دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

والخصوصيّات.

ولمّا كان استكشاف الدليل الشرعيّ من الإجماع مرتبطاً بحساب الاحتمال لم يكن للإجماع بعنوانه موضوعيّة في حصوله ، فقد يتمّ الاستكشاف حتّى مع وجود المخالف إذا كان الخلاف بنحوٍ لا يؤثّر على حساب الاحتمال المقابل ، وهذا يرتبط إلى درجةٍ كبيرةٍ بتشخيص نوعيّة المخالف وعصره ، ومدى تغلغله في الخطّ العلميّ وموقعه فيه.

كما أنّه قد لا يكفي الإجماع بحساب الاحتمال للاستكشاف ، فتضمّ إليه قرائن احتماليّة اخرى على نحوٍ يتشكّل من المجموع ما يقتضي الكشف بحساب الاحتمال.

سيرة المتشرّعة :

ويناظر الإجماع السيرة المعاصرة والقريبة من عصر المعصومين عليهم‌السلام للمتشرّعة بما هم متشرّعة.

وتوضيح ذلك : أنّ العقلاء المعاصرين للمعصومين إذا اتّجهوا إلى سلوكٍ معيّنٍ : فتارةً يسلكونه بما هم عقلاء ، كسلوكهم القائم على التملّك بالحيازة مثلاً. واخرى يسلكونه بما هم متشرّعة ، كمسحهم القدم في الوضوء ببعض الكفّ مثلاً. والأوّل هو السيرة العقلائيّة ، والثاني سيرة المتشرّعة.

والفرق بين السيرتين : أنّ الاولى لا تكون بنفسها كاشفةً عن موقف الشارع ، وإنّما تكشف عن ذلك بضمّ السكوت الدالّ على الإمضاء ، كما تقدّم. وأمّا سيرة المتشرّعة فبالإمكان اعتبارها بنفسها كاشفةً عن الدليل الشرعيّ ؛ على أساس أنّ المتشرّعة حينما يسلكون سلوكاً بوصفهم متشرّعة يجب أن يكونوا متلقّين ذلك من الشارع.

٢٨١

وهناك في مقابل ذلك احتمال أن يكون السلوك المذكور مبنيّاً على الغفلة عن الاستعلام ، أو الغفلة في فهم الجواب على تقدير الاستعلام. غير أنّ هذا الاحتمال يضعف بحساب الاحتمال كلّما لوحظ شمول السيرة وتطابق عددٍ كبيرٍ من المتشرّعة عليها ، ومن هنا قلنا : إنّ سيرة المتشرّعة تناظر الإجماع ؛ لأنّهما معاً يقومان في كشفهما على أساس حساب الاحتمال. غير أنّ الإجماع يمثّل موقفاً فتوائيّاً نظريّاً للفقهاء ، والآخر يمثّل سلوكاً عمليّاً دينيّاً للمتشرّعة.

وكثيراً ما تشكّل سيرة المتشرّعة بالمعنى المذكور الحلقة الوسيطة بين الإجماع والدليل الشرعيّ ، بمعنى أنّ تطابق أهل الفتوى على حكمٍ مع عدم كونه منصوصاً في ما بأيدينا من نصوصٍ يكشف بظنٍّ غالبٍ اطمئنانيٍّ عن تطابق سلوكيٍّ وارتكازيٍّ من المتشرّعة المعاصرين لعصر النصوص ، وهذا بدوره يكشف عن الدليل الشرعيّ.

وبكلمةٍ اخرى : أنّ الإجماع المذكور يكشف عن روايةٍ غير مكتوبة ، ولكنّها معاشة سلوكاً وارتكازاً بين عموم المتشرّعة.

الإحراز الوجدانيّ للدليل الشرعيّ غير اللفظيّ :

مرّ بنا أنّ دليل السيرة العقلائيّة يعتمد على ركنين : أحدهما قيام السيرة المعاصرة للمعصومين من العقلاء على شيءٍ. والآخر سكوت المعصوم الذي يدلّ ـ كما تقدّم (١) ـ على الإمضاء.

والسؤال الآن : كيف يمكن أن نحرز كلّ واحدٍ من هذين الركنين؟ فإنّنا بحكم

__________________

(١) تقدم تحت عنوان : السيرة

٢٨٢

عدم معاصرتنا لهما زماناً يجب أن نستدلّ عليهما بقضايا معاصرةٍ ثابتةٍ وجداناً لكي نحرز بذلك هذا النوع من الدليل الشرعيّ.

[١ ـ السيرة المعاصرة للمعصومين :]

أمّا السيرة المعاصرة للمعصومين عليهم‌السلام فهناك طرق يمكن أن يدَّعى الاستدلال بها عليها ، وقد تستعمل نفس الطرق لإثبات السيرة المعاصرة للمعصومين من المتشرّعة بوصفهم الشرعيّ :

الطريق الأوّل : أن نستدلّ على ماضي السيرة العقلائيّة بواقعها المعاصر لنا ، وهذا الاستدلال يقوم على افتراض الصعوبة في تحوّل السيرة من سلوكٍ إلى سلوكٍ مقابل ، وكون السيرة العقلائيّة معبِّرةً ـ بوصفها عقلائيّةً ـ عن نكاتٍ فطريّةٍ وسليقةٍ نوعيّة ، وهي مشتركة بين العقلاء في كلّ زمان.

