دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

التطابق بين الدلالات

تقدّم (١) أنّ الكلام له ثلاث دلالات ، وهي : الدلالة التصورية ، والدلالة التصديقية الاولى ، والدلالة التصديقية الثانية.

وتقدّم (٢) أنّ الظاهر من كلّ لفظٍ في مرحلة الدلالة التصورية هو المعنى الموضوع له اللفظ.

ونريد هنا الإشارة إلى ظهور كلِّ لفظٍ في مرحلة الدلالة التصديقية الاولى في أنّ المتكلّم يقصد باللفظ تفهيم نفس المعنى الظاهر من الدلالة التصورية ، لا معنىً آخر ، فإذا قال المتكلّم : «أسد» وشككنا في أنّ المتكلّم هل قصد أن يخطر في ذهننا المعنى الحقيقيّ وهو الحيوان المفترس ، أو المعنى المجازيّ وهو الرجل الشجاع؟ كان ظاهر حاله أنّه يقصد إخطار المعنى الحقيقي ، ومردّ ذلك في الحقيقة إلى ظهور حال المتكلّم في التطابق بين الدلالة التصورية والدلالة التصديقية الاولى ، فما دام الظاهر من الاولى هو المعنى الحقيقيّ فالمقصود في الثانية هو أيضاً ، وهذا الظهور حجّة على ما يأتي في قاعدة حجّية الظهور ، ويطلق على حجّيته اسم «أصالة الحقيقة».

ولنأخذ الآن الدلالة التصديقية الثانية بعد افتراض تعيين الدلالتين السابقتين عليها لنجد فيها نفس الشيء ، فإنّ الظاهر من الكلام في مرحلة الدلالة التصديقية الثانية ، أنّ المراد الجدّيّ متطابق مع ما قصد إخطاره في الذهن في مرحلة الدلالة التصديقية الاولى ، فإذا قال المتكلّم : «أكرم كلّ جيراني» وعرفنا أنّه يريد أن يخطر في ذهننا صورة العموم ، ولكن شككنا في أنّ مراده الجدّيّ هل هو أن نكرم جيرانه

__________________

(١) تقدم تحت عنوان : الظهور التصوري والظهور التصديقي

(٢) تقدم تحت عنوان : الوضع وعلاقته بالدلالات المتقدمة

٢٦١

جميعاً ، أو أن نكرم بعضهم ، غير أنّه أتى باللفظ عامّاً وقصد إخطار العموم مجاملةً لجيرانه؟ ففي هذه الحالة نجد أنّ ظاهر حال المتكلّم أنّه جادّ في التعميم ، وأنّ مراده الجدّيّ ذلك ، ومردّ ذلك في الحقيقة إلى ظهور حال المتكلّم في التطابق بين الدلالة التصديقية الاولى والدلالة التصديقية الثانية ، فما دام الظاهر من الاولى إخطار صورة العموم ، فالظاهر من الثانية إرادة العموم جدّاً ، وهذا الظهور حجّة ، ويطلق على حجّيّته في هذا المثال «أصالة العموم».

وقد يقول المتكلّم : «أكرِم فلاناً» ويخطر في ذهننا مدلول الكلام ، ولكنّنا نشكّ في أنّه جادٌّ في ذلك ، ونحتمل أنّه متأثّر بظروفٍ خاصّةٍ من التقيّة ونحوها ، وأ نّه ليس له مراد جدّيّ إطلاقاً ، والكلام فيه كالكلام في المثال السابق ، فإنّ ظهور التطابق بين الدلالتين التصديقيّتين يقتضي دلالة الكلام على أنّ ما أخطره في ذهننا عند سماع هذا الكلام مراد له جدّاً ، وأنّ الجهة التي دعته إلى الكلام هي كون مدلوله مراداً جدِّيّاً له ، لا التقيّة ، وهذا الظهور حجّة ، ويسمّى ب «أصالة الجهة».

