دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

تمهيد :

الدليل الشرعيّ قد يدلّ على حكمٍ دلالةً واضحةً توجب اليقين أو الاطمئنان بأنّ هذا الحكم هو المدلول المقصود ، وفي هذه الحالة يعتبر حجّةً في دلالته على إثبات ذلك الحكم ؛ لأنّ اليقين حجّة ، والاطمئنان حجّة ، من دون فرقٍ بين أن يكون هذا الوضوح واليقين بالدلالة قائماً على أساس كونها دلالةً عقليّةً إنّيّةً من قبيل دلالة فعل المعصوم على عدم الحرمة ، أو على أساس كون الدليل لفظاً لا يتحمّل بحسب نظام اللغة وأساليب التعبير سوى إفادة ذلك المدلول ؛ وهو المسمّى بالنصّ ، أو على أساس احتفاف الدليل اللفظيّ بقرائن حاليّةٍ أو عقليّةٍ تنفي احتمال مدلولٍ آخر وإن كان ممكناً من وجهة نظرٍ لغويّةٍ وعرفيّةٍ عامّة.

وقد يدلّ الدليل الشرعيّ على أحد أمرين أو امورٍ على نحو تكون صلاحيّته لإفادة أيّ واحدٍ منها مكافئةً لصلاحيّته لإفادة غيره بحسب نظام اللغة وأساليب التعبير العرفيّ ، وهذا هو المجمل ، ويكون حجّةً في إثبات الجامع على أساس العلم بأنّ المراد لا يخلو من أحد محتمليه أو محتملاته.

هذا فيما إذا كان للجامع أثر قابل للتنجيز بالعلم المذكور ، وأمّا كلّ واحدٍ من المحتملات بخصوصه فلا يثبت بالدليل المذكور إلاّمع الاستعانة بدليلٍ خارجيٍّ على نفي المحتمل الآخر ، فيضمّ إلى إثبات الجامع ، فينتج التعيّن في المحتمل البديل.

وقد يدلّ الدليل الشرعيّ على أحد أمرين مع أولويّة دلالته على أحدهما بنحوٍ ينسبق إلى الذهن تصوّراً على مستوى المدلول التصوّريّ ، وتصديقاً على

٣٠١

مستوى المدلول التصديقيّ ، وإن كانت إفادة المعنى الآخر تصوّراً وتصديقاً بالدليل المذكور ممكنةً ومحتملةً أيضاً بحسب نظام اللغة وأساليب التعبير ، وهذا هو الدليل الظاهر في معنى ، وفي مثل ذلك يحمل على المعنى الظاهر ؛ لأنّ الظهور حجّة في تعيين مراد المتكلّم ، وهذه الحجّيّة لا تقوم على أساس اعتبار العلم ؛ لأنّ الظهور لا يوجب العلم دائماً ، بل على أساس حكم الشارع بذلك.

ويعبّر عن حجّيّة الظهور بأصالة الظهور ، وعلى وزان ذلك يقال : «أصالة العموم» ، و «أصالة الإطلاق» ، و «أصالة الحقيقة» ، و «أصالة الجدّ» ، وغير ذلك من مصاديقَ لكبرى حجّيّة الظهور.

الاستدلال على حجّيّة الظهور :

وحكم الشارع بحجّيّة الظهور يمكن الاستدلال عليه بالسيرة بأحد النحوين التاليين :

النحو الأوّل : أن نتمسّك بالسيرة العقلائيّة بمعنى استقرار بناء العقلاء على اتّخاذ الظهور وسيلةً كافيةً لمعرفة مقاصد المتكلّم ، وترتيب ما يرى لها من آثارٍ بحسب الأغراض التكوينيّة أو التشريعيّة ، وهذه السيرة بحكم استحكامها تشكّل دافعاً عقلائيّاً عامّاً للعمل بالظهور في الشرعيّات لو ترك المتشرّعة إلى ميولهم العقلائيّة ، وفي حالةٍ من هذا القبيل يكون عدم الردع والسكوت كاشفاً عن الإمضاء.

وقد تقدّم في بحث دلالات الدليل الشرعيّ غير اللفظيّ استعراض عددٍ من الأوجه لتفسير دلالة السكوت على الإمضاء ، ويلاحظ هنا : أنّ واحداً من تلك الأوجه لا يمكن تطبيقه في المقام ، وهو تفسير الدلالة على أساس الظهور الحاليّ ؛ لأنّ الكلام هنا في حجّيّة الظهور فلا يكفي في إثباتها ظهور حال المعصوم في الإمضاء.

