دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

٢ ـ حجّية الدليل العقلي

الدليل العقليّ تارةً يكون قطعيّاً ، واخرى يكون ظنّيّاً.

فاذا كان الدليل العقليّ قطعيّاً ومؤدّياً إلى العلم بالحكم الشرعيّ فهو حجّة من أجل حجّيّة القطع ، وهي حجّيّة ثابتة للقطع الطريقيّ مهما كان دليله ومستنده.

ولكن هناك مَن خالف (١) في ذلك ، وبنى على أنّ القطع بالحكم الشرعيّ الناشئ من الدليل العقليّ لا أثر له ، ولا يجوز التعويل عليه ، وليس ذلك تجريداً للقطع الطريقيّ عن الحجّية حتّى يقال بأ نّه مستحيل ، بل ادّعي أنّ بالإمكان تخريجه على أساس تحويل القطع من طريقيٍّ إلى موضوعيٍّ بأن يقال :

إنّ الأحكام الشرعيّة قد اخذ في موضوعها قيد ، وهو عدم العلم بجعلها من ناحية الدليل العقليّ ، فمع العلم بجعلها من ناحية الدليل العقليّ لا يكون الحكم الشرعيّ ثابتاً ؛ لانتفاء قيده ، فلا أثر للعلم المذكور ، إذ لا حكم في هذه الحالة (٢).

وقد يقال : كيف يعقل أن يقال لمن علم بجعل الحكم الشرعيّ بالدليل : إنّ الحكم غير ثابتٍ مع أنّه عالم به؟

والجواب على ذلك : أنّ هذا عالم بجعل الحكم ، وما نريد أن ننفيه عنه ليس هو الجعل ، بل المجعول ، فالعلم العقليّ بالجعل الشرعيّ يؤخذ عدمه قيداً في المجعول ، فلا مجعول مع وجود هذا العلم العقليّ ، وإن كان الجعل الشرعيّ ثابتاً فلا محذور في هذا

__________________

(١) وهم الأخباريون ، منهم الأمين الاسترآبادي راجع الفوائد المدنية : ١٢٩ ـ ١٣١

(٢) فوائد الاصول : ١٤

٣٦١

التخريج ، ولكنّه بحاجةٍ إلى دليلٍ شرعيٍّ على تقييد الأحكام الواقعيّة بالوجه المذكور ، ولا يوجد دليل من هذا القبيل.

وأمّا إذا كان الدليل العقليّ ظنّيّاً (كما في الاستقراء الناقص والقياس ، وفي كلّ قضيّةٍ من القضايا العقليّة المتقدّمة إذا لم يجزم بها العقل ، ولكنّه ظنّ بها) فهذا الدليل يحتاج إلى دليلٍ على حجّيّته وجواز التعويل عليه ، ولا دليل على ذلك ، بل قام الدليل على عدم جواز التعويل على الحدْس والرأي والقياس.

٣٦٢

الاصول العمليّة

١ ـ القاعدة العمليّة في حالة الشكّ.

٢ ـ قاعدة منجّزيّة العلم الإجمالي.

[دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر].

٣ ـ الاستصحاب.

٣٦٣
٣٦٤

١ ـ القاعدة العمليّة في حالةِ الشكّ

قلنا سابقاً (١) : إنّ الفقيه تارةً يحصل على دليلٍ يحرز به الحكم الشرعيّ ، واخرى لا يتيسّر له إحراز الحكم ، ولكنّه يحصل على دليلٍ يحدّد الموقف العمليّ تجاه التكليف المشكوك ، وهو الذي يسمّى بالأصل العملي. وهذا القسم من الأدلّة هو ما سنتحدّث عنه هنا :

__________________

(١) مضى البحث عنه تحت عنوان : تنويع البحث

٣٦٥

القاعدة العمليّة الأوّليّة في حالة الشكّ

كلّما شكّ المكلّف في تكليفٍ شرعيٍّ ولم يتيسّر له إثباته أو نفيه فلابدّ له من تحديد موقفه العمليّ تجاه هذاالحكم المشكوك. ويوجد مسلكان في تحديد هذاالموقف :

الأوّل : مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وهو المسلك المشهور القائل بأنّ التكليف مادام لم يتمّ عليه البيان فيقبح من المولى أن يعاقب على مخالفته.

وهذا المسلك يعني بحسب التحليل ـ كما عرفنا في بحثٍ سابقٍ (١) ـ أنّ حقّ الطاعة للمولى مختصّ بالتكاليف المعلومة ولا يشمل المشكوكة.

الثاني : مسلك حقّ الطاعة الذي تقدّم شرحه ، وهو مبنيّ على الإيمان بأنّ حقّ الطاعة للمولى يشمل كلّ تكليفٍ غير معلوم العدم مالم يأذن المولى نفسه في عدم التحفّظ من ناحيته.

