دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

وأمّا الخطأ فهو أنّ هذا التدرّج لا ينبغي أن يكون منتزعاً من تأريخ علم الاصول ومعبّراً عمّا مرّ به هذا العلم نفسه من تدرّجٍ خلال نموِّه ؛ لأنّ هذا يكلِّف الطالب أن يصرف وقتاً كثيراً في مطالب وأفكارٍ لم يعد لها موضع في العلم بحسب وضعه الفعلي.

وإنّما الوضع الصحيح في الكتب الدراسية الذي يشتمل على التدرّج المطلوب هو : أن تتّجه هذه الكتب جميعاً على اختلاف مراحلها الدراسية لعرض آخر ما وصل إليه العلم من أفكارٍ وتحقيقاتٍ ومصطلحات ، ولكن بدرجاتٍ من العرض تختلف من ناحية الكمّ أو الكيف ، أو من الناحيتين معاً ، والاختلاف في الكمِّ يعني التفاوت في المقدار المُعطى من الأفكار ، فبدلاً عن استعراض خمسة اعتراضاتٍ على الاستدلال بآية النبأ ـ مثلاً ـ يبدأ في الحلقة الاولى باعتراضٍ أو اعتراضين ، ثمّ يُستعرض عدد أكبر من الاعتراضات في حلقةٍ تالية ، والاختلاف في الكيف يعني التفاوت في درجة عمق ما يطرح من فكرة ، فحينما يراد الحديث عن مسلك جعل الطريقية ـ مثلاً ـ يعرض في حلقةٍ ابتدائية عرضاً ساذجاً بدون تعميق ، ثمّ يعمَّق في حلقةٍ لاحقة ، فيعرض على نحوٍ يميَّز فيه بين التنزيل والاعتبار ، وقد يعرض في حلقةٍ اخرى حينئذٍ على نحو المقارنة بين هذين النحوين في النتائج والآثار.

المبرِّر الثاني : أنّ الكتب الأربعة السالفة الذكر ـ على الرغم من أنّها استعملت ككتبٍ دراسيةٍ منذ أكثر من خمسين عاماً ـ لم تؤلَّف من قبل أصحابها لهذا الهدف ، وإنّما ا لِّفت لكي تعبّر عن آراء المؤلّف وأفكاره في المسائل الاصولية المختلفة ، وفرق كبير بين كتابٍ يضعه مؤلِّفه لكي يكون كتاباً دراسياً وكتاب يؤلّفه ليعبِّر فيه عن أعمق وأرسخ ما وصل إليه من أفكارٍ وتحقيقات ؛ لأنّ المؤلِّف في الحالة الاولى يضع نصب عينيه الطالب المبتدئ الذي يسير خطوةً فخطوةً في طريق

٢١

التعرّف على كنوز هذا العلم وأسراره ، وأمّا في الحالة الثانية فيضع المؤلّف في تصوّره شخصاً نظيراً له مكتملاً من الناحية العلمية ، ويحاول أن يشرح له وجهة نظره ويقنعه بها بقدر ما يتاح له من وسائل الإقناع العلمي.

ومن الواضح أنّ كتاباً يوضع بهذا الاعتبار لا يصلح أن يكون كتاباً دراسياً مهما كانت قيمته العلمية وإبداعه الفكري ، ومن أجل ذلك كانت الكتب الدراسية المتقدّمة الذكر غير صالحةٍ للقيام بهذا الدور على جلالة قدرها العلمي ؛ لأنّها ا لِّفت للعلماء والناجزين ، لا للمبتدئين والسائرين.

فمن هنا لم يحرص في هذه الكتب وأمثالها من الكتب العلمية المؤلّفة للعلماء على إبراز كلّ خطوات الاستدلال وحلقات التفكير في المسألة الواحدة ، فقد تحذف بعض الحلقات في الأثناء ، أو البداية ؛ لوضوحها لدى العالم ، غير أنّ الصورة حينئذٍ تصبح غير واضحةٍ في ذهن الطالب.

وعلى سبيل المثال لتوضيح الفكرة نذكر : أنّه بُحِثَ في التعبّديّ والتوصّليّ عن استحالة أخذ قصد الامتثال في متعلّق الأمر ، وفُرِّع عليه أنّ التعبّديّ لا يتميّز عن التوصّليّ في مرحلة الأمر ، بل في مرحلة الغرض ، إذ لا يستوفى غرضه إلاّبقصد الامتثال ، واستنتج من ذلك عدم إمكان التمسّك بإطلاق الأمر لإثبات كون الواجب توصّلياً ، وهذا لا يصلح أن يكون بياناً مدرسياً ؛ لأنّ البيان المدرسيّ بحاجةٍ ـ لتكميل الصورة في ذهن الطالب ـ إلى إضافة عنصرين آخرين تُرِكا لوضوحهما :

أحدهما : أنّ قصد الامتثال إذا كان بالإمكان أخذه في متعلّق الأمر فحاله حال سائر القيود يمكن نفيه بإطلاق الأمر.

والآخر : أنّ الخطاب والدليل مدلوله الأمر والحكم ، لا الملاك والغرض ، وأنّ استكشاف إطلاق الغرض دائماً إنّما يتمّ عن طريق استكشاف إطلاق متعلّق الأمر مع افتراض التطابق بين متعلّق الأمر ومتعلّق الغرض ، فحيث لا يتبرهن هذا

٢٢

الافتراض لا يمكن الاستكشاف المذكور.

ومثال آخر من باب التزاحم : فإنّ جُلَّ أحكام هذا الباب مبنية على أخذ القدرة شرطاً في التكليف ، وعدم كونه دخيلاً في الإدانة والمنجّزية فقط ، بينما هذا المطلب لم يبحث بصورةٍ مباشرة ، ولم يوضّح الربط المذكور ، بل بقي مستتراً.

وأيضاً ابرزت كيفية دلالة المطلق على الإطلاق بصورةٍ مباشرة ، بينما لم تبرز كيفية دلالة المقيّد على أخذ القيد في الموضوع كذلك ، وإنّما بُحث ذلك ضمناً خلال بحث حمل المطلق على المقيّد وكيفية علاج التعارض بينهما.

ومن هنا لم يراعَ فيها أيضاً ما يجب أن يراعى في الكتب الدراسية من التدرّج في عرض الأفكار من البسيط إلى المعقّد ، ومن الأسبق رتبةً إلى المتأخّر ، بحيث تعرض المسألة المتفرّعة ذاتاً في تصوّراتها على حيثيات مسائل اخرى بعد أن تكون تلك الحيثيات قد طرحت وبحثت.