٣٠٢

النحو الثاني : أن نتمسّك بسيرة المتشرّعة من أصحاب الأئمة عليهم‌السلام وفقهائهم ، فإنّنا لا نشكّ في أنّ عملهم في مقام الاستنباط كان يقوم فعلاً على العمل بظواهر الكتاب والسنّة ، ويمكن إثبات ذلك باستعمال الطريق الرابع من طرق إثبات السيرة المتقدّمة ، فلاحظ.

وعلى هذا تكون السيرة المذكورة كاشفةً كشفاً إنّيّاً مباشراً عن الإمضاء ، ولاحاجة حينئذٍ إلى توسيط قاعدة «أنّ السكوت كاشف عن الإمضاء» ، على ما تقدّم من الفرق بين سيرة المتشرّعة والسيرة العقلائية.

ويواجِه الاستدلال بالسيرة هنا نفس ما واجهه الاستدلال بالسيرة في بحث حجّيّة الخبر ، إذ يُعتَرَض : بأنّ هذه السيرة مردوع عنها بالمطلقات الناهية عن العمل بالظنّ أو بإطلاق أدلّة الُاصول.

والجواب على الاعتراض يعرف ممّا تقدّم في بحث حجّيّة الخبر ، مضافاً إلى أنّ ما دلّ على النهي عن العمل بالظنّ يشمل إطلاق نفسه ؛ لأنّه دلالة ظنّية أيضاً ، ولا نحتمل الفرق بينها وبين غيرها من الدلالات والظواهر الظنّيّة ، فيلزم من حجّيّته التعبّد بعدم حجّيّة نفسه ، وما ينفي نفسه كذلك لا يعقل الاكتفاء به في مقام الردع.

موضوع الحجّية :

عرفنا سابقاً أنّ الدلالة تصوّريّة وتصديقيّة ، وعليه فهناك ظهور على مستوى الدلالة التصوّريّة ، وهناك ظهور على مستوى الدلالة التصديقيّة.

ومعنى الظهور الأوّل : أن يكون أحد المعنيين أسرع انسباقاً إلى تصوّر الإنسان وذهنه من الآخر عند سماع اللفظ.

ومعنى الظهور الثاني : أن يكون كشف الكلام تصديقاً عمّا في نفس المتكلّم يبرز هذا المعنى دون ذاك ، فيقال حينئذٍ : إنّه ظاهر فيه بحسب الدلالة التصديقيّة.

٣٠٣

وقد تقدّم أنّ الظاهر من كلّ كلامٍ أن يتطابق مدلوله التصوّريّ مع مدلوله التصديقي.

وعلى أيّ حالٍ فموضوع الحجّيّة هو الظهور على مستوى الدلالة التصديقيّة ؛ لأن الحجّيّة معناها إثبات مراد المتكلّم وحكمه بظهور الكلام ، والكاشف عن المراد والحكم إنّما هو الدلالة التصديقيّة والظهور التصديقيّ. وأمّا الدلالة التصوّريّة فلا تكشف عن شيءٍ لكي تكون حجّةً في إثباته ، وإنّما هي مجرّد إخطارٍ وتصوّر.

نعم ، الظهور على مستوى الدلالة التصوّريّة هو الذي يعيّن لنا عادةً الظهور التصديقيّ ؛ لأنّ ظاهر الكلام هو التطابق بين ماهو الظاهر تصوّراً وما هو المراد تصديقاً وجدّاً. فالظهور التصوّريّ إذن يؤخذ كأداةٍ لتعيين الظهور التصديقيّ الذي هو موضوع الحجّيّة ، لا أنّه موضوع لها مباشرة.

وقد يوضِّح المتكلّم في نفس كلامه أنّ مراده الجدّيّ يختلف عمّا هو الظاهر من الكلام في مرحلة المدلول التصوّريّ ، وبهذا يصبح الظهور التصديقيّ الذي هو موضوع الحجّيّة مختلفاً عن الظهور التصوّريّ ، كما إذا قال : «جئني بأسدٍ وأعني به الرجل الشجاع» ، وتسمّى الجملة التي سبّبت هذا الاختلاف بالقرينة المتّصلة. وهذه القرينة : تارةً يكون تواجدها في الكلام مؤكّداً ، كما في هذا المثال ، واخرى يكون محتملاً ، كما لو كنّا نستمع إلى المتكلّم ثمّ ذهلنا عن الاستماع واحتملنا أنّه قال شيئاً من ذلك القبيل.

