أوْ لا؟ فلا ضرورة ـ على الأماريّة ـ في أن يُعرّف الاستصحاب بنفس الأمارة ، بل تعريفه بذلك الحكم الظاهريّ المجعول يلائم كلا المسلكين أيضاً.

وثالثاً : أنّ بالإمكان تعريف الاستصحاب بأ نّه «مرجعيّة الحالة السابقة بقاءً» ويراد بالحالة السابقة اليقين بالحدوث ، وهذه المرجعيّة أمر محفوظ على كلّ المسالك والاتّجاهات ؛ لأنّها عنوان ينتزع من الأماريّة والأصليّة معاً ، ويبقى

__________________

(١) انظر مصباح الاصول ٣ : ٥

٤٠٦

المجال مفتوحاً لافتراض أيّ لسانٍ يُجعل به الاستصحاب شرعاً : من لسان جعل الحالة السابقة منجّزة ، أو لسان جعلها كاشفة ، أو جعل الحكم ببقاء المتيقّن ؛ لأنّ المرجعيّة تنتزع من كلّ هذه الألسنة ، كما هو واضح.

التمييز بين الاستصحاب وغيره :

هناك قواعد مزعومة تشابه الاستصحاب ، ولكنّها تختلف عنه في حقيقتها.

منها : قاعدة اليقين ، وهي تشترك مع الاستصحاب في افتراض اليقين والشكّ ، غير أنّ الشكّ في موارد القاعدة يتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين وبلحاظ نفس الفترة الزمنيّة ، وأمّا في موارد الاستصحاب فالشكّ يتعلّق ببقاء المتيقّن ، لا بنفس المرحلة الزمنيّة التي تعلّق بها اليقين.

وإذا أردنا مزيداً من التدقيق أمكننا أن نلاحظ أنّ الاستصحاب لا يتقوّم دائماً بالشكّ في البقاء ، فقد يجري بدون ذلك ، كما إذا وقعت حادثة وكان حدوثها مردّداً بين الساعة الاولى والساعة الثانية ويشكّ في ارتفاعها ، فإنّنا بالاستصحاب نثبت وجودها في الساعة الثانية ، مع أنّ وجودها المشكوك في الساعة الثانية ليس بقاءً على أيّ حال ، بل هو مردّد بين الحدوث والبقاء ، ومع هذا يثبت بالاستصحاب.

ولهذا كان الأولى أن يقال : إنّ الاستصحاب مبنيّ على الفراغ عن ثبوت الحالة المراد إثباتها ، وقاعدة اليقين ليست كذلك.

ومن نتائج الفرق المذكور بين الاستصحاب وقاعدة اليقين : أنّ الشكّ في موارد قاعدة اليقين ناقض تكويناً لليقين السابق ، ولهذا يستحيل أن يجتمع معه في زمانٍ واحد ، وأمّا الشكّ في موارد الاستصحاب فهو ليس ناقضاً حقيقة.

ومنها : قاعدة المقتضي والمانع ، وهي القاعدة التي يُبنى فيها عند إحراز

٤٠٧

المقتضي والشكّ في وجود المانع على انتفاء المانع وثبوت المقتضى (بالفتح) ، وهذه القاعدة تشترك مع الاستصحاب في وجود اليقين والشكّ ، ولكنّهما فيها متعلّقان بأمرين متغايرين ذاتاً ، وهما : المقتضي والمانع ، خلافاً لوضعهما في الاستصحاب حيث إنّ متعلّقهما واحد ذاتاً فيه.

وكما تختلف هذه القواعد في أركانها المقوّمة لها ، كذلك في حيثيات الكشف النوعيّ المزعومة فيها ، فإنّ حيثيّة الكشف في الاستصحاب تقوم على أساس غلبة أنّ الحادث يبقى ، وحيثيّة الكشف في قاعدة اليقين تقوم على أساس غلبة أنّ اليقين لا يُخطئ ، وحيثيّة الكشف في قاعدة المقتضي والمانع تقوم على أساس غلبة أنّ المقتضيات نافذة ومؤثّرة في معلولاتها.