ولكنّ الصحيح : عدم صحّة هذا الاستدلال ، إذ لا صعوبة في تصوّر تحوّل السيرة بصورةٍ تدريجيّةٍ وبطيئةٍ إلى أن تتمثّل في السلوك المقابل بعد فترةٍ طويلةٍ من الزمن ، وما هو صعب الافتراض التحوّل الفجائيّ العفويّ ، كما أنّ السلوك العقلائيّ ليس منبثقاً دائماً عن نكاتٍ فطريّةٍ مشتركة ، بل يتأثّر بالظروف والبيئة والمرتكزات الثقافيّة ، إلى غير ذلك من العوامل المتغيّرة ، فلا يمكن أن يعتبر الواقع المعاصر للسيرة دليلاً على ماضيها البعيد.

الطريق الثاني : النقل التأريخيّ : إمّا في نطاق التأريخ العامّ ، أو في نطاق الروايات والأحاديث الفقهيّة. ويتوقّف اعتبار هذا النقل : إمّا على كونه موجباً للوثوق والعلم ، أو على تجمّع شرائط الحجّيّة التعبديّة فيه ، وفي هذا المجال يمكن الاستفادة من الروايات نفسها ؛ لأنّها تعكس ضمناً جوانب من حياة الرواة والناس وقتئذٍ ، كما يمكن الاستفادة أيضاً من فتاوى الجمهور في نطاق المعاملات ـ مثلاً ـ باعتبارها منتزعةً أحياناً عن الوضع العامّ المرتكز عقلائيّاً إلى جانب

٢٨٣

دلالات التأريخ العامّ.

الطريق الثالث : أن يكون لعدم قيام السيرة المعاصرة للمعصومين على الحكم المطلوب لازم يعتبر انتفاؤه وجدانيّاً ، فيثبت بذلك قيام السيرة على ذلك النحو. ولنوضّح ذلك في مثالٍ كما يأتي :

لنفرض أنّنا نريد أن نثبت أنّ السيرة المعاصرة للأئمّة عليهم‌السلام كانت قائمةً على الاجتزاء بالمسح ببعض الكفّ في الوضوء ، فنقول : إنّ السيرة إذا كانت منعقدةً على ذلك حقّاً فهذا سوف يكون دليلاً على عدم الوجوب لدى من يحاول الاستعلام عن حكم المسألة ، فيغنيه عن السؤال.

وأمّا إذا لم تكن السيرة منعقدةً على ذلك وكان افتراض المسح بتمام الكفّ وارداً في السلوك العمليِّ لكثيرٍ من المتشرّعة وقتئذٍ فهذا يعني أنّ استعلام حكم المسألة ينحصر بالسؤال من المعصومين ، أو الرجوع إلى رواياتهم ؛ لأنّ مسح المتشرّعة بتمام الكفّ لا يكفي لإثبات الوجوب ، وحيث إنّ المسألة محلّ الابتلاء لعموم أفراد المكلفين ، ووجوب المسح بتمام الكفّ يستبطن عنايةً فائقة تحفِّز على السؤال فمن الطبيعيّ أن تكثر الأسئلة في هذا المجال ، وتكثر الأجوبة تبعاً لذلك ، وفي هذه الحالة يفترض عادةً أن يصل إلينا مقدار من ذلك على أقلّ تقدير ؛ لاستبعاد اختفاء جلّها ، مع توفّر الدواعي على نقلها ، وعدم وجود ما يبرّر الاختفاء ، فإذا لم يصل إلينا ذلك نعرف أنّه لم تكن هناك أسئلة وأجوبة كثيرة ، وبالتالي لم تكن هناك حاجة إلى استعلام حكم المسألة عن طريق السؤال والجواب. وهذا يعيِّن افتراض قيام السيرة على الاجتزاء بالمسح ببعض الكفّ.

وهذا الاستدلال يتوقّف ـ كما لاحظنا ـ على :

[١ ـ] أنّ المسألة محلّ الابتلاء للعموم.

[٢ ـ] وكون الحكم المقابل ـ كوجوب المسح بتمام الكفّ في المثال ـ يتطلّب

٢٨٤

سلوكاً لا يقتضيه الطبع بنفسه.

[٣ ـ] وتوفّر الدواعي على نقل ما يرد في حكم المسألة.

[٤ ـ] وعدم وجود مبرّراتٍ للإخفاء.

[٥ ـ] وعدم وصول شيءٍ معتدٍّ به في هذا المجال لإثبات الحكم المقابل من الروايات وفتاوى المتقدّمين.

الطريق الرابع : أن يكون للسلوك الذي يراد إثبات كونه سلوكاً عامّاً للمعاصرين للأئمّة عليهم‌السلام سلوكٌ بديل على نحوٍ لو لم نفترض ذاك يتعيّن افتراض هذا البديل ، ويكون هذا السلوك البديل معبِّراً عن ظاهرةٍ اجتماعيّةٍ غريبةٍ لو كانت واقعةً حقّاً لَسجَّلت وانعكست علينا باعتبارها على خلاف المألوف ، وحيث لم تسجّل يعرف أنّ الواقع خارجاً كان هو المبدل لا البدل.