وفي كلٍّ من الحالتين لا يمكن الأخذ بالظهور التصديقيّ للكلام في إرادة الحيوان المفترس ، إذ في الحالة الاولى لا ظهور كذلك جزماً ؛ لأنّنا نعلم بأنّ الظهور التصديقيّ اختلف عن الظهور التصوّريّ ، وفي الحالة الثانية نشكّ في وجود ظهورٍ تصديقيّ على طبق الظهور التصوّريّ ؛ لأنّ احتمال القرينة يوجب احتمال التخالف بين الظهورين ، ومع الشكّ في وجوده لا يمكن البناء على حجّيّته ، وهذا يعني أنّ احتمال

٣٠٤

القرينة المتّصلة ـ كالقطع بها ـ يوجب عدم جواز الأخذ بالظهور الذي كان من المترقّب أن يثبت للكلام في حالة تجرّده عن القرينة.

ظواهر الكتاب الكريم :

ذهب جماعة (١) من العلماء إلى استثناء ظواهر الكتاب الكريم من الحجّيّة ، وقالوا : بأ نّه لا يجوز العمل في ما يتعلّق بالقرآن العزيز إلاّبما كان نصّاً في المعنى ، أو مفسّراً تفسيراً محدّداً من قبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو المعصومين من آله عليهم الصلاة والسلام.

وقد يستدلّ على ذلك بما يلي :

الدليل الأوّل : قوله تعالى : (هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأمّا الّذِينَ في قُلُوِبِهمْ زَيْغٌ فَيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأويلِه ...) الآية (٢).

فإنّه يدلّ على النهي عن اتّباع المتشابه ، وكلّ ما لا يكون نصّاً فهو متشابه ، لتشابه محتملاته في علاقتها باللفظ ، سواء كان اللفظ مع أحدها أقوى علاقةً أوْ لا.

والجواب من وجوه :

الأوّل : أنّ اللفظ الظاهر ليس من المتشابه ، إذ لا تشابه ولا تكافؤ بين معانيه في درجة علاقتها باللفظ ، بل المعنى الظاهر متميّز في درجة علاقته ، وعليه فالمتشابه يختصّ بالمجمل.

الثاني : لو سلّمنا أنّ الظاهر من المتشابَه فلا نسلّم أنّ الآية الكريمة تنهى عن

__________________

(١) الدرر النجفية : ١٦٩ ، والفوائد المدنية : ١٧ و ٤٧

(٢) آل عمران : ٧

٣٠٥

مجرّد العمل بالمتشابه ، وإنّما هي في سياق ذمّ من يلتقط المتشابهات فيركّز عليها بصورةٍ منفصلةٍ عن المحكمات ابتغاء الفتنة ، وهذا ممّا لا إشكال في عدم جوازه حتّى بالنسبة إلى ظواهر الكتاب ، فمساق الآية مساق قول القائل : إنّ عدوّي يحاول أن يبرز النقاط الموهمة من سلوكي ويفصلها عن ملابساتها التي توضّح سلوكي العامّ.

الثالث : ما قد يقال من أنّ الآية ليست نصّاً في الشمول لظاهر الكتاب ، وإنّما هي ظاهرة ـ على أكثر تقديرٍ ـ في الشمول ، وهذا الظهور يشمله النهي نفسه ، فيلزم من حجّيّة ظاهر الآية في إثبات الردع عن العمل بظواهر الكتاب الكريم نفي هذه الحجّيّة.

الدليل الثاني : الروايات الناهية عن الرجوع إلى ظواهر القرآن الكريم ، ويمكن تصنيفها إلى ثلاث طوائف :

الاولى : ما دلّ من الروايات على أنّ القرآن الكريم مبهم وغامض قد استهدف المولى إغماضه وإبهامه لأجل تأكيد حاجة الناس إلى الحجّة ، وأ نّه لا يعرفه إلاّ من خوطب به ، وأنّ غير المعصوم لا يصل إلى مستوى فهمه (١).

وهذه الطائفة يرد عليها :

أوّلاً : أنّ رواياتها جميعاً ضعيفة السند ، بل قد يحصل الاطمئنان بكذبها نتيجةً لضعف رواتها ، وكونهم في الغالب من ذوي الاتّجاهات الباطنيّة المنحرفة على ما يظهر من تراجمهم ، مع الالتفات إلى أنّ إسقاط ظواهر الكتاب الكريم عن الحجّيّة أمر في غاية الأهمّيّة ، فلو كان الأئمّة عليهم‌السلام بصدد بيانه لَما أمكن عادةً افتراض اختصاص هؤلاء الضعاف بالاطّلاع على ذلك والإخبار عنه دون فقهاء أصحاب الأئمّة ، الذين عليهم المعوّل وإليهم تفزع الشيعة في الفتوى والاستنباط بأمر الأئمّة

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٧٦ و ١٨٥ و ٢٠٢ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الأحاديث ١ و ٢٥ و ٦٤

٣٠٦

وإرجاعهم.