والبحث في الاستصحاب يقع في عدّة مقامات :

الأول : في أدلّته.

والثاني : في أركانه التي يتقوّم بها.

والثالث : في مقدار ما يثبت بالاستصحاب.

والرابع : في عموم جريانه.

والخامس : في بعض تطبيقاته.

وسنتكلّم في هذه المقامات تباعاً إن شاء الله تعالى :

٤٠٨

١ ـ أدلّة الاستصحاب

وقد استُدِلّ على الاستصحاب : تارةً بأ نّه مفيد للظنّ بالبقاء ، واخرى بجريان السيرة العقلائيّة عليه ، وثالثةً بالروايات.

أمّا الأوّل فهو ممنوع صغرىً وكبرى. أمّا صغروياً فلأنّ إفادة الحالة السابقة بمجرّدها للظنّ بالبقاء ممنوعة ، وإنّما قد تفيد لخصوصيّةٍ في الحالة السابقة من حيث كونها مقتضيةً للبقاء والاستمرار.

وقد يُستشهد لإفادة الحالة السابقة للظنّ بنحو كلّيٍّ بجريان السيرة العقلائيّة على العمل بالاستصحاب ، والعقلاء لا يعملون إلاّبالطرق الظنّية والكاشفة.

ويرد على هذا الاستشهاد : أنّ السيرة العقلائيّة على افتراض وجودها فالأقرب في تفسيرها أنّها قائمة بنكتة الإلفة والعادة ، لا بنكتة الكشف ، ولهذا يقال بوجودها حتّى في الحيوانات التي تتأثّر بالإلفة.

وأمّا كبرويّاً فلعدم قيام دليلٍ على حجّيّة مثل هذا الظنّ.

وأمّا الثاني ففيه : أنّ الجري والانسياق العمليّ على طبق الحالة السابقة وإن كان غالباً في سلوك الناس ولكنّه بدافعٍ من الإلفة والعادة التي توجب الغفلة عن احتمال الارتفاع ، أو الاطمئنان بالبقاء في كثيرٍ من الأحيان ، وليس بدافعٍ من البناء عل حجّيّة الحالة السابقة في إثبات البقاء تعبّداً.

وأمّا الثالث ـ أي الأخبار ـ فهو العمدة في مقام الاستدلال ، فمن الروايات المستدلّ بها : صحيحة زرارة ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام ، حيث سأله عن المرتبة التي يتحقّق بها النوم الناقض للوضوء ، فأجابه. ثمّ سأله عن الحكم في حالة الشكّ في وقوع النوم ، إذ قال له : فإن حُرّك في جنبه شيء ولم يعلم به؟ ـ فكأنّ عدم التفاته

٤٠٩

إلى ما حُرّك في جنبه جعله يشكّ في أنّه نام فعلاً ، أوْ لا ، فاستفهم عن حكمه ـ فقال له الإمام عليه‌السلام : «لا ، حتى يستيقن أنّه قد نام ، حتّى يجيء من ذلك أمر بيِّن ، وإلاّ فإنّه على يقينٍ من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ ، ولكن ينقضه بيقينٍ آخر» (١).

والكلام في هذه الرواية يقع في عدّة جهات :

الجهة الاولى : في فقه الرواية بتحليل مفاد قوله : «وإلاّ فإنّه على يقينٍ من وضوئه ، ولا ينقض اليقين بالشكّ» ، وذلك بالكلام في نقطتين :

النقطة الاولى : أنّه كيف اعتُبر البناء على الشكّ نقضاً لليقين مع أنّ اليقين بالطهارة حدوثاً لا يتزعزع بالشكّ في الحدث بقاءً؟! فلو أنّ المكلّف في الحالة المفروضة في السؤال بنى على أنّه محدِث لمَا كان ذلك منافياً ليقينه ؛ لأنّ اليقين بالحدوث لا ينافي الارتفاع فكيف يسند نقض اليقين إلى الشكّ؟

والتحقيق : أنّ الشكّ ينقض اليقين تكويناً إذا تعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين ، وأمّا إذاتغاير المتعلّقان فلاتنافي بين اليقين والشكّ ليكون الشكّ ناقضاًوهادماً لليقين.