وعلى سبيل المثال لتوضيح الفكرة : لاحظ بحث توقّف العموم على إجراء الإطلاق ومقدمات الحكمة في المدخول ، فإنّ تصوّر هذا الافتراض يستبطن الفراغ مسبقاً عن تصوّر مقدمات الحكمة ووظيفتها ، بينما يذكر ذلك البحث في العامّ والخاصّ ، وتذكر مقدّمات الحكمة بعد ذلك في مباحث المطلق والمقيد.

ولاحظ أيضاً الشرط المتأخّر للحكم مثلاً ، فإنّ تصوّر المشكلة فيه وتصوّر حلولها مرتبط بمجموعة أفكارٍ عن الواجب المشروط ، وطريقة السير من البسيط إلى المعقّد تقتضي تقديم هذه المجموعة من الأفكار على عرض مشكلة الشرط المتأخّر وبحثها ، بينما وقع العكس في الكفاية وغيرها.

ومثال آخر : أنّ تصوّر التخيير بين الأقلّ والأكثر وافتراض استحالته دخيل في استيعاب قاعدة إجزاء الأوامر الاضطرارية عن الواقع ، فإذا بحثت هذه القاعدة بعد افتراض تصوّرٍ مسبقٍ عن التخيير المذكور كان فهمها للطالب وتصوّرها أيسر.

٢٣

ومن هنا لم يراعَ فيها ما يجب أن يراعى في الكتب الدراسية من توفير فهمٍ مسبقٍ عند الطالب للمسائل والقواعد التي يستعان بها لإثبات المدّعى في مسألة اخرى والبرهنة عليها ، أو لاقتناص الثمرة الاصولية لها. فالإطلاق ومقدمات الحكمة تدخل كدليلٍ لإثبات دلالة الأمر على الوجوب ، ولإثبات دلالته على العينية والتعيينية والنفسية ، ولإثبات دلالة الجملة الشرطية وغيرها على المفهوم ، وهكذا ، مع أنّ الطالب في الكتب القائمة لا يُعطى فكرة عن الإطلاق ومقدمات الحكمة إلاّبعد الفراغ عن جميع مباحث الأوامر والنواهي والمفاهيم. وأحكام التعارض ـ بما فيها قواعد الجمع العرفي ـ قد تدخل في علاج كثيرٍ من ألوان التعارض بين الأدلّة اللفظية المستدلِّ بها على حجّية أمارةٍ أو أصلٍ من الاصول ، فيقال مثلاً : «إنّ دليل وجوب الاحتياط حاكم على دليل البراءة ، أو وارد ، أو إنّ دليل البراءة مخصّص» قبل إعطاء تصوراتٍ وأفكارٍ محدّدةٍ عن أحكام التعارض وقواعد الجمع بين الأدلّة التي لا تقع إلاّفي نهاية أبحاث الاصول. ومسألة اقتضاء النهي للبطلان تدخل عندهم في اقتناص الثمرة من بحث الضدّ ، إذ جعلوا ثمرة اقتضاء الأمر بشيءٍ للنهي عن ضدّه بطلان العبادة ، وفي اقتناص الثمرة من بحث امتناع اجتماع الأمر والنهي ، إذ جعلوا ثمرة هذا البحث بطلان العبادة بناءً على القول بالامتناع وتقديم جانب النهي ، مع أنّ الطالب لا يدرس مسألة اقتضاء النهي للبطلان ، ولا يأخذ عنها تصوّراً علمياً إلاّبعد الفراغ عن مسألتي الضدّ والامتناع ، وهكذا إلى كثيرٍ من هذه النظائر.

ومن هنا لم يحرص أيضاً على إبراز الثمرة لكثيرٍ من المطالب ، التي يتبيّن من خلالها الارتباط بين تلك المطالب بعضها ببعض ، فاهملت في كثيرٍ من الأحيان أوجه العلاقة بين الأفكار الاصولية ، ولم يتعرّض لها إلاّبقدر ما يحتاج اليه في مقام الاستدلال على مطلبٍ أو إبطاله ، فبُحث ـ مثلاً ـ المعنى الحرفيّ وجزئيّته وكلّيته ،

٢٤

ولكن لم يربط ذلك بالتمسّك بالإطلاق في المعاني الحرفية ، وظلّ الطلبة يكرِّرون أنّ البحث في المعاني الحرفية لا أثر له ، وبُحث الوجوب التخييريّ والكفائيّ بحثاً تحليلياً ، ولكن لم يربط ذلك بأثره في التمسّك بالإطلاق أو الأصل العمليّ عند الشكّ في نوعية الواجب ، وبدا كأنّه بحث تحليليّ بحت.

ومن هنا لم يحرص أيضاً على وضع كثيرٍ من النكات والمباحث في موضعها الواقعيّ وبصيغةٍ تتناسب مع كلّيتها وأهمّيتها ، وإنّما دُسّت دساً في مقام علاج مشكلةٍ ، أو دفع توهّم ، أو اثيرت من خلال تطبيقٍ من تطبيقاتها. ومن الواضح أنّ الممارس العالم يستطيع من خلال ذلك أن يضع النكتة في موضعها الواقعيّ ويعطيها حدودها المناسبة ، ولكن قلّما يُتاح ذلك للطالب ، فيبقى فهمه لتلك النكات والمطالب فهماً تجزيئياً وضمن دوائر محدودة.

خذ مثالاً على ذلك : أركان تنجيز العلم الإجماليّ الأربعة التي عرضناها في الحلقة الثانية ، فإنّ الكتب التي تتحدّث عنها حينما تناولت منجّزية العلم الإجماليّ لم تضع لها أركانها بصيغها الفنية العامّة ، وإنّما عقدت تنبيهات لحالاتٍ جزئيةٍ طبّقت من خلالها ضمناً تلك الأركان إثباتاً ونفياً ، وفي حالةٍ من هذا القبيل لن يخرج الطالب غالباً بصورةٍ محدّدةٍ ورؤيةٍ واضحةٍ لهيكل تنجيز العلم الإجماليّ بما يشتمل عليه من قواعد وأركان.

ومن هنا لم يحرص أيضاً على اجتناب استعمال مصطلحاتٍ لم يأتِ بعدُ تفسيرها ؛ لأنّ الحديث في تلك الكتب مع العالم ، لا مع الطالب ، والعالم محيط بتلك المصطلحات منذ البدء ، ولهذا نجد في الصفحة الاولى من الكفاية استعمال مصطلح حجّية الظن بناءً على تقرير دليل الانسداد على الحكومة ، وهو مصطلح لا يكشف النقاب عنه إلاّفي أواسط الجزء الثاني من الكتاب.

