دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

الإطلاق ؛ لأنّه مأخوذ في المعنى الموضوع له وقيدٌ له ، فيكون من القيود التي ذكرها المتكلّم ، فنطبِّق عليه قاعدة احترازيّة القيود ، فيثبت أنّ المراد الجدِّيّ مطلق أيضاً.

وأمّا على الوجه الأوّل فلا دلالة وضعيّة لِلَّفظ على ذلك ؛ لأنّ اللفظ موضوع بموجبه للطبيعة المحفوظة في ضمن المطلق والمقيّد ، وكلّ من الإطلاق والتقييد خارج عن المدلول الوضعيّ لِلَّفظ ، فالمتكلّم لم يذكر في كلامه التقييد ، ولا الإطلاق ، فلا يمكن بالطريقة السابقة أن نثبت الإطلاق ، بل لابدّ من طريقةٍ اخرى.

والصحيح هو الوجه الأوّل ؛ لأنّ الوجدان العرفيّ شاهد بأنّ استعمال الكلمة في المقيّد على طريقة تعدّد الدالّ والمدلول ليس فيه تجوّز. وعلى هذا الأساس نحتاج في إثبات الإطلاق إلى طريقةٍ اخرى ، إذ ما دام الإطلاق غير مأخوذٍ في مدلول اللفظ وضعاً فهو غير مذكورٍ في الكلام ، فلا يُتاحُ تطبيق قاعدة احترازيّة القيود عليه.

[قرينة الحكمة] :

والطريقة الاخرى : هي مايسمِّيها المحقّقون المتأخّرون بقرينة الحكمة ، وجوهرها التمسّك بدلالةٍ تصديقيّةٍ لظهورٍ عرفيٍّ سياقيٍّ آخر غير ذلك الظهور الحاليِّ السياقيِّ الذي تعتمد عليه قاعدة احترازيّة القيود ، فقد عرفنا سابقاً أنّ هذه القاعدة تعتمد على ظهورٍ عرفيٍّ سياقيٍّ مفاده : أنّ ما يقوله يريده حقيقة ، ويوجد ظهور عرفيّ سياقيّ آخر مفاده : أن لا يكون شيء دخيلاً وقيداً في مراده الجدّيّ وحكمه ، ولا يبيِّنه باللفظ ؛ لأنّ ظاهر حال المتكلّم أنّه في مقام بيان تمام مراده الجدّيّ بخطابه ، وحيث إنّ القيد ليس مبيّناً في حالة عدم نصب قرينةٍ على التقييد فهو إذن ليس داخلاً في المراد الجدّيّ والحكم الثابت ، وهذا هو الإطلاق المطلوب.

وهكذا نلاحظ أنّ كلاًّ من قرينة الحكمة التي تثبت الإطلاق وقاعدة

٢٤١

احترازيّة القيود تبتني على ظهورٍ عرفيٍّ سياقيٍّ حاليٍّ غير الظهور العرفيّ السياقيّ الحاليّ الذي تعتمد عليه الاخرى ، فالقاعدة تبتني على ظهور حال المتكلّم في أنّ ما يقوله يريده ، وقرينة الحكمة تبتني على ظهور حال المتكلّم في أنّ كلّ ما يكون قيداً في مراده الجدّيّ يقوله في الكلام الذي صدر منه لإبراز ذلك المراد الجدّيّ ، أي أنّه في مقام بيان تمام مراده الجدّيّ بخطابه.

وقد يُعترَض على قرينة الحكمة هذه : بأنّ اللفظ إذا لم يكن يدلّ بالوضع إلاّ على الطبيعة المحفوظة في ضمن المقيّد والمطلق معاً فلا دالَّ على الإطلاق ، كما لا دالَّ على التقييد ، مع أنّ أحدهما ثابت في المراد الجدّيّ جزماً ؛ لأنّ موضوع الحكم في المراد الجدّيّ إمّا مطلق ، وإمّا مقيّد ، وهذا يعني أنّه ـ على أيّ حال ـ لم يبيِّن تمام مراده بخطابه ، ولا معيِّن حينئذٍ لافتراض الإطلاق في مقابل التقييد.