وثانياً : أنّ هذه الروايات معارضة للكتاب الكريم الدالّ على أنّه نزل تبياناً لكلّ شيءٍ وهدىً وبلاغاً (١) ، والمخالف للكتاب من أخبار الآحاد لا يشمله دليل حجّيّة خبر الواحد ، كما أشرنا سابقاً.

الطائفة الثانية : ما دلّ من الروايات على عدم جواز الاستقلال في فهم القرآن عن الحجّة (٢) ، وهذه لا تدلّ على عدم جواز العمل بظاهر الكتاب بعد الفحص في كلمات الأئمّة ، وعدم الظفر بقرينةٍ على خلاف الظاهر ؛ لأنّ هذا النحو من العمل ليس استقلالاً عن الحجّة في مقام فهم القرآن الكريم.

الطائفة الثالثة : ما دلّ من الروايات على النهي عن تفسير القرآن بالرأي ، وأنّ مَن فسّر القرآن برأيه فقد كفر (٣).

وقد اجيب على الاستدلال بها : بأنّ حمل اللفظ على معناه الظاهر ليس تفسيراً ؛ لأنّ التفسير كشف القناع ، ولا قناع على المعنى الظاهر.

وقد يقال : إنّ هذا الجواب لا ينطبق على بعض الحالات حينما يكون الدليل مشتملاً على ظواهر اقتضائيّةٍ عديدةٍ متضاربة ، على نحوٍ يحتاج تقدير الظهور الفعليّ المتحصّل من مجموع تلك الظواهر بعد الموازنة والكسر والانكسار إلى نظرٍ وإمعان ، فيكون لوناً من كشف القناع.

ولهذا نرى أنّ الفقهاء قد يختلفون في فهم دليل ، فيُفهم بشكلٍ من فقيه ، ويأتي فقيه آخر فيبرز نكتةً من داخل الدليل تعيّن فهمه بشكلٍ آخر على أساس ما

__________________

(١) كقوله تعالى : (وَنَزّلنَا عَليكَ الكِتَابَ تبيَانَاً لِكلّ شَيء) النحل : ٨٩

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٧٧ و ١٨٣ و ١٨٦ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الاحاديث ٣ و ٢٠ و ٢٧

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٧٦ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي

٣٠٧

تقتضيه تلك النكتة من ظهور.

فالأحسن ، الجواب :

أوّلاً : بأنّ كلمة «الرأي» منصرفة ـ على ضوء ما نعرفه من ملابسات عصر النصّ وظهور هذه الكلمة كمصطلحٍ وشعارٍ لاتّجاهٍ فقهيٍّ واسعٍ ـ إلى الحَدْس والاستحسان ، فلا تشمل الرأي المبنيّ على قريحةٍ عرفيّةٍ عامّة.

وثانياً : أنّ إطلاق الروايات المذكورة للظاهر لا يصلح أن يكون رادعاً عن السيرة على العمل بالظواهر ، سواء اريد بها السيرة العقلائيّة أو سيرة المتشرّعة ، نظير ما تقدّم في بحث حجّيّة خبر الواحد.

أمّا الاولى فلأنّ الردع يجب أن يتناسب حجماً ووضوحاً مع درجة استحكام السيرة.

وأما الثانية : فلأ نّنا إذا ادّعينا أنّ سيرة المتشرّعة من أصحاب الأئمة كانت على العمل بظواهر الكتاب ـ وإلاّ لعرف الخلاف عنهم ـ فنفس هذه السيرة تثبت عدم صلاحيّة الإطلاق المذكور للردع ، بل تكون مقيّدةً له.

وممّا يدفع به الاستدلال بالروايات المذكورة عموماً : ما دلّ من الروايات على الأمر بالتمسّك بالقرآن الكريم (١) الصادق عرفاً على العمل بظواهره ، وعلى إرجاع الشروط إليه وإبطال ما كان منها مخالفاً له (٢) ، فإنّ المخالفة إن كان المراد بها

__________________

(١) كحديث الثقلين ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٣ ، الباب ٥ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٩ ، ومسند أحمد بن حنبل ٣ : ١٤ ، وكغيره ، راجع وسائل الشيعة ١ : ٤١٢ ، الباب ٢٣ من أبواب الوضوء ، الحديث الأول ، و ١٢ : ٣٠٩ ، الباب ١٦٤ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ١٠

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ١٦ ، الباب ٦ من أبواب الخيار

٣٠٨

المخالفة للفظه فتصدق على مخالفة ظاهره ، وإن كان المراد بها المخالفة لواقع مضمونه فمقتضى الإطلاق المقاميّ إمضاء ما عليه العرف من موازينَ في استخراج المضمون ؛ فيدلّ على حجّيّة الظهور.