المبرِّر الثالث : وهو أيضاً ناتج عن الحالة العامة التي لوحظت في المبرّر

٢٥

السابق (وهي : أنّ المؤلِّفين كانوا يكتبون لأمثالهم ، لا للمبتدئين). وحاصل هذا المبرّر : أنّ المقدار الذي ينبغي أن يُعطى من الفكر العلميّ الاصولي في مرحلة السطح يجب أن يحدّد وفقاً للغرض المفروض لهذه المرحلة ، والذي أعرفه غرضاً لهذه المرحلة تكوين ثقافةٍ عامّةٍ عن علم الاصول لمن يريد أن يقتصر على تلك المرحلة ، والإعداد للانتقال إلى مرحلة الخارج لمن يريد مواصلة الدرس ، وهذا هو أهمّ الغرضين. فلابدّ إذن أن يكون المعطى بقدرٍ يكفل ثقافةً عامّةً تحقّق هذا الإعداد ، وتوجِد في الطالب فهماً مسبقاً بدرجةٍ معقولةٍ لما سوف يتلقّى درسه من مسائل ، ومرتبة من العمق والدقّة تتيح له أن يهضم ما يواجهه في أبحاث الخارج من أفكارٍ دقيقةٍ موسّعةٍ وبناءاتٍ فكريةٍ شامخة. ومن الواضح أنّ هذا يكفي فيه أن تتوفّر الكتب الدراسية على إعطاء علم الاصول بهيكله العام ، ولا يلزم أن يمتدّ البحث في تلك الكتب إلى التفريعات الثانوية ويتلقّى وجهات نظرٍ فيها ، بل الأفضل أن تترك هذه التفريعات على العموم إلى أبحاث الخارج ما دامت المفاتيح التي سوف يتسلّمها الطالب كافيةً لمساعدته على الدخول فيها بعد ذلك مع استاذ بحث الخارج.

وعلى هذا الأساس نرى من المهمِّ أن يحصل الطالب على تصوراتٍ شبه معمّقةٍ عن : الأحكام الظاهرية ، وطريقة الجمع بينها وبين الواقع ، والفرق بين الأمارات والاصول ، وسنخ المجعول في أدلّة الحجّية ، وأثر ذلك على أبواب مختلفة ، كباب حكومة الأمارة على الأصل ، وحكومة الاستصحاب على البراءة ، وقيام الأمارة مقام القطع الموضوعي ؛ لأنّ هذه الأفكار تعتبر أساسيةً بالنسبة إلى الهيكل العامّ لعلم الاصول.

وأمّا أن يحاط الطالب علماً بأنّ استصحاب عدم التذكية ـ مثلاً ـ حاكم على أصالة البراءة ، ويستطرق من ذلك إلى بحثٍ طويلٍ ومعمّقٍ في نفس جريان استصحاب عدم التذكية وموارد جريانه في الشبهات الموضوعية والحكمية فهذا ممّا

٢٦

لا يدخل في نطاق الغرض من مرحلة بحث السطح.

هذا ، فضلاً عن الاستطرادات التي وقعت فيها تلك الكتب ، كاستطرادها للحديث عن قاعدة «لا ضرر ولا ضرار» ونحو ذلك ، أو التوسّعات التي تزيد عن الحاجة لمرحلة السطح في استعراض الأقوال ونقل الأدلة ، واستيعاب النقض والإبرام ، حتّى بلغت الأقوال التي أحصاها الشيخ في الرسائل في الاستصحاب وبحث كلّ واحدٍ منها بحثاً مفصّلاً أربعة عشر قولاً.

المبرِّر الرابع : أنّ الطريقة المتّبعة في تحرير المسائل وتحديد كلّ مسألةٍ بعنوانٍ من العناوين الموروثة تأريخياً في علم الاصول لم تَعدْ تعبِّر عن الواقع تعبيراً صحيحاً ؛ وذلك لأنّ البحث الاصوليّ من خلال اتّساعه وتعمّقه بالتدريج ـ منذ أيام الوحيد البهبهانيّ إلى يومنا هذا ـ طرح قضايا كثيرةً جديدةً ضمن معالجاته للمسائل الاصولية الموروثة تأريخياً ، وكثير من هذه القضايا تعتبر من الناحية الفنية ومن الناحية العملية معاً أهمّ من جملةٍ من تلك المسائل الموروثة ، بينما ظلّت هذه القضايا تحت الشعاع ؛ ولا تبرز إلاّبوصفها مقدماتٍ أو استطراداتٍ في مباحث تلك المسائل.

ويمكنك أن تلاحظ بهذا الصدد المباحث العقلية التي ادرجت في الجزء الأوّل من الكفاية تحت عناوين (البحث عن الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته) و (الملازمة بين الأمر بالشيء والنهي عن ضده) ، وهكذا ، فإنّ هذه العناوين باعتبار كونها تأريخيةً وموروثةً في علم الاصول استأثرت بالمسائل المبحوثة ، مع أنّه وقع البحث في داخل تلك المسائل عن كثيرٍ من القضايا العقلية المهمّة التي بقيت بلا عنوانٍ وكأنّها مجرّد أبحاثٍ تمهيديّةٍ أو استطراديّة ، ف (إمكان الشرط المتأخّر أو استحالته) و (إمكان الواجب المعلّق أو استحالته) و (ضرورة تقيّد التكليف بعدم الاشتغال بالمزاحم) و (عدم جواز تضييع المقدّمات المفوِّتة) إلى

٢٧

غير ذلك من القضايا بقيت كأجزاءٍ من أبحاث تلك العناوين التأريخية ، بينما كلّ واحدةٍ منها تشكِّل بحثاً اصولياً مهمّاً من الناحية الفنية ، ومن ناحية ترتّب الثمرة الاصولية ، ولا تقلّ أهمّيةً عن تلك المسائل التأريخية الموروثة ، بل قد تكون أهمَّ منها.