ونلاحظ على ضوء ما تقدّم : أنّ في الكلام ثلاثة ظواهر : أحدها تصوري ، واثنان تصديقيّان ، ويختلف التصوري عنهما في أنّ ظهور اللفظ تصوّراً في المعنى الحقيقيّ لا يتزعزع حتّى مع قيام القرينة المتّصلة على أنّ المتكلّم أراد معنىً آخر ، وأمّا ظهور الكلام تصديقاً في إرادة المتكلّم للمعنى الحقيقيّ استعمالاً وجدّاً فيزول بقيام القرينة المذكورة ويتحوّل من المعنى الحقيقيّ إلى المعنى الذي تدلّ عليه القرينة.

وأمّا القرينة المنفصلة فلا تُزعزِع شيئاً من هذه الظواهر ، وإنّما تشكِّل تعارضاً بين ظهور الكلام الأوّل وبينها ، وتُقدَّم عليه وفقاً لقواعد الجمع العرفيّ.

٢٦٢

مناسبات الحكم والموضوع

قد يُذكَر الحكم في الدليل مرتبطاً بلفظٍ له مدلول عامّ ، ولكنّ العرف يفهم ثبوت الحكم لحصّةٍ من ذلك المدلول ، كما إذا قيل : «اغسل ثوبك إذا أصابه البول» ، فإنّ الغسل لغةً قد يطلق على استعمال أيّ مائع ، ولكنّ العرف يفهم من هذا الدليل أنّ المطهِّر هو الغسل بالماء.

وقد يُذكَر الحكم في الدليل مرتبطاً بحالةٍ خاصّة ، ولكنّ العرف يفهم أنّ هذه الحالة مجرّد مثالٍ لعنوانٍ عامّ ، وأنّ الحكم مرتبط بذلك العنوان العامّ ، كما إذا ورد في قِربَة وقع فيها نجس أنّه «لا تتوضّأ منها ولا تشرب» ، فإنّ العرف يرى الحكم ثابتاً لماءالكوز أيضاً ، وأنّ القِربَة مجرّد مثال.

وهذه التعميمات وتلك التخصيصات تقوم في الغالب على أساس ما يسمّى بمناسبات الحكم والموضوع ، حيث إنّ الحكم له مناسبات ومناطات مرتكزة في الذهن العرفيّ ؛ بسببها ينسبق إلى ذهن الإنسان عند سماع الدليل التخصيص تارةً ، والتعميم اخرى ، وهذه الانسباقات حجّة ؛ لأنّها تشكّل ظهوراً للدليل ، وكلّ ظهورٍ حجّة وفقاً لقاعدة حجّيّة الظهور ، كما يأتي إن شاء الله تعالى.

٢٦٣

إثبات المِلاك بالدليل

عرفنا سابقاً (١) أنّ كلّ حكمٍ له ملاك ، فالوجوب ـ مثلاً ـ ملاكه المصلحة الأكيدة في الفعل ، والدليل على الحكم بالمطابقة دليل بالالتزام على ملاكه ، فله مدلولان : مطابقيّ ، والتزاميّ. فإذا افترضنا في حالةٍ من الحالات أنّ الحكم تعذّر إثباته بذلك الدليل ، كما هو الحال في صورة العجز ، فإنّ الحكم بوجوب الفعل على العاجز غير صحيح ، فهذا يعني أنّ المدلول المطابقيّ للدليل ساقط في هذه الصورة.

والسؤال بهذا الشأن هو : أنّه هل يمكن إثبات وجود الملاك بالدليل فيما إذا كان هناك أثر يترتّب على إثبات الملاك كوجوب القضاء مثلاً؟

والجواب على هذا السؤال يتعلّق بما يتّخذ من مبنىً في ترابط الدلالة الالتزاميّة مع الدلالة المطابقيّة في الحجّيّة ، فإن قلنا باستقلال كلٍّ من هاتَين الدلالتَين في الحجّيّة أمكن إثبات الملاك في المقام بالدلالة الالتزاميّة للدليل ؛ لأنّ سقوط دلالته المطابقيّة لا يؤثر على حجّيّة الدلالة الالتزاميّة بحسب الفرض ، وإن قلنا بتبعيّة الالتزاميّة للمطابقيّة في الحجّيّة ـ كما هو الصحيح ـ فلا يمكن ذلك. وعليه ففي كلّ حالةٍ يتعذّر فيها إثبات نفس الحكم بالدليل لا يبقى في الدليل ما يثبت وجود الملاك.