ويمكن الجواب على هذا الاعتراض : بأنّ ذلك الظهور الحاليّ السياقيّ لا يعني سوى أن يكون كلامه وافياً بالدلالة على تمام ما وقع تحت لحاظه من المعاني ؛ بحيث لا يكون هناك معنىً لحظه المتكلّم ولم يأتِ بما يدلّ عليه ، لا أنّ كلّ ما لم يلحظه لابدّ أن يأتي بما يدلّ على عدم لحاظه ، فإنّ ذلك ممّا لا يقتضيه الظهور الحاليّ السياقي.

وعليه فإذا كان المتكلّم قد أراد المقيّد مع أنّه لم ينصب قرينةً على القيد فهذا يعني وقوع أمرٍ تحت اللحاظ زائدٍ على الطبيعة ، وهو تقيّدها بالقيد ؛ لأنّ المقيّد يتميّز بلحاظٍ زائد ، ولا يوجد في الكلام ما يبيِّن هذا التقييد الذي وقع تحت اللحاظ.

وإذا كان المتكلّم قد أراد المطلق فهذا لا يعني وقوع شيءٍ تحت اللحاظ زائداً على الطبيعة ؛ لأنّ الإطلاق ـ كما تقدّم ـ عبارة عن عدم لحاظ القيد ، فصحّ أن يقال : إنّ المتكلّم لو كان قد أراد المقيّد لَما كان مبيّناً لتمام مرامه ؛ لأنّ القيد واقع تحت اللحاظ وليس مدلولاً لِلَّفظ ، وإذا كان مراده المطلق فقد بيّن تمام ما وقع تحت لحاظه ؛ لأنّ نفس الإطلاق ليس واقعاً تحت اللحاظ ، بل هو عدم لحاظ القيد الزائد.

٢٤٢

ونستخلص من ذلك : أنّنا بتوسّط قرينة الحكمة نثبت الإطلاق ، ونستغني بذلك عن إثباته بالدلالة الوضعيّة عن طريق أخذه قيداً في المعنى الموضوع له اللفظ ، ثمّ تطبيق قاعدة احترازيّة القيود عليه.

لكن يبقى هناك فارق عمليّ بين إثبات الإطلاق بقرينة الحكمة وإثباته بالدلالة الوضعيّة وتطبيق قاعدة احترازيّة القيود ، وهذا الفارق العمليّ يظهر في حالة اكتناف الكلام بملابساتٍ معيّنةٍ تفقده الظهور السياقيّ الذي تعتمد عليه قرينة الحكمة ، فلا يعود لحال المتكلّم ظهور في أنّه في مقام بيان تمام مراده الجدّيّ بكلامه ، وأمكن أن يكون في مقام بيان بعضه ، ففي هذه الحالة لا تتمّ قرينة الحكمة ، لبطلان الظهور الذي تعتمد عليه ، فلا يمكن إثبات الإطلاق لمن يستعمل قرينة الحكمة لإثباته ، وخلافاً لذلك مَن يُثبِت الإطلاق بالدلالة الوضعية وتطبيق قاعدة احترازيّة القيود فإنّ بإمكانه أن يثبت الإطلاق في هذه الحالة أيضاً ؛ لأنّ الظهور الذي تعتمد عليه هذه القاعدة غير الظهور الذي تعتمد عليه قرينة الحكمة ، كما عرفنا سابقاً ، وهو ثابت على أيّ حال.

ثمّ إنّ الإطلاق الثابت بقرينة الحكمة : تارةً يكون شموليّاً ، أي مقتضياً لاستيعاب الحكم لتمام أفراد الطبيعة ، واخرى يكون بدليّاً يكفي في امتثال الحكم المجعول فيه إيجاد أحد الأفراد. ومثال الأوّل : إطلاق الكذب في «لا تكذب» ، ومثال الثاني : إطلاق الصلاة في «صلِّ».

والإطلاق : تارةً يكون أفرادياً ، واخرى يكون أحوالياً ، والمقصود بالإطلاق الأفراديّ : أن يكون للمعنى أفراد فيثبت بقرينة الحكمة أنّه لم يرد به بعض الأفراد دون بعض ، والمقصود بالإطلاق الأحواليّ : أن يكون للمعنى أحوال ، كما في أسماء الأعلام ، فإنّ مدلول كلمة «زيد» وإن لم يكن له أفراد ولكن له أحوال متعدّدة ، فيثبت بقرينة الحكمة أنّه لم يرَد به حال دون حال.