وعلى هذا الأساس نعرف أنّ الشكّ في قاعدة اليقين ناقض تكوينيّ لليقين المفترض فيها ، لوحدة متعلقيهما ذاتاً وزماناً ، وأنّ الشكّ في مورد الاستصحاب ليس ناقضاً تكوينيّاً لليقين المفترض فيه ؛ لأنّ أحدهما متعلّق بالحدوث ، والآخر متعلّق بالبقاء ، ولهذا يجتمعان في وقتٍ واحد.

ولكن مع هذا قد يسند النقض إلى هذا الشكّ ، فيقال : إنّه ناقض لليقين بإعمال عنايةٍ عرفيّة ، وهي أن تلغى ملاحظة الزمان ، فلا نقطّع الشيء إلى حدوثٍ

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٩ ، باب الأحداث الموجبة للطهارة ، الحديث ١١

٤١٠

وبقاء ، بل نلحظه بما هو أمر واحد ، ففي هذه الملاحظة يُرى الشكّ واليقين واردين على مصبٍّ واحدٍ ومتعلَّقٍ فارد ، فيصحّ بهذا الاعتبار إسناد النقض إلى الشكّ ، فكأنّ الشكّ نقض اليقين ، وبهذا الاعتبار يُرى أيضاً أنّ اليقين والشكّ غير مجتمعين ، كما هو الحال في كلّ منقوضٍ مع ناقضه ، وعلى هذا الأساس جرى التعبير في الرواية ، فأسند النقض إلى الشكّ ونهى عن جعله ناقضاً.

النقطة الثانية : في تحديد عناصر الجملة المذكورة الواردة في كلام الإمام عليه‌السلام فإنّها جملة شرطيّة ، والشرط فيها هو أن لا يستيقن أنّه قد نام ، وأمّا الجزاء ففيه ثلاثة احتمالات :

الأوّل : أن يكون محذوفاً ومقدّراً ، وتقديره (فلا يجب الوضوء) ، ويكون قوله : «فإنّه على يقينٍ ... إلى آخره» تعليلاً للجزاء المحذوف.

وقد يلاحظ على ذلك : أنّه التزام بالتقدير ، وهو خلاف الأصل في المحاورة ، والتزام بالتكرار ؛ لأنّ عدم وجوب الوضوء يكون قد بيّن مرّةً قبل الجملة الشرطيّة ، ومرّةً في جزائها المقدّر.

وتندفع الملاحظة الاولى : بأنّ التقدير في مثل المقام ليس على خلاف الأصل ؛ لوجود القرينة المتّصلة على تعيينه وبيانه ، حيث صرّح بعدم وجوب الوضوء قبل الجملة الشرطيّة مباشرةً.

وتندفع الملاحظة الثانية : بأنّ التكرار الملفّق من التصريح والتقدير ليس على خلاف الطبع ، وليس هذا تكراراً حقيقيّاً ، كما هو واضح ، فهذا الاحتمال لاغبار عليه من هذه الناحية.

الثاني : أن يكون الجزاء قوله : «فإنّه على يقينٍ من وضوئه» ، فيتخلّص بذلك من التقدير.

ولكن يُلاحظ حينئذٍ : أنّه لا ربط بين الشرط والجزاء ؛ لوضوح أنّ اليقين

٤١١

بالوضوء غير مترتّبٍ على عدم اليقين بالنوم ، بل هو ثابت على أيّ حال ، ومن هنا يتعيّن حينئذٍ لأجل تصوير الترتّب بين الشرط والجزاء أن يحمل قوله : «فإنّه على يقينٍ من وضوئه» على أنّه جملة إنشائيّة يراد بها الحكم بأ نّه متيقّن تعبّداً ، لا خبريّة تتحدّث عن اليقين الواقعيّ له بوقوع الوضوء منه ، فإنّ اليقين التعبّديّ بالوضوء يمكن أن يكون مترتّباً على عدم اليقين بالنوم ؛ لأنّه حكم شرعيّ ، خلافاً لليقين الواقعيّ بالوضوء فإنّه ثابت على أيّ حال ، ولكنّ حمل الجملة المذكورة على الإنشاء خلاف ظاهرها عرفاً.

