دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

ثمّ إنّ العِدلين في موارد الوجوب التخييريّ يجب أن يكونا متباينين ، ولا يمكن أن يكونا من الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ الزائد حينئذٍ ممّا يجوز تركه بدون بديل ، ولا معنى لافتراضه واجباً ، فالتخيير بين الأقلّ والأكثر في الإيجاب غير معقول.

ويشابه ما تقدّم : الحديث عن الوجوب الكفائيّ ، وهل هو وجوب موجّه إلى جامع المكلّف ، أو وجوبات متعدّدة بعدد أفراد المكلّفين ، غير أنّ الوجوب على كلّ فردٍ مشروط بترك الآخرين؟

التخيير العقليّ في الواجب :

حينما يأمر المولى بطبيعيّ فعلٍ على نحو صرف الوجود والإطلاق البدليّ ، فيقول : «أكرم زيداً» ـ والإكرام له حصص ـ فالتخيير بين الحصص عقليّ لا شرعيّ ، كما تقدّم. وإذا اختار المكلّف أن يكرمه بإهداء كتابٍ له لا يكون اختيار المكلّف لهذه الحصّة من الإكرام موجباً للكشف عن تعلّق الوجوب بها خاصّةً ، بل الوجوب بمبادئه متعلّق بالطبيعيّ الجامع ، ولهذا لو أتى المكلّف بحصّةٍ اخرى لكان ممتثلاً أيضاً.

وبهذا صحّ أن يقال : إنّ تلك الحصّة ليست متعلّقاً للأمر ، وإنّما هي مصداق لمتعلّق الأمر ، وإنّ متعلّق الأمر نسبته إلى سائر الحصص على نحوٍ واحد ، والوجوب لا يسري من الجامع إلى الحصّة بمجرّد تطبيق المكلّف ؛ لأنّ استقرار الوجوب على متعلّقه إنّما هو بالجعل ، والمفروض أنّه قد جعل على الطبيعيّ الجامع الملحوظ بنحو صرف الوجود.

وخلافاً لذلك ما إذا أمر المولى بالطبيعيّ على نحو الإطلاق الشموليّ ، أو العموم ومطلق الوجود ، فقال : «أكرم زيداً بكلّ أشكال الإكرام» فإنّ كلّ شكلٍ منها يعتبر متعلّقاً للوجوب ، وليس مجرّد مصداقٍ للمتعلّق ، فالوجوب هنا يتعدّد

٣٤١

وتنال كلّ حصّةٍ وجوباً خاصّاً بها.

وكما رأينا سابقاً وجود محاولةٍ لإرجاع الوجوب التخييري إلى وجوبٍ واحدٍ للجامع فإنّ هناك محاولة معاكسة ممّن يرى أنّ الوجوب التخييريّ وجوبان مشروطان ، وهي : محاولة إرجاع الوجوب المتعلّق بالطبيعيّ الجامع على نحو صرف الوجود إلى وجوباتٍ متعدّدةٍ للحصص ، مشروط كلّ واحدٍ منها بعدم الإتيان بسائر الحصص ، وقد يعبّر عن هذه المحاولة بأنّ الأوامر متعلّقة بالأفراد ؛ لا بالطبائع.

٣٤٢

امتناع اجتماعِ الأمرِ والنهي

لا شكّ في التنافي والتضادّ بين الأحكام التكليفيّة الواقعيّة ، كما تقدّم ، وهذا التنافي إنّما يتحقّق إذا كان المتعلّق واحداً ، فوجوب الصلاة ينافي حرمتها ، ولا ينافي حرمة النظر إلى الأجنبيّة ؛ لأنّ الصلاة والنظر أمران متغايران ، وإن كانا قد يوجدان في وقتٍ واحدٍ وفي موقفٍ واحدٍ فلا محذور في أن يكون أحدهما حراماً والآخر واجباً.

وهناك حالتان يقع البحث في أنّهما هل تلحقان بفرض وحدة المتعلّق ، أو تعدّده؟

الحالة الاولى : فيما إذا كان الوجوب متعلّقاً بالطبيعيّ على نحو صرف الوجود والإطلاق البدليّ ، والحرمة متعلّقة بحصّةٍ من حصص ذلك الطبيعيّ ، كما في «صَلّ» و «لا تصلّ في الحمّام» مثلاً ، فإنّ الحصّة والطبيعيّ باعتبار وحدتهما الذاتيّة قد يقال : إنّ المتعلّق واحد فيستحيل أن يتعلّق الوجوب بالطبيعيّ والحرمة بالحصّة ، وباعتبار تغايرهما بالإطلاق والتقييد قد يقال بأ نّه لا محذور في وجوب الطبيعيّ وحرمة الحصّة.