وأوضح من ذلك : ما دلّ على طرح ما ورد عنهم : على الكتاب والإحجام عن العمل بما كان مخالفاً له (١) ، فإنّه لا يحتمل فيه أن يراد منه المخالفة للمضمون القرآنيّ المكتشَف بالخبر ؛ لأنّه بصدد بيان جعل الضابط لما يُقبل وما لا يُقبل من الخبر. كما أنّه لا يحتمل اختصاص المخالفة فيه بالمخالفة للنصّ ؛ لندرة الخبر المخالف للنصّ ، وكون روايات طرح المخالف ناظرةً إلى ما هو الشائع من المخالفة.

فإن قُدّمت هذه الروايات الدالّة على حجّيّة ظواهر الكتاب على الروايات التي استدلّ بها على نفي الحجيّة فهو ، وإن تكافأ الفريقان فعلى الأقلّ يلتزم بالتساقط ، ويقال بالحجّيّة حينئذٍ ؛ لأنّ الردع غير ثابتٍ فتثبت الحجّيّة بالسيرة العقلائيّة بصورةٍ مستقلّة ، أو بضمّ استصحابِ مفادها الثابت في صدر الشريعة.

الدليل الثالث : ومردّه إلى إنكار الظهور ، بدعوى أنّ القرآن الكريم مجمل : إمّا لتعمّدٍ من الله تعالى في جعله مجملاً لتأكيد حاجة الناس إلى الإمام ، وإمّا لاقتضاء طبع المطلب ذلك ؛ لأنّ علوّ المعاني وشموخها يقتضي عدم تيسّرها للفهم.

والجواب على ذلك : أنّ التعمّد المذكور على خلاف الحكمة من نزول القرآن ، وربط الناس بالإمام فرع إقامة الحجّة على أصل الدين المتوقّفة على فهم القرآن

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١١٢ و ١١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٩ و ٢٩

٣٠٩

وإدراك مضامينه. كما أنّ شموخ المعاني وعلوّها ينبغي أن لا يكون على حساب الهدف من بيانها ، ولمّا كان الهدف هداية الإنسان فلابدّ أن تبيَّن المعاني على نحوٍ يؤثّر في تحقّق هذا الهدف ، وذلك موقوف على تيسير فهمه.

فالصحيح : أنّ ظواهر الكتاب الكريم حجّة كظواهر السنّة.

٣١٠

٢ ـ الادلّة المحرزة

الدليل العقلي

١ ـ إثبات القضايا العقليّة.

٢ ـ حجّيّة الدليل العقليّ.

٣١١
٣١٢

تمهيد

الدليل العقليّ : كلّ قضيّةٍ يدركها العقل ويمكن أن يستنبط منها حكم شرعيّ ، والبحث عن هذه القضايا العقليّة : تارةً يقع صغرويّاً في صحة القضيّة العقليّة ومدى إدراك العقل لها ، واخرى يقع كبرويّاً في حجّيّة الإدراك العقليّ لها.

والقضايا العقليّة على قسمين :

أحدهما : قضايا تشكّل عناصر مشتركةً في عمليّة الاستنباط ، كالقضيّة العقليّة القائلة : «إنّ إيجاب شيءٍ يستلزم إيجاب مقدّمته».

والآخر : قضايا مرتبطة بأحكامٍ شرعيّةٍ معيّنة ، كحكم العقل بحرمة المخدّر قياساً له على الخمر ؛ لوجود صفةٍ مشتركةٍ وهي إذهاب الشعور ، وحكم العقل بحرمة الكذب ؛ لأنّه قبيح.

والقسم الأوّل يدخل بحثه الصغرويّ والكبرويّ معاً في علم الاصول ، فقد يُبحث عن أصل وجود إدراكٍ عقليّ ، وهذا بحث صغرويّ ، وقد يبحث عن حجّيّته وهذا بحث كبرويّ ، وكلاهما اصوليّ ؛ لأنّهما بحثان في العناصر المشتركة في عمليّة الاستنباط.