الثالث : أن يكون الجزاء قوله : «ولا ينقض اليقين بالشكّ» ، وأمّا قوله : «فإنّه على يقينٍ من وضوئه» فهو تمهيد للجزاء ، أو تتميم للشرط.

وهذا الاحتمال أضعف من سابقه ؛ لأنّ الجزاء لا يناسب الواو ، والشرط وتتميماته لا تناسب الفاء.

وهكذا يتبيّن أنّ الاحتمال الأوّل هو الأقوى ، ولكن يبقى أنّ ظاهر قوله : «فإنّه على يقينٍ من وضوئه» كونه على يقينٍ فعليٍّ بالوضوء ، وهذا إنّما ينسجم مع حمل اليقين على اليقين التعبّديّ الشرعيّ ، كما يفترضه الاحتمال الثاني ؛ لأنّ اليقين إذا حملناه على اليقين التعبّديّ الشرعيّ فهو يقين فعليّ بالوضوء ، ولا ينسجم مع حمله على اليقين الواقعي ؛ لأنّ اليقين الواقعيّ بالوضوء ليس فعليّاً.

بل المناسب حينئذٍ أن يقال : «فإنّه كان على يقينٍ من وضوئه» ، فظهور الجملة المذكورة في فعليّة اليقين قد يُتّخذ قرينةً على حملها على الإنشائيّة.

فإن قيل : أو ليس المكلّف عند الشكّ في النوم على يقينٍ واقعيٍّ فعلاً بأ نّه كان متطهّراً ، فلماذا تفترضون أنّ فعليّة اليقين لا تنسجم مع حمله على اليقين الواقعي؟!

قلنا : إنّ إسناد النقض إلى الشكّ في جملة «ولا ينقض اليقين بالشكّ» إنّما

٤١٢

يصحّ إذا الغيت خصوصيّة الزمان وجُرّد الشيء المتيقّن والمشكوك عن وصف الحدوث والبقاء ، كما تقدّم توضيحه ، وبهذا اللحاظ

يكون الشكّ ناقضاً لليقين ؛ ولا يكون اليقين فعليّاً حينئذٍ.

ولكنّ الظاهر أنّ ظهور جملة «فإنّه على يقين من وضوئه» في أنّه جملة خبريّة لا إنشائيّة أقوى من ظهور اليقين في الفعليّة ، وهكذا نعرف أنّ مفاد الرواية : أنّه إذا لم يستيقن بالنوم فلا يجب الوضوء ؛ لأنّه كان على يقينٍ من وضوئه ثمّ شكّ ، ولا ينبغي أن ينقض اليقين بالشكّ.

الجهة الثانية : في أنّ الرواية هل هي ناظرة إلى الاستصحاب ، أو إلى قاعدة المقتضي والمانع؟

فقد يقال : إنّ الاستصحاب يتعلّق فيه الشكّ ببقاء المتيقّن ، وقد فرض في الرواية اليقين بالوضوء ، والوضوء ليس له بقاء ليعقل الشكّ في بقائه ، وإنّما الشكّ في حدوث النوم ، وينطبق ذلك على قاعدة المقتضي والمانع ؛ لأنّ الوضوء مقتضٍ للطهارة ، والنوم رافع ومانع عنها ، فالمقتضي في مورد الرواية معلوم والمانع مشكوك فيبنى على أصالة عدم المانع وثبوت المقتضى (بالفتح).