فالاصوليّون ـ مثلاً ـ حاروا في كيفيّة تصوير الثمرة لبحث الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، مع أنّهم لم يتوصّلوا إلى أفكارهم عن الواجب المعلّق أو الشرط المتأخّر ونحوهما إلاّلتحقيق ثمراتٍ عمليةٍ واضحة ، ومع هذا حشروا كلّ هذه الأفكار ضمن تلك المسألة التي لا يعرفون كيف يوضّحون ثمرتها العملية ، وضاعت بذلك على الطالب قيمة تلك الأفكار ومغزاها العملي ، حتَّى أنّ كثيراً من الطلبة يرون أنّ التوسّع في داخل المسألة التي ليس من الواضح أنّ لها ثمرةً عمليةً مجرّد تطويلٍ وتوسيعٍ لعملية لغو لا مبرّر له ، بل إنّ هذا الحشر في كثيرٍ من الأحيان يؤدّي إلى إيحاءاتٍ خاطئة.

فمثلاً : مشكلةالمقدمات المفوّتة ووجوب تحصيلها حشرت في سياق الوجوب الغيري ، وفرّعت على تبعية الوجوب الغيريّ للوجوب النفسيّ في الإطلاق والاشتراط ، وهذا يوحي بالارتباط ، مع أنّ مشكلة المقدمات المفوّتة مشكلة قائمة تحتاج إلى تفسير واكتشاف قانونها الاصولي ، سواء قلنا بالوجوب الغيريّ ، أوْ لا ، فهي ترتبط بالمسؤولية المولوية تجاه المقدمة ، وهي مسؤولية لا شكّ فيها ، ولا شكّ في تبعيتها لفعلية الوجوب النفسي ، سواء كانت هذه المسؤولية عقليةً بحتةً ومن تبعات محرّكية الوجوب النفسي ، أو كانت مشتملةً على ما يسمّى بالوجوب الغيري.

هذه هي أهمّ المبرِّرات التي تدعو إلى التفكير بصورةٍ جادّةٍ في استبدال الكتب الدراسية القائمة ، والاعتقاد بعدم صلاحيتها في مجال التدريس على الرغم من قدسيتها العلمية والتأريخية.

٢٨

[عدّة محاولات للاستبدال] :

وقد صدرت في العقود الثلاثة الأخيرة عدّة محاولاتٍ للاستبدال والتطوير في الكتب الدراسية ، وكان من نتاج هذه المحاولات : كتاب «مختصر الفصول» كتعويضٍ عن القوانين ، وكتاب «الرسائل الجديدة» اختصاراً للرسائل كتعويضٍ عنها ، وكتاب «اصول الفقه» كحلقةٍ وسيطةٍ بين المعالم وكتابَي الرسائل والكفاية. وهي محاولات مشكورة وتمثِّل جهوداً مخلصةً في هذا الطريق ، وقد يكون أكثرها استقلاليةً وأصالةً هو المحاولة الثالثة باعتبارها تصنيفاً مستقلاًّ ، وليس مجرّد اختصارٍ لكتابٍ سابق ، ولكنّها لا تفي مع ذلك بالحاجة لعدّة أسباب :

منها : أنّها لا يمكن الاقتصار عليها في السطح والاكتفاء بها عن جميع الكتب الدراسية الاصولية ، وإنّما هي مرشَّحة لتكون الحلقة الوسيطة بين المعالم وكتابي : الكفاية والرسائل على ما يبدو من ظروف وضعها. ومن الواضح أنّ هذا أشبه ما يكون بعمليّة الترقيع ، فهي وإن حرصت على أن تعطي للطالب غالباً الأفكار الحديثة في علم الاصول بقدر ما اتيح للمؤلِّف إدراكه واستيعابه ولكنّها تصبح قلقةً حين توضع في مرحلةٍ وسطى ، فيبدأ الطالب بالمعالم ليقرأ أفكاراً اصولية ومناهج اصوليةً في البحث وفقاً لما كان عليه العلم قبل مئات السنين ، ثمّ ينتقل من ذلك فجأةً وبقدرة قادرٍ ليلتقي في (اصول الفقه) أفكاراً اصوليّةً حديثةً مستقاةٍ من مدرسة المحقّق النائينيّ على الأغلب ، ومن تحقيقات المحقّق الإصفهانيّ أحياناً ، وبعد أن يفترض أنّ الطالب فهم هذه الأفكار نرجع به خطوةً إلى الوراء ؛ ليلتقي في الرسائل والكفاية بأفكارٍ أقدم تأريخياً بعد أن نوقش جملة منها في الحلقة السابقة واستبدلت جملة منها بأفكارٍ أمتن ، وهذا يشوِّش على الطالب مسيره العلميّ في مرحلة السطح ولا يجعله يتحرّك في الاتّجاه الصحيح.

٢٩

ومنها : أنّ «اصول الفقه» على الرغم من أنّه غيّر من المظهر العامّ لعلم الاصول ـ إذ قسّمه إلى أربعة أقسامٍ بدلاً عن قسمين ، وأدرج مباحث الاستلزامات والاقتضاءات في نطاق المباحث العقلية بدلاً عمّا درج عليه المؤلّفون من ذكرها ضمن مباحث الألفاظ ـ ولكنّ هذا لم يتجاوز التصرّف في كيفية تقسيم مجموعة المسائل الاصولية المطروحة في الكتب السابقة إلى مجاميع ، فقد صنِّفت في أربعة مجاميع ـ كما أشرنا ـ بدلاً عن مجموعتين ، ولم يمسَّ هذا التصرّف جوهر تلك المسائل ، ولم يستطع أن يكتشف ـ مثلاً ـ في مقدمات مسألة الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته مسائل اصوليةً لها استحقاقها الفنّي لأَنْ تُعرض كمسائل اصوليةٍ في نطاق الأدلّة العقلية. وهكذا اقتصر التغيير على المظهر ولم يتجاوزه إلى الجوهر.

ومنها : أنّ الكتاب لا تعبِّر بحوثه عن مستوىً واحدٍ من العطاء كيفاً وكمّاً ، أو عن مستوياتٍ متقاربة ، بل إنّ الكتاب في بعض مباحثه يتوسّع ويتعمّق ، بينما يختصر ويوجز في مباحث اخرى.