فبناءً على المسلك الأوّل تكون القاعدة العمليّة الأوّلية هي البراءة بحكم العقل ، وبناءً على المسلك الثاني تكون القاعدة المذكورة هي أصالة شغل الذمّة بحكم العقل مالم يثبت إذن من الشارع في عدم التحفّظ.

[الاستدلال على قبح العقاب بلا بيان] :

ويظهر من كلام المحقّق النائينيّ رحمه‌الله (٢) : أنّه حاول الاستدلال على قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ والبرهنة عليها ، ويمكن تلخيص استدلاله في وجهين :

__________________

(١) مضى في بحث المنهج على مسلك قبح العقاب بلا بيان

(٢) فوائد الاصول ٣ : ٢١٥

٣٦٦

أحدهما : أنّ التكليف إنّما يكون محرّكاً للعبد بوجوده العلمي ، لا بوجوده الواقعيّ ، كما هو الحال في سائر الأغراض الاخرى ، فالأسد ـ مثلاً ـ إنّما يحرّك الإنسان نحو الفرار بوجوده المعلوم لابوجوده الواقعيّ ، وعليه فلامقتضي للتحرّك مع عدم لعلم. ومن الواضح أنّ العقاب على عدم التحرّك مع أنّه لا مقتضي للتحرّك قبيح.

والآخر : الاستشهاد بالأعراف العقلائيّة ، واستقباح معاقبة الآمر في المجتمعات العقلائيّة مأموره على مخالفة تكليفٍ غير واصل.

أمّا الوجه الأوّل فيرد عليه : أنّ المحرّك للعبد إنّما هو الخروج عن عهدة حقّ الطاعة للمولى ، وغرضه الشخصيّ قائم بالخروج عن هذه العهدة ، لابامتثال التكليف بعنوانه ، فلابدّ من تحديد حدود هذه العهدة ، وأنّ حقّ الطاعة هل يشمل التكاليف المشكوكة ، أوْ لا؟

فإن ادّعي عدم الشمول كان مصادرةً وخرج البيان عن كونه برهاناً ، وإن لم يفرغ عن عدم الشمول فلا يتمّ البرهان المذكور ، إذ كيف يفترض أنّ التحرّك مع عدم العلم بالتكليف بلا مقتضٍ ، مع أنّ المقتضي للتحرّك هو حقّ الطاعة الذي ندّعي شموله للتكاليف المشكوكة أيضاً؟!

وأمّا الوجه الثاني فهو قياس لحقّ الطاعة الثابت للمولى (سبحانه وتعالى) على حقّ الطاعة الثابت للآمر العقلائيّ ، وهو قياس بلا موجب ؛ لأنّ حقّ الطاعة للآمر العقلائيّ مجعول لا محالة من قبل العقلاء ، أو آمرٍ أعلى ، فيكون محدّداً سعةً وضيقاً تبعاً لجعله ، وهو عادةً يجعل في حدود التكاليف المقطوعة ، وأمّا حقّ الطاعة للمولى سبحانه فهو حقّ ذاتيّ تكوينيّ غير مجعول ، ولا يلزم من ضيق دائرة ذلك الحقّ المجعول ضيق دائرة هذا الحقّ الذاتيّ ، كما هو واضح ، فالمعوّل في تحديد دائرة هذا الحقّ على وجدان العقل العملي ، وهو يقتضي التعميم.

فالصحيح إذن : أنّ القاعدة العمليّة الأوّليّة هي أصالة الاشتغال بحكم العقل مالم يثبت الترخيص في ترك التحفّظ.

٣٦٧

القاعدة العمليّة الثانويّة في حالةِ الشكّ

والقاعدة العمليّة الثانويّة في حالة الشكّ التي ترفع موضوع القاعدة الاولى هي البراءة الشرعيّة.

ومفادها : الإذن من الشارع في ترك التحفّظ والاحتياط تجاه التكليف المشكوك ، ولمَّا كانت القاعدة الاولى مقيّدةً بعدم ثبوت الترخيص في ترك التحفّظ كانت البراءة الشرعيّة رافعةً لقيدها ، ونافيةً لموضوعها ، ومبدّلةً للضيق بالسعة.

[أدلّة البراءة الشرعيّة] :

ويستدلّ لإثبات البراءة الشرعيّة بعددٍ من الآيات الكريمة والروايات :

أمّا الآيات فعديدة :

منها : قوله سبحانه وتعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلاّ مَا آتَاهَا) (١).

وتقريب الاستدلال بالآية الكريمة : أنّ اسم الموصول فيها إمّا أن يراد به المال ، أو الفعل ، أو التكليف ، أو الجامع ، والأوّل هو المتيقّن ؛ لأنّه المناسب لمورد الآية حيث أمرت بالنفقة وعقّبت ذلك بالكبرى المذكورة ، ولكن لاموجب للاقتصار على المتيقّن ، بل نتمسّك بالإطلاق لإثبات الاحتمال الأخير ، فيكون معنى الآية الكريمة : أنّ الله لا يكلّف مالاً إلاّبقدر ما رزق وأعطى ، ولا يكلّف بفعل إلاّفي حدود ما أقدر عليه من أفعال ، ولا يكلّف بتكليفٍ إلاّإذا كان قد آتاه وأوصله إلى المكلّف ، فالإيتاء بالنسبة إلى كلٍّ من «المال» و «الفعل» و «التكليف» بالنحو

__________________

(١) الطلاق : ٧

٣٦٨

المناسب له. فينتج : أنّ الله تعالى لا يجعل المكلّف مسؤولاً تجاه تكليفٍ غير واصل ، وهو المطلوب.

وقد اعترض الشيخ الأنصاريّ على هذا الاستدلال (١) : بأنّ إرادة الجامع من اسم الموصول غير ممكنة ؛ لأنّ اسم الموصول حينئذٍ بلحاظ شموله للتكليف يكون مفعولاً مطلقاً ، وبلحاظ شموله للمال يكون مفعولاً به ، والنسبة بين الفعل والمفعول المطلق تغاير النسبة بين الفعل والمفعول به ، فإنّ الاولى هي نسبة الحدث إلى طورٍ من أطواره ، والثانية هي نسبة المغاير إلى المغاير ، فيلزم من استعمال الموصول في الجامع إرادة كلتا النسبتين من هيئة ربط الفعل بمفعوله ، وهو من استعمال اللفظ في معنيين ، مع أنّ كلّ لفظٍ لا يستعمل إلاّفي معنىً واحد.

ومنها : قوله تعالى : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٢).

وتقريب الاستدلال بالآية الكريمة : أنّها تدلّ على أنّ الله تعالى لا يعذّب حتّى يبعث الرسول ، وليس الرسول إلاّكمثالٍ للبيان ، فكأ نّه قال : لا عقاب بلا بيان.

ويمكن الاعتراض على هذا الاستدلال : بأنّ غاية ما يقتضيه نفي العقاب في حالة عدم صدور البيان من الشارع ، لا في حالة صدوره وعدم وصوله إلى المكلّف ؛ لأنّ الرسول إنّما يؤخذ كمثالٍ لصدور البيان من الشارع ، لا للوصول الفعليّ إلى المكلّف ، وما نحن بصدده إنّما هو التأمين من ناحية تكليفٍ لم يصل إلينا بيانه حتّى ولو كان هذا البيان قد صدر من الشارع.

ومنها : قوله تعالى : (قُلْ لا أَجدُ في ما اوحِيَ إِليَّ مُحَرَّماً عَلى طَاعِمٍ يطْعَمُهُ إلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمَاً مَسْفُوحاً أَو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإنَّهُ رجْسٌ أَوْ فسْقاً اهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بهِ

__________________

(١) انظر فرائد الاصول ٢ : ٢١ ـ ٢٢

(٢) الإسراء : ١٥

٣٦٩

فَمَن اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإنَّ ربَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١).

وتقريب الاستدلال بالآية الكريمة : أنّ الله تعالى لَقّن نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيفيّة المحاجّة مع اليهود (في ما يرونه محرّماً) بأن يتمسّك بعدم الوجدان ، وهذا ظاهر في أنّ عدم الوجدان كافٍ للتأمين.

ويرد عليه : أنّ عدم وجدان النبيّ في ما اوحي إليه يساوق عدم الوجود الفعليّ للحكم ، فكيف يقاس على ذلك عدم وجدان المكلّف المحتمل أن يكون بسبب ضياع النصوص الشرعيّة؟

ومنها : قوله تعالى : (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنّ اللهَ بكُلِّ شَيءٍ عَلِيم) (٢).

وتقريب الاستدلال بالآية الكريمة : أنّ المراد بالإضلال فيها إمّا تسجيلهم ضالّين ومنحرفين ، وإمّا نوعٌ من العقاب ، كالخذلان والطرد من أبواب الرحمة ، وعلى أيّ حالٍ فقد انيط الإضلال ببيان ما يتّقون لهم ، وحيث اضيف البيان لهم فهو ظاهرفي وصوله إليهم ، فمع عدم وصول البيان لا عقاب ولا ضلال ، وهو معنى البراءة.