والتحقيق : أنّ وجوب الطبيعيّ يستدعي التخيير العقليّ في مقام الامتثال بين حصصه وأفراده ، فإن قلنا بأنّ هذا الوجوب مردّه إلى وجوباتٍ مشروطةٍ للحصص فالصلاة في الحمّام إذن باعتبارها حصّةً من الطبيعيّ متعلّق لوجوبٍ خاصّ مشروط ، فلو تعلّقت بها الحرمة أيضاً لزم اجتماع الحكمين المتنافيين على متعلّقٍ واحد.

وإن أنكرنا إرجاع وجوب الطبيعيّ إلى وجوباتٍ مشروطة ، ولكن قلنا : إنّ

٣٤٣

الحصّة التي يختارها المكلّف في مقام امتثاله يسري إليها الوجوب ، أو على الأقلّ تسري إليها مبادئ الوجوب من الحبّ والإرادة وتقع على صفة المحبوبيّة الفعليّة ، فأيضاً لا يمكن أن نفترض حينئذٍ تعلّق الحرمة بالحصّة ، إذ في حالة إيقاعها في الخارج يلزم أن تكون محبوبةً ومبغوضةً في وقتٍ واحد ، وهو مستحيل.

وأمّا إذا قلنا بأنّ الوجوب وجوب واحد متعلّق بالجامع ولا يسري إلى الحصص ، وأنّ الحصّة التي تقع خارجاً منه لا تكون متعلّقاً للوجوب ولا لمبادئه ، وإنّما هي مصداق للواجب وللمحبوب ، وليست هي الواجب أو المحبوب ، فلا محذور في أن يتعلّق الأمر بالجامع على نحو صرف الوجود ويتعلّق النهي بحصّةٍ منه.

ثمّ إذا تجاوزنا هذا البحث وافترضنا الاستحالة فبالإمكان أن نُدخِل عنصراً جديداً ؛ لنرى أنّ الاستحالة هل ترتفع بذلك أوْ لا؟ فنحن حتّى الآن كنّا نفترض أنّ الأمر والنهي يتعلّقان بعنوانٍ واحدٍ وهو الصلاة ، غير أنّ الأمر متعلّق بالطبيعيّ والنهي متعلّق بالحصّة ، والآن نفترض الحالة الثانية.

الحالة الثانية : أن لا يكون النهي المتعلّق بالحصّة متعلّقاً بها بنفس العنوان الذي تعلّق به الأمر ، وهو الصلاة في المثال ، بل بعنوانٍ آخر ، كما في «صلّ» و «لا تغصب». فإذا صلّى في مكانٍ مغصوبٍ كان ما وقع منه باعتباره صلاةً مصداقاً للواجب ، وباعتباره غصباً حراماً ، أي أنّ له عنوانين ، والأمر متعلّق بأحدهما ، والنهي بالآخر ، فهل يكفي تغاير العنوانين في إمكان التوفيق بين الأمر بالصلاة والنهي عن الغصب وتصادقهما على الصلاة في المغصوب ، أوْ لا؟

فقد يقال بأنّ ذلك يكفي ؛ لأنّ الأحكام تتعلّق بالعناوين ، لا بالأشياء الخارجيّة مباشرةً ، وبحسب العناوين يكون متعلّق الأمر مغايراً لمتعلّق النهي ، وأمّا الشيء الخارجيّ الذي تصادق عليه العنوانان فهو وإن كان واحداً ولكنّ الأحكام

٣٤٤

لا تتعلّق به مباشرة ، فلا محذور في اجتماع الأمر والنهي عليه بتوسّط عنوانين (١) ، بل هناك من يذهب (٢) إلى أنّ تعدّد العنوان يكشف عن تعدّد الشيء الخارجيّ أيضاً ، فكما أنّ الغصب غير الصلاة عنواناً كذلك غيرها مصداقاً ، وإن كان المصداقان متشابكين وغير متميّزين خارجاً ، فيكون الجواز لو صحّ هذا أوضح.

وقد يقال بأنّ تعدّد العنوان لا يكفي ؛ لأنّ العناوين إنّما تتعلّق بها الأحكام باعتبارها مرآةً للخارج ، لابما هي مفاهيم مستقلّة في الذهن ، فلكي يرتفع التنافي بين الأمر والنهي لابدّ أن يتعدّد الخارج ، ولا يمكن أن نبرهن على تعدّده عن طريق تعدّد العنوان ؛ لأنّ العناوين المتعدّدة قد تُنتزع عن شيءٍ واحدٍ في الخارج (٣).