ومثل ذلك : ما إذا كان الدليل على حكمٍ دالاًّ بالالتزام على حكمٍ آخر.

وسقط المدلول المطابقيّ فإنّ محاولة إثبات الحكم المدلول التزاماً حينئذٍ بنفس الدليل كمحاولة إثبات الملاك بالدليل في الحالة الآنفة الذكر.

__________________

(١) سبق تحت عنوان : مبادئ الحكم التكليفي

٢٦٤

ومثال ذلك : دليل الوجوب الدالّ بالالتزام على الحكم بالجواز وعدم الحرمة ، فإذا نسخ الوجوب جرى البحث في مدى إمكان إثبات الجواز وعدم الحرمة بنفس دليل الوجوب المنسوخ ، والكلام فيه كما تقدّم في الملاك.

٢٦٥
٢٦٦

٢ ـ الدليل الشرعيّ غير اللفظيّ

عرفنا فيما تقدّم أنّ الدليل الشرعيّ : تارةً يكون لفظيّاً ، واخرى غير لفظيّ ، والدليل الشرعيّ غير اللفظيّ هو الموقف الذي يتّخذه المعصوم وتكون له دلالة على الحكم الشرعيّ. ويتمثّل هذا الموقف في الفعل تارةً ، وفي التقرير والسكوت عن تصرّفٍ معيَّنٍ تارةً اخرى ، ونتكلّم الآن عن دلالات كلٍّ من الفعل والسكوت.

دلالة الفعل :

أمّا الفعل : فتارةً يقترن بمقالٍ أو بظهور حالٍ يقتضي كونه تعليميّاً فيكتسب مدلوله من ذلك ، واخرى يتجرّد عن قرينةٍ من هذا القبيل ، وحينئذٍ فإن لم يكن من المحتمل اختصاص المعصوم بحكمٍ في ذلك المورد دلَّ صدور الفعل منه على عدم حرمته بحكم عصمته ، كما يدلّ الترك على عدم الوجوب لذلك ، ولا يدلّ بمجرّده على استحباب الفعل ورجحانه إلاّإذا كان عبادة ، فإنّ عدم حرمتها مساوق لمشروعيّتها ورجحانها ، أو أحرزنا في موردٍ عدم وجود أيّ حافزٍ غير شرعيّ فيتعيّن كون الحافز شرعيّاً فيثبت الرجحان ، ويساعد على هذا الإحراز تكرار صدور العمل من المعصوم ، أو مواظبته عليه مع كونه من الأعمال التي لا يقتضي الطبع تكرارها والمواظبة عليها.

وهل يدلّ الفعل على عدم كونه مرجوحاً : إمّا مطلقاً وإمّا في حالة تكرار صدوره من المعصوم ، أو لا يدلّ على أكثر ممّا تقدّم من نفي الحرمة في ذلك؟ وجوه

٢٦٧

مبنيّة على أنّ المعصوم هل يجوز في حقّه ترك الأولى وفعل المكروه ، أو يجوز حتّى التكرار والمواظبة على ذلك ، أو لا يجوز شيء من هذا بالنسبة إليه؟

ويلاحظ : أنّه على تقدير عدم تجويز ترك الأولى على المعصوم : إمّا مطلقاً أو بنحو المواظبة على الترك نستطيع أن نستفيد من الترك عدم استحباب المتروك ، كما نستفيد من الفعل عدم كونه مكروهاً ، وعدم كون الترك مستحبّاً.

وتبقى هناك نقطة ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار ، وهي : أنّ هذه الدلالات إنّما تتحقّق في إثبات حكمٍ للمكلّف عند افتراض وحدة الظروف المحتمل دخلها في الحكم الشرعيّ ، فإنّ الفعل لَمّا كان دالاًّ صامتاً وليس له إطلاق فلا يعيّن ما هي الظروف التي لها دخل في إثبات ذلك الحكم للمعصوم ، فما لم نحرز وحدة الظروف المحتمل دخلها لا يمكن أن نثبت الحكم.