وأمّا الروايات فعديدة أيضاً :

منها : ما روي عن الصادق عليه‌السلام من قوله : «كلّ شيءٍ مطلق حتّى يرد فيه نهي» (٣).

والإطلاق يساوق السعة والتأمين ، والشاكّ يصدق بشأنه أنّه لم يرده النهي فيكون مؤمّناً عن التكليف المشكوك ، وهو المطلوب.

وقد يُعترض على هذا الاستدلال : بأنّ الورود تارةً يكون بمعنى الصدور ،

__________________

(١) الأنعام : ١٤٥

(٢) التوبة : ١١٥

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٧٣ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٧

٣٧٠

واخرى بمعنى الوصول ، فإذا كان مفاد الرواية جعل صدور النهي غايةً فلا يتمّ الاستدلال ؛ لأنّ الشاكّ يحتمل صدور النهي وتحقّق الغاية ، وإذا كان مفادها جعل وصول النهي إلى المكلّف غايةً ثبت المطلوب ، ولكن لا معيّن للثاني فلا يمكن الاستدلال بالرواية المذكورة.

وقد يجاب على ذلك : بأنّ الورود دائماً يستبطن حيثيّة الوفود على شيءٍ فلا يطلق على حيثيّة الصدور البحتة.

ولكن مع هذا لا يتمّ الاستدلال ، إذ لم يعلم أنّ الملحوظ فيه وفود النهي على المكلّف المساوق لوصوله إليه ، بل لعلّ الملحوظ وفوده على الشيء نفسه ، كما يناسبه قوله : «يرد فيه نهي» ، فكأنّ النهي يرد على المادّة ؛ فهناك مورود عليه ومورود عنه بقطع النظر عن المكلّف ، وهذا يعني أنّ الغاية صدور النهي من الشارع ووقوعه على المادّة ، سواء وصل إلى المكلّف أوْ لا ، فلا يتمّ الاستدلال.

ومنها : حديث الرفع ، وهو الحديث المرويّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومفاده : «رُفع عن امّتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما اكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة» (١).

وتقريب الاستدلال بفقرة «رُفع مالا يعلمون» يتمّ على مرحلتين :

الاولى : أنّ هذا الرفع يوجد فيه بدواً احتمالان :

أحدهما : أن يكون رفعاً واقعيّاً للتكليف المشكوك ، فيكون الحديث مقيّداً ومخصّصاً لإطلاق أدلّة الأحكام الواقعيّة الإلزاميّة بفرض العلم بها.

والآخر : أن يكون رفعاً ظاهريّاً ، بمعنى تأمين الشاكّ ونفي وجوب الاحتياط

__________________

(١) الخصال : ٤١٧ ، الحديث ٩ ، ووسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث الأول ، إلاّأ نّ فيه : ما لم ينطقوا

٣٧١

عليه في مقابل وضع التكليف المشكوك وضعاً ظاهريّاً بإيجاب الاحتياط تجاهه. وكلّ من الاحتمالين ينفع لإثبات السعة ؛ لأنّ التكليف المشكوك منفيّ : إمّا واقعاً ، وإمّا ظاهراً ، ولكنّ الاحتمال الأوّل ساقط ؛ لأنّه يؤدّي إلى تقيّد الأحكام الواقعيّة الإلزاميّة بالعلم بها ، وقد سبق أنّ أخذ العلم بالحكم قيداً لنفس الحكم مستحيل.

فإن قيل : أولستم قلتم بإمكان أخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول؟!

قلنا : نعم ، ولكنّ ظاهر الحديث أنّ المرفوع والمعلوم شيء واحد ، بمعنى أنّ الرفع والعلم يتبادلان على مركزٍ واحد ، فإذا افترضنا أنّ العلم بالجعل مأخوذ في موضوع المجعول فهذا معناه أنّ العلم لوحظ متعلّقاً بالجعل ، وأنّ الرفع إنّما هو رفع للمجعول بتقييده بالعلم بالجعل.

وهذا خلاف ظاهر الحديث ، فلابدّ إذن من افتراض أنّ الرفع يتعلّق بالمجعول ، وكذلك العلم ، فكأ نّه قال : الحكم المجعول مرفوع حتّى يُعلم به. وعلى هذاالأساس يتعيّن حمل الرفع على أنّه ظاهريّ لا واقعيّ ، وإلاّ لزم أخذ العلم بالمجعول قيداً لنفس المجعول ، وهو محال.

الثانية : أنّ الشكّ في التكليف تارةً يكون على نحو الشبهة الموضوعيّة ، كالشكّ في حرمة المائع المردّد بين الخلّ والخمر. واخرى يكون على نحو الشبهة الحكميّة ، كالشكّ في حرمة لحم الأرنب مثلاً ، وعليه فالرفع الظاهريّ في فقرة «رفع مالايعلمون» قد يقال باختصاصه بالشبهة الموضوعيّة ، وقد يقال باختصاصه بالشبهة الحكميّة ، وقد يقال بعمومه لكلتا الشبهتين.