وثمرة هذا البحث واضحة ، فإنّه على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي يقع التعارض حتماً بين دليل الأمر ودليل النهي ؛ لأنّ الأخذ بإطلاق الدليلين معاً معناه اجتماع الأمر والنهي ، وهو مستحيل بحسب الفرض ، ويجب أن يعالج هذا التعارض بين الدليلين وفقاً للقواعد العامّة للتعارض.

وخلافاً لذلك إذا قلنا بالجواز فإنّا نأخذ حينئذٍ بإطلاق الدليلين معاً بدون محذور.

__________________

(١) انظر درر الفوائد : ١٥٥ ـ ١٥٦

(٢) فوائد الاصول ٢ : ٤٠٦ وما بعدها

(٣) راجع كلام المحقّق الخراساني في الكفاية : ١٩٣ ـ ١٩٥

٣٤٥

الوجوب الغيريّ لمقدّماتِ الواجب

لا شكّ في أنّ المكلّف مسؤول عقلاً عن توفير المقدّمات العقليّة والشرعيّة للواجب ، إذ لا يمكنه الامتثال بدون ذلك ، ولكن وقع البحث في أنّ هذه المقدّمات هل تتّصف بالوجوب الشرعيّ تبعاً لوجوب ذيها؟ بمعنى أنّه هل يترشّح عليها في نفس المولى إرادة من إرادته للواجب الأصيل ووجوب من إيجابه لذلك الواجب؟

فهناك من ذهب (١) إلى أنّ إرادة شيءٍ وإيجابه يستلزمان إرادة مقدّماته وإيجابها ، وتسمّى الإرادة المترشّحة ب «الإرادة الغيريّة» ، والوجوب المترشّح ب «الوجوب الغيريّ» ، في مقابل الإرادة النفسيّة والوجوب النفسيّ ، وهناك من أنكر (٢) ذلك.

وقد يقال بالتفصيل بين الإرادة والإيجاب ، فبالنسبة إلى الإرادة وما تعبّر عنه من حبّ يقال بالملازمة والترشّح ، فحبّ الشيء يكون علّةً لحبّ مقدّمته ، وبالنسبة إلى الإيجاب والجعل يقال بعدم الملازمة (٣).

والقائلون بالملازمة يتّفقون على أنّ الوجوب الغيريّ معلول للوجوب النفسي ، وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يسبقه في الحدوث ، كما لا يمكن أن يتعلّق بقيود الوجوب ؛ لأنّ الوجوب النفسيّ لا يوجد إلاّبعد افتراض وجودها ، والوجوب الغيريّ لا يوجد إلاّبعد افتراض الوجوب النفسي ، وهذا يعني أنّ الوجوب الغيريّ مسبوق دائماً بوجود قيود الوجوب فكيف يعقل أن يتعلّق بها؟

__________________

(١) منهم صاحب الفصول الغروية : ٨٢ ، والفاضل التوني في الوافية : ٢٢١

(٢) منهم السيّد الخوئي قدس‌سره في المحاضرات ٢ : ٤٣٨

(٣) حقائق الاصول ١ : ٢٩٦

٣٤٦

وإنّما يتعلّق بقيود الواجب ومقدّماته العقليّة والشرعيّة.

كما أنّهم يتّفقون على أنّ الوجوب الغيريّ ليس له حساب مستقلّ في عالم الإدانة واستحقاق العقاب ؛ لوضوح أنّه لا يتعدّد استحقاق العقاب بتعدّد ماللواجب النفسيّ المتروك من مقدّمات.

كما أنّ الوجوب الغيريّ لا يمكن أن يكون مقصوداً للمكلّف في مقام الامتثال على وجه الاستقلال ، بل يكون التحرّك عنه دائماً في إطار التحرّك عن الوجوب النفسيّ ، فمن لا يتحرّك عن الأمر بذي المقدّمة لا يمكنه أن يتحرّك من قبل الوجوب الغيريّ ؛ لأنّ الانقياد إلى المولى إنّما يكون بتطبيق المكلّف إرادته التكوينيّة على إرادة المولى التشريعيّة ، ولمّا كانت إرادة المولى للمقدّمة تبعيّةً فكذلك لابدّ أن يكون حال المكلّف.