فلاحظ ـ مثلاً ـ ما يشتمل عليه من تحقيقٍ موسّعٍ في ما يتّصل باعتبارات الماهيّة في بحث المطلق والمقيّد ، وما يشتمل عليه من توسّعٍ وإطنابٍ في مباحث الحسن والقبح العقليّين ، وما يشتمل عليه من توسّعٍ كذلك في إثبات جريان الاستصحاب في موارد الشكّ في المقتضي ، بل الملحوظ في كثيرٍ من بحوث الكتاب أنّه لا تنسيق بينها وبين بحوث الكفاية التي فرض منهجياً أن تكون بعده في الخطّ الدراسي ، فجملة من المسائل تعرض بنحوٍ أوسع ممّا في الكفاية وأعمق لا يبقى مبرّراً لدراسة المسألة نفسها من جديدٍ في الكفاية ، وجملة اخرى من المسائل تعرض موجزةً أو ساذجةً على نحوٍ يبقى للكفاية قدرتها على إعطاء المزيد أو التعميق.

٣٠

[الخصائص الملحوظة في هذه الحلقات] :

وقد رأينا أنّ الاستبدال يجب أن يتمّ بصورةٍ كاملة ، فيعوّض عن مجموعة الكتب الدراسية الاصولية القائمة فعلاً بمجموعةٍ اخرى مصمّمةٍ بروحٍ واحدة ، وعلى اسسٍ مشتركة ، وعلى ثلاث مراحل ، وهذا ما قمنا به ـ بعون الله وتوفيقه ـ آخذين بعين الاعتبار النقاط التالية :

أوّلاً : أنّ الهدف الذي جعلنا على عهدة الحلقات الثلاث تحقيقه وصمّمناها وفقاً لذلك هو ما أشرنا إليه سابقاً من إيصال الطالب إلى مرحلة الإعداد لبحث الخارج ، وجعله على درجةٍ من الاستيعاب للهيكل العامّ لعلم الاصول ؛ ومن الدقّة في فهم معالمه وقواعده تمكِّنه من هضم ما يعطى له في أبحاث الخارج هضماً جيّداً.

ولهذا حرصنا على أن نطرح في الحلقات الثلاث أحدث ما وصل إليه علم الاصول من أفكارٍ ومطالب ، من دون تقيّدٍ بما هو الصحيح من تلك الأفكار والمطالب ؛ لأنّ الإعداد المذكور لا يتوقّف على تلقّي الصحيح ، بل على الممارسة الفنّية لتلك الأفكار ، وإن كنّا آثرنا اختيار الصحيح كلّما لم نجد محذوراً منهجياً وتدريسياً في ذلك ، ولكنّا أحياناً طرحنا وجهات نظرٍ غير صحيحةٍ وإن كانت حديثة ؛ لأنّ طرح وجهة النظر الصحيحة لم يكن بالإمكان أن يتمّ إلاّمن خلال طرح وجهة النظر غير الصحيحة ومناقشتها ، ومستوى الحلقة لا يتحّمل استيعاب كلّ ذلك ، فاقتصرنا على إعطاء وجهة النظر غير الصحيحة ؛ مؤجّلين إعطاء وجهة النظر النهائية إلى حلقةٍ تاليةٍ أو إلى أبحاث الخارج. ومن هنا لا يمكن التعرّف على آرائنا النهائية من خلال هذه الحلقات حتى ولو صِيغَ بيان الرأي فيها صياغةً تدلّ على التبنّي والارتضاء.

ثانياً : أنّ الحلقات الثلاث تحمل جميعاً منهجاً واحداً تستوعب كلّ واحدةٍ

٣١

منها علم الاصول بكامله ، ولكنّها تختلف في مستوى العرض كمّاً وكيفاً وتتدرّج في ذلك فيعطى لطالب الحلقة الاولى أو الثانية قدر محدّد من البحث في كلّ مسألة ، ويؤجّل قدر آخر إلى المسألة من الحلقة التالية ، وهذا التأجيل يقوم : إمّا على أساس تقدير قابلية استيعاب الطالب وتفادي تحميله ما يفوق هذه القابلية ، أو على أساس أنّ القدر الآخر مبنيّ على مطالب ونكاتٍ متواجدةٍ في مباحث اخرى من المسائل الاصولية ولم تعطَ فعلاً للطالب ، فيؤجَّل ذلك القدر من المسألة إلى أن يعطى للطالب هذه النكات التي يرتبط ذلك القدر بها.

ولم يتمثّل التدرّج في العرض في كلّ حلقةٍ بالنسبة إلى سابقتها [فحسب] بل تمثّل أيضاً في نفس الحلقة الواحدة وفقاً لنفس الأسباب من الناحية الفنية ، فالحلقة الثانية تتصاعد بالتدريج ، والحلقة الثالثة يعتبر الجزء الثاني منها أعلى درجةً من الجزء الأوّل ؛ لأنّ الطالب كلّما قطع شوطاً أكبر في الدراسة تعمّق ذهنياً من ناحية ، وازداد استيعاباً للمطالب الاصولية من ناحيةٍ اخرى ، وذلك يرشِّحه لتقبّل المزيد من التحقيق في ما يرتبط بتلك المطالب ويتوقّف عليها من نكات المسائل الاخرى وحيثياتها.

ثالثاً : أنَّا لم نجد من الضروريّ حتى على مستوى الحلقة الثالثة استيعاب كلّ الأدلّة التي يستدلّ بها على هذا القول أو ذاك ، فبالنسبة إلى أصل البراءة والاحتياط ـ مثلاً ـ لم نُحِط بكلّ الآيات والروايات التي استدلّ بها على هذا أو ذاك ؛ لأنّ هذه الإحاطة إنّما تلزم في بحث الخارج ، أو في تأليفٍ يخاطب به العلماء من أجل تكوين رأيٍ نهائي ، فلا بدّ حينئذٍ من فحصٍ كامل. وأمّا في الكتب الدراسية لمرحلة السطح فليس الغرض منها ـ كما تقدم ـ إلاّ الثقافة العامّة والإعداد ، وعلى هذاالأساس كنّا نؤثر في كلّ مسألة الأدلّة ذات المغزى الفنّي ، ونهمل ما لايكون له محصّل من الناحية الفنية.