أمّا الاحتمال الأوّل فقد استدلّ عليه بوحدة السياق لاسم الموصول في الفقرات المتعدّدة ، إذ من الواضح أنّ المقصود منه في «ما اضطرّوا إليه» ونحوه الموضوع الخارجيّ ، أو الفعل الخارجيّ ، لانفس التكليف ، فيحمل «مالا يعلمون» على الموضوع الخارجيّ أيضاً ، فيكون مفاد الجملة حينئذٍ : أنّ الخمر غير المعلوم

٣٧٢

مرفوع الحرمة ، كما أنّ الفعل المضطرّ إليه مرفوع الحرمة ، فلا يشمل حالات الشكّ في أصل جعل الحرمة على نحو الشبهة الحكميّة.

والتحقيق : أنّ وحدة السياق إنّما تقتضي كون مدلول اللفظ المتكرّر واحداً في السياق الواحد ، لا كون المصاديق من سنخٍ واحد ، فإذا افترضنا أنّ اسم الموصول قد استعمل في جميع تلك الفقرات في معناه العام المبهم ، غير أنّ مصداقه يختلف من جملةٍ إلى اخرى باختلاف صفاته لم تنثلم بذلك وحدة السياق في مرحلة المدلول الاستعماليّ.

وأمّا الاحتمال الثاني فيستند إلى أنّ ظاهر «مالا يعلمون» أن يكون نفس ما بإزاء اسم الموصول غير معلوم ، فإن كان ما بإزائه التكليف فهو بنفسه غير معلوم ، وإن كان ما بإزائه الموضوع الخارجيّ فهو بنفسه ليس مشكوكاً ، وإنّما المشكوك كونه خمراً مثلاً ، فلا يكون عدم العلم مسنداً إلى مدلول اسم الموصول حقيقةً ، وهذا خلاف ظاهر الحديث ، فيتعيّن أن يراد باسم الموصول التكليف ، ومعه يختصّ بالشبهة الحكميّة.

ويرد عليه :

أوّلاً : أنّ بالإمكان أن يكون ما بإزاء اسم الموصول نفس عنوان الخمر ، لا المائع المشكوك كونه خمراً ، فعدم العلم يكون مسنداً إليه حقيقةً.

وثانياً : لو سلّمنا أنّ ما بإزاء اسم الموصول ينبغي أن يكون هو التكليف فإنّ هذا لا يوجب الاختصاص بالشبهة الحكميّة ؛ لأنّ التكليف بمعنى الحكم المجعول مشكوك في الشبهة الموضوعيّة أيضاً.

وأمّا الاحتمال الثالث فهو يتوقّف على تصوير جامعٍ يمكن أن يراد باسم الموصول على نحوٍ ينطبق على الشبهة الحكميّة والموضوعيّة ، وهذا الجامع له فرضيّتان :

٣٧٣

الاولى : أن يراد باسم الموصول : الشيء ، سواء كان تكليفاً أو موضوعاً خارجيّاً.

واعترض على ذلك : بأنّ إسناد الرفع إلى التكليف حقيقيّ ؛ لأنّه قابل للرفع بنفسه ، وإسناده إلى الموضوع مجازيّ وبلحاظ حكمه ، ولا يمكن الجمع بين الإسناد الحقيقيّ والمجازيّ في استعمالٍ واحد.

والجواب : أنّ إسناد الرفع إلى التكليف ليس حقيقيّاً أيضاً ؛ لِمَا عرفت سابقاً من أنّه رفع ظاهريّ لا واقعيّ ، فالإسنادان كلاهما عنائيّان.

الثانية : أن يراد باسم الموصول التكليف المجعول ، وهو مشكوك في الشبهة الحكميّة والموضوعيّة معاً ، وإنّما يختلفان في منشأ الشكّ ، فإنّ المنشأ في الاولى عدم العلم بالجعل ، وفي الثانية عدم العلم بالموضوع.

والمعيّن للاحتمال الثالث بعد تصوير الجامع هو الإطلاق ، فتتمّ دلالة حديث الرفع على البراءة ونفي وجوب التحفّظ والاحتياط.

ومنها : رواية زكريّا بن يحيى ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام أنّه قال : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (١).

فإنّ الوضع عن المكلّف تعبير آخر عن الرفع عنه ، فتكون دلالة هذه الرواية على وزان دلالة الحديث السابق ، ويستفاد منها نفي وجوب التحفّظ والاحتياط.