ومثال ذلك أن نقول : إنّ السلوك العامّ المعاصر للمعصومين عليهم‌السلام كان منعقداً على اعتبار الظواهر والعمل بها ، إذ لولا ذلك لكان لابدّ من سلوك بديلٍ يمثّل طريقةً اخرى في التفهيم ، ولمّا كانت الطريقة البديلة تشكّل ظاهرةً غريبةً عن المألوف كان من الطبيعيّ أن تنعكس ويشار إليها ، والتالي غير واقع فكذلك المقدّم ، وبذلك يثبت استقرار السيرة على العمل بالظواهر.

الطريق الخامس : الملاحظة التحليليّة الوجدانيّة ، بمعنى أنّ الإنسان إذا عرض مسألةً على وجدانه ومرتكزاته العقلائيّة فرأى أنّه منساق إلى اتّخاذ موقفٍ معيّن ، ولاحظ أنّ هذا الموقف واضح في وجدانه بدرجةٍ كبيرة ، واستطاع أن يتأكّد من عدم ارتباطه بالخصوصيّات المتغيّرة من حالٍ إلى حالٍ ومن عاقلٍ إلى عاقلٍ بملاحظةٍ تحليليّةٍ وجدانيّةٍ أمكنه أن ينتهي إلى الوثوق بأنّ ما ينساق إليه من موقفٍ حالةٌ عامّةٌ في كلّ العقلاء ، وقد يدعم ذلك باستقراء حالة العقلاء في مجتمعاتٍ

٢٨٥

عقلائيّةٍ مختلفةٍ للتأكّد من هذه الحالة العامّة.

وهذا طريق قد يحصل للإنسان الوثوق بسببه ، ولكنّه ليس طريقاً استدلاليّاً موضوعيّاً إلاّبقدر ما يُتاح للملاحِظِ من استقراءٍ للمجتمعات العقلائيّة المختلفة.

[٢ ـ سكوت المعصوم] :

وأمّا سكوت المعصوم الدالّ على الإمضاء فقد يقال : إنّ من الصعوبة بمكانٍ الجزمَ به ، إذ كيف نعرف أنّه لم يصدر من المعصوم ما يدلّ على الردع عن السيرة المعاصرة له؟ وغاية ما نستطيع أن نتأكّد منه هو عدم وجود هذا الردع في ما بأيدينا من نصوص ، غير أنّ ذلك لا يعني عدم صدوره ، إذ لعلّه قد صدر ولم يصل.

غير أنّ الطريقة التي نتغلّب بها على هذه الصعوبة تتمّ كما يأتي :

نطرح القضيّة الشرطيّة القائلة : لو كان قد ردع المعصوم عن السيرة لوصل إلينا ، والتالي باطل ؛ لأنّ المفروض عدم وصول الردع ، فالمقدّم مثله.

ووجه الشرطيّة : أنّ الردع عن سيرةٍ عقلائيّةٍ مستحكمةٍ لا يتحقّق بصورةٍ جادّةٍ بمجرّد نهيٍ واحدٍ أو نهيين ، بل يجب أن يتناسب حجم الردع مع قوّة السيرة وترسّخها ، فالردع إذن يجب أن يتمثّل في نواهٍ كثيرة ، وهذه النواهي بنفسها تخلق ظروفاً مناسبةً لأمثالها ؛ لأنّها تُلفِت أنظار الرواة إلى السؤال ، وتكثر الأسئلة والأجوبة ، والدواعي متوفّرة لضبط هذه النواهي من قبل الرواة ، فيكون من الطبيعيّ أن يصل إلينا شيء منها. وفي حالة عدم وصول شيءٍ ـ بالقدر الذي تفترضه الظروف المشار إليها ـ نستكشف عدم صدور الردع ، وبذلك يتمّ كلا الركنين لدليل السيرة.

٢٨٦

درجة الوثوق في وسائل الإحراز الوجداني :

وسائل الإحراز الوجدانيّ التي يقوم كشفها على حساب الاحتمال تؤدّي : تارةً إلى القطع بالدليل الشرعيّ ، واخرى إلى قيمةٍ احتماليّةٍ كبيرة ، ولكنْ تناظرها في الطرف المقابل قيمة احتماليّة معتدّ بها. وثالثةً إلى قيمةٍ احتماليّةٍ كبيرةٍ تقابلها في الطرف المقابل قيمة احتماليّة ضئيلة جدّاً ، وتسمّى القيمة الاحتماليّة الكبيرة في هذه الحالة بالاطمئنان ، وفي الحالة السابقة بالظنّ.

ولا شكّ في حجّيّة الإحراز الواصل إلى درجة القطع تطبيقاً لمبدأ حجّيّة القطع ، كما لا شكّ في أنّ الإحراز الظنّيّ غير كافٍ للمقصود ما لم يقم دليل شرعيّ على التعبّد به فيدخل في نطاق الإحراز التعبّديّ.

وأمّا الاطمئنان فقد يقال بحجّيّته الذاتيّة عقلاً تنجيزاً وتعذيراً ، كالقطع ، بمعنى أنّ حقّ الطاعة الثابت عقلاً كما يشمل حالة القطع بالتكليف كذلك يشمل حالة الاطمئنان به ، وكما لا يشمل حالة القطع بعدم التكليف كذلك لا يشمل حالة الاطمئنان بعدمه.