واختلف القائلون بالملازمة بعد ذلك في أنّ الوجوب الغيريّ هل يتعلّق بالحصّة الموصلة من المقدّمة إلى ذيها (١) ، أو بالجامع المنطبق على الموصل وغيره (٢)؟

فلو أتى المكلّف بالمقدّمة ولم يأتِ بذيها يكون قد أتى بمصداق الواجب الغيريّ على الوجه الثاني دونه على الوجه الأوّل.

ولا برهان على أصل الملازمة إثباتاً أو نفياً في عالم الإرادة ، وإنّما المرجع الوجدان الشاهد بوجودها ، وأمّا في عالم الجعل والإيجاب فالملازمة لا معنى لها ؛ لأنّ الجعل فعل اختياريّ للفاعل ، ولا يمكن أن يترشّح من شيءٍ آخر ترشّحاً ضروريّاً ، كما هو معنى الملازمة.

وأمّا ثمرة هذا البحث فقد يبدو ـ على ضوء ما تقدّم ـ أنّه لا ثمرة له ما دام الوجوب الغيريّ غير صالحٍ للإدانة والمحرّكية ، وإنّما هو تابع محض ، ولا إدانة ولا

__________________

(١) ذهب إليه صاحب الفصول في الفصو ل : ٨١

(٢) ذهب إليه المحقّق الخراساني في كفاية الاصول : ١٤٥

٣٤٧

محرّكية إلاّللوجوب النفسيّ ، والوجوب النفسيّ يكفي وحده لجعل المكلّف مسؤولاً عقلاً عن توفير المقدّمات ؛ لأنّ امتثاله لا يتمّ بدون ذلك ، فأيّ فرقٍ بين افتراض وجود الوجوب الغيريّ وافتراض عدمه؟

ولكن قد يمكن تصوير بعض الثمرات. ومثال ذلك : أنّه إذا وجب إنقاذ الغريق وتوقّف على مقدّمةٍ محرّمةٍ أقلّ أهمّيةً (وهي إتلاف زرع الغير) فيجوز للمكلّف ارتكاب المقدّمة المحرّمة تمهيداً لإنقاذ الغريق ، فإذا افترضنا أنّ المكلّف ارتكب المقدّمة المحرّمة ولم ينقذ الغريق ؛ فعلى القول بالملازمة وبأنّ الوجوب الغيريّ يتعلّق بالجامع بين الحصّة الموصلة وغيرها تقع المقدّمة التي ارتكبها المكلّف مصداقاً للواجب ، ولا تكون محرّمةً في تلك الحالة ؛ لامتناع اجتماع الوجوب والحرمة على شيءٍ واحد.

وعلى القول بإنكار الملازمة أو باختصاص الوجوب الغيريّ بالحصّة الموصلة لا تقع المقدّمة المذكورة مصداقاً للواجب ، ولا موجب حينئذٍ لسقوط حرمتها ، بل تكون محرّمةً بالفعل ، وإنّما تسقط الحرمة عن الحصّة الموصلة من المقدّمة خاصّة.

٣٤٨

اقتضاء وجوبِ الشيء لحرمة ضدّه

قد يقال بأنّ إيجاب شيءٍ يستلزم حرمة الضدّ. والضدّ على قسمين :

أحدهما : الضدّ العامّ ، وهو بمعنى النقيض.

والآخر : الضدّ الخاصّ ، وهو الفعل الوجوديّ الذي لا يجتمع مع الفعل الواجب.

والمعروف بين الاصوليّين «أنّ إيجاب شيءٍ يقتضي حرمة ضدّه العامّ».

ولكنّهم اختلفوا في جوهر هذا الاقتضاء.

فزعم البعض (١) أنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه العامّ.

وذهب بعض (٢) آخر إلى أنّه يتضمّنه ، بدعوى أنّ الأمر بالشيء مركّب من طلب ذلك الشيء والمنع عن تركه.

وقال آخرون بالاستلزام (٣).

وأمّا بالنسبة إلى الضدّ الخاصّ فقد وقع الخلاف فيه. وذهب جماعة إلى أنّ إيجاب شيءٍ يقتضي تحريم ضدّه الخاصّ ، فالصلاة وإزالة النجاسة عن المسجد إذا كان المكلّف عاجزاً عن الجمع بينهما فهما ضدّان ، وإيجاب أحدهما يقتضي تحريم الآخر.

وقد استدلّ البعض (٤) على ذلك : بأنّ ترك أحد الضدّين مقدّمة لوقوع الضدّ الآخر ، فيكون واجباً بالوجوب الغيريّ ، وإذا وجب أحد النقيضين حرم نقيضه ،

__________________

(١) راجع الفصول : ٩٢

(٢) معالم الدين : ٦٤

(٣) ذكره المحقّق العراقي في نهاية الأفكار (١ ـ ٢) : ٣٧٧

(٤) راجع الفصول : ٩٢ وضوابط الاصول : ١٠٣

٣٤٩

وبهذا يثبت حرمة الضدّ الخاص.