والقسم الثاني لا يدخل بحثه الصغرويّ في علم الاصول ؛ لأنّه بحث في عنصرٍ غير مشترك ، وإنّما يدخل بحثه الكبرويّ في هذا العلم لكونه بحثاً في عنصرٍ مشترك ، كالبحث عن حجّيّة القياس ، وهكذا يتّضح أنّ البحث الصغرويّ لا يكون اصوليّاً إلاّ في القسم الأوّل ، وأنّ البحث الكبرويّ اصوليّ في كلا القسمين.

٣١٣

غير أنّ الإدراك العقليّ إذا كان قطعيّاً فلا موجب للبحث عن حجّيته ؛ للفراغ عن حجّيته بعد الفراغ عن حجّية القطع ، وإنّما نحتاج إلى البحث عن حجّيّته إذا لم يكن قطعيّاً ، كالقياس مثلاً.

وسوف نصنّف البحث في القضايا العقليّة إلى بحثين :

أحدهما : صغرويّ في إثبات القضايا العقليّة التي تشكّل عناصر مشتركة.

والآخر : كبرويّ في حجّية إدراك العقل غير القطعيّ.

٣١٤

١ ـ إثبات القضايا العقلية

تقسيمات للقضايا العقليّة :

القضايا العقليّة التي تشكّل عناصرَ مشتركةً في عمليّة الاستنباط وأدلّةً عقليّةً على الحكم الشرعيّ يمكن أن تقسَّم كما يلي :

أوّلاً : تنقسم إلى ما يكون دليلاً عقليّاً مستقلاًّ ، وما يكون عقليّاً غير مستقلّ.

والمراد بالأوّل : ما لا يحتاج إلى إثبات قضيّةٍ شرعيّةٍ لاستنباط الحكم منه.

والمراد بالثاني : ما يحتاج إلى إثبات قضيّةٍ شرعيّةٍ كذلك.

ومثال الأوّل : القضيّة القائلة : بأنّ «كلّ ما حكم العقل بحسنه أو قبحه حكم الشارع بوجوبه أو حرمته» ، فإنّ تطبيقها لاستنباط حرمة الظلم ـ مثلاً ـ لا يتوقّف على إثبات قضيّةٍ شرعيّةٍ مسبقة.

ومثال الثاني : القضيّة القائلة : «إنّ وجوب شيءٍ يستلزم وجوب مقدّمته» ، فإنّ تطبيقها لاستنباط وجوب الوضوء يتوقّف على إثبات قضيةٍ شرعيّةٍ مسبقة ، وهي وجوب الصلاة.

ثانياً : تنقسم القضيّة العقليّة إلى قضيّةٍ تحليليّة وقضيّةٍ تركيبيّة.

والمراد بالقضيّة التحليليّة : ما كان البحث فيها يدور حول تفسير ظاهرةٍ معيّنة ، كالبحث عن حقيقة الوجوب التخييريّ.

والمراد بالقضيّة التركيبيّة : ما كان البحث فيها يدور حول استحالة شيءٍ أو ضرورته بعد الفراغ عن معناه وحقيقته في نفسه ، كالبحث عن استحالة الأمر

٣١٥

بالضدّين في وقتٍ واحد.

ثالثاً : تنقسم الأدلّة العقليّة المستقلّة التركيبيّة في دلالتها إلى سالبةٍ وموجبة.

والمراد بالسالبة : الدليل العقليّ المستقلّ في استنباط نفي حكمٍ شرعيّ.

والمراد بالموجبة : الدليل العقليّ المستقلّ في استنباط إثبات حكمٍ شرعيّ.

ومثال الأوّل : القضيّة القائلة باستحالة التكليف بغير المقدور.

ومثال الثاني : القضيّة المشار إليها آنفاً القائلة : بأنّ «كلّ ما حكم العقل بقبحه حكم الشارع بحرمته».

والقضايا العقليّة متفاعلة في ما بينها. فقد يتّفق أن تدخل قضيّة عقليّة تحليليّة في البرهنة على قضيّةٍ اخرى تحليليّةٍ أو تركيبيّة ، كما قد تدخل قضيّة تركيبيّة في البرهنة على قضايا تحليليّة ، وهذا ما سنراه في البحوث الآتية إن شاء الله تعالى.

٣١٦

قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور

يستحيل التكليف بغير المقدور ، وهذا له معنيان :

أحدهما : أنّ المولى يستحيل أن يُدينَ المكلّف بسبب فعلٍ أو تركٍ غير صادرٍ منه بالاختيار ، وهذا واضح ؛ لأنّ العقل يحكم بقبح هذه الإدانة ؛ لأنّ حقّ الطاعة لا يمتد إلى ما هو خارج عن الاختيار.