فإن صحَّت هذه الدعوى لم نكن بحاجةٍ إلى تعبّدٍ شرعيٍّ للعمل بالاطمئنان ، مع فارقٍ ، وهو : إمكان الردع عن العمل بالاطمئنان مع عدم إمكانه في القطع ، كما تقدّم.

وإن لم تصحّ هذه الدعوى تعيّن طلب الدليل على التعبّد الشرعيّ بالاطمئنان.

والدليل هو السيرة العقلائيّة الممضاة بدلالة السكوت. وفي مقام الاستدلال على حجّيّة الاطمئنان شرعاً بالسيرة العقلائيّة مع سكوت الشارع عنها لابدّ من افتراض القطع بهذين الركنين ، ولا يكفي الاطمئنان ، وإلاّ كان من الاستدلال على حجّيّة الاطمئنان بالاطمئنان.

٢٨٧

٢ ـ وسائل الإثبات التعبّدي

وأهمّ ما يبحث عنه في علم الاصول كوسيلةٍ تعبّديّةٍ لإحراز صدور الدليل من الشارع : خبر الواحد ، ويراد به : الخبر الذي لم يحصل منه القطع بثبوت مؤدّاه.

والكلام فيه في ثلاث مراحل :

إحداها : استعراض الأدلّة المدَّعاة على حكم الشارع بحجّيّته.

وثانيتها : استعراض الأدلّة المدَّعى كونها معارِضةً لذلك.

والمرحلة الثالثة : تحديد دائرة الحجّيّة وشروطها بعد فرض ثبوتها.

وسنبحث هذه المراحل تباعاً.

أدلّة حجّيّة خبر الواحد :

وقد استدلّ على الحجّيّة بالكتاب والسنّة.

أمّا الكتاب الكريم فبآيات :

منها : آية النبأ ، وهي قوله تعالى : (يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَا فَتَبَيَّنُوا أنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين) (١).

وتقريب الاستدلال : أنّ الجملة في الآية الكريمة شرطيّة ، والحكم فيها هو «الأمر بالتبيّن» ، وموضوع الحكم «النبأ» ، وشرطه «مجيء الفاسق به» ، فتدلّ بالمفهوم على انتفاء وجوب التبيّن عن النبأ إذا انتفى الشرط ولم يجئ به الفاسق ، وهذا يعني أنّه لا يجب التبيّن في حالة مجيء العادل بالنبأ ، وليس ذلك إلاّلحجّيّته.

__________________

(١) الحجرات : ٦

٢٨٨

وقد نوقش في الاستدلال المذكور بوجهين :

الأوّل : أنّ مجيء الفاسق بالنبأ شرط محقّق للموضوع ؛ لأنّه هو الذي يحقّق النبأ ، وليس للجملة الشرطية مفهوم إذا كان الشرط مسوقاً لتحقّق الموضوع ، كما تقدّم في بحث مفهوم االشرط.

وحاول صاحب الكفاية (١) أن يدفع هذه المناقشة بدعوى : أنّها إنّما تتمّ على الافتراض المتقدّم في تعيين الموضوع والشرط ، وأمّا إذا قيل بأنّ الموضوع هو «الجائي بالنبأ» والشرط هو «الفسق» كانت الآية في قوّة قولنا : «إذا كان الجائي بالنبأ فاسقاً فتبيّنوا». ومن الواضح حينئذٍ أنّ الشرط هنا ليس محقّقاً للموضوع ، فيتمّ المفهوم.

ولكنّ مجرّد إمكان هذه الفرضيّة لا يكفي لتصحيح الاستدلال ما لم يثبت كونها هي المستظهرة عرفاً من الآية الكريمة.

الثاني : أنّ الحكم بوجوب التبيّن معلّل في الآية الكريمة بالتحرّز من الإصابة بجهالةٍ ، والعلّة مشتركة بين أخبار الآحاد ؛ لأنّ عدم العلم ثابت فيها جميعاً ، فتكون بمثابة القرينة المتّصلة على إلغاء المفهوم.

واجيب عن ذلك :

تارةً بأنّ الجهالة ليست مجرّد عدم العلم ، بل تستبطن السفاهة ، وليس في العمل بخبر العادل سفاهة ؛ لأنّ سيرة العقلاء عليه.

واخرى بأنّ المفهوم أخصّ من عموم التعليل ؛ لأنّه يقتضي حجّيّة خبر العادل ، بينما التعليل يدلّ على عدم حجّيّة كلّ ما هو غير علميّ ، ويشمل بإطلاقه خبر العادل ، فليكن المفهوم مقيّداً لعموم التعليل.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٤٠

٢٨٩

وثالثةً : بأنّ المفهوم مفاده أنّ خبر العادل لا حاجة إلى التبيّن بشأنه ؛ لأنّه بيِّن واضح ، وهذا يعني افتراضه بمثابة الدليل القطعيّ ، والأمر بالتعامل معه على أساس أنّه بيّن ومعلوم ، وبهذا يخرج عن موضوع عموم التعليل ؛ لأنّ العموم في التعليل موضوعه عدم العلم. فإذا كان خبر العادل واضحاً بيّناً بحكم الشارع فهو علم ولا يشمله التعليل.