٢٤٣

الإطلاق في المعاني الحرفيّة :

مرّ بنا سابقاً (١) أنّ المعاني في المصطلح الاصوليّ : تارةً تكون معانيَ اسميّةً ، كمدلول عالم في «أكرم العالم». واخرى معاني حرفيّة ، كمدلول صيغة الأمر في نفس المثال ، ولا شكّ في أنّ قرينة الحكمة تجري على المعاني الاسميّة ويثبت بها إطلاقها ، وأمّا المعاني الحرفيّة فقد وقع النزاع في إمكان ذلك بشأنها.

مثلاً : إذا شككنا في أنّ الحكم بالوجوب هل هو مطلق وثابت في كلّ الأحوال ، أو في بعض الأحوال دون بعض ، فهل يمكن أن نطبّق قرينة الحكمة على مفاد «أكرم» في المثال وهو الوجوب المفاد على نهج النسبة الطلبيّة والإرساليّة لإثبات أنّه مطلق ، أو لا؟ وسيأتي توضيح الحال في هذا النزاع في الحلقة الثالثة (٢) إن شاء الله تعالى. والصحيح فيه : إمكان تطبيق مقدّمات الحكمة في مثل ذلك.

التقابل بين الإطلاق والتقييد :

اتّضح ممّا ذكرناه أنّ هناك إطلاقاً وتقييداً في عالم اللحاظ وفي مقام الثبوت ، والتقييد هنا بمعنى لحاظ القيد ، والإطلاق بمعنى عدم لحاظ القيد. وهناك أيضاً إطلاق وتقييد في عالم الدلالة وفي مقام الإثبات ، والتقييد هنا بمعنى الإتيان في الدليل بما يدلّ على القيد ، والإطلاق بمعنى عدم الإتيان بما يدلّ على القيد مع ظهور حال المتكلّم في أنّه في مقام بيان تمام مراده بخطابه.

والإطلاق الإثباتيّ يدلّ على الإطلاق الثبوتيّ ، والتقييد الإثباتيّ يدلّ على

__________________

(١) مضى تحت عنوان : تصنيف اللغة

(٢) سوف يأتي في الحلقة الثالثة عند الحديث عن ثمرة البحث عن المعاني الحرفية

٢٤٤

التقييد الثبوتيّ. ولا شكّ في أنّ الإطلاق والتقييد متقابلان ثبوتاً وإثباتاً ، غير أنّ التقابل على أقسام :ءؤ

فتارةً يكون بين أمرين وجوديّين ، كالتضادّ بين الاستقامة والانحناء.

واخرى يكون بين وجودٍ وعدم ، كالتناقض بين وجود البصر وعدمه.

وثالثةً يكون بين وجود صفةٍ في موضعٍ معيّنٍ وعدمها في ذلك الموضع مع كون الموضع قابلاً لوجودها فيه ، من قبيل البصر والعمى ؛ فإنّ العمى ليس عدم البصر ولو في جدار ، بل عدم البصر في كائنٍ حيٍّ يمكن في شأنه أن يبصر.

وعلى هذا الأساس اختلف الأعلام في أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد الثبوتيّين من أيّ واحدٍ من هذه الأنحاء.

ومن الواضح على ضوء ما ذكرناه أنّه ليس تضادّاً ؛ لأنّ الإطلاق الثبوتيّ ليس أمراً وجوديّاً ، بل هو عدم لحاظ القيد ، ومن هنا قيل تارةً : بأ نّه من قبيل تقابل البصر وعدمه ، فالتقييد بمثابة البصر والإطلاق بمثابة عدمه. وقيل اخرى : إنّه من قبيل التقابل بين البصر والعمى ، فالتقييد بمثابة البصر والإطلاق بمثابة العمى.

وأمّا التقابل بين الإطلاق والتقييد الإثباتيّين فهو من قبيل تقابل البصر والعمى بدون شكٍّ ، بمعنى أنّ الإطلاق الإثباتيّ الكاشف عن الإطلاق الثبوتيّ هو عