دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

مشروطة بالفحص وبذل الجهد في التوصّل إلى الحكم الواقعي.

ومنها : رواية أبي سعيد الزهريّ ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ...» (١).

وتقريب الاستدلال : أنّها تدلّ على وجود هلكةٍ في اقتحام الشبهة ، وهذا يعني تنجّز التكليف الواقعيّ المشكوك وعدم كونه مؤمّناً عنه ، وهو معنى وجوب الاحتياط.

ويرد على ذلك : أنّ هذا يتوقّف على حمل الشبهة على الاشتباه بمعنى الشكّ ، مع أنّ الأصل في مدلول الشبهة لغةً المثل والمحاكي ، وإنّما يطلق على الشكّ عنوان الشبهة ؛ لأنّ المماثلة والمشابهة تؤدّي إلى التحيّر والشكّ ، وعليه فلا موجب لحمل الشبهة على الشكّ ، بل بإمكان حملها على ما يشبه الحقّ شَبَهاً صوريّاً ، وهو باطل في حقيقته ، كما هو الحال في كثيرٍ من الدعوات الباطلة التي تبدو بالتدليس وكأ نّها واجدة لسمات الحقّ.

وقد فُسّرت الشبهة بذلك في جملةٍ من الروايات ، كما في كلامٍ للإمام [أمير المؤمنين] لابنه الحسن عليهما‌السلام حيث روي عنه أنّه قال : «وإنّما سُمّيت الشبهة شبهةً لأ نّها تشبه الحقّ ، فأمّا أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين ودليلهم سمت الهدى ، وأمّا أعداء الله فدعاؤهم فيها الضلال ودليلهم العمى» (٢).

وعلى هذا الأساس يكون مفاد الرواية التحذير من الانخراط في الدعوات والاتّجاهات التي تحمل بعض شعارات الحقّ لمجرّد حسن الظنّ بوضعها الظاهريّ بدون تمحيصٍ وتدقيقٍ في واقعها ، ولاربط لها حينئذٍ بتعيين الوظيفة العمليّة في موارد الشكّ في التكليف.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٥٤ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢

(٢) المصدر السابق : ١٦١ ، الحديث ٢٤

٣٨١

وأمّا مشهور المعلّقين على الرواية فقد افترضوا أنّ الشبهة بمعنى الشكّ تأثّراً بشيوع هذا الإطلاق في عرفهم الاصولي ، وحاولوا المناقشة في الاستدلال بوجهٍ آخر مبنيٍّ على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، إذ على هذا المسلك تكون الشبهة البدويّة مؤمّناً عنها بالقاعدة المذكورة مالم يجعل الشارع منجّزاً للتكليف المشكوك بإيجاب الاحتياط ونحو ذلك ، وهذا معناه : أنّ التنجّز واستحقاق العقاب من تبعات وجوب الاحتياط ، وليس سابقاً عليه ، ونحن إذا لا حظنا الرواية المذكورة نجد أنّها تفترض مسبقاً أنّ الإقدام مظنّة للهلكة ، وتنصح بالوقوف حذراً من الهلكة ، ومقتضى ذلك أنّها تتحدّث عن تكاليف قد تنجّزت وخرجت عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ في المرتبة السابقة ، وليست بصدد إيجاب الاحتياط وتنجيز الواقع المشكوك بنفسها ، ونتيجة ذلك أنّ الرواية لا تدلّ على وجوب الاحتياط ، وأ نّها تختصّ بالحالات التي يكون التكليف المشكوك فيها منجّزاً بمنجّزٍ سابقٍ ، كالعلم الإجماليّ ونحوه.

ومنها : رواية جميل ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام ، عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الامور ثلاثة : أمرٌ بيِّن لك رُشده فاتّبعه ، وأمرٌ بيِّن لك غيّه فاجتنبه ، وأمر اختُلف فيه فردّه إلى الله» (١).

وكأ نّه يراد أن يدّعى أنّ الشبهات الحكميّة من القسم الثالث ، وقد امرنا فيه بالردّ إلى الله وعدم الترسّل في التصرّف ، وهو معنى الاحتياط.

ويرد عليه :

أوّلاً : أنّ الردّ إلى الله ليس بمعنى الاحتياط ، بل لعلّه بمعنى الرجوع إلى الكتاب والسنّة في استنباط الحكم في مقابل ما يكون بيّناً متّفقاً على رشده أو غيّه ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦٢ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٨. وفيه : «تبيّن» بدل «بيّن»

٣٨٢

فكأ نّه قيل : إنّ ما كان متّفقاً على غيّه ورشده وبيّناً في نفسه عُومِل على أساس ذلك ، وما كان مختلفاً فيه فلابدّ من الرجوع فيه إلى الكتاب والسنّة ، ولا يجوز التخرّص فيه والرجم بالغيب ، وبهذا يكون مفاد الرواية أجنبيّاً عمّا هو المقصود في المقام.

وثانياً : لو سُلّم أنّ المراد بالأمر بالردّ إلى الله الأمر بالاحتياط فنحن ننكر أن تكون الشبهة الحكميّة بعد قيام الدليل الشرعيّ على البراءة من القسم الثالث ، بل الإقدام فيها بيّن الرشد ؛ لقيام الدليل القطعيّ على إذن الشارع في ذلك.

وعلى العموم فالظاهر عدم تماميّة سائرالروايات التي يستدلّ بها على وجوب الاحتياط ، وعليه فدليل البراءة سليم عن المعارض.

ولو سلّمنا المعارضة كان الرجحان في جانب البراءة ، لا وجوب الاحتياط ؛ وذلك لوجوه :

منها : أنّ دليل البراءة قرآنيّ ، ودليل وجوب الاحتياط من أخبار الآحاد ، وكلّما تعارض هذان القسمان قُدّم الدليل القرآنيّ القطعيّ ولم يكن خبر الواحد حجّةً في مقابله.

ومنها : أنّ دليل البراءة لا يشمل حالات العلم الإجماليّ ، كما سيأتي ، ودليل وجوب الاحتياط شامل لذلك ، فيكون دليل البراءة أخصّ فيخصّصه.

ومنها : أنّ دليل وجوب الاحتياط أخصّ من دليل الاستصحاب القاضي باستصحاب عدم التكليف ، فإن افترضنا أنّ دليل الاحتياط ودليل البراءة متكافئان وتساقطا رجعنا إلى دليل الاستصحاب ، إذ كلّما وجد عامٌّ (كدليل الاستصحاب) ومخصّص (كدليل الاحتياط) ومعارض للمخصّص (كدليل البراءة) سقط المخصّص مع معارضه ورجعنا إلى العامّ.

٣٨٣

تحديد مفادِ البراءة :

بعد أن ثبت أنّ الوظيفة العمليّة الثانويّة هي أصالة البراءة نتكلّم عن تحديد مفاد هذا الأصل وحدوده ، وذلك في عدّة نقاط.

البراءة مشروطة بالفحص :

النقطة الاولى : في أنّ هذا الأصل مشروط بالفحص واليأس عن الظفر بدليل ، فلا يجوز إجراء البراءة لمجرّد الشكّ في التكليف وبدون فحصٍ في مظانّ وجوده من الأدلّة.

وقد يتراءى في بادئ الأمر أنّ في أدلّة البراءة الشرعيّة إطلاقاً حتّى لحالة ما قبل الفحص ، كما في «رفع مالا يعلمون» فإنّ عدم العلم صادق قبل الفحص أيضاً ، ولكنّ هذا الإطلاق يجب رفع اليد عنه ؛ وذلك للُامور التالية :

أوّلاً : أنّ بعض أدلّة البراءة تثبت المسؤوليّة والإدانة في حالة وجود بيانٍ على التكليف في معرض الوصول على نحو لو فحص عنه المكلّف لوصل إليه ، فمثلاً : الآية الثانية إذا تمّت دلالتها على البراءة فهي تدلّ في نفس الوقت على أنّ البراءة مغيّاة ببعث الرسول ، وبعد حمل الرسول على المثال يثبت أنّ الغاية هي توفير البيان على نحوٍ يُتاح للمكلّف الوصول إليه ، كما هو شأن الناس مع الرسول ، وعليه فيثبت بمفهوم الغاية أنّه متى توفّر البيان على هذا النحو فاستحقاق العذاب ثابت.

ومن الواضح أنّ الشاكّ قبل الفحص يحتمل تحقّق الغاية وتوفّر البيان ، فلابدّ من الفحص ، وكذلك أيضاً الآية الرابعة ، فإنّ البيان لهم جُعل غايةً للبراءة ، وهو يصدق مع توفير بيانٍ في معرض الوصول.

وثانياً : أنّ للمكلّف علماً إجماليّاً بوجود تكاليف في الشبهات الحكميّة ، كما

٣٨٤

تقدّم ، وهذا العلم إنّما ينحلّ بالفحص لكي يُحرز عدد من التكاليف بصورةٍ تفصيليّة ، وما لم ينحلّ لا تجري البراءة ، فلابدّ من الفحص إذن.

وثالثاً : أنّ الأخبار الدالّة على وجوب التعلّم (١) ـ وأنّ المكلّف يوم القيامة يقال له : لماذا لم تعمل؟ فإذا قال : لم أعلم يقال له : لماذا لم تتعلّم؟ ـ تعتبر مقيّدةً لإطلاق دليل البراءة ، ومثبتةً أنّ الشكّ بدون فحصٍ وتعلّمٍ ليس عذراً شرعاً.

التمييز بين الشكّ في التكليف والشكّ في المكلَّف به :

النقطة الثانية : في أنّ الضابط لجريان أصل البراءة هو الشكّ في التكليف ، لا الشكّ في المكلّف به.

وتوضيح ذلك : أنّ المكلّف تارةً يشكّ في ثبوت الحكم الشرعيّ ، كما إذا شكّ في حرمة شرب التتن أو في وجوب صلاة الخسوف ، واخرى يعلم بالحكم الشرعيّ ويشكّ في امتثاله ، كما إذا علم بأنّ صلاة الظهر واجبة وشكّ في أنّها هل أتى بها ، أوْ لا؟

فالشكّ الأوّل هو مجرى البراءة العقليّة والبراءة الشرعيّة عند المشهور ، وهو مجرى البراءة الشرعيّة عندنا.

والشكّ الثاني لا تجري فيه البراءة العقليّة ولا الشرعيّة ؛ لأنّ التكليف فيه معلوم ، وإنّما الشكّ في امتثاله والخروج عن عهدته ، فيجري هنا أصل يسمّى بأصالة الاشتغال ، ومفاده كون التكليف في العهدة حتّى يحصل الجزم بامتثاله.

وعلى الفقيه أن يميّز بدقّةٍ كلّ حالةٍ من حالات الشكّ التي يفترضها ، وهل أنّها من الشكّ في التكليف لتجري البراءة ، أو من الشكّ في المكلّف به لتجري أصالة

__________________

(١) انظر جامع أحاديث الشيعة ١ : ١٤٤ ، الباب الأوّل من أبواب المقدّمات ، الحديث ٣٣ وبحار الأنوار ١ : ١٧٢ ، كتاب العلم ، ذيل الحديث ٢٤ و ١٧٧ ، الحديث ٥٨

٣٨٥

الاشتغال؟ والتمييز في الشبهات الحكميّة واضح عادةً ؛ لأنّ الشكّ في الشبهة الحكميّة إنّما يكون عادةً في التكليف ، وأمّا الشبهات الموضوعيّة ففيها من كلا القسمين ، ولهذا لابدّ من تمييز الشبهة الموضوعيّة بدقّةٍ وتحديد دخولها في هذا القسم أو ذاك.

وقد يقال في بادئ الأمر : إنّ الشبهة الموضوعيّة ليس الشكّ فيها شكّاً في التكليف ، بل التكليف في الشبهات الموضوعيّة معلوم دائماً فلا تجري البراءة.

والجواب : أنّ التكليف بمعنى الجعل معلوم في حالات الشبهة الموضوعيّة ، وأمّا التكليف بمعنى المجعول فهو مشكوك في كثيرٍ من هذه الحالات ، ومتى كان مشكوكاً جرت البراءة.

وتوضيح ذلك : أنّ الحكم إذا جُعل مقيّداً بقيدٍ كان وجود التكليف المجعول وفعليّته تابعاً لوجود القيد خارجاً وفعليّته ، وحينئذٍ فالشكّ يتصوّر على أنحاء :

النحو الأوّل : أن يشكّ في أصل وجود القيد ، وهذا يعني الشكّ في فعليّة التكليف المجعول ، فتجري البراءة.

ومثاله : أن يكون وجوب الصلاة مقيّداً بالخسوف ، فإذا شكّ في الخسوف شكّ في فعليّة الوجوب ؛ فتجري البراءة.

النحو الثاني : أن يعلم بوجود القيد في ضمن فردٍ ويشكّ في وجوده ضمن فردٍ آخر.

ومثاله : أن يكون وجوب إكرام الإنسان مقيّداً بالعدالة ، ويعلم بأنّ هذا عادل ويشكّ في أنّ ذاك عادل.

ومثال آخر : أن يكون وجوب الغسل مقيّداً بالماء ، بمعنى أنّه يجب الغسل بالماء ويعلم بأنّ هذا ماء ويشكّ في أنّ ذاك ماء.

وهناك فرق بين المثالين ، وهو : أنّ المشكوك في المثال الأوّل لو كان فرداً ثانياً حقّاً لحدث وجوب آخر للإكرام ؛ لأنّ وجوب الإكرام بالنسبة إلى أفراد العادل

٣٨٦

شموليّ وانحلاليّ ، بمعنى أنّ كلّ فردٍ له وجوب إكرام. وأمّا المشكوك في المثال الثاني فهو لو كان فرداً ثانياً حقّاً للماء لَما حدث وجوب آخر للغسل ؛ لأنّ وجوب الغسل بالنسبة إلى أفراد الماء بدليّ ، فلا يجب الغسل بكلّ فردٍ من الماء ، بل بصرف الوجود ، فكون المشكوك فرداً من الماء لا يعني تعدّداً في الواجب ، بل يعني أنّك لو غسلت به لكفاك ولاعتُبِرت ممتثلاً.

وعلى هذا تجري البراءة في المثال الأوّل ؛ لأنّ الشكّ شكّ في الوجوب الزائد ، فلا يجب أن تكرم من تشكّ في عدالته. وتجري أصالة الاشتغال في المثال الثاني ؛ لأنّ الشكّ شكّ في الامتثال ، فلا يجوز أن تكتفي بالغسل بالمائع الذي تشكّ في أنّه ماء.

النحو الثالث : أن لا يكون هناك شكّ في القيد إطلاقاً ، وإنّما الشكّ في وجود متعلّق الأمر ، وهذا واضح في أنّه شكّ في الامتثال مع العلم بالتكليف ؛ فتجري أصالة الاشتغال.

وهنا مورد الكلمة المعروفة القائلة : «إنّ الشغل اليقينيّ يستدعي الفراغ اليقيني».

النحو الرابع : أن يشكّ في وجود مسقطٍ شرعيٍّ للتكليف ، ذلك أنّ التكليف كما يسقط عقلاً بالامتثال أو العصيان كذلك قد يسقط بمسقطٍ شرعيٍّ ؛ من قبيل الاضحية المسقطة شرعاً للأمر بالعقيقة ، وعليه فقد يشكّ في وقوع المسقط الشرعيّ : إمّا على نحو الشبهة الحكميّة بأن يكون قد ضحّى ويشكّ في أنّ الشارع هل جعلها مسقطة؟ أو على نحو الشبهة الموضوعيّة بأن يكون عالماً بأنّ الشارع جعل الاضحية مسقطة ؛ ولكنّه يشكّ في أنّه ضحّى.

والمسقط الشرعيّ لا يكون مسقطاً إلاّإذا اخذ عدمه قيداً في الطلب أو الوجوب ، وحينئذٍ فإن فُرض أنّه احتُمل أخْذُ عدمه قيداً وشرطاً في الوجوب على نحوٍ لا يحدث وجوب مع وجود المسقط فالشكّ في المسقط بهذا المعنى يكون شكّاً في

٣٨٧

أصل التكليف ، ويدخل في النحو الأوّل المتقدّم. وإن فُرض أنّ مسقطيّته كانت بمعنى أخْذِ عدمه قيداً في بقاء الوجوب فهو مسقط بمعنى كونه رافعاً للوجوب ، لا أنّه مانع عن حدوثه ، فالوجوب معلوم ويشكّ في سقوطه ، والمعروف في مثل ذلك أنّ الشكّ في السقوط هنا كالشكّ في السقوط الناشئ من احتمال الامتثال يكون مجرىً لأصالة الاشتغال ؛ لا للبراءة.

ولكنّ الأصحّ أنّه في نفسه مجرى للبراءة ؛ لأنّ مرجعه إلى الشكّ في الوجوب بقاءً ، ولكنّ استصحاب بقاء الوجوب مقدّم على البراءة.

البراءة عن الاستحباب :

النقطة الثالثة : في أنّ البراءة هل تجري عند الشكّ في التكاليف الإلزاميّة فقط ، أو تشمل موارد الشكّ في الاستحباب والكراهية أيضاً؟

ولعلّ المشهور أنّها لاتجري في موارد الشكّ في حكم غير إلزاميّ ؛ لقصور أدلّتها.

أمّا ما كان مفاده السعة ونفي الضيق والتأمين من ناحية العقاب فواضح ؛ لأنّ الحكم الاستحبابيّ المشكوك ـ مثلاً ـ لاضيق ولا عقاب من ناحيته جزماً ، فلا معنى للتأمين عنه بهذا اللسان.

وأمّا ما كان بلسان «رفع مالا يعلمون» فهو وإن لم يفترض كون المرفوع ممّا فيه مظنّة للعقاب ولكن لا محصّل لإجرائه في الاستحباب المشكوك ؛ لأنّه : إن اريد بذلك إثبات الترخيص في الترك فهو متيقّن في نفسه ، وإن اريد عدم رجحان الاحتياط فهو معلوم البطلان ؛ لوضوح أنّ الاحتياط راجح على أيّ حال.

٣٨٨

٢ ـ قاعدة منجّزية العلم الإجمالي

كلّ ما تقدّم كان في تحديد الوظيفة العمليّة في حالات الشكّ البدويّ المجرّد عن العلم الإجماليّ.

وقد نفترض الشكّ في إطار علمٍ إجماليّ ، والعلم الإجماليّ ـ كما عرفنا سابقاً ـ علم بالجامع مع شكوكٍ بعدد أطراف العلم ، وكلّ شكٍّ يمثّل احتمالاً من احتمالات انطباق الجامع ، ومورد كلّ واحدٍ من هذه الاحتمالات يسمّى بطرفٍ من أطراف العلم الإجماليّ ، والواقع المجمل المردّد بينها هو المعلوم بالإجمال.

والكلام في تحديد الوظيفة العمليّة تجاه الشكّ المقرون بالعلم الإجماليّ تارةً يقع بلحاظ حكم العقل وبقطع النظر عن الاصول الشرعيّة المؤمّنة كأصالة البراءة ، واخرى يقع بلحاظ تلك الاصول ، فهنا مقامان :

منجّزيّة العلم الإجماليّ عقلاً :

أمّا المقام الأوّل فلا شكّ في أنّ العلم بالجامع الذي يتضمّنه العلم الإجماليّ حجّة ومنجّز. ولكنّ السؤال أنّه ما هو المنجّز بهذا العلم؟

فإذا علم بوجوب الظهر أو الجمعة وكان الواجب في الواقع الظهر فلا شكّ في أنّ الوجوب يتنجّز بالعلم الإجماليّ ، وإنّما البحث في أنّ الوجوب بأيّ مقدارٍ يتنجّز بالعلم؟ فهل يتنجّز وجوب صلاة الظهر خاصّةً بوصفه المصداق المحقّق واقعاً للجامع المعلوم ، أو كلا الوجوبين المعلوم تحقّق الجامع بينهما ، أو الوجوب

٣٨٩

بمقدار إضافته إلى الجامع بين الظهر والجمعة لا إلى الظهر بالخصوص ولا إلى الجمعة كذلك؟

فعلى الأوّل يدخل في العهدة ـ بسبب العلم ـ صلاة الظهر خاصّةً باعتبارها الواجب الواقعيّ الذي تنجّز بالعلم الإجماليّ ، ولكن حيث إنّ المكلّف لا يميّز الواجب الواقعيّ عن غيره لزمه الإتيان بالطرفين ليضمن الإتيان بما تنجّز واشتغلت به عهدته ، ويسمّى الإتيان بكلا الطرفين «موافقة قطعيّة للتكليف المعلوم بالإجمال».

وعلى الثاني يدخل في العهدة ـ بسبب العلم ـ كلتا الصلاتين معاً ، فتكون الموافقة القطعيّة واجبةً عقلاً بسبب العلم المذكور مباشرةً.

وعلى الثالث يدخل في العهدة ـ بسبب العلم ـ الجامع بين الصلاتين ؛ لأنّ الوجوب لم يتنجّز بالعلم إلاّبقدر إضافته إلى الجامع ، فلا يسعه ترك الجامع بترك كلا الطرفين معاً ، ويسمّى تركهما معاً بالمخالفة القطعيّة للتكليف المعلوم بالإجمال ، فيكفيه أن يأتي بأحدهما ؛ لأنّ ذلك يفي بالجامع ، ويسمّى الإتيان بأحد الطرفين دون الآخر «موافقة احتماليّة».

وقد يقال بالافتراض الأوّل باعتبار أنّ المصداق الواقعيّ هو المطابق الخارجيّ للصورة العلميّة ، وحيث إنّ العلم ينجّز بما هو مرآة للخارج ، ولا خارج بإزائه إلاّذلك المصداق فيكون هو المنجّز بالعلم.

وقد يقال بالافتراض الثانيّ باعتبار أنّ العلم بالجامع نسبته بما هو إلى كلٍّ من الطرفين على نحو واحد ، ومجرّد كون أحد الطرفين محقّقاً دون الآخر لا يجعل الجامع بما هو معلوم منطبقاً عليه دون الآخر.

وقد يقال بالافتراض الثالث باعتبار أنّ العلم حيث إنّه لا يسري من الجامع إلى أيٍّ من الطرفين بخصوصه ، فالتنجّز المعلوم له يقف على الجامع أيضاً ؛ ولا

٣٩٠

يسري منه ، وهذا هو الصحيح.

وعليه فإن بُني على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ فاللازم رفع اليد عن هذه القاعدة بقدر ما تنجّز بالعلم ؛ وهو الجامع ، فكلّ من الطرفين لا يكون منجّزاً بخصوصيّته ؛ بل بجامعه ، وينتج حينئذٍ أنّ العلم الإجماليّ يستتبع عقلاً حرمة المخالفةالقطعيّة دون وجوب الموافقة القطعيّة.

وإن بُني على مسلك حقّ الطاعة فالجامع منجّز بالعلم ، وكلّ من الخصوصيّتين للطرفين منجّزة بالاحتمال ، وبذلك تُحرم المخالفة القطعيّة ؛ وتجب الموافقة القطعيّة عقلاً ، غير أنّ حرمة المخالفة القطعيّة عقلاً تمثّل منجّزيّة العلم ، ووجوب الموافقة القطعيّة يمثّل منجّزيّة مجموع الاحتمالين.

وعلى هذا فالمسلكان مشتركان في التسليم بتنجّز الجامع بالعلم ، ويمتاز المسلك الثاني بتنجّز الطرفين بالاحتمال.

هذا كلّه في المقام الأوّل.

جريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي :

وأمّا المقام الثاني ـ وهو الكلام عن جريان الاصول الشرعيّة المؤمّنة في أطراف العلم الإجماليّ ـ فهو تارةً بلحاظ عالم الإمكان ، واخرى بلحاظ عالم الوقوع.

أمّا بلحاظ عالم الإمكان فقد ذهب المشهور إلى استحالة جريان البراءة وأمثالها في كلّ أطراف العلم الإجماليّ لأمرين :

الأوّل : أنّها ترخيص في المخالفة القطعيّة ، والمخالفة القطعيّة معصية محرّمة وقبيحة عقلاً ، فلا يعقل ورود الترخيص فيها من قبل الشارع.

وهذا الكلام ليس بشيء ؛ لأنّه يرتبط بتشخيص نوعيّة حكم العقل بحرمة

٣٩١

المخالفة القطعيّة للتكليف المعلوم بالإجمال ، فإن كان حكماً معلّقاً على عدم ورود الترخيص الظاهريّ من المولى على الخلاف ، فلا يكون الترخيص المولويّ مصادماً له ؛ بل رافعاً لموضوعه ، فمردّ الاستحالة إلى دعوى أنّ حكم العقل ليس معلّقاً ، بل هو منجّز ومطلق ، وهي دعوى غير مبرهنةٍ ولا واضحة.

الثاني : أنّ الترخيص في المخالفة القطعيّة ينافي الوجوب الواقعيّ المعلوم بالإجمال ، فبدلاً عن الاستدلال بالمنافاة بين الترخيص المذكور وحكم العقل ـ كما في الوجه السابق ـ يستدلّ بالمنافاة بينه وبين الوجوب الواقعيّ المعلوم ؛ لِمَا تقدّم من أنّ الأحكام التكليفيّة متنافية ومتضادّة ، فلا يمكن أن يوجب المولى شيئاً ويرخّص في تركه في وقتٍ واحد.

وهذا الكلام [إنّما يتمّ] إذا كان الترخيص المذكور واقعيّاً ، أي لم يؤخذ في موضوعه الشكّ ، كما لو قيل بأ نّك مرخّص في ترك الواجب الواقعيّ المعلوم إجمالاً ، ولا يتمّ إذا كان الترخيص المذكور متمثّلاً في ترخيصين ظاهريّين كلّ منهما مجعول على طرفٍ ومترتّب على الشكّ في ذلك الطرف ؛ وذلك لِمَا تقدّم من أنّ التنافي إنّما هو بين الأحكام الواقعيّة ، لا بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ ، فالوجوب الواقعيّ ينافيه الترخيص الواقعيّ في مورده ، لا الترخيص الظاهريّ ، وعليه فلا محذور ثبوتاً في جعل البراءة في كلٍّ من الطرفين بوصفها حكماً ظاهريّاً.

وأمّا بلحاظ عالم الوقوع فقد يقال : إنّ إطلاق دليل البراءة شامل لكلٍّ من طرفي العلم الإجماليّ ؛ لأنّه مشكوك وممّا لا يعلم ، فلو كنّا قد بنينا على استحالة الترخيص في المخالفة القطعيّة في ما تقدّم ، لكانت هذه الاستحالة قرينةً عقليّةً على رفع اليد عن إطلاق دليل البراءة بالنسبة إلى أحد الطرفين على الأقلّ ؛ لئلاّ يلزم الترخيص في المخالفة القطعيّة ، وحيث لا معيّن للطرف الخارج عن دليل

٣٩٢

الأصل فإطلاق دليل الأصل لكلّ طرفٍ يعارض إطلاقه للطرف الآخر ، ويسقط الإطلاقان معاً ، فلا تجري البراءة الشرعيّة هنا ولا هناك ؛ للتعارض بين الأصلين ، ويجري كلّ فقيهٍ حينئذٍ وفقاً للمبنى الذي اختاره في المقام الأوّل لتشخيص حكم العقل بالمنجّزيّة.

فعلى مسلك حقّ الطاعة القائل بمنجّزيّة العلم والاحتمال معاً تجب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ الاحتمال في كلٍّ من الطرفين منجّز عقلاً مالم يرد إذن في مخالفته ، والمفروض عدم ثبوت الإذن.

وعلى مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ القائل بمنجّزيّة العلم دون الاحتمال فيقتصر على مقدار ما تقتضيه منجّزيّة العلم بالجامع على الافتراضات الثلاثة المتقدّمة فيها.

وأمّا إذا لم نبنِ على استحالة الترخيص في المخالفة القطعيّة عن طريق إجراء أصلين مؤمّنين في الطرفين فقد يقال حينئذٍ : إنّه لا يبقى مانع من التمسّك بإطلاق دليل البراءة لإثبات جريانها في كلٍّ من الطرفين ، ونتيجة ذلك جواز المخالفة القطعيّة.