ومنها : آية النفر ، وهي قوله تعالى : (وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلِيْهِم لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون) (١).

وتقريب الاستدلال بها : أنّها تدلّ على مطلوبيّة التحذر عند الإنذار بقرينة وقوع الحذر موقع الترجّي بدخول لعلّ عليه ، وجعله غاية للإنذار الواجب ، ومقتضى الإطلاق كون التحذّر واجباً عند الإنذار ولو لم يحصل العلم من قول المنذر ، وهذا يكشف عن حجّية إخبار المنذر.

والجواب على ذلك :

أوّلاً : أنّ وجوب التحذّر عند الإنذار لا يكشف عن كون الحذر الواجب بملاك حجّية خبر المنذر ؛ وذلك لأنّ الإنذار يفترض العقاب مسبقاً ، وكون الحكم منجَّزاً بمنجّزٍ سابقٍ ، كالعلم الإجمالي ، أو الشكّ قبل الفحص ، ولا يصدق عنوان الإنذار على الإخبار عن حكمٍ لا يستتبع عقاباً إلاّبسبب هذا الإخبار.

وثانياً : لو سلّمنا أنّ خبر المنذر بنفسه كان منجّزاً فهذا لا يساوق الحجّية بمعناها الكامل ؛ لِمَا سبق من أنّ أيّ دليلٍ احتماليٍّ على التكليف فهو ينجّزه بحكم العقل ، فغاية ما تفيده الآية الكريمة أنّها تنفي جعل أصالة البراءة شرعاً في موارد

__________________

(١) التوبة : ١٢٢

٢٩٠

قيام الخبر على التكليف ، ولا تثبت جعل الشارع الحجّية للخبر.

نعم ، بناءً على مسلك قبح العقاب بلا بيانٍ يكشف ما ذكر عن الجعل الشرعيّ ، إذ لولا الجعل الشرعيّ لجرت قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وثالثاً : أنّ الآية الكريمة لو دلّت على حجّيّة قول المنذر شرعاً فإنّما تدلّ على حجّيّته بما هو رأي ونظر لا بما هو إخبار وشهادة ؛ لأنّ الإنذار يعني مزج الإخبار بتشخيص المعنى واقتناص النتيجة.

ومنها : آية الكتمان ، وهي قوله تعالى : (إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاه لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ اولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُون) (١).

وتقريب الاستدلال بها : أنّها تدلّ بالإطلاق على حرمة الكتمان ولو في حالة عدم ترتّب العلم على الإبداء ، وهذا يكشف عن وجوب القبول في هذه الحالة ؛ لأنّ تحريم الكتمان من دون إيجاب القبول لغو ، ووجوب القبول مع عدم العلم يساوق حكم الشارع بالحجّية.

والجواب على ذلك :

أوّلاً : أنّ الكتمان إنّما يصدق في حالة الإخفاء مع توفّر مقتضيات الوضوح والعلم ، فلا يشمل الإطلاق المذكور عدم الإخبار في موردٍ لا تتوفّر فيه مقتضيات العلم.

وثانياً : أنّ تعميم حرمة الكتمان لعلّه بدافع الاحتياط من قبل المولى ؛ لعدم إمكان إعطاء قاعدةٍ للتمييز بين موارد ترتّب العلم على الإخبار وغيرها ، فإنّ الحاكم قد يوسّع موضوع حكمه الواقعيّ بدافع الاحتياط ، وهذا غير الأمر

__________________

(١) البقرة : ١٥٩

٢٩١

بالاحتياط.

ومنها : آية السؤال من أهل الذكر ، وهي قوله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلاّرجَالاً نُوحِي إلَيْهِمْ فَاسْألُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١).

وتقريب الاستدلال : أنّ الأمر بالسؤال يدلّ بإطلاقه على وجوب قبول الجواب ولو لم يفِدِ العلم ؛ لأنّه بدون ذلك يكون الأمر بالسؤال في حال عدم إفادة الجواب للعلم لغواً ، وإذا وجب قبول الجواب ولو لم يفِدِ العلم ثبتت الحجّيّة.

وقد اتّضح الجواب ممّا سبق ، إضافةً إلى أنّ الأمر بالسؤال في الآية ليس ظاهراً في الأمر المولويّ لكي يستفاد منه ذلك ؛ لأنّه وارد في سياق الحديث مع المعاندين والمتشكِّكِين في النبوّة من الكفّار ، ومن الواضح أنّ هذا السياق لا يناسب جعل الحجّيّة التعبّديّة ، وإنّما يناسب الإرشاد إلى الطرق التي توجب زوال التشكّك ودفع الشبهة بالحجّة القاطعة ؛ لأنّ الطرف ليس ممّن يتعبّد بقرارات الشريعة.

ونلاحظ أيضاً : أنّ الأمر بالسؤال مفرّع على قوله : «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلاّ رِجَالاً نُوحِي إلَيْهِمْ» ، والتفريع يمنع عن انعقاد إطلاقٍ في متعلّق السؤال لكي يثبت الأمر بالسؤال في غير مورد المفرّع عليه وأمثاله. هذا ، على أنّ مورد الآية لا حجّيّة فيه لأخبار الآحاد ؛ لأنّه يرتبط باصول الدين.