ومن هنا قد يثار اعتراض عامّ في المقام ، وهو : أنّ نفس النبوة والإمامة ظرف يميِّز المعصوم دائماً عن غيره ، فكيف يمكن أن نثبت الحكم على أساس فعل المعصوم؟

والجواب على ذلك : أنّ احتمال دخل هذا الظرف في الحكم المكتشف ملغيّ بقوله تعالى : (لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حسَنَةٌ) (١) ، وما يناظره من الأدلّة الشرعيّة الدالّة على جعل النبيّ والإمام عليهما‌السلام قدوة (٢) ، فإنّ فرض ذلك يقتضي إلغاء دخل النبوّة والإمامة في سلوكهما لكي يكون قدوة لغير النبيّ والإمام ، فما لم يثبت بدليلٍ أنّ الفعل المعيَّن من مختصّات النبيّ والإمام يبنى على عدم الاختصاص.

__________________

(١) الأحزاب : ٢١

(٢) بحار الأنوار ٩٢ : ٩٦ ، الحديث ٥٨ و ١٠٢ : ١٦٣

٢٦٨

دلالة السكوت والتقرير :

وأمّا السكوت فقد يقال : إنّه دليل الإمضاء وتوضيح ذلك : أنّ المعصوم إذا واجه سلوكاً معيَّناً : فإمّا أن يبدي موقف الشرع منه ، وهذا يعني وجود الدليل الشرعيّ اللفظيّ. وإمّا أن يسكت ، وهذا السكوت يمكن أن يعتبر دليلاً على الإمضاء ، ودلالته على الإمضاء : تارةً تدّعى على أساسٍ عقليّ ، واخرى على أساس الظهور الحاليّ.

أمّا الأساس العقليّ فيمكن توضيحه : إمّا بملاحظة المعصوم مكلّفاً ، فيقال : إن هذا السلوك لو لم يكن مرضيّاً لوجب النهي عنه على المعصوم ؛ لوجوب النهي عن المنكر ، أو لوجوب تعليم الجاهل ، فعدم نهيه وسكوته مع عصمته يكشف عقلاً عن كون السلوك مرضيّاً.

وإمّا بملاحظة المعصوم شارعاً وهادفاً ، فيقال : إنّ السلوك الذي يواجهه المعصوم لو كان يفوّت عليه غرضه بما هو شارع لتعيّن الوقوف في وجهه ، ولَما صحّ السكوت ؛ لأنّه نقض للغرض ، ونقض الغرض من العاقل الملتفت مستحيل.

وكلّ من اللحاظين له شروطه ، فاللحاظ الأوّل يتوقّف على توفّر شروط وجوب النهي عن المنكر ، واللحاظ الثانيّ يتوقّف على أن يكون السلوك المسكوت عنه ممّا يهدِّد بتفويت غرضٍ شرعيٍّ فعليٍّ بأن يكون مرتبطاً بالمجال الشرعيّ مباشرةً ، كالسلوك القائم على العمل بأخبار الآحاد الثقات في الشرعيّات ، أو ناشئاً من نكتةٍ تقتضي بطبعها الامتداد إلى المجال الشرعيّ على نحوٍ يتعرّض الغرض الشرعيّ للخطر والتفويت ، كما لو كان العمل بأخبار الآحاد قائماً في المجالات العرفيّة ولكن بنكتةٍ تقتضي بطبعها تطبيق ذلك على الشرعيات أيضاً عند الحاجة.

وأمّا الأساس الاستظهاريّ فيقوم على دعوى أنّ ظاهر حال المعصوم

٢٦٩

ـ بوصفه المسؤول العامّ عن تبليغ الشريعة وتقويم الزيغ ـ عند سكوته عن سلوكٍ يواجهه ، ارتضاء ذلك السلوك ، وهذا ظهور حالي ، وتكون الدلالة حينئذٍ استظهاريّةً ولا تخضع لجملةٍ من الشروط التي يتوقّف عليها الأساس العقليّ.

السيرة :

ومن الواضح أنّ السكوت إنّما يدلّ على الإمضاء في حالة مواجهة المعصوم لسلوكٍ معيَّن ، وهذه المواجهة على نحوين :

أحدهما : مواجهة سلوك فردٍ خاصٍّ يتصرّف أمام المعصوم ، كأن يمسح أمام المعصوم في وضوئه منكوساً ويسكت عنه.