ويرد على ذلك : أنّ الوضوء قد فُرض له في الشريعة بقاء واستمرار ، ولهذا عبِّر عن الحدث بأ نّه ناقض للوضوء ، وقيل للمصلّي : إنّه على وضوء ، وليس ذلك إلاّلافتراضه أمراً مستمرّاً فيتعلّق الشكّ ببقائه وينطبق على الاستصحاب.

ونظراً إلى ظهور قوله : «ولا ينقض اليقين بالشك» في وحدة متعلّق اليقين والشكّ يتعيّن تنزيل الرواية على الاستصحاب.

الجهة الثالثة : بعد افتراض تكفّل الرواية للاستصحاب يقع الكلام

٤١٣

في أنّه هل يُستفاد منها جعل الاستصحاب على وجهٍ كلّيٍّ كقاعدةٍ عامّة ، أو لا تدلّ على أكثر من جريان الاستصحاب في باب الوضوء عند الشكّ في الحدث؟

قد يقال بعدم الدلالة على الاستصحاب كقاعدةٍ عامّة ؛ لأنّ اللام في قوله : «ولا يُنقض اليقين بالشكّ» كما يمكن أن يكون للجنس فتكون الجملة المذكورة مطلقةً ، كذلك يحتمل أن يكون للعهد وللإشارة إلى اليقين المذكور في الجملة السابقة «فإنّه على يقينٍ من وضوئه» وهو اليقين بالوضوء ، فلا يكون للجملة إطلاق لغير مورد الشكّ في انتقاض الوضوء ، وإجمال للام وتردّده بين الجنس والعهد كافٍ في منع الإطلاق.

ويرد على ذلك :

أوّلاً : أنّ قوله : «فإنّه على يقينٍ من وضوئه» مسوق مساق التعليل للجزاء المحذوف ، كما تقدم ، وظهور التعليل في كونه تعليلاً بأمرٍ عرفيٍّ وتحكيم مناسبات الحكم والموضوع المركوزة عليه يقتضي حمل اليقين والشكّ على طبيعيّ اليقين والشكّ ؛ لأنّ التعليل بكبرى الاستصحاب عرفيّ ومطابق للمناسبات العرفيّة ، بخلاف التعليل باستصحاب مجعولٍ في خصوص باب الوضوء.

وثانياً : أنّ اللام في قوله : «ولا ينقض اليقين بالشكّ» لو سُلّم أنّها للعهد والإشارة إلى اليقين الوارد في جملة «فإنّه على يقينٍ من وضوئه» فلا يقتضي ذلك اختصاص القول المذكور بباب الوضوء ؛ لأنّ قيد «من وضوئه» ليس قيداً لليقين ، حيث إنّ اليقين لا يتعدّى عادةً إلى متعلّقه ب «من» ، وإنّما هو قيد للظرف ، ومحصّل العبارة : أنّه من ناحية الوضوء على يقين ، وهذا يعني أنّ كلمة «اليقين» استُعملت في معناها الكلّيّ ، فإذا اشير إليها لم يقتض ذلك الاختصاص

٤١٤

بباب الوضوء ، خلافاً لِمَا إذا كان القيد راجعاً إلى نفس اليقين ، وكان مفاد الجملة المذكورة أنّه على يقينٍ بالوضوء ، فإنّ الإشارة إلى هذا اليقين توجب الاختصاص.

وعلى هذا فالاستدلال بالرواية تامّ. وهناك روايات (١) عديدة اخرى يستدلّ بها على الاستصحاب ، ولا شكّ في دلالة جملةٍ منها.

__________________

(١) كرواية اسحاق بن عمّار ، راجع وسائل الشيعة ٨ : ٢١٢ ، الباب ٨ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٢. ومكاتبة علي بن محمد القاساني ، راجع وسائل الشيعة ١٠ : ٢٥٥ ، الباب ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث ١٣. ورواية عبد الله بن سنان ، راجع وسائل الشيعة ٣ : ٥٢١ ، الباب ٧٤ من أبواب النجاسات ، وكذا راجع الوسائل ١ : ٢٤٥ ، الباب الأوّل من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث الأوّل

٤١٥

٢ ـ أركان الاستصحاب

وبعد الفراغ عن ثبوت الاستصحاب شرعاً يقع الكلام في تحديد أركانه على ضوء دليله.