والمعنى الآخر : أنّ المولى يستحيل أن يصدر منه تكليف بغير المقدور في عالم التشريع ، ولو لم يرتّب عليه إدانةً ومؤاخذةً للمكلّف ، فليست الإدانة وحدها مشروطةً بالقدرة ، بل التكليف ذاته مشروط بها أيضاً.

وتوضيح الحال في ذلك : أنّ مقام الثبوت للحكم يشتمل ـ كما تقدّم ـ على ملاكٍ وإرادةٍ واعتبار ، ومن الواضح أنّه ليس من الضروريّ أن يكون الملاك مشروطاً بالقدرة ، كما أنّ بالإمكان تعلّق إرادة المولى بأمرٍ غير مقدور ؛ لأنّنا لا نريد بالإرادة إلاّالحبّ الناشئ من ذلك الملاك ، وهو مهما كان شديداً يمكن افتراض تعلّقه بالمستحيل ذاتاً فضلاً عن الممتنع بالغير.

والاعتبار إذا لوحظ بما هو اعتبار يعقل أيضاً أن يتكفّل جعل الوجوب على غير المقدور ؛ لأنّ الاعتبار سهل المؤونة ، وليس لغواً في هذه الحالة ، إذ قد يراد به مجرّد الكشف بالصياغة التشريعيّة التي اعتادها العقلاء عن الملاك والمبادئ ، ولكن إذا لوحظ الجعل والاعتبار بما هو ناشئ من داعي البعث والتحريك فمن الواضح أنّ القدرة على مورده تعتبر شرطاً فيه ؛ لأنّ داعي تحريك العاجز يستحيل أن ينقدح في نفس العاقل الملتفت.

وحيث إنّ الاعتبار الذي يكشف عنه الخطاب الشرعيّ هو الاعتبار بهذا

٣١٧

الداعي ، كما يقتضيه الظهور التصديقيّ السياقيّ للخطاب ، فلا بدّ من اختصاصه بحال القدرة ، ويستحيل تعلّقه بغير المقدور.

ومن هنا كان كلّ تكليفٍ مشروطاً بالقدرة على متعلّقه بدون فرقٍ بين التكاليف الإلزاميّة وغيرها. وكما يشترط في التكليف الطلبيّ (الوجوب والاستحباب) القدرة على الفعل ، كذلك يشترط الشيء نفسه في التكليف الزجريّ (الحرمة والكراهة) ؛ لأنّ الزجر عمّا لا يقدر المكلّف على إيجاده أو عن الامتناع عنه غير معقولٍ أيضاً.

وهكذا نعرف أنّ القدرة شرط ضروريّ في التكليف ، ولكنّها ليست شرطاً ضروريّاً في الملاك والمبادئ. ولكنّ هذا لا يعني أنّها لا تكون شرطاً ، فإنّ مبادئ الحكم يمكن أن تكون ثابتةً وفعليّةً في حال القدرة والعجز على السواء ، ويمكن أن تكون مختصّةً بحالة القدرة ، ويكون انتفاء التكليف عن العاجز لعدم المقتضي وعدم الملاك رأساً.

وفي كلّ حالةٍ من هذا القبيل يقال : إنّ دخل القدرة في التكليف شرعيّ. وقد تسمّى القدرة حينئذٍ ب «القدرة الشرعيّة» بهذا الاعتبار ، تمييزاً لذلك عن حالات عدم دخل القدرة في الملاك ، إذ يقال عندئذٍ : إنّ دخل القدرة في التكليف عقليّ ، وقد تسمّى القدرة حينئذٍ ب «القدرة العقليّة».

ولا فرق في استحالة التكليف بغير المقدور بين أن يكون التكليف مطلقاً ، من قبيل أن يقول الآمر لمأموره : «طِرْ في السماء» ، أو مقيّداً بقيدٍ يرتبط بإرادة المكلّف واختياره ، من قبيل أن يقول : «إن صعدت إلى السطح فَطِر إلى السماء» ، فإنّ التكليف في كلتا الحالتين مستحيل.

والثمرة في اشتراط القدرة في صحّة الإدانة (المعنى الأوّل) واضحة ، وأمّا الثمرة في اشتراط القدرة في التكليف ذاته (المعنى الثاني) فقد يقال : إنّها غير واضحة ، إذ

٣١٨

ما دام العاجز غير مُدانٍ على أيّ حالٍ فلا يختلف الحال ، سواء افترضنا أنّ القدرة شرط في التكليف أو نفينا ذلك وقلنا بأنّ التكليف يشمل العاجز ، إذ لا أثر لذلك بعد افتراض عدم الإدانة.