والآخر : مواجهة سلوكٍ اجتماعيّ ، وهو ما يسمّى بالسيرة العقلائيّة ، كما إذا كان العقلاء بما هم عقلاء يسلكون سلوكاً معيَّناً في عصر المعصوم فإنّه بحكم تواجده بينهم يكون مواجهاً لسلوكهم العامّ ، ويكون سكوته دليلاً على الإمضاء. ومن هنا أمكن الاستدلال بالسيرة العقلائيّة عن طريق استكشاف الإمضاء من سكوت المعصوم.

والإمضاء المستكشف بالسكوت ينصبّ على النكتة المركوزة عقلائيّاً ، لا على المقدار الممارس من السلوك خاصّة. وهذا يعني :

أوّلاً : أنّ الممضى ليس هو العمل الصامت لكي لا يدلّ على أكثر من الجواز ، بل هو النكتة ، أي المفهوم العقلائيّ المرتكز عنه ، فقد يثبت به حكم تكليفيّ أو حكم وضعيّ.

وثانياً : أنّ الإمضاء لا يختصّ بالعمل المباشر فيه عقلائيّاً في عصر المعصوم ، ففيما إذا كانت النكتة أوسع من حدود السلوك الفعليّ كان الظاهر من حال المعصوم إمضاءَها كبرويّاً وعلى امتدادها.

٢٧٠

وعلى ضوء ما ذكرناه نعرف أنّ ما يمكن الاستدلال به على إثبات حكمٍ شرعيٍّ هو السيرة المعاصرة للمعصومين ؛ لأنّها هي التي ينعقد لسكوت المعصوم عنها ظهور في الإمضاء دون السيرة المتأخّرة.

وقد يتوهّم : أنّ السيرة المتأخّرة معاصرة أيضاً للمعصوم وإن كان غائباً ، فيدلّ سكوته عنها على إمضائه ، وليست لدينا سيرة غير معاصرةٍ للمعصوم.

والجواب : على هذا التوهّم : أنّ سكوت المعصوم في غيبته لايدلّ على إمضائه ؛ لا على أساس العقل ولا على أساسٍ استظهاريّ.

أمّا الأوّل فلأ نّه غير مكلَّفٍ في حال الغيبة بالنهي عن المنكر وتعليم الجاهل ، وليس الغرض بدرجةٍ من الفعليّة تستوجب الحفاظ عليه بغير الطريق الطبيعيّ الذي سبّب الناس أنفسهم إلى سدِّه بالتسبيب إلى غيبته.

وأمّا الثاني فلأنّ الاستظهار مناطه حال المعصوم ، ومن الواضح أنّ حال الغيبة لا يساعد على استظهار الإمضاء من السكوت.

وعلى هذا يعرف أنّ كشف السيرة العقلائيّة عن إمضاء الشارع إنّما هو بملاك دلالة السكوت عنها على الإمضاء ، لا بملاك أنّ الشارع سيّد العقلاء وطليعتهم فما يصدق عليهم يصدق عليه ، كما يظهر من بعض الاصوليين (١) ؛ وذلك لأنّ كونه كذلك بنفسه يوجب احتمال تميّزه عنهم في بعض المواقف ، وتخطئته لهم في غير ما يرجع إلى المدركات السليمة الفطريّة لعقولهم ، كما هو واضح.

__________________

(١) انظر نهاية الدراية ٣ : ٣٤٤

٢٧١
٢٧٢

٢ ـ الدليل الشرعي

إثباتُ

صغرى الدليل الشرعي

١ ـ وسائل الإثبات الوجدانيّ.

٢ ـ وسائل الإثبات التعبّديّ.

٢٧٣

تمهيد

الدليل الشرعيّ شيء يصدر من الشارع وله دلالة على حكمٍ شرعي ، وقد تقدّم في البحث الأوّل عدد من الضوابط الكلّيّة للدلالة. وهنا نتكلّم عن كيفيّة إثبات كون الدليل صادراً من الشارع ، وهذا ما نعبِّر عنه بإثبات صغرى الدليل الشرعيّ.

وهذا الإثبات على نحوين :

أحدهما : الإثبات الوجداني. وذلك بإحراز الصدور وجداناً.

والآخر : الإثبات التعبّديّ ؛ وذلك بأن يتعبَّد الشارع بالصدور ، كأن يقول مثلاً : اعملوا بما يرويه الثقات ، وهذا معنى جعل الحجّية.