وقد يلاحظ على الاستدلال أمران :

أحدهما : أنّ الحجب هنا اسند إلى الله تعالى ، فيختصّ بالأحكام المجهولة التي ينشأ عدم العلم بها من قبل الشارع ، لإخفائه لها ، ولا يشمل ما تشكّ فيه عادةً من الأحكام التي يحتمل عدم وصولها لعوارض اتّفاقيّة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦٣ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٣

٣٧٤

ويرد عليه : أنّ الحجب لم يسند إلى المولى سبحانه بما هو شارع وحاكم لينصرف إلى ذلك النحو من الحجب ، بل اسند إليه بما هو ربّ العالَمين ، وبيده الأمر من قبلُ ومن بعدُ ، وبهذا يشمل كلّ حجبٍ يقع في العالَم ، ولا موجب لتقييده بالحجب الواقع منه بما هو حاكم.

والآخر : أنّ موضوع القضيّة ماحجب عن العباد ، فتختصّ بما كان غير معلومٍ لهم جميعاً ، فلا يشمل التكاليف التي يشكّ فيها بعض العباد دون بعض.

وقد يجاب على ذلك باستظهار الانحلاليّة من الحديث ، بمعنى أنّ كلّ ما حجب عن عبدٍ فهو موضوع عنه ، فالعباد لُوحظوا بنحو العموم الاستغراقيّ ، لا العموم المجموعيّ.

ومنها : رواية عبدالله بن سنان ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام أنّه قال : «كلّ شيءٍ فيه حلال وحرام فهو لك حلال [أبداً] (١) حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» (٢).

وتقريب الاستدلال : أنّها تجعل الحلّيّة مع افتراض وجود حرامٍ وحلالٍ واقعيّ ، وتضع لهذه الحلّيّة غاية ، وهي تمييز الحرام ، فهذه الحلّيّة ظاهريّة إذن ، وهي تعبير آخر عن الترخيص في ترك التحفّظ والاحتياط.

ولكن ذهب جماعة من المحقّقين (٣) إلى أنّ هذه الرواية مختصّة بالشبهات الموضوعيّة ، وذلك لقرينتين :

الاولى : أنّ ظاهر قوله : «كلّ شيءٍ فيه حلال وحرام» افتراض طبيعةٍ منقسمةٍ فعلاً إلى أفرادٍ محلّلةٍ وأفرادٍ محرّمة ، وأنّ هذا الانقسام هو السبب في الشكّ في حرمة هذا الفرد أو ذاك ، وهذا إنّما يصدق في الشبهة الموضوعيّة ، لا في مثل الشكّ في

__________________

(١) أثبتناها وفقاً لما في المصدر

(٢) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٧ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأول

(٣) انظر فوائد الاصول ٣ : ٣٦٤ ، ومصباح الاصول ٢ : ٢٧٣

٣٧٥

حرمة شرب التتن ـ مثلاً ـ وأمثاله من الشبهات الحكميّة ؛ فإنّ الشكّ فيها لا ينشأ من تنوّع أفراد الطبيعة ، بل من عدم وصول النصّ الشرعيّ على التحريم.

الثانية : أنّ مفاد الحديث إذا حمل على الشبهة الحكميّة كانت كلمة «بعينه» تأكيداً صرفاً ؛ لأنّ العلم بالحرام فيها مساوق للعلم بالحرام بعينه عادة. وأمّا إذا حمل على الشبهة الموضوعيّة كان للكلمة المذكورة فائدة ملحوظة لأجل حصر الغاية للحلّيّة بالعلم التفصيليّ دون العلم الإجمالي الذي يغلب تواجده في الشبهات الموضوعيّة ، إذ مَن الذي لا يعلم عادةً بوجود جبنٍ حرام ، وبوجود لحمٍ حرام ، وبوجود شرابٍ نجس؟ وإنّما الشكّ في أنّ هذا الجبن أو اللحم أو الشراب المعيَّن هل هو من الحرام النجس ، أوْ لا؟ وعليه فيكون الحمل على الشبهة الموضوعيّة متعيّناً عرفاً ؛ لأنّ التأكيد الصرف خلاف الظاهر.

هذه هي أهمّ النصوص التي استدلّ بها على البراءة من الكتاب والسنّة ، وقد لاحظنا أنّ بعضها تامّ الدلالة.

وقد يضاف إلى ذلك التمسّك بعموم دليل الاستصحاب ، وذلك بأحد لحاظين :

الأوّل : أن نلتفت إلى بداية الشريعة ، فنقول : إنّ هذا التكليف المشكوك لم يكن قد جُعل في تلك الفترة يقيناً ؛ لأنّ تشريع الأحكام كان تدريجيّاً فيستصحب عدم جعل ذلك التكليف.