وإذا قطعنا النظر عن كلّ ذلك فالاستدلال يتوقّف على حمل أهل الذِكر على العلماء والرواة ـ لا أهل النبوّات السابقة ـ بحمل الذِكر على العلم ، لا على الرسالة الإلهيّة.

وأمّا السنّة فلابدّ لكي يصحّ الاستدلال بها في المقام أن تكون ثابتةً بوسيلةٍ من وسائل الإحراز الوجدانيّ ، ولا يكفي ثبوتها بخبر الواحد ؛ لئلاّ يلزم الدور. وهنا

__________________

(١) النحل : ٤٣

٢٩٢

وسيلتان للإحراز الوجدانيّ :

إحداهما : التواتر في الروايات الدالّة على حجّيّة خبر الواحد.

والاخرى : السيرة.

أمّا الوسيلة الاولى فتقريب الاستدلال بها : أنّ حجّيّة خبر الواحد يمكن اقتناصها من ألسِنَة رواياتٍ كثيرةٍ تشترك جميعاً في إفادة هذا المعنى وإن اختلفت مضامينها ، وبذلك يحصل التواتر الإجمالي ، ويثبت بالتواتر حجّيّة خبر الواحد الواجد من المزايا لما يجعله مشمولاً لمجموع تلك الروايات المكوّنة للتواتر ، فإذا اتّفق وجود خبرٍ من هذا القبيل يدلّ على حجّيّة خبر الواحد في دائرةٍ أوسعَ اخذ به.

وأمّا الوسيلة الثانية فتقريب الاستدلال بها يشتمل على الامور التالية :

أوّلاً : إثبات السيرة ، وأنّ المتشرّعة والرواة في عصر الأئمّة كانوا يعملون بأخبار الثقات ولو لم تُفدهم الاطمئنان الشخصيّ ، وفي هذا المجال يمكن استعمال الطريق الثالث من طرق إثبات السيرة المتقدّمة ؛ وذلك لتوفّر شروطه ، فإنّه لا شكّ في وجود عددٍ كبيرٍ من هذه الروايات بأيدي المتشرّعة المعاصرين للأئمّة ودخول حكمها في محلّ ابتلائهم على أوسع نطاق ، فإمّا أن يكونوا قد انعقدت سيرتهم على العمل بها من أجل تلقّي ذلك من الشارع ، أو جرياً على سجيّتهم ، وإمّا أن يكونوا قد توقّفوا عن العمل بها.

والأوّل هو المطلوب ، إذ تثبت بذلك السيرة الممتدّة في تطبيقها إلى المجال الشرعيّ.

وأمّا الثاني فليس من المحتمل أن يؤدّي توقّفهم إلى طرح تلك الروايات جميعاً بدون استعلام الحكم الشرعيّ تجاهها ؛ لأنّ ارتكاز الاعتماد على أخبار الثقات وكون طرح خبر الثقة على خلاف السجيّة العقلائيّة يَحول عادةً دون التوافق على الطرح بلا استعلام ، والاستعلام يجب أن يكون بحجم أهمّيّة المسألة ، وهذا يقتضي

٢٩٣

افتراض أسئلةٍ وأجوبةٍ كثيرة ، فلو لم يكن خبر الثقة حجّةً لكان هذا يعني تضافر النصوص بذلك في مقام الجواب على أسئلة الرواة ، ومع توفّر الدواعي على نقل ذلك لابدّ من وصول هذه النصوص إلينا ولو في الجملة ، بينما لم يصل إلينا شيء من ذلك ، بل وصل مايعزِّز الحجّيّة ، وهذا يعيِّن : إمّا استقرار العمل بأخبار الثقات بدون استعلام ، وإمّا استقراره على ذلك بسبب الاستعلام وصدور البيانات المثبتة للحجّيّة.

ثانياً : أنّ السيرة الثابتة بالبيان السابق إذا كانت سيرةً لأصحاب الأئمّة بما هم متشرّعة فهي تكشف عن الدليل الشرعيّ بلا حاجةٍ إلى ضمّ مقدّمة ، وإذا كانت سيرةً لهم بما هم عقلاء ضممنا إليها مقدمةً اخرى ، وهي : أنّ الشارع لم يردع عنها ، إذ لو كان قد ردع بالدرجة الكافية لأثّر هذا الردع من ناحيةٍ في هدم السيرة ، ولوصل إليها شيء من نصوص الردع.

ثالثاً : أنّ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ قد يتوهّم أنّها تردع عن السيرة ؛ لأنّ خبر الواحد أمارة ظنّيّة فيشمله إطلاق النهي عن العمل بالظنّ. ولكنّ الصحيح أنّها لا تصلح أن تكون رادعة ؛ وذلك لأنّنا أثبتنا بالفعل انعقاد السيرة المعاصرة للأئمّة على العمل بأخبار الثقات في الشرعيّات ، وهذا يعني ـ بعد استبعاد العصيان ـ إمّا وصول دليلٍ إليهم على الحجّيّة ، أو غفلتهم عن اقتضاء تلك النواهي للردع ، أو عدم كونها دالّةً على ذلك في الواقع ، وعلى كلٍّ من هذه التقادير لا يكون الردع تامّاً.