فالكلام يقع في قسمين :

٢٧٤
٢٧٥

١ ـ وسائل الإثبات الوجداني

وسائل الإثبات الوجدانيّ للدليل الشرعيّ بالنسبة إلى غير المعاصرين للشارع هي الطرق التي توجب العلم بصدور الدليل من الشارع ، ولا يمكن حصر هذه الطرق ، ولكن يمكن إبراز ثلاث طرقٍ رئيسيّة ، وهي :

أوّلاً : الإخبار الحِسِّيّ المتعدّد بدرجةٍ توجب اليقين ، وهو المسمّى بالخبر المتواتر.

ثانياً : الإخبار الحَدْسِيّ المتعدّد بالدرجة نفسها ، وهو المسمّى بالإجماع.

ثالثاً : آثار محسوسة تكشف على سبيل الإنِّ عن الدليل الشرعيّ.

ونتكلّم الآن عن كلّ واحدٍ من هذه الطرق تباعاً.

الخبر المتواتر :

كلّ خبر حِسِّيٍّ يحتمل في شأنه ـ بما هو خبر ـ الموافقة للواقع والمخالفة له ، واحتمال المخالفة يقوم على أساس احتمال الخطأ في المخبِر ، أو احتمال تعمّد الكذب لمصلحةٍ معيّنةٍ له تدعوه إلى إخفاء الحقيقة ، فإذا تعدّد الإخبار عن محورٍ واحد تضاءل احتمال المخالفة للواقع ؛ لأنّ احتمال الخطأ أو تعمّد الكذب في كلّ مخبِرٍ بصورةٍ مستقلّةٍ إذا كان موجوداً بدرجةٍ مّا ، فاحتمال الخطأ أو تعمّد الكذب في مخبِرِين عن واقعةٍ واحدةٍ معاً أقلّ درجةٍ ؛ لأنّ درجة احتمال ذلك ناتج ضرب قيمة احتمال الكذب في أحد المخبِرِين بقيمة احتماله في المخبِر الآخر ، وكلّما ضربنا قيمة احتمالٍ بقيمة احتمالٍ آخر تضاءل الاحتمال ؛ لأنّ قيمة الاحتمال تمثِّل دائماً كسراً محدّداً من رقم اليقين. فإذا رمزنا إلى رقم اليقين بواحد فقيمة الاحتمال هي (١٢) أو (١٣) أو أيِّ كسر

٢٧٦

آخر من هذاالقبيل ، وكلّما ضربنا كسراً بكسرٍآخر خرجنا بكسرٍ أشدّ ضآلةً ، كما هو واضح.

وفي حالة وجود مخبِرِين كثيرين لابدّ من تكرار الضرب بعدد إخبارات المخبِرِينَ لكي نصل إلى قيمة احتمال كذبهم جميعاً ، ويصبح هذا الاحتمال ضئيلاً جدّاً ، ويزداد ضآلةً كلّما ازداد المخبِرون حتّى يزول عمليّاً ، بل واقعيّاً ؛ لضآلته وعدم إمكان احتفاظ الذهن البشريّ بالاحتمالات الضئيلة جدّاً. ويسمّى حينئذٍ ذلك العدد من الإخبارات التي يزول معها هذا الاحتمال عمليّاً أو واقعيّاً بالتواتر ، ويسمّى الخبر بالخبر المتواتر.

ولا توجد هناك درجة معيّنة للعدد الذي يحصل به ذلك ؛ لأنّ هذا يتأثّر إلى جانب الكمّ بنوعيّة المخبِرِين ، ومدى وثاقتهم ونباهتهم ، وسائر العوامل الدخيلة في تكوين الاحتمال.

وبهذا يظهر أنّ الإحراز في الخبر المتواتر يقوم على أساس حساب الاحتمالات.