ولكنّ الصحيح مع هذا عدم جواز التمسّك بالإطلاق المذكور ، وذلك :

أوّلاً : لأنّ الترخيص في المخالفة القطعيّة وإن لم يكن منافياً عقلاً للتكليف الواقعيّ المعلوم بالإجمال إذا كان ترخيصاً منتزعاً عن حكمين ظاهريّين في الطرفين ولكنّه منافٍ له عقلائياً وعرفاً ، ويكفي ذلك في تعذّر الأخذ بإطلاق دليل البراءة.

وثانياً : أنّ الجامع قد تمّ عليه البيان بالعلم الإجماليّ ، فيدخل في مفهوم

٣٩٣

الغاية لقوله تعالى : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١).

ومقتضى مفهوم الغاية أنّه مع بعث الرسول وإقامة الحجّة يستحقّ العقاب ، وهذا ينافي إطلاق دليل الأصل المقتضي للترخيص في المخالفة القطعيّة.

وبذلك نصل إلى نفس النتائج المشار إليها سابقاً على تقدير استحالة الترخيص في المخالفة القطعيّة ، فلا تجري البراءة في كلا الطرفين ؛ لأنّ ذلك ينافي التكليف المعلوم بالإجمال ولو عقلائيّاً ، ولا تجري في أحدهما دون الآخر ؛ إذ لا مبرّر لترجيح أحدهما على الآخر ، مع أنّ نسبتهما إلى دليل الأصل واحدة.

وقد اتّضح من مجموع ما تقدّم : أنّ النتيجة النهائية بناءً على مسلك حقّ الطاعة حرمةالمخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة معاً ، وبناءً على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ حرمة المخالفة القطعيّة وعدم وجوب الموافقة القطعيّة.

وبما ذكرناه على المسلك المختار يُعرف أنّ القاعدة العمليّة الثانويّة ـ وهي البراءة الشرعيّة ـ تسقط في موارد العلم الإجماليّ ، وتوجد قاعدة عمليّة ثالثة تطابق مفاد القاعدة العمليّة الاولى ، ونسمّي هذه القاعدة الثالثة بأصالة الاشتغال في موارد العلم الإجماليّ ، أو بقاعدة منجّزيّة العلم الإجماليّ.

تحديد أركان هذه القاعدة :

نستطيع أن نستخلص ممّا تقدّم : أنّ قاعدة منجّزيّة العلم الإجماليّ لها عدّة أركان :

الأوّل : وجود العلم بالجامع ، إذ لولا العلم بالجامع لكانت الشبهة في كلّ

__________________

(١) الإسراء : ١٥

٣٩٤

طرفٍ بدويّةً وتجري فيها البراءة الشرعيّة.

الثاني : وقوف العلم على الجامع وعدم سرايته إلى الفرد ، إذ لو كان الجامع معلوماً في ضمن فردٍ معيّنٍ لكان علماً تفصيليّاً لا إجماليّاً ، ولَما كان منجِّزاً إلاّ بالنسبة إلى ذلك الفرد بالخصوص.

الثالث : أن يكون كلّ من الطرفين مشمولاً في نفسه وبقطع النظر عن التعارض الناشئ من العلم الإجماليّ لدليل أصالة البراءة ، إذ لو كان أحدهما ـ مثلاً ـ غير مشمولٍ لدليل البراءة لسببٍ آخر لجرت البراءة في الطرف الآخر بدون محذور ؛ لأنّ البراءة في طرفٍ واحدٍ لا تعني الترخيص في المخالفة القطعيّة ، وإنّما لا تجري لأنّها معارضة بالبراءة في الطرف الآخر ، فإذا افترضنا أنّ الطرف الآخر كان محروماً من البراءة لسببٍ آخر فلا مانع من جريان البراءة في الطرف المقابل له ، ومع جريانها لا تجب الموافقة القطعيّة.

الرابع : أن يكون جريان البراءة في كلٍّ من الطرفين مؤدّياً إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة ، وإمكان وقوعها خارجاً على وجهٍ مأذون فيه ، إذ لو كانت المخالفة القطعيّة ممتنعةً على المكلّف حتّى مع الإذن والترخيص ـ لقصورٍ في قدرته ـ فلا محذور في إجراء البراءة في كلٍّ من الطرفين ؛ لأنّ ذلك لن يؤدّي إلى تمكين المكلّف من إيقاع المخالفة القطعيّة ليكون منافياً للتكليف المعلوم بالإجمال عقلاً أو عقلائيّاً.

وكلّ الحالات التي تسقط فيها قاعدة منجّزيّة العلم الإجماليّ يرجع فيها هذا السقوط إلى اختلال أحد هذه الأركان الأربعة.

فيختلّ الركن الأوّل ـ مثلاً ـ فيما إذا انكشف للعالم بالإجمال خطؤه ، أو تشكّك في ذلك فيزول علمه بالجامع.

وكذلك فيما إذا كان في أحد الطرفين ما يوجب سقوط التكليف لو كان مورداً له ، ومثاله : أن يعلم إجمالاً بأنّ أحد الحليبين من الحليب المحرّم ، ولكنّه

٣٩٥

مضطرّ إلى الحليب البارد منهما اضطراراً يسقط الحرمة لو كان هو الحرام ، ففي مثل ذلك لا يوجد علم بجامع الحرمة ، إذ لو كان الحليب المحرّم هو الحليب البارد فلا حرمة فيه فعلاً بسبب الاضطرار ، ولا في الآخر ، ولو كان هو الحليب الآخر فالحرمة ثابتة فعلاً ، وهذا يعني أنّ الحرمة لا يُعلم ثبوتها فعلاً في أحد الحليبين ؛ ومن أجل ذلك يقال : إنّ الاضطرار إلى طرفٍ معيّنٍ للعلم الإجماليّ يوجب سقوطه عن المنجّزيّة.