والمستفاد من دليل الاستصحاب المتقدّم تقوّمه بأربعة أركان :

الأوّل : اليقين بالحدوث.

والثاني : الشكّ في البقاء.

والثالث : وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة.

والرابع : كون الحالة السابقة في مرحلة البقاء ذات أثر مصحّح للتعبّد ببقائها.

ولنأخذ هذه الأركان تباعاً :

أمّا الركن الأوّل فهو مأخوذ في لسان الدليل في قوله : «ولا ينقض اليقين بالشكّ» ، وظاهر ذلك كون اليقين بالحالة السابقة دخيلاً في موضوع الاستصحاب ، فمجرّد حدوث الشيء لا يكفي لجريان استصحابه مالم يكن هذا الحدوث متيقّناً ، ومجرّد الشك في وجود شيءٍ لا يكفي لاستصحابه مالم يكن ثبوته في السابق معلوماً.

وعلى هذا ترتّب بحث ، وهو : أنّ الحالة السابقة قد تثبت بالأمارة لاباليقين ، فإذا كان الاستصحاب حكماً مترتّباً على اليقين فكيف يجري إذا شُكّ في بقاء شيءٍ لم يكن حدوثه متيقّناً بل ثابتاً بالأمارة؟!

٤١٦

وقد حاول المحقّق النائينيّ رحمه‌الله (١) أن يُخرّج ذلك على أساس قيام الأمارات مقام القطع الموضوعيّ ، فاليقين هنا جزء الموضوع للاستصحاب ، فهو قطع موضوعيّ وتقوم مقامه الأمارة.

وهناك من أنكر ركنيّة اليقين بالحدوث (٢) واستظهر أنّه مأخوذ في لسان الدليل بما هو معرّف ومشير إلى الحدوث ، فالاستصحاب مترتّب على الحدوث لا على اليقين به ، والأمارة تثبت الحدوث فتنقّح بذلك موضوع الاستصحاب.

وأمّا الركن الثانيّ ـ وهو الشكّ ـ فمأخوذ أيضاً في لسان الدليل ، والمراد به مطلق عدم العلم ، فيشمل حالة الظنّ أيضاً بقرينة قوله : «ولكن انقضه بيقينٍ آخر» ، فإنّ ظاهره حصر ما يسمح بأن ينقض به اليقين باليقين.

والشكّ : تارةً يكون موجوداً وجوداً فعليّاً ، كما في الشاكّ الملتفت إلى شكّه. واخرى يكون موجوداً وجوداً تقديريّاً ، كما في الغافل الذي لو التفت إلى الواقعة لشكّ فيها ، ولكنّه غير شاكٍّ فعلاً لغفلته.

ومن هنا وقع البحث في أنّ الشكّ المأخوذ في موضوع دليل الاستصحاب هل يشمل القسمين معاً ، أو يختصّ بالقسم الأوّل؟ فإذا كان المكلّف على يقينٍ من الحدث ثمّ شكّ في بقائه وقام وصلّى ملتفتاً إلى شكّه فلا ريب في أنّ استصحاب الحدث يجري في حقّه وهو يصلّي ، وبذلك تكون الصلاة من حين وقوعها محكومةً بالبطلان ، وفي مثل هذه الحالة لا يمكن للمكلّف إذا فرغ من صلاته هذه أن يتمسّك لصحّتها بقاعدة الفراغ ؛ لأنّها إنّما تجري في صلاةٍ لم يثبت الحكم ببطلانها حين إيقاعها.