والتواتر : تارةً يكون لفظيّاً ، واخرى معنويّاً ، وثالثةً إجماليّاً ، وذلك أنّ المحور المشترك لكلّ الإخبارات : إن كان لفظاً محدّداً فهذا من الأوّل ، وإن كان قضيّةً معنويّةً محدّدةً فهذا من الثاني ، وإن كان لازماً منتزعاً فهذا من الثالث. وكلّما كان المحور أكثر تحديداً كان حصول التواتر الموجب لليقين بحساب الاحتمالات أسرع ، إذ يكون افتراض تطابق مصالح المخبِرِينَ جميعاً بتلك الدرجة من الدقّة ـ رغم اختلاف أحوالهم وأوضاعهم ـ أبعدَ في منطق حساب الاحتمالات.

وكما تدخل خصائص المخبِرِين من الناحية الكمّيّة والكيفيّة في تقويم الاحتمال كذلك تدخل خصائص المخبَر عنه (أي مفاد الخبر) ، وهي على نحوين : خصائص عامّة ، وخصائص نسبيّة.

٢٧٧

والمراد بالخصائص العامّة : كلّ خصوصيّةٍ في المعنى تشكِّل بحساب الاحتمال عاملاً مساعداً على كذب الخبر أو صدقه ، بقطع النظر عن نوعيّة المخبر.

ومثال ذلك : غرابة القضيّة المخبَر عنها فإنّها عامل مساعد على الكذب في نفسه ، فيكون موجباً لتباطُؤ حصول اليقين بالتواتر ، وعلى عكس ذلك كون القضيّة اعتياديّةً ومتوقّعةً ومنسجمةً مع سائر القضايا الاخرى المعلومة ، فإنّ ذلك عامل مساعد على الصدق ، ويكون حصول اليقين حينئذٍ أسرع.

والمراد بالخصائص النسبيّة : كلّ خصوصيّةٍ في المعنى تشكِّل بحساب الاحتمال عاملاً مساعداً على صدق الخبر أو كذبه فيما إذا لوحظ نوعيّة الشخص الذي جاء بالخبر.

ومثال ذلك : غير الشيعيّ إذا نقل ما يدلّ على إمامة أهل البيت عليهم‌السلام فإنّ مفاد الخبر نفسه يعتبر بلحاظ خصوصيّة المخبر عاملاً مساعداً لإثبات صدقه بحساب الاحتمال ؛ لأنّ افتراض مصلحةٍ خاصّةٍ تدعوه إلى الافتراء بعيد.

وقد تجتمع خصوصيّة عامّة وخصوصيّة نسبيّة معاً لصالح صدق الخبر كما في المثال المذكور ، إذا فرضنا صدور الخبر في ظلِّ حكم بني اميّة وأمثالهم ممّن كانوا يحاولون المنع من أمثال هذه الاخبار ترهيباً وترغيباً فإنّ خصوصيّة المضمون ـ بقطع النظر عن مذهب المخبر ـ شاهد قويّ على الصدق ، وخصوصيّة المضمون مع أخذ مذهب المخبر بعين الاعتبار أقوى شهادةً على ذلك.

الإجماع :

الإجماع اتّفاق عددٍ كبيرٍ من أهل النظر والفتوى في الحكم بدرجةٍ توجب إحراز الحكم الشرعيّ ، وذلك أنّ فتوى الفقيه في مسألةٍ شرعيّةٍ بحتةٍ تعتبر إخباراً حدسيّاً عن الدليل الشرعيّ ، والإخبار الحدسيّ هو الخبر المبنيّ على النظر

٢٧٨

والاجتهاد في مقابل الخبر الحسّيّ القائم على أساس المدارك الحسّيّة.

وكما يكون الخبر الحسّيّ ذا قيمةٍ احتماليّةٍ في إثبات مدلوله كذلك فتوى الفقيه بوصفها خبراً حدسيّاً يحتمل فيه الإصابة والخطأ معاً.

وكما أنّ تعدّد الإخبارات الحسّية يؤدّي بحساب الاحتمالات إلى نموّ احتمال المطابقة وضآلة احتمال المخالفة ، كذلك الحال في الإخبارات الحدسيّة ؛ حتّى تصل إلى درجةٍ توجب ضآلة احتمال الخطأ في الجميع جدّاً ، وبالتالي زوال هذا الاحتمال عمليّاً أو واقعيّاً. وهذا ما يسمّى بالإجماع.