ولكنّ الصحيح : أنّه لا مقدّميّة لترك أحد الفعلين لإيقاع الفعل الآخر ، فإنّ المقدّمة هي العلّة أو جزء العلّة ، ونحن نلاحظ أنّ المكلّف في مثال الصلاة والإزالة يكون اختياره هو العلّة الكفيلة بتحقّق ما يختاره ونفي مالا يختاره ، فوجود أحد الفعلين وعدم الآخر كلاهما مرتبطان باختيار المكلّف ، لا أنّ أحدهما معلول للآخر ، ولو كان ترك الصلاة علّةً أو جزءَ العلّة للإزالة ، وترك الإزالة علّةً أو جزء العلّة للصلاة لكان فعل الصلاة نقيضاً لعلّة الإزالة ، ونقيض العلّة علّة لنقيض المعلول ، فينتج أنّ فعل الصلاة علّة لترك الإزالة ، وهذا يؤدّي إلى الدور ، إذ يكون كلّ من الضدّين معلولاً لترك الآخر وعلّةً للترك نفسه.

فإن قيل : إنّ عدم المانع من أجزاء العلّة ، ولا شكّ في أنّ أحد الضدّين مانع عن وجود ضدّه ، فعدمه عدم المانع فيكون من أجزاء العلّة ، وبذلك تثبت مقدّميّته.

كان الجواب : أنّ المانع على قسمين :

أحدهما : مانع يجتمع مع مقتضي الممنوع ، كالرطوبة المانعة عن احتراق الورقة ؛ والتي تجتمع مع وجود النار وإصابتها للورقة بالفعل.

والآخر : مانع لا يمكن أن يجتمع مع مقتضي الممنوع ، كالإزالة المضادّة للصلاة التي لا تجتمع مع المقتضي للصلاة ، وهو إرادتها ، إذ من الواضح أنّه كلّما أراد الصلاة لم توجد الإزالة ، وما يعتبر عدمه من أجزاء العلّة هو القسم الأوّل دون الثاني ، والضدّ مانع من القسم الثاني دون الأوّل.

وثمرة هذا البحث : أنّه إذا وجبت الإزالة في المثال المذكور : فإن قلنا بأنّ وجوب شيءٍ يقتضي حرمة ضدّه حَرُمَت الصلاة ، ومع حرمتها لا يعقل أن تكون مصداقاً للواجب ؛ لاستحالة اجتماع الوجوب والحرمة ، فلو ترك المكلّف الإزالة واختار الصلاة لوقعت باطلة.

٣٥٠

وإن قلنا بأنّ وجوب شيءٍ لا يقتضي حرمة ضدّه فلا محذور في أن يتعلّق الأمر بالصلاة ولكن على وجه الترتّب ومشروطاً بترك الإزالة ؛ لِمَا تقدّم من أنّ الأمرين بالضدّين على وجه الترتّب معقول ، فإذا ترك المكلّف الإزالة وصلّى كانت صلاته مأموراً بها ؛ وتقع صحيحةً وإن اعتبر عاصياً بتركه للإزالة.

٣٥١

اقتِضاء الحرمة للبطلان

الحرمة حكم تكليفي ، والبطلان حكم وضعيّ قد توصف به العبادة ، وقد توصف به المعاملة ، ويراد ببطلان العبادة أنّها غير مُجزية ، ولابدّ من إعادتها أو قضائها. وببطلان المعاملة أنّها غير مؤثّرةٍ ولا يترتّب عليها مضمونها. وقد وقع الكلام في أنّ التحريم هل يستلزم البطلان ، أوْ لا؟

أمّا تحريم العبادة فيستلزم بطلانها ، وذلك :

أمّا أوّلاً فلأنّ تحريمها يعني عدم شمول الأمر لها ؛ لامتناع اجتماع الأمر والنهي ، ومع عدم شموله لها لا تكون مجزيةً ولا يسقط بها الأمر ، وهو معنى البطلان.

فإن قيل : إنّ الأمر غير شامل ، ولكن لعلّ ملاك الوجوب شامل لها ، وإذا كانت واجدةً للملاك ومستوفيةً له فيسقط الأمر بها.

قلنا : إنّه بعد عدم شمول الأمر لها لا دليل على شمول الملاك ؛ لأنّ الملاك إنّما يعرف من ناحية الأمر.

وهذا البيان كما يأتي في العبادة المحرّمة يأتي أيضاً في كلّ مصداقٍ لطبيعةٍ مأمورٍ بها ، سواء كان الأمر تعبّديّاً أو توصّليّاً.

وأمّا ثانياً فلأ نّنا نفترض ـ مثلاً ـ أنّ الملاك موجود في تلك العبادة المحرّمة ، ولكنّها ما دامت محرّمةً ومبغوضةً للمولى فلا يمكن التقرّب بها نحوه ، ومعه لا تقع عبادةً لتصحّ وتجزي عن الأمر ، وهذا البيان يختصّ بالعبادات ولا يجري في غيرها.

وأمّا تحريم المعاملة فتارةً يراد به تحريم السبب المعامليّ الذي يمارسه المتعاملان ، وهو الإيجاب والقبول مثلاً. واخرى يراد به تحريم المسبّب ، أي التمليك الحاصل نتيجةً لذلك.

٣٥٢

ففي الحالة الاولى لا يستلزم تحريم السبب بطلانه وعدم الحكم بنفوذه ، كما لا يستلزم صحّته ونفوذه ، ولا يأبى العقل عن أن يكون صدور شيءٍ من المكلّف مبغوضاً للمولى ، ولكنّه إذا صدر ترتّب عليه بحكم الشارع أثره الخاصّ به ، كما في الظهار ، فإنّه محرّم ولكنّه نافذ ويترتّب عليه الأثر.

وفي الحالة الثانية قد يقال : إنّ التحريم المذكور يستلزم الصحّة ؛ لأنّه لا يتعلّق إلاّ بمقدور ، ولا يكون المسبّب مقدوراً إلاّإذا كان السبب نافذاً ، فتحريم المسبّب يستلزم نفوذ السبب وصحّة المعاملة.

وينبغي التنبيه هنا على أنّ النهي في موارد العبادات والمعاملات كثيراً ما يستعمل لا لإفادة التحريم ، بل لإفادة مانعيّة متعلّق النهي ، أو شرطيّة نقيضه ، وفي مثل ذلك لا إشكال في أنّه يدلّ على البطلان ، كما في «لا تُصلّ في ما لا يؤكل لحمه» الدالّ على مانعيّة لبس ماهو مأخوذ ممّا لا يؤكل لحمه ، أو «لاتَبِعْ بدون كيلٍ» الدالّ على شرطيّة الكيل ، ونحو ذلك ، ودلالته على البطلان باعتباره إرشاداً إلى المانعيّة أو الشرطيّة.

ومن الواضح أنّ المركّب يختلّ بوجود المانع أو فقدان الشرط ، ولا علاقة لذلك باستلزام الحرمة التكليفيّة للبطلان.

٣٥٣

مُسقِطات الحكم

يسقط الحكم بالوجوب وغيره بعدّة امور :

منها : الإتيان بمتعلّقه.

ومنها : عصيانه.

وهذان الأمران ليسا قيدين في حكم المجعول ، وإنّما تنتهي بهما فاعليّة هذا الحكم ومحرّكيّته.

ومنها : الإتيان بكلّ فعلٍ جعله الشارع مسقطاً للوجوب ، بأن أخذ عدمه قيداً في بقاء الوجوب المجعول.

ومنها : امتثال الأمر الاضطراريّ ، فإنّه مجزٍ عن الأمر الواقعيّ الأوّلي في بعض الحالات.

وتفصيل ذلك : أنّه إذا وجبت الصلاة مع القيام ، وتعذّر القيام على المكلّف فأمر الشارع أمراً اضطراريّاً بالصلاة من جلوسٍ ، فلذلك صورتان :

الاولى : أن يفرض اختصاص الأمر الاضطراريّ بمن يستمرّ عجزه عن القيام طيلة الوقت.

الثانية : أن يفرض شموله لكلّ من كان عاجزاً عن القيام عند إرادة الصلاة ، سواء تجدّدت له القدرة بعد ذلك ، أوْ لا.

ففي الصورة الاولى لو صلّى المكلّف العاجز جالساً في أوّل الوقت وتجدّدت له القدرة على القيام قبل خروج الوقت وجبت عليه الإعادة ؛ لأنّ الأمر الواقعيّ الأوّليّ بالصلاة قائماً يشمله بمقتضى إطلاق دليله ، وما أتى به لا موجب للاكتفاء به.