ولكنّ الصحيح : وجود ثمرةٍ على الرغم من أنّ العاجز غير مُدانٍ على أيّ حال ، وهي تتّصل بملاك الحكم ، إذ قد يكون من المفيد أن نعرف أنّ العاجز هل يكون ملاك الحكم فعليّاً في حقّه وقد فاته بسبب العجز لكي يجب القضاء مثلاً ، أو أنّ الملاك لا يشمله رأساً فلم يفته شيء ليجب القضاء؟ أي أن نعرف أنّ القدرة هل هي دخيلة في الملاك ، أوْ لا؟

فإذا جاء الخطاب الشرعيّ مطلقاً ولم ينصّ فيه الشارع على قيد القدرة ظهرت الثمرة.

لأنّنا : إن قلنا باشتراط القدرة في التكليف ذاته ـ كما تقدّم ـ كان حكم العقل بذلك بنفسه قرينةً على تقييد إطلاق الخطاب ، فكأ نّه متوجّه إلى القادر خاصّةً وغير شاملٍ للعاجز ، وفي هذه الحالة لا يمكن إثبات فعليّة الملاك في حقّ العاجز ، وأ نّه قد فاته الملاك ليجب عليه القضاء مثلاً ؛ لأنّه لا دليل على ذلك ؛ نظراً إلى أنّ الخطاب إنّما يدلّ على ثبوت الملاك بالدلالة الالتزاميّة ، وبعد سقوط المدلول المطابقيّ للخطاب وتبعيّة الدلالة الالتزاميّة على الملاك للدلالة المطابقيّة على التكليف لا يبقى دليل على ثبوت الملاك في حقّ العاجز.

وإن لم نقل باشتراط القدرة في التكليف أخذنا بإطلاق الخطاب في المدلول المطابقيّ والالتزاميّ معاً ، وأثبتنا التكليف والملاك على العاجز ، وبذلك يثبت أنّ العاجز قد فاته الملاك وإن كان معذوراً في ذلك ، إذ لا يُدانُ العاجز على أيّ حال.

٣١٩

قاعدة إمكان التكليفِ المشروط

مرّ بنا أنّ مقام الثبوت للحكم يشتمل على عنصرٍ يسمّى بالجعل والاعتبار ، وفي هذه المرحلة يجعل الحكم على نهج القضيّة الحقيقيّة ، كما تقدّم ، فيفترض المولى كلّ الخصوصيّات والقيود التي يريد إناطة الحكم بها ويجعل الحكم منوطاً بها ، فيقول مثلاً : إذا استطاع الإنسان وكان صحيح البدن مخلّى السّرب وجب عليه الحجّ.

ونحن إذا لاحظنا هذا الجعل نجد هناك شيئاً قد تحقّق بالفعل ، وهو نفس الجعل الذي يعتبر في قوّة قضيّةٍ شرطيّة ، شرطها القيود المفترضة ، وجزاؤها ثبوت الحكم ، ولكن هناك شيء قد لا يكون متحقّقاً فعلاً ، وإنّما يتحقّق إذا وجد في الخارج مستطيع صحيح مخلّى ، وهو الوجوب على هذا أو ذاك الذي يمثّل فعليّة الجزاء في تلك القضيّة الشرطيّة ، فإنّ فعليّة الجزاء في كلّ قضيّةٍ شرطيّة تابعة لفعليّة الشرط ، فما لم تتحقّق تلك القيود لا يكون الوجوب فعليّاً ، ويسمّى الوجوب الفعليّ بالمجعول.

ومن هنا أمكن التمييز بين الجعل والمجعول ؛ لأنّ الأوّل موجود منذ البداية ، والثاني لا يوجد إلاّبعد تحقّق القيود خارجاً ، والقيود بالنسبة إلى المجعول بمثابة العلّة ، وليست كذلك بالنسبة إلى الجعل ؛ لأنّ الجعل متحقّق قبل وجودها خارجاً.

نعم ، الجعل يتقوّم بافتراض القيود وتصوّرها ، إذ لو لم يتصوّر المولى الاستطاعة والصحّة ـ مثلاً ـ لَما أمكنه أن يجعل تلك القضيّة الشرطيّة ، وبذلك تعرف أنّ الجعل متقوّم بلحاظ القيود وتصوّرها ذهناً ، والمجعول متقوّم بوجود القيود خارجاً ، ومترتّب عليها من قبيل ترتّب المعلول على علّته.

وعلى هذا الأساس نعرف أنّ الحكم المشروط ممكن. ونعني بالحكم المشروط : أن يكون تحقّق الحكم منوطاً بتحقّق بعض القيود خارجاً فلا وجود له

٣٢٠