وأمّا إذا كان المكلّف على يقينٍ من الحدث ، ثمّ غفل وذهل عن حاله وقام

__________________

(١) فوائد الأصول ٣ : ٢١ ـ ٢٢

(٢) كالسيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٦٥٨

٤١٧

وصلّى ذاهلاً ، وبعد الصلاة التفت وشكّ في أنّه هل كان لا يزال محدثاً حين صلّى ، أوْ لا؟ فقد يقال بأنّ استصحاب الحدث لم يكن جارياً حين الصلاة ؛ لأنّ الشكّ لم يكن فعليّاً بل تقديريّاً ، فالصلاة لم تقترن بقاعدةٍ شرعيّةٍ تحكم ببطلانها ، فبإمكان المكلّف حينئذٍ أن يرجع عند التفاته بعد الفراغ من الصلاة إلى قاعدة الفراغ ، فيحكم بصحّة الصلاة.

فإن قيل : هَبْ أنْ الاستصحاب لم يكن جارياً حين الصلاة ، ولكن لماذا لا يجري الآن مع أنّ الشكّ فعليّ ، وباستصحاب الحدث فعلاً يثبت أنّ صلاته التي فرغ منها باطلة؟

قلنا : إنّ هذا الاستصحاب ظرف جريانه هو نفس ظرف جريان قاعدة الفراغ ، وكلّما اتّحد ظرف جريان الاستصحاب والقاعدة تقدّمت قاعدة الفراغ ، خلافاً لِمَا إذا كان ظرف جريان الاستصحاب أثناء الصلاة فإنّه حينئذٍ لا يدع مجالاً لرجوع المكلّف بعد الفراغ من صلاته إلى قاعدة الفراغ ؛ لأنّ موضوعها صلاة لم يحكم ببطلانها في ظرف الإتيان بها.

ولكنّ الصحيح : أنّ قاعدة الفراغ لا تجري بالنسبة إلى الصلاة المفروضة في هذا المثال على أيّ حال ؛ حتّى لو لم يجر استصحاب الحدث في أثنائها ؛ وذلك لأنّ قاعدة الفراغ لا تجري عند إحراز وقوع الفعل المشكوك الصحّة مع الغفلة ، ففي المثال المذكور لا يمكن تصحيح الصلاة بحال.

أمّا الركن الثالث ـ وهو وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ـ فيستفاد من ظهور الدليل في أنّ الشكّ الذي يمثّل الركن الثاني يتعلّق بعين ما تعلّق به اليقين الذي يُمثّل الركن الأوّل ، إذ لو تغاير متعلّق الشكّ مع متعلّق اليقين فلن يكون العمل بالشكّ نقضاً لليقين ، وإنّما يكون نقضاً له في حالة وحدة المتعلّق لهما معاً ، والمقصود بالوحدة ، الوحدة الذاتيّة لا الزمانيّة ، فلا ينافيها أن يكون اليقين متعلّقاً

٤١٨

بحدوث الشيء والشكّ ببقائه ، فإنّ النقض يصدق مع الوحدة الذاتيّة وتجريد كلّ من اليقين والشكّ عن خصوصيّة الزمان ، كما تقدّم ، وقد ترتّب على هذا الركن عدّة امور :

نذكر منها : ما قد لوحظ من أنّ هذا الركن يمكن تواجده في الشبهات الموضوعيّة بأن تشكّ في بقاء نفس ما كنت على يقينٍ منه ، ولكن من الصعب الالتزام بوجوده في الشبهات الحكميّة ؛ وذلك لأنّ الحكم المجعول تابع في وجوده لوجود القيود المأخوذة في موضوعه عند جعله ، فإذا كانت هذه القيود كلّها متوفّرةً ومحرزةً فلا يمكن الشكّ في وجود الحكم المجعول ، وما دامت باقيةً ومعلومةً فلا يمكن الشكّ في بقاء الحكم المجعول ، وإنّما يتصوّر الشكّ في بقائه بعد اليقين بحدوثه إذا أحرز المكلّف في البداية أنّ القيود كلّها موجودة ، ثمّ اختلّت خصوصيّة من الخصوصيّات في الأثناء ، واحتمل المكلّف أن تكون هذه الخصوصيّة من تلك القيود ، فإنّه سوف يشكّ حينئذٍ في بقاء الحكم المجعول ؛ لاحتمال انتفاء قيده.