رابعاً : أنّا تجاوزنا التحديد الموروث تأريخياً للمسائل الاصولية ، وأبرزنا ما

٣٢

استجدَّ من مسائل وأعطيناها عناوينها المناسبة. وأمّا بالنسبة إلى التصنيف الموروث للمسائل الاصولية إلى مجموعتين ، وهما : مباحث الألفاظ والأدلة العقلية فلم نجد مبرّراً للعدول عن التصنيف الثنائي إلى مجموعتين إلى تصنيف آخر ، ولكن أدخلنا تعديلاً عليه بجعل المجموعتين هما : مباحث الأدلّة ، ومباحث الاصول العملية ، ثمّ صنّفنا المجموعة الاولى إلى الدليل الشرعيّ والدليل العقلي ، وقسَّمنا الكلام في الدليل الشرعيّ إلى البحث في الدلالة ، والبحث في السند ، والبحث في حجية الظهور ، كلّ ذلك من أجل تقريب التصنيف الاصولي للمسائل إلى واقع عملية الاستنباط وما يقع فيها من تصنيفٍ للمواقف ، فكما أنّ عملية الاستنباط تشتمل على مرحلتين مترتبتين ، وهما : الأدلّة والاصول كذلك البحث في علم الاصول يصنَّف إلى هذين الصنفين. وكما أنّ الفقيه في مجال الأدلّة : تارةً يستدلّ بالدليل الشرعي ، واخرى بالدليل العقلي كذلك علم الاصول يبحث الأدلة الشرعية تارةً ، والأدلة العقلية اخرى. وكما أنّ الفقيه حين يواجه دليلاً شرعياً يتكلّم عنه دلالةً وسنداً وجهةً كذلك علم الاصول يبحث الجهات الثلاث في الدليل الشرعي.

وهذا الحرص على تطبيق التصنيف الاصولي للقواعد على عملية الاستنباط قد لا يكون له مغزىً من الناحية الفنية البحتة ، ولكنّه مهمّ من الناحية التربوية ، وجعل الطالب مأنوس الذهن بالقواعد الاصولية بمواقعها المحدّدة في عملية الاستنباط ، وهذا يمتاز على التصنيف الثنائي المشهور ، ويمتاز على التصنيف الرباعيّ الذي اقترحه المحقّق الإصفهانيّ وسار عليه كتاب (اصول الفقه) ، إذ في كلا التصنيفين تُفصَل حجّية الظهور وحجّية السند عن أبحاث الدلالة ، بينما الجهات الثلاث متلاحمة مترابطة في عملية الاستنباط ، فلكي يوحي التصنيف بصورةٍ للقواعد الاصولية تتّفق مع مواقعها في عملية الاستنباط لابدّ من اتّباع ما ذكرناه.

خامساً : أنّا لاحظنا في استعراضنا لآحاد المسائل ـ ضمن التصنيف المذكور ـ

٣٣

الابتداء بالبسيط ، والانتهاء إلى المعقّد والتدرّج في عرضها حسب درجات تعقيداتها وترابطاتها ، وحرصنا على أن لا نعرض مسألةً إلاّبعد أن نكون قد استوفينا مسبقاً كلّ ما له دخل في تحديد التصوّرات العامّة فيها ، وأن لا نعطي في كلّ مسألةٍ من الاستدلال والبحث إلاّبالقدر الذي تكون اصوله الموضوعية مفهومةً بلا حاجةٍ إلى الرجوع إلى مسألةٍ لاحقة.

وقد كلّفنا هذا في جملةٍ من الأحيان أن نغيِّر ترتيب المسائل من حلقةٍ إلى اخرى ، فمثلاً : قدّمنا الكلام عن امتناع اجتماع الأمر والنهي على الكلام عن بحث الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته في الحلقة الثانية ، بينما عكسنا المطلب في الحلقة الثالثة ، والنكتة في ذلك : أنّ إبراز بعض النكات في مسالة الوجوب الغيريّ للمقدمة يتوقّف على فهمٍ مسبقٍ لمسألة الامتناع ، من قبيل اقتناص الثمرة بلحاظ أداء القول بالوجوب الغيريّ لمطلق المقدمة إلى سقوط الحرمة ؛ حتى عن المقدمة غير الموصلة لامتناع اجتماع الأمر والنهي. كما أنّ إبراز بعض النكات في مسألة الامتناع ينبغي أن يكون بعد الإحاطة بحال الوجوب الغيريّ من قبيل أنّ امتناع الاجتماع كما يكون في الأمر النفسي مع النهي كذلك في الأمر الغيريّ مع النهي أيضاً ، ففي الحلقة الثانية أبرزنا الثمرة في بحث الوجوب الغيري ، فناسب تأخيره عن بحث الامتناع ، وفي الحلقة الثالثة أبرزنا تعميم الامتناع للأوامر الغيرية ، فناسب تأخيره عن بحث الوجوب الغيري ، وهكذا جاء الترتيب بين المسائل مختلفاً في الحلقتين ؛ لنكتةٍ من هذا القبيل ، أو لنكاتٍ اخرى مقاربة.

سادساً : وجدنا أنّ تعدّد الحلقات شيء ضروريّ لتحقيق المنهج الذي رسمناه ؛ لأنّ إعطاء مجموع الكمّية الموزّعة للمسألة الواحدة في الحلقات الثلاث ضمن حلقةٍ واحدةٍ تحميل فجائيّ للطالب فوق ما يطيقه ، ويكون جزء من تلك الكمّية عادةً مبنيّاً على مسائل اخرى بعدُ لم يتّضح للطالب حالها ، بل إنَّا وجدنا أنّ تثليث الحلقات شيء ضروريّ أيضاً على الرغم من أنّ الحلقة الاولى يبدو أنّها

٣٤

ضئيلة الأهمّية ، وقد يتصوّر الملاحظ في بادئ الأمر إمكان الاستغناء عنها نهائياً ، ولكنّ الصحيح عدم إمكان ذلك ؛ لأنّنا بحاجةٍ ـ قبل أن نبدأ بحلقةٍ استدلاليةٍ تشتمل على نقضٍ وإبرام ـ إلى تزويد الطالب بتصوّراتٍ عن المطالب والقواعد الاصولية ؛ حتّى يكون بالإمكان في تلك الحلقة الاستدلالية أن نضمِّن استدلالنا ونقضنا وإبرامنا لهذه المسألة أو تلك ، هذا المطلب الاصولي أو ذاك ، ولهذا رأينا أن نضع الحلقة الاولى لإعطاء هذه التصوّرات العلمية ، فيخرج منها الطالب وهو يعرف معنى الظهور التصوّري والتصديقي ، والأمارة ، والأصل ، والمنجّزية ، والمعذّرية ، والجعل ، والمجعول ، والمعنى الاسمي والحرفي ، والحاكم ، والوارد ، والمخصِّص ، والقرينة المتّصلة والمنفصلة ، والإطلاق والعموم والفرق بينهما ، إلى كثيرٍ من هذه المصطلحات والمقولات الاصولية التي تحتاج الحلقة الاستدلالية إلى استخدامها باستمرار.