ومن حالات اختلال الركن الأوّل : أن يأتي المكلّف بفعلٍ مترسّلاً ، ثمّ يعلم إجمالاً بأنّ الشارع أوجب أحد الأمرين : إمّا ذلك الفعل ، وإمّا فعل آخر. فعلى الأوّل يكون التكليف قد سقط بالإتيان بالمكلّف به ، وعلى الثاني يكون ثابتاً ، فالتكليف لا يعلم ثبوته فعلاً.

ويختلّ الركن الثاني فيما إذا علم المكلّف إجمالاً بنجاسة أحد المائعين ، ثمّ علم تفصيلاً بأنّ أحدهما المعيَّن نجس ، ففي مثل ذلك لا يبقى العلم واقفاً على الجامع ، بل يسري إلى الفرد ، وهو معنى ما يقال من انحلال العلم الإجماليّ بالعلم التفصيليّ والشكّ البدويّ.

وكما ينحلّ العلم الإجماليّ بالعلم التفصيليّ نتيجةً لاختلال الركن الثاني كذلك قد ينحلّ بعلمٍ إجماليٍّ أصغر منه لاختلال هذا الركن أيضاً.

وتوضيح ذلك : أنّا قد نعلم إجمالاً بنجاسة مائعين في ضمن عشرة ، فهذا العلم الإجماليّ له عشرة أطراف ؛ والمعلوم نجاسته فيه إثنان منها ، وقد نعلم بعد ذلك إجمالاً بنجاسة مائعين في ضمن هذه الخمسة بالذات من تلك العشرة ، فينحلّ العلم الإجماليّ الأوّل بالعلم الإجماليّ الثاني ، ويكون الشكّ في الخمسة الاخرى شكّاً بدويّاً ؛ لأنّ العلم بجامع اثنين في عشرةٍ سرى إلى خصوصيّةٍ جديدة ، وهي كون الاثنين في ضمن الخمسة ، فلم يعد التردّد في نطاق العشرة ، بل في نطاق الخمسة.

٣٩٦

ويسمّى العلم الإجماليّ المنحلّ بالعلم الإجماليّ الكبير ، والعلم الإجماليّ المسبّب لانحلاله بالعلم الإجماليّ الصغير ؛ لأنّ أطرافه أقلّ عدداً. ويعبّر عن ذلك بقاعدة انحلال العلم الإجماليّ الكبير بالعلم الإجماليّ الصغير.

ويتوقّف انحلال علمٍ إجماليٍّ بعلمٍ إجماليٍّ ثانٍ :

أوّلاً : على أن تكون أطراف الثاني بعض أطراف العلم الأوّل المنحلّ ، كما رأينا في المثال.

وثانياً : على أن لا يزيد عدد المعلوم بالإجمال في العلم الأوّل المنحلّ على المعلوم إجمالاً بالعلم الثاني ، فلو زاد لم ينحلّ ، كما لو افترضنا في المثال أنّ العلم الثاني تعلّق بنجاسة مائعٍ في ضمن الخمسة فإنّ العلم الإجماليّ بنجاسة المائع الثاني في ضمن العشرة يظل ثابتاً.

ويختلّ الركن الثالث فيما إذا كان أحد الطرفين مجرىً لاستصحاب منجّزٍ للتكليف ، لا للبراءة ، ومثاله : أن يعلم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين ، غير أنّ أحدهما كان نجساً في السابق ويشكّ في بقاء نجاسته ، ففي هذه الحالة يكون الإناء المسبوق بالنجاسة مجرىً في نفسه لاستصحاب النجاسة ، لا لأصالة البراءة أو أصالة الطهارة ، فتجري الاصول المؤمّنة في الإناء الآخر بدون معارض ، وتبطل بذلك منجّزيّة العلم الإجماليّ ، ويسمّى ذلك بالانحلال الحكميّ تمييزاً له عن الانحلال الحقيقيّ الذي تقدّم في حالة اختلال الركن الثاني.

وإنّما يسمّى بالانحلال الحكميّ لأنّ العلم الإجماليّ موجود حقيقةً ولكنّه لا حكم له عمليّاً ؛ لأنّ الإناء المسبوق بالنجاسة حكمه منجّز بالاستصحاب ، والإناء الآخر لا منجّزيّة لحكمه ؛ لجريان الأصل المؤمّن فيه ، فكأنّ العلم الإجماليّ غير موجود ، وهذا هو محصّل ما يقال من أنّ العلم الإجماليّ إذا كان أحد طرفيه مجرىً لأصلٍ مثبتٍ للتكليف وكان الطرف الآخر مجرىً لأصلٍ مؤمّنٍ انحلّ العلم

٣٩٧

الإجماليّ.

ومثال آخر لاختلال هذا الركن ، وهو : أن يكون أحد طرفي العلم الإجماليّ خارجاً عن محلّ الابتلاء ، ومعنى الخروج كذلك : أن تكون المخالفة في هذا الطرف ممّا لا تقع من المكلّف عادةً ؛ لأنّ ظروفه لا تيسّر له ذلك وإن كانت لا تعجّزه تعجيزاً حقيقيّاً ، فالمخالفة غير مقدورةٍ عرفاً وإن كانت مقدورةً عقلاً ، كما لو علم بنجاسة وحرمة طعامٍ مردّدٍ بين اللبن الموجود على مائدته ولبنٍ موجودٍ في بلدٍ آخر لا يصل إليه عادةً في حياته ؛ وإن كان الوصول ممكناً من الناحية النظريّة والعقليّة ، ففي هذه الحالة لا يكون هذا اللبن الخارج عن محلّ الابتلاء مجرىً للبراءة في نفسه ، إذ لا محصّل عرفاً للتأمين من ناحية تكليفٍ لا يتعرّض المكلّف إلى مخالفته عادةً ، فتجري البراءة عن حرمة اللبن الآخر بدون معارض.