ومثل ذلك يقال في مقابل التمسّك بأدلّة الاصول ، كدليل أصالة البراءة ـ مثلاً ـ لإثبات الردع بإطلاقها لحالة قيام خبر الثقة على خلاف الأصل المقرّر فيها.

رابعاً : أنّ عدم الردع يكشف عن الإمضاء ، وهذا واضح بعد إثبات امتداد السيرة إلى الشرعيّات وجريانها على إثبات الحكم الشرعيّ بخبر الثقة ، الأمر الذي يعرِّض الأغراض الشرعيّة للتفويت لو لم تكن مرضيّة ، مضافاً إلى أنّ ظاهر الحال في أمثال المقام هو الإمضاء ، كما تقدّم.

٢٩٤

أدلّة نفي الحجّيّة :

وقد استُدلّ على نفي الحجّيّة بالكتاب والسنّة :

أمّا الكتاب فبما ورد فيه من النهي عن أتّباع الظنّ ، كقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ...) (١).

وقد يجاب على ذلك : بأنّ النهي المذكور إنّما يدلّ على نفي الحجّيّة عن خبر الواحد بالإطلاق ، وهذا الإطلاق يقيّد بدليل حجّيّة خبر الواحد ، سواء كان لفظيّاً أو سيرة.

أمّاعلى الأوّل فواضح ، وأمّاعلى الثاني فلأنّ إطلاق الآيات لايصلح أن يكون رادعاً عن السيرة ، كماتقدّم ، وهذا يعني استقرار حجّيّةالسيرة فتكون مقيّدةً للإطلاق.

وأمّا السنّة ففيها ما دلّ على عدم جواز العمل بالخبر غير العلميّ (٢) ، وفيها ما دلّ على عدم جواز العمل بخبرٍ لا يكون عليه شاهد من الكتاب الكريم (٣).

أمّا الفريق الأوّل فيرد عليه :

أوّلاً : أنّه من أخبار الآحاد الضعيفة سنداً ، ولا دليل على حجّيّته.

وثانياً : أنّه يشمل نفسه ؛ لأنّه خبر غير علميٍّ بالنسبة إلينا ، ولا نحتمل الفرق بينه وبين سائر الأخبار غير العلميّة ، وهذا يعني امتناع حجّيّة هذا الخبر ؛ لأنّ حجّيّته تؤدّي إلى نفي حجّيّته والتعبّد بعدمها.

وأمّا الفريق الثاني فيرد عليه : أنّه لو تمّ في نفسه لكان مطلقاً شاملاً للأخبار

__________________

(١) الإسراء : ٣٦

(٢) مثل ما ورد عن الإمام الهادي عليه‌السلام : «ما علمتم أنّه قولنا فالزموه ، وما لم تعلموا فردّوه إلينا». وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٠ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٦

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٠ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١١

٢٩٥

الواردة في اصول الدين ، والأخبار الواردة في الأحكام ، فيعتبر ما دلّ على الحجّيّة في القسم الثاني بالخصوص صالحاً لتقييد إطلاق تلك الروايات.

تحديد دائرة الحجّيّة :

وبعد افتراض ثبوت الحجّيّة يقع الكلام في تحديد دائرتها ، وتحديد الدائرة : تارةً بلحاظ صفات الراوي ، واخرى بلحاظ المروِيّ.

أمّا باللّحاظ الأوّل فصفوة القول في ذلك : إنّ مدرك الحجّيّة إذا كان مفهوم آية النبأ فهو يقتضي حجّيّة خبر العادل ، ولا يشمل خبر الفاسق الثقة. وإذا كان المدرك السنّة على أساس الروايات والسيرة فلا شكّ في أنّ موضوعها خبر الثقة ولو لم يكن عادلاً من غير جهة الإخبار.

إلاّأنّ وثاقة الراوي : تارةً تؤخذ مناطاً للحجّيّة على وجه الموضوعيّة ، واخرى تؤخذ مناطاً لها على وجه الطريقيّة وبما هي سبب للوثوق غالباً بصدق الراوي وصحّة نقله. فإن استظهر الأوّل لزم القول بحجّيّة خبر الثقة ولو قامت أمارة عكسيّة مكافئة لوثاقة الراوي في كشفها ، وإن استظهر الثاني لزم سقوط خبر الثقة عن الحجّيّة في حالة قيام أمارةٍ من هذا القبيل. وعليه يترتّب أنّ إعراض القدماء من علمائنا عن العمل بخبر ثقةٍ يوجب سقوطه عن الحجّيّة إذا لم يحتمل فيه كونه قائماً على أساسٍ اجتهاديّ ؛ لأنّه يكون أمارةً على وجود خللٍ في النقل.