ونضع الحلقة الثانية بوصفها حلقةً استدلاليةً بحقّ ، ولكن بدرجةٍ تتناسب معها. وتمثّل الحلقة الثالثة المستوى الأعلى من الاستدلال الذي يكفي لتحقيق الهدف المطلوب من دراسة السطح.

سابعاً : أنّ كلّ حلقةٍ وإن كانت تستعرض علم الاصول ومباحثه على العموم ولكن مع هذا قد نذكر بعض المسائل الاصولية أو النكات في حلقةٍ ثمّ لا نعيد بحثها في الحلقة التالية اكتفاءً بما تقدم ؛ لاستيفاء حاجة المرحلة ـ أي مرحلة السطح ـ بذلك المقدار ، وهذا ما وقع ـ مثلاً ـ في بحث الطرق التي يمكن استعمالها لإثبات السيرة المعاصرة للمعصومين عليهم‌السلام ، فإنّنا استعرضنا أربع طرقٍ في الحلقة الثانية (١)

__________________

(١) الملحوظ أنّ الطرق التي استعرضها المؤلّف قدس‌سره في الحلقة الثانية لإثبات السيرة المعاصرة للمعصومين عليهم‌السلام هي خمس طرق لا أربع ، وذلك تحت عنوان (الإحراز الوجداني للدليل الشرعي غير اللفظي) ولعلّه إنّما عبّر عنها بأربع طرق لأنّه ناقش الطريق الأوّل منها وبقيت باقي الطرق ـ ضمن شروطها ـ سليمةً عن النقاش

٣٥

ولم نجد موجباً لإعادة البحث عن ذلك في الحلقة الثالثة.

وإنّما نجمع كلّ الكمّية التي تحتاجها مرحلة السطح في حلقةٍ متقدمةٍ أحياناً لأحد أسباب : إمّا لسهولة مفردات الكمّية وإمكان تفهّمها من قبل طلبة تلك الحلقة ، وإمّا لوجود حاجةٍ ماسّةٍ إلى تفهّم تلك الكمّية بكاملها في تلك الحلقة بالذات ، لارتباط فهم جملةٍ من مسائلها الاخرى بذلك ، وإمّا للأمرين معاً ، كما هو الحال في البحث المشار إليه ـ أي بحث الطرق لإثبات السيرة المعاصرة ـ فإنّه بحث عرفيّ قريب من الفهم ، وليس طالب الحلقة الثانية بحاجةٍ إلى مِرانٍ علميٍّ أكبر لاستيعابه ، وهو في نفس الوقت يشكّل الأساس لفهم طريقة استدلال الحلقة نفسها بالسيرة على حجّية خبر الثقة ، وعلى حجّية الظهور ، وعلى حجّية الاطمئنان.

ثامناً : أنَّا لم نُدخِل على العبارة الاصولية تطويراً مهمّاً ، ولم نتوخَّ أن تكون العبارة في الحلقات الثلاث وفقاً لأساليب التعبير الحديث ، وإنّما حاولنا ذلك إلى حدّمّا في الحلقة الاولى فقط ، وأمّا في الحلقتين : الثانية والثالثة فقد حرصنا أن تكون العبارة سليمةً ووافيةً بالمعنى ، ولكن لم نحاول جعلها حديثة ، ولهذا جاء التعبير في الحلقتين العاليتين مقارباً في روحه العامّة للتعبير المألوف في الكتب العلمية الاصولية ، وإن تميّز عنه بالسلامة والوضوح ووفاء العبارة بالمعنى ، وليس ذلك لعدم إيماننا بأهمّية تنشئة الطالب الحوزويّ على أساليب التعبير الحديث ، بل لاعتبارين آخرين قدَّمناهما على ذلك :

أحدهما : أنّنا نريد أن نمكِّن الطالب تدريجاً من الرجوع إلى الكتب العلمية الاصولية القائمة فعلاً وفهمها ، وهذا لا يتأتّى إلاّإذا خاطبناه بعبارةٍ قريبةٍ من مفردات تلك الكتب ، ولقّنَّاه من خلال الحلقات الثلاث المطالب الاصولية بنفس المصطلحات التي تستعملها تلك الكتب ، حتى ولو كانت هذه المصطلحات تشتمل

٣٦

على خطاً في تركيبها اللفظي. وأمّا إذا كتبنا الحلقات الثلاث بأساليب التعبير الحديث ووضعنا بديلاً مناسباً عن المصطلحات القديمة فسوف تنقطع صلة الطالب بمراجع هذا العلم وكتبه ، ويتعسّر عليه الرجوع اليها ، وهذا يشكّل عقبةً كبيرةً تواجه نموّه العلمي.

وعلى هذا الأساس اكتفينا من التجديد في أساليب التعبير الاصولي بما انجِز في الحلقة الاولى ، وانتقلنا بالطالب في الحلقتين العاليتين إلى أرضيةٍ لغويةٍ قريبةٍ ممّا هو مألوف في كتب الاصول.

والاعتبار الآخر : أنّ الكتب الدراسيّة الاصوليّة والفقهيّة المكتوبة باللغة العربيّة تتميَّز عن أيِّ كتابٍ درا سيٍّ عربيٍّ في العلوم المدنيّة بأنّها كتبٌ لا تختصّ بأبناء لغةٍ دون لغة ، وكما يدرسها العربيّ كذلك يدرسها الفارسيّ والهنديّ والأفغانيّ وغيرهم من أبناء الشعوب المختلفة في العالم الإسلامي ، على الرغم من كونها كتباً عربية ، وهؤلاء يتلقَّون ثقافتهم العربية من المصادر القديمة التي لا تهيّئ لهم قدرةً كافيةً لفهم اللغة العربيّة بأساليبها الحديثة ، فما لم يحصل بصورةٍ مسبقةٍ تطوير وتعديل في أساليب تثقيف هؤلاء وتعليمهم اللغة العربية يصعب اتّخاذ أساليب التعبير الحديث أساساً للتعبير في الكتب الدراسيّة الاصوليّة.

تاسعاً : أشرنا آنفاً إلى أنَّا حرصنا على سلامة العبارة ، وأن تكون واضحةً وافيةً بالمعنى ، ولكنّ هذا لا يعني أن تُفهَم المطالب من العبارة رأساً ، وإنّما توخّينا الوضوح والسلامة بالدرجة التي تضمن أن تُفهَم المطالب من العبارة في حالة دراستها على الاستاذ المختصّ بالمادة ؛ لأنّ الكتاب الدراسيّ لا يطلب منه التبسيط أكثر من ذلك ، كما هو واضح. نعم ، يمكن للطالب الألمعيّ في بعض الحالات أن يمرّ على الحلقة الاولى مروراً سريعاً مع الاستاذ ، أو يقرأها بصورةٍ منفردةٍ ويراجع

٣٧

الاستاذ في بعض النقاط منها ، إلاّأنّ هذا استثناء ، والمفروض على العموم أن تدرس الحلقات الثلاث جميعاً.