الثاني : أن يلتفت المكلّف إلى حالة ما قبل تكليفه ، كحالة صغره مثلاً ، فيقول : إنّ هذا التكليف لم يكن ثابتاً عليّ في تلك الفترة يقيناً ، ويشكّ في ثبوته بعد البلوغ فيستصحب عدمه.

وقد اعترض المحقّق النائينيّ قدس‌سره (١) على إجراء الاستصحاب بأحد هذين

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ١٨٦ ـ ١٨٨

٣٧٦

اللحاظين : بأنّ استصحاب عدم حدوث ما يشكّ في حدوثه إنّما يجري إذا كان الأثر المطلوب إثباته بالاستصحاب منوطاً بعدم الحدوث ، فنتوصّل إليه تعبّداً بالاستصحاب. ومثاله : أن نشكّ في حدوث النجاسة في الماء ، والأثر المطلوب تصحيح الوضوء به ، وهو منوط بعدم حدوث النجاسة ، فنجري استصحاب عدم حدوث النجاسة ونثبت بالتعبّد الاستصحابيّ أنّ الوضوء به صحيح.

وأمّا إذا كان الأثر المطلوب إثباته بالاستصحاب يكفي في تحقّقه واقعاً مجرّد عدم العلم بحدوث ذلك الشيء فيكون ذلك الأثر محقّقاً وجداناً في حالة الشكّ في الحدوث ، ولا نحتاج حينئذٍ إلى إجراء استصحاب عدم الحدوث. ومثال ذلك : محلّ الكلام ؛ لأنّ الأثر المطلوب هنا هو التأمين ونفي استحقاق العقاب ، وهذا الأثر مترتّب على مجرّد عدم البيان وعدم العلم بحدوث التكليف ـ وفقاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ فهو حاصل وجداناً ، وأيّ معنىً حينئذٍ لمحاولة تحصيله تعبّداً بالاستصحاب؟ وهل هو إلاّنحو من تحصيل الحاصل؟

وهذا الاعتراض غير صحيح ؛ لعدّة اعتبارات :

منها : أنّنا ننكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فالأثر المطلوب لا يكفي فيه إذن مجرّد عدم العلم ، كما هو واضح من مسلك حقّ الطاعة.

ومنها : أنّه حتّى إذا آمنّا بقاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ فلا شكّ في أنّ قبح العقاب على مخالفة تكليفٍ مشكوكٍ لم يصل إذن الشارع فيه ثابت بدرجةٍ أقلّ من قبحه على مخالفة تكليفٍ مشكوكٍ قد بُيّن إذن الشارع في مخالفته ، والمطلوب بالاستصحاب تحقيق هذه الدرجة الأعلى من قبح العقاب والمعذّريّة ، وما هو ثابت بمجرّد الشكّ الدرجة الأدنى ، فليس هناك تحصيل للحاصل.

٣٧٧

الاعتراضات على أدلّة البراءة :

ويوجد هناك اعتراضان رئيسيّان على أدلّة البراءة المتقدّمة :

أحدهما : أنّ هذه الأدلّة إنّما تشمل حالة الشكّ البدويّ ، ولا تشمل حالة الشكّ المقترن بعلم إجماليّ ، كما تقدّم في الحلقة السابقة (١) ، والفقيه حينما يلحظ الشبهات الحكميّة ككلٍّ يوجد لديه علم إجماليّ بوجود عددٍ كبير من التكاليف المنتشرة في تلك الشبهات ، فلا يمكنه إجراء أصل البراءة في أيّ شبهةٍ من تلك الشبهات.

والجواب : أنّ العلم الإجماليّ المذكور وإن كان ثابتاً ولكنّه منحلٌّ ؛ لأنّ الفقيه من خلال استنباطه وتتبّعه يتواجد لديه علم تفصيليّ بعددٍ محدّدٍ من التكاليف لا يقلّ عن العدد الذي كان يعلمه بالعلم الإجماليّ في البداية ، ومن هنا يتحوّل علمه الإجماليّ إلى علمٍ تفصيليٍّ بالتكليف في هذه المواقع ، وشكٍّ بدويٍّ في التكليف في سائر المواقع الاخرى. وقد تقدّم في حلقةٍ سابقةٍ (٢) أنّ العلم الإجمالي إذا انحلّ إلى علمٍ تفصيليٍّ وشكٍّ بدويٍّ بطلت منجّزيّته ، وجرت الاصول المؤمّنة خارج نطاق العلم التفصيلي.