وأمّا خبر غير الثقة فإن لم تكن هناك أمارات ظنّيّة على صدقه فلا إشكال في عدم حجّيّته ، وإن كانت هناك أمارات كذلك : فإن أفادت الاطمئنان الشخصيّ كان حجّةً لحجّيّة الاطمئنان ، كما تقدّم ، وإلاّ ففي حجّيّة الخبر وجهان مبنيّان على أنّ وثاقة الراوي هل هي مأخوذة مناطاً للحجّيّة على وجه الموضوعيّة ، أو بما هي سبب للوثوق الغالب بالمضمون على نحوٍ يكون السبب والمسبَّب كلاهما دخيلين في

٢٩٦

الحجّيّة ، أو بما هي معرّف صرف للوثوق الغالب بالمضمون دون أن يكون لوثاقة الراوي دخل بعنوانها؟

فعلى الأوّل والثاني لا يكون الخبر المذكور حجّة ، وعلى الثالث يكون حجّة. وعلى هذه التقادير تبتني إثباتاً ونفياً مسألة انجبار الخبر الضعيف بعمل المشهور من قدماء العلماء ، فإنّ عمل المشهور به يعتبر أمارةً على صحة النقل ، فقد يدخل في نطاق الكلام السابق.

وأمّا باللحاظ الثاني فيعتبر في الحجّيّة أمران :

أحدهما : أن يكون الخبر حسّيّاً لا حدْسيّاً.

والآخر : أن لايكون مخالفاً لدليلٍ قطعيّ الصدور من الشارع ، كالكتاب الكريم.

أمّا الأوّل فلعدم شمول أدلّة الحجّيّة للأخبار الحدسيّة.

وأمّا الثاني فلِمَا دلّ من الروايات على عدم حجّيّة الخبر المخالف للكتاب الكريم (١) ، فإنّه يقيّد أدلّة حجّيّة الخبر بغير صورة المخالفة للكتاب الكريم ، أو ما كان بمثابته من الأدّلة الشرعيّة القطعيّة صدوراً وسنداً.

قاعدة التسامح في أدلّة السنن :

ذكرنا : أنّ خبر غير الثقة إذا لم تكن هناك أمارات على صدقه فهو ليس بحجّة ، ولكن قد يستثنى من ذلك : الأخبار الدالّة على المستحبّات ، أو على مطلق الأوامر والنواهي غير الإلزاميّة ، فيقال بأ نّها حجّة في إثبات الاستحباب أو الكراهة ما لم يعلم ببطلان مفادها. ويستند في ذلك إلى رواياتٍ (٢) فيها الصحيحة وغيرها دلّت على أنّ من بلغه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثواب على عملٍ فعمله كان له مثل

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٩ ـ ١١١ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٠ و ١٢ و ١٤

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٨٠ ، الباب ١٨ من أبواب مقدمة العبادات

٢٩٧

ذلك الثواب وإن كان النبيّ لم يقله ، بدعوى : أنّ هذه الروايات تجعل الحجّيّة لمطلق البلوغ في موارد المستحبّات ، ومن أجل هذا يعبَّر عن ذلك بالتسامح في أدلّة السنن.

والتحقيق : أنّ هذه الروايات فيها بدواً عدّة احتمالات :

الأوّل : أن تكون في مقام جعل الحجّية لمطلق البلوغ.

الثاني : أن تكون في مقام إنشاء استحبابٍ واقعيٍّ نفسيٍّ على طبق البلوغ ، فيكون بلوغ استحباب الفعل عنواناً ثانويّاً له يستدعي ثبوت استحبابٍ واقعيٍّ بهذا العنوان.

الثالث : أن تكون إرشاداً إلى حكم العقل بحسن الاحتياط واستحقاق المحتاط للثواب.

الرابع : أن تكون وعداً مولويّاً لمصلحةٍ في نفس الوعد ؛ ولو كانت هذه المصلحة هي الترغيب في الاحتياط باعتبار حسنه عقلاً.

والاستدلال بالروايات ـ على ما ذكر ـ مبنيّ على الاحتمال الأوّل ، وهو غير متعيّن ، بل ظاهر لسان الروايات ينفيه ؛ لأنّها تجعل للعامل الثواب ولو مع مخالفة الخبر للواقع. فلو كان وضع نفس الثواب تعبيراً عن التعبّد بثبوت المؤدّى وحجّية البلوغ لَما كان هناك معنى للتصريح بأنّ نفس الثواب محفوظ حتّى مع مخالفة الخبر للواقع.

كما أنّ الاحتمال الثاني لا موجب لاستفادته أيضاً ، إلاّدعوى أنّ الثواب على عملٍ فرع كونه مطلوباً ، وهي مدفوعة : بأ نّه يكفي حسن الاحتياط عقلاً ملاكاً للثواب.

فالمتعيّن هو الاحتمال الثالث ، ولكن مع تطعيمه بالاحتمال الرابع ؛ لأنّ الاحتمال الثالث بمفرده لا يفسِّر إعطاء العامل نفس الثواب الذي بلغه ؛ لأنّ العقل إنّما يحكم باستحقاق العامل للثواب لا لشخص ذلك الثواب ، فلا بدّ من الالتزام بأنّ هذه الخصوصيّة مردّها إلى وعدٍ مولويّ.

٢٩٨

٣ ـ الدليل الشرعي

إثباتُ

حجية الدلالة في الدليل الشرعي

تمهيد.

الاستدلال على حجية الظهور.

موضوع الحجيّة.

ظواهر الكتاب الكريم.

٢٩٩
٣٠٠