وهذا هو معنى ما يقال عادةً من أنّ تنجيز العلم الإجماليّ يشترط فيه دخول كلا طرفيه في محلّ الابتلاء.

ويختلّ الركن الرابع في حالات :

منها : حالة دوران الأمر بين المحذورين ، وهي : ما إذا علم إجمالاً بأنّ هذا الفعل إمّا واجب وإمّا حرام ، فإنّ هذا العلم الإجماليّ لا تمكن مخالفته القطعيّة ، كما لا تمكن موافقته القطعيّة ، فإذا جرت البراءة عن الوجوب وجرت البراءة عن الحرمة معاً لم يلزم محذور الترخيص في المخالفة القطعيّة ؛ لأنّها غير معقولةٍ على كلّ حال.

ومنها : حالة كون الأطراف غير محصورة ، وتسمّى بالشبهة غير المحصورة ، وهي : أن يكون للعلم الإجماليّ أطراف كثيرة جدّاً على نحوٍ لا يتيسّر للمكلّف ارتكاب المخالفة فيهاجميعاً لكثرتها ، ففي مثل ذلك تجري البراءة في جميع الأطراف ، إذ لا يلزم من ذلك تمكين المكلّف من المخالفة القطعيّة.

٣٩٨

[دوران الأمر بين الأقل والأكثر]

والآن بعد أن اتّضحت القاعدة العمليّة الثانويّة وهي البراءة الشرعيّة ، والقاعدة العمليّة الثالثة وهي منجّزيّة العلم الإجماليّ نستعرض جملةً من الحالات التي وقع البحث في إدراجها ضمن القاعدة الاولى أو الثانية.

حالة تردّد أجزاء الواجب بين الأقلّ والأكثر :

والحالة الرئيسيّة من حالات التردّد هي : ما إذا وجب مركّب بوجوبٍ واحدٍ وكان كلّ جزءٍ في المركّب واجباً بوجوب ضمنيّ ؛ وتردّد أمر هذا المركّب بين أن يكون مشتملاً على تسعة أجزاءٍ أو عشرةٍ ، فهل تدخل هذه الحالة في حالات العلم الإجماليّ ، أو حالات الشكّ البدويّ؟

ويجب أن نعرف قبل كلّ شيءٍ أنّ العلم الإجماليّ لا يمكن أن يوجد إلاّإذا افترض جامع بين فردين متباينين وكان ذلك الجامع معلوماً ومردّداً في انطباقه بين الفردين ، وأمّا إذا كان الجامع معلوماً في ضمن أحد الفردين ويحتمل وجوده في ضمن فردٍ آخر أيضاً فليس هذا من العلم الإجماليّ ، بل هو علم تفصيليّ بالفرد الأوّل مع الشكّ البدويّ في الفرد الثاني ، وهذا معناه أنّ طرفي العلم الإجماليّ يجب أن يكونا متباينين ، ويستحيل أن يكونا متداخلين تداخل الأقلّ والأكثر.

وعلى هذا الأساس يبدو أنّ الحالة المطروحة للبحث ليست من حالات العلم الإجماليّ ، إذ ليس فيها علم بالجامع بين فردين متباينين ، بل علم تفصيليّ بوجوب التسعة وشكّ بدويّ في وجوب العاشر. وقول القائل : إنّا نعلم بوجوب التسعة أو العشرة كلام صوريّ ؛ لأنّ التسعة ليست مباينةً للعشرة.

٣٩٩

وقد حاول بعض المحقّقين (١) إبراز أنّ الدوران في الحقيقة بين متباينين لا بين متداخلين لكي يتشكّل علم إجماليّ ، وتطبّق القاعدة الثالثة ، وحاصل المحاولة : أنّ الوجوب المعلوم في الحالة المذكورة إمّا متعلّق بالتسعة المطلقة ، أو بالتسعة المقيّدة بالجزء العاشر ، وإطلاق التسعة وتقييدها حالتان متباينتان ، وبذلك يتشكّل علم إجماليّ بوجوب التسعة أو العشرة.

فإن قيل : إنّ العلم الإجماليّ بوجوب التسعة أو العشرة منحلّ إلى العلم التفصيليّ بأحد طرفيه ، والشكّ البدويّ في الطرف الآخر ، لأنّ التسعة معلومة الوجوب على أيّ حال ، والجزءالعاشر مشكوك الوجوب ، وإذا انحلّ العلم الإجماليّ سقط عن المنجّزيّة.

قلنا : إنّ طرفي العلم الإجماليّ هما : وجوب التسعة المطلقة ، ووجوب التسعة المقيّدة بالعاشر ، وكلّ من هذين الطرفين ليس معلوماً بالتفصيل ، وإنّما المعلوم وجوب التسعة على الإجمال ، وهذا نفس العلم الإجماليّ فكيف ينحلّ به؟!

فالصحيح أن يتّجه البحث إلى أنّه هل يوجد علم إجماليّ ، أوْ لا؟ بدلاً عن البحث في أنّه هل ينحلّ بعد افتراض وجوده؟

والتحقيق : هو عدم وجود علمٍ إجماليٍّ بالتكليف ؛ وذلك لأنّ وجوب التسعة المطلقة لا يعني وجوب التسعة ووجوب الإطلاق ، فإنّ الإطلاق كيفيّة في لحاظ المولى تنتج عدم وجوب العاشر وليس شيئاً يوجبه على المكلّف. وأمّا وجوب التسعة في ضمن العشرة فمعناه وجوب التسعة ووجوب العاشر ، وهذا معناه أنّنا حينما نلحظ ما أوجبه المولى على المكلّف نجد أنّه ليس مردّداً بين متباينين ، بل بين الأقلّ والأكثر ، فلا يمكن تصوير العلم الإجماليّ بالوجوب ،

__________________

(١) راجع الفصول : ١٠٣ ، وهداية المسترشدين : ٢٥٤

٤٠٠