فالإجماع والخبر المتواتر مشتركان في طريقة الإثبات بحساب الاحتمالات ، ويعتمد الكشف في كلٍّ منهما على هذا الحساب ، ولكنّهما يتفاوتان في درجة الكشف ، فإنّ نموّ الاحتمال الموافق وتضاؤل احتمال المخالفة أسرع حركةً في التواتر منه في الإجماع ؛ وذلك لعدّة امورٍ يمكن إبراز أهمّها في النقاط التالية :

الاولى : أنّ القيمة الاحتماليّة للمفردات في الإجماع أصغر من القيمة الاحتماليّة للمفردات في التواتر ؛ لأنّ نسبة وقوع الخطأ في الحدسيّات أكبر من نسبة وقوعه في الحسّيّات.

الثانية : أنّ الخطأ المحتمل في مفردات الإجماع لا يتعيّن أن يكون ذا مركزٍ واحد ، بينما يكون الخطأ في الأخبار الحسّية منصبّاً على مركزٍ واحدٍ عادةً. فحينما يفتي فقهاء عديدون بوجوب غسل الشعر في غسل الجنابة ويكونون على خطا ـ مثلاً ـ قد يكون خطأُ أحدِهم ناشئاً من اعتماده على روايةٍ غير تامّة السند ، وخطأُ الآخر ناشئاً من اعتماده على روايةٍ غير تامّة الدلالة ، وخطأُ الثالث ناشئاً من اعتماده على أصالة الاحتياط ، وهكذا. وكلّما كان المركز المحتمل للأخطاء المتعدّدة واحداً أو متقارباً كان احتمال تراكم الأخطاء عليه أضعف ، والعكس صحيح.

الثالثة : أنّ احتمال تأثير الخبر الأوّل في الخبر الثاني موجود في مجال الأخبار

٢٧٩

الحدسيّة ، وغير موجودٍ عادةً في مجال الأخبار الحسّيّة ، وهذا يعني أنّ احتمال الخطأ في الخبر الأوّل يتضمّن في مجال الحدسيّات احتمالاً للخطأ في الخبر الثاني ، بينما هو في مجال الحسّيّات حِياديّ تجاه كون الثاني مخطئاً أو مصيباً.

الرابعة : أنّ احتمال الخطأ في قضيّةٍ حسّيّةٍ يقترن عادةً بإحراز وجود المقتضي للإصابة ، وهو سلامة الحواسّ والفطرة ، وينشأ من احتمال وجود المانع عن تأثير المقتضي. وأمّا احتمال الخطأ في قضيّةٍ نظريّةٍ حدسيّةٍ فهو يتضمّن أحياناً احتمال عدم وجود المقتضي للإصابة ، أي احتمال كون عدم الإصابة ناشئاً من القصور ، لالعارضٍ من قبيل الذهول أو ارتباك البال.

الخامسة : أنّ الأخطاء المحتملة في مجموعة الأخبار الحدسيّة يحتمل نشوؤها من نكتةٍ مشتركة ، وأمّا الأخطاء المحتملة في مجموعة الأخبار الحسّيّة فلا يحتمل فيها ذلك عادةً ، بل هي ترتبط في كلّ مخبِرٍ بظروفه الخاصّة ، وكلّما كان هناك احتمال النكتة المشتركة موجوداً كان احتمال المجموع أقرب من احتماله في حالة عدم وجودها.

ويتأثّر حساب الاحتمال في الإجماع بعوامل عديدة :

منها : نوعيّة العلماء المتّفقين من الناحية العلميّة ، ومن ناحية قربهم من عصر النصوص.

ومنها : طبيعة المسألة المتّفق على حكمها ؛ وكونها من المسائل المترقّب ورود النصّ بشأنها ، أو من التفصيلات والتفريعات.

ومنها : درجة ابتلاء الناس بتلك المسألة وظروفها الاجتماعيّة ، فقد يتّفق أنّها بنحوٍ يقتضي توافر الدواعي والظروف [على] إشاعة الحكم المقابل لو لم يكن الحكم المجمع عليه ثابتاً في الشريعة حقّاً.

ومنها : لحن كلام اولئك المجمِعِين في مقام الاستدلال على الحكم ، ومدى احتمال ارتباط موقفهم بمدارك نظريّةٍ موهونة ، إلى غير ذلك من النكات

٢٨٠