والاعتراض الآخر : أنّ أدلّة البراءة معارضة بأدلّةٍ شرعيّةٍ ورواياتٍ تدلّ على وجوب الاحتياط ، وهذه الروايات : إمّا رافعة لموضوع أدلّة البراءة ، وإمّا مكافئة لها ، وذلك أنّ هذه الروايات بيان لوجوب الاحتياط ، لا للتكليف الواقعيّ المشكوك. فدليل البراءة إن كانت البراءة فيه مجعولةً في حقّ من لم يتمّ عنده البيان

__________________

(١) مضى الحديث عنه تحت عنوان : منجزية العلم الإ جمالي

(٢) مضى في الحلقة الاولى تحت عنوان : انحلال العلم الإ جمالي

٣٧٨

لاعلى التكليف الواقعيّ ولا على وجوب الاحتياط كانت تلك الروايات رافعةً لموضوع البراءة المجعولة فيه ؛ باعتبارها بياناً لوجوب الاحتياط. وإن كانت البراءة في دليلها مجعولةً في حقّ من لم يتمّ عنده البيان على التكليف الواقعيّ فروايات الاحتياط لا ترفع موضوعها ، ولكنّها تعارضها ، ومع التعارض لا يمكن أيضاً الاعتماد على أدلّة البراءة.

ومثال النحو الأوّل من أدلّة البراءة : البراءة المستفادة من قوله تعالى : «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً» (١) ، فإنّ الرسول اعتُبر كمثالٍ لمطلق البيان وإقامة الحجّة ، وإقامة الحجّة كما تحصل بإيصال الحكم الواقعيّ كذلك بإ يصال وجوب الاحتياط.

فروايات وجوب الاحتياط بمثابة بعث الرسول ، وبذلك ترفع موضوع البراءة.

ومثال النحو الثاني من أدلّة البراءة : [البراءة] المستفادة من حديث الرفع أو الحجب ، فإنّ مفاده الرفع الظاهريّ للتكليف الواقعيّ المشكوك ، ومعنى الرفع الظاهريّ : عدم وجوب الاحتياط ، فالبراءة المستفادة من هذا الحديث وأمثاله تستبطن بنفسها نفي وجوب الاحتياط ؛ وليست منوطةً بعدم ثبوته.

ونستعرض في ما يلي جملةً من الروايات التي تدّعى دلالتها على وجوب الاحتياط ، وسنرى أنّها لا تنهض لإثبات ذلك :

فمنها : المرسل عن الصادق عليه‌السلام قال : «من اتّقى الشُبهات فقد استبرأ لدينه» (٢).

__________________

(١) الإسراء : ١٥

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٧٣ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٤ ، وفيه : عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٣٧٩

ونلاحظ : أنّ الرواية غاية ما تدلّ عليه الترغيب في الاتّقاء ، وليس فيها ما يدلّ على الإلزام.

ومنها : ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام من أنّه قال لكميل : «يا كميل ، أخوك دِينُك فاحتَطْ لدينك بما شئت» (١).

ونلاحظ : أنّ الرواية وإن اشتملت على أمرٍ بالاحتياط ولكنّه قيّد بالمشيئة ، وهذا يصرفه عن الظهور في الوجوب ، ويجعله [ظاهراً] في إفادة أنّ الدين أمر مهمّ ، فأيّ مرتبةٍ من الاحتياط تلتزم بها تجاهه فهو حسن.

ومنها : ما عن أبي عبدالله عليه‌السلام : «أورع الناس من وقف عند الشبهة» (٢).

ونلاحظ : أنّ هذا البيان لا يكفي لإثبات الوجوب ؛ إذ لم يدلّ دليل على وجوب الأورعيّة.

ومنها : خبر حمزة بن طيّار : أنّه عرض على أبي عبدالله عليه‌السلام بعض خطب أبيه ؛ حتّى إذا بلغ موضعاً منها قال له : كُفّ واسكت ، ثمّ قال [أبو عبدالله عليه‌السلام] : لايسعكم في ما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلاّالكفّ عنه والتثبّت ؛ والردّ إلى أئمّة الهدى حتّى يحملوكم فيه على القصد ، ويُجلوا عنكم فيه العمى ، ويعرّفوكم فيه الحقّ ، قال الله تعالى : (فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكرِ إِنْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ) (٣).

ونلاحظ : أنّ هذه الرواية تأمر بالكفّ والتريّث من أجل مراجعة الإمام وأخذ الحكم منه ، لابالكفّ والاجتناب بعد المراجعة وعدم التمكن من تعيين الحكم ، وما نريده هو إجراء البراءة بعد المراجعة والفحص ؛ لما سيأتي من أنّ البراءة

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٦

(٢) المصدر السابق : ١٦٢ ، الحديث ٢٩

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٥٥ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣ ، والآية : ٤٣ من سورة النحل

٣٨٠