ومثال ذلك : أن يكون الماء متغيّراً بالنجاسة فيعلم بنجاسته ، ثمّ يزول التغيّر الفعليّ فيشك في بقاء النجاسة ؛ لاحتمال أنّ فعليّة التغيّر قيد في النجاسة المجعولة شرعاً ، وفي هذه الحالة لو لاحظ المكلّف بدقّةٍ قضيّته المتيقّنة وقضيّته المشكوكة لرآهما مختلفتين ؛ لأنّ القضيّة المتيقّنة هي نجاسة الماء المتّصف بالتغيّر الفعليّ ، والقضيّة المشكوكة هي نجاسة الماء الذي زال عنه التغيّر الفعليّ ، فكيف يجري الاستصحاب؟

وقد ذكر المحقّقون : أنّ الوحدة المعتبرة بين المتيقّن والمشكوك ليست وحدةً حقيقيّةً مبنيّةً على الدقّة والاستيعاب ، بل وحدة عرفيّة على نحوٍ لو كان المشكوك ثابتاً في الواقع لا عتبر العرف هذا الثبوت بقاءً لِمَا سبق ، لا حدوثاً لشيءٍ

٤١٩

جديد ، إذ كلّما صدق على المشكوك أنّه بقاء عرفاً للمتيقّن انطبق على العمل بالشكّ أنّه نقض لليقين بالشكّ فيشمله دليل الاستصحاب ، ولا شكّ في أنّ الماء المتغيّر إذا كان نجساً بعد زوال التغيّر فليست هذه النجاسة عرفاً إلاّامتداداً للنجاسة المعلومة حدوثاً ، وإن كانت النجاستان مختلفتين في بعض الخصوصيّات والظروف ، فيجري استصحاب النجاسة.

نعم ، بعض القيود تعتبر عرفاً مقوّمةً للحكم ومنوّعةً له على نحوٍ يرى العرف أنّ الحكم المرتبط بها مغاير للحكم الثابت بدونها ، كما في وجوب إكرام الضيف المرتبط بالضيافة ، فإنّ الضيافة قيد منوّع ، فلو وجب عليك أن تكرم ضيفك بعد خروجه من ضيافتك أيضاً بوصفه فقيراً فلا يعتبر هذا الوجوب استمراراً لوجوب إكرامه من أجل الضيافة ، بل وجوباً آخر ؛ لأنّ الضيافة خصوصيّة مقوّمة ومنوّعة ، فإذا كنتَ على يقينٍ من وجوب إكرام الضيف وشككت في وجوب إكرامه بعد خروجه من ضيافتك باعتبار فقره لم يجرِ استصحاب الوجوب ؛ لأنّ الوجوب المشكوك هنا مغاير للوجوب المتيقّن وليس استمراراً له عرفاً.

وهكذا نخرج بنتيجة ، وهي : أنّ القيود للحكم على قسمين عرفاً : فقسم منها يعتبر مقوّماً ومنوّعاً ، وقسم ليس كذلك ، وكلّما نشأ الشكّ من القسم الأوّل لم يجرِ الاستصحاب ، وكلّما نشأ من القسم الثاني جرى. وقد يسمّى القسم الأوّل بالحيثيات التقييديّة ، والقسم الثاني بالحيثيات التعليليّة.

وأمّا الركن الرابع فقد يبيّن بإحدى صيغتين :

الاولى : أنّ الاستصحاب يتوقّف جريانه على أن يكون المستصحب حكماً شرعيّاً أو موضوعاً يترتّب عليه الحكم الشرعيّ ؛ لأنّه إذا لم يكن كذلك يعتبر أجنبيّاً عن الشارع ، فلا معنى لصدور التعبّد منه بذلك.

وهذه الصيغة تسبّب عدّة مشاكل :

٤٢٠