وأمّا في الصورة الثانية فلا تجب الإعادة على من صلّى جالساً في أوّل الوقت

٣٥٤

ثمّ تجدّدت له القدرة قبل خروجه ؛ وذلك لأنّ صلاة الجالس التي أدّاها قد تعلّق بها الأمر بحسب الفرض ، وهذا الأمر ليس تعيينيّاً ؛ لأنّه لو لم يصلّ من جلوسٍ في أوّل الوقت وصلّى من قيامٍ في آخر الوقت لكفاه ذلك بلا إشكال ، فهو إذن أمر تخييريّ بين الصلاة الاضطراريّة في حال العجز والصلاة الاختياريّة في حال القدرة.

ولو وجبت الإعادة لكان معنى هذا أنّ التخيير لا يكون بين هذه الصلاة وتلك ، بل بين أن يجمع بين الصلاتين وبين أن ينتظر ويقتصر على الصلاة الاختياريّة ، وهذا تخيير بين الأقلّ والأكثر في الإيجاب ، وهو غير معقول ، كما تقدّم (١).

وبهذا يثبت أنّ الأمر الاضطراريّ في الصورة الثانية يقتضي كون امتثاله مجزياً عن الأمر الواقعيّ الاختياري. وتعرف بذلك ثمرة البحث في امتناع التخيير بين الأقلّ والأكثر.

__________________

(١) مضى تحت عنوان : التخيير الشرعي في الواجب

٣٥٥

إمكانُ النَسخِ وتصويرُه

من الظواهر المألوفة في الحياة الاعتياديّة أن يشرّع المشرّع حكماً مؤمناً بصحّة تشريعه ، ثمّ ينكشف له أنّ المصلحة على خلافه ، فينسخه ويتراجع عن تقديره السابق للمصلحة وعن إرادته التي نشأت من ذلك التقدير الخاطئ.

وهذا الافتراض مستحيل في حقّ الباري سبحانه وتعالى ؛ لأنّ الجهل لا يجوز عليه عقلاً ، فأيّ تقديرٍ للمصلحة وأيّ إرادةٍ تنشأ من هذا التقدير لا يمكن أن يطرأ عليه تبدّل وعدول مع حفظ مجموع الظروف التي لوحظت عند تحقّق ذلك التقدير وتلك الإرادة.

ومن هنا صحّ القول بأنّ النَسخ بمعناه الحقيقيّ المساوق للعدول غير معقولٍ في مبادئ الحكم الشرعيّ من تقدير المصلحة والمفسدة وتحقّق الإرادة والكراهة.

وكلّ حالات النسخ الشرعيّ مردّها إلى أنّ المصلحة المقدّرة ـ مثلاً ـ كان لها أمد محدّد من أوّل الأمر وقد انتهى ، وأنّ الإرادة التي حصلت بسبب ذلك التقدير كانت محدّدةً تبعاً للمصلحة ، والنسخ معناه : انتهاء حدّها ووقتها الموقّت لها من أوّل الأمر ، وهذا هو النسخ بالمعنى المجازيّ.

ولكنّ هناك مرحلةً للحكم بعد تلك المبادئ ، وهي مرحلة الجعل والاعتبار ، وفي هذه المرحلة يمكن تصوير النَسخ بمعناه الحقيقيّ ومعناه المجازيّ معاً.

أمّا تصويره بالمعنى الحقيقيّ فبأن نفترض أنّ المولى جعل الحكم على طبيعيّ المكلّف دون أن يقيّده بزمانٍ دون زمان ، ثمّ بعد ذلك يلغي ذلك الجعل ويرفعه تبعاً لما سبق في علمه من أنّ الملاك مرتبط بزمانٍ مخصوص ، ولا يلزم من ذلك محذور ؛ لأنّ الإطلاق في الجعل لم ينشأ من عدم علم المولى بدخل الزمان المخصوص في

٣٥٦

الملاك ، بل قد ينشأ لمصلحةٍ اخرى ، كإشعار المكلّف بهيبة الحكم وأبديّته.

وأمّا تصويره بالمعنى المجازيّ فبأن نفترض أنّ المولى جعل الحكم على طبيعيّ المكلّف المقيّد بأن يكون في السنة الاولى من الهجرة مثلاً ، فإذا انتهت تلك السنة انتهى زمان المجعول ولم يطرأ تغيير على نفس الجعل.

والافتراض الأوّل أقرب إلى معنى النسخ ، كما هو ظاهر.

٣٥٧

الملازَمة بين الحُسنِ والقبح ، والأمرِ والنهي

الحُسن والقُبح أمران واقعيّان يدركهما العقل. ومرجع الأوّل إلى أنّ الفعل ممّا ينبغي صدوره. ومرجع الثاني إلى أنّه ممّا لاينبغي صدوره.