وبهذا تختلف الحلقات الثلاث عن الكتب الدراسيّة الاصوليّة القائمة فعلاً ، وتتّفق مع مناهج الكتب الدراسيّة الحديثة ، فإنّ الكتب الدراسيّة الاصوليّة القائمة فعلاً لا تحتوي على الصعوبة والتعقيد في الجانب المعنويّ والفكريّ منها فقط ، بل إنّها تشتمل على الصعوبة والتعقيد في الجانب اللفظيّ والتعبيريّ أيضاً ، ولهذا تجد عادةً أنّ المدرِّس حتّى بعد أن يشرح الفكرة للطالب تظلّ العبارة مستعصيةً على الفهم ، ويحسّ الطالب بالحاجة إلى عون الاستاذ في سبيل تطبيق تلك الفكرة على العبارة جملةً جملةً ، وليس ذلك إلاّ لأنّ العبارة قد طُعِّمت بشيءٍ من الألغاز : إمّا لإيجازها ، أو للالتواء في صياغتها ، أو لكلا الأمرين.

بينما الكتب الدراسية التي تسير عليها مناهج الدراسة في العالم اليوم لا تحتوي على هذه الصعوبة ؛ لأنّ العبارة فيها وافية ، وهذا ما جرينا عليه في هذه الحلقات ، فقد جاءت العبارة فيها وافيةً بالمراد ، لا بمعنى أنّ الطالب يقتنص المراد من العبارة فقط ، بل بمعنى أنّه حين يشرح له استاذه المعنى يجده منطبقاً على العبارة ، ولا يحسّ في التعبير بالتواءٍ وتعقيد.

عاشراً : أجدني راغباً في التأكيد من جديدٍ على أنّ تبنّي وجهة نظرٍ أو طريقة استدلالٍ أو مناقشة برهانٍ في هذه الحلقات لا يدلّ على اختيار ذلك حقّاً ، كما أنّ المضمون الكامل للحلقات الثلاث لا يمثّل الوضع التفصيليّ لمباحثنا الاصولية ، ولا يصل إلى مداها كمّاً أو كيفاً. ومن هنا كان على الراغبين في الاطّلاع على متبنَّياتنا الحقيقية في الاصول وعلى نظرياتنا وأساليب استدلالنا بكامل أبعادها أن يرجعوا إلى «بحوث في علم الاصول».

٣٨

[إرشادات في مجال دراسة هذا الكتاب] :

بقي أخيراً أن نوجِّه بعض الإرشادات إلى الطلبة الكرام الذين اعدَّت هذه الحلقات الثلاث لهم وإلى أساتذتهم الأعلام ، وذلك ضمن مايلي :

أوّلاً : أنّ الجدير بتدريس (الكفاية) قادر على تدريس الحلقات الثلاث جميعاً ، كما أنّ القادر على تدريس (المعالم) قادر على تدريس الحلقة الاولى ، والقادر على تدريس (اصول الفقه) يقدر على تدريس الحلقة الثانية بدون شكٍّ فضلاً عن الاولى.

ثانيا : أنّ المرجّح لطلبة الحلقة الثالثة أن يطالعوا ـ قبل درس كلّ مسألةٍ فيها ـ المسألة نفسها من الحلقة السابقة ؛ لأنّ ذلك يساعدهم على سرعة تفهّم الدرس الجديد الذي كثيراً ما يشتمل جزء منه على نفس المطالب المتقدمة في الحلقة السابقة ، ولكن بشكلٍ مضغوطٍ وموجز.

كما أنّا نرجّح لمن يقوم بتدريس الحلقة الثانية أن يطالع ـ عند التحضير ـ نفس المبحث من الحلقةالثالثة ؛ لأنّ ذلك يعطيه رؤيةًأوضح لمايريد أن يتولّى تدريسه.

ثالثاً : أنّ طلبة الحلقة الاولى يناسبهم أن يطالعوا المعالم الجديدة في الاصول ؛ لأنّ هذه الحلقة هي اختصار مع شيءٍ من التعديل والتطوير لكتاب المعالم الجديدة في الاصول ، والفارق بينهما : أنّ كتاب «المعالم الجديدة» حينما وضعناه أدخلنا في حسابنا الهُواة أيضاً ، وحاولنا أن نشرح الأفكار فيه بطريقةٍ تُتيح لهم أن يفهموها من الكتاب نفسه بدون حاجةٍ إلى مدرِّس ، وأمّا الحلقة الاولى من هذه الحلقات الثلاث فقد وضعناها لطلبة العلم خاصّة ، وافترضنا أنّها تُتلقّى من خلال الدرس.

رابعاً : أنّ من المفيد أن يتّخذ الطالب من بعض الكتب الدراسية القديمة مراجع له ، ككتابي : «اصول الفقه» و «الكفاية» خلال البحث ، وحيث إنّ المنهجة

٣٩

مختلفة فالمأمول في مدرّسي الحلقة الثالثة أن يرشدوا تلامذتهم إلى موضع المسألة التي يدرسونها ، ومحلّ التعرّض لها في كتابي : «اصول الفقه» و «الكفاية» ؛ لأنّ ذلك يوسّع من مدارك الطالب ويُسرِع به نحو النضج العلميّ المطلوب.

خامساً : ينبغي للطالب أن يحاول استيعاب شرح الاستاذ وكتابته ؛ لكي تنمو لديه ملكة الكتابة العلمية ، وتترسَّخ في ذهنه مصطلحات العلم ولغته وأفكاره ، ويكون أكثر استعداداً لكتابة أبحاث الخارج فيما بعد.

هذا ونسأل المولى سبحانه وتعالى أن يتقبَّل هذا بلطفه ، وينفع به طلبتنا وأبناءنا الأعزّاء في الحوزات العلمية ، وأن ينفعنا به «يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلبٍ سليم» ، والحمدلله ربّ العالمين ، ولاحول ولاقوّة إلاّبالله العليِّ العظيم.

١٨ رجب ١٣٩٧ ه‍ ـ النجف الأشرف

محمّد باقر الصدر

٤٠