وهذا الانبغاء إثباتاً وسلباً أمر تكوينيّ واقعيّ وليس مجعولاً ، ودور العقل بالنسبة إليه دور المدرِك ، لا دور المنشئ والحاكم ، ويسمّى هذا الإدراك بالحكم العقليّ توسّعاً.

وقد ادّعى جماعة من الاصوليّين (١) الملازمة بين حسن الفعل عقلاً والأمر به شرعاً ، وبين قبح الفعل عقلاً والنهي عنه شرعاً.

وفصّل بعض المدقّقين منهم (٢) بين نوعين من الحسن والقبح :

أحدهما : الحسن والقبح الواقعان في مرحلةٍ متأخّرةٍ عن حكمٍ شرعيٍّ والمرتبطان بعالم امتثاله وعصيانه ، من قبيل حسن الوضوء باعتباره طاعةً لأمرٍ شرعي ، وقبح أكل لحم الأرنب بوصفه معصيةً لنهي شرعي.

والآخر : الحسن والقبح الواقعان بصورةٍ منفصلةٍ عن الحكم الشرعي ، كحسن الصدق والأمانة ، وقبح الكذب والخيانة.

ففي النوع الأوّل يستحيل أن يكون الحسن والقبح مستلزماً للحكم الشرعيّ ، وإلاّ للزم التسلسل ؛ لأنّ حسن الطاعة وقبح المعصية إذا

__________________

(١) منهم الشيخ الأنصاري في مطارح الأنظار : ٢٣٢

(٢) منسوب الى الميرزاالشيرازي قدس‌سره راجع مباحث الاصول الجزءالاول من القسم الثاني : ٢٧٤

٣٥٨

استتبَعا أمراً ونهياً شرعيّين كانت طاعة ذلك الأمر حسنةً عقلاً ومعصية هذا النهي قبيحةً عقلاً أيضاً ، وهذا الحسن والقبح يستلزم بدوره أمراً ونهياً ، وهكذا حتّى يتسلسل.

وأمّا في النوع الثاني فالاستلزام ثابت وليس فيه محذور التسلسل.

٣٥٩

الاستقراء والقياس

عرفنا سابقاً (١) أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد والملاكات التي يقدّرها المولى وفق حكمته ورعايته لعباده ، وليست جُزافاً أو تشهّياً.

وعليه فإذا حرّم الشارع شيئاً ـ كالخمر مثلاً ـ ولم ينصّ على الملاك والمناط في تحريمه فقد يستنتجه العقل ويحدس به ، وفي حالة الحدْس به يحدس حينئذٍ بثبوت الحكم في كلّ الحالات التي يشملها ذلك الملاك ؛ لأنّ الملاك بمثابة العلّة لحكم الشارع ، وإدراك العلّة يستوجب إدراك المعلول.

وأمّا كيف يحدس العقل بملاك الحكم ويعيّنه في صفة محدّدة؟ فهذا ما قد يكون عن طريق الاستقراء تارةً ، وعن طريق القياس اخرى.

والمراد بالاستقراء : أن يلاحظ الفقيه عدداً كبيراً من الأحكام يجدها جميعاً تشترك في حالةٍ واحدة ، من قبيل أن يحصي عدداً كبيراً من الحالات التي يُعذر فيها الجاهل ، فيجد أنّ الجهل هو الصفة المشتركة بين كلّ تلك المعذّريّات ، فيستنتج أنّ المناط والملاك في المعذّريّة هو الجهل فيعمّم الحكم إلى سائر حالات الجهل.

والمراد بالقياس : أن نحصي الحالات والصفات التي من المحتمل أن تكون مناطاً للحكم ، وبالتأمّل والحدْس والاستناد إلى ذوق الشريعة يغلب على الظنّ أنّ واحداً منها هو المناط ، فيعمّم الحكم إلى كلّ حالةٍ يوجد فيها ذلك المناط.

والاستنتاج القائم على أساس الاستقراء ظنّيّ غالباً ؛ لأنّ الاستقراء ناقص عادةً ، ولا يصل عادةً إلى درجة اليقين.

والقياس ظنّيّ دائماً ؛ لأنّه مبنيّ على استنباطٍ حَدْسيٍّ للمناط ، وكلّما كان الحكم العقليّ ظنّياً احتاج التعويل عليه إلى دليلٍ على حجّيته ، كما هو واضح.

__________________

(١) مضى البحث عنه تحت عنوان : الحكم الشرعي وتقسيمه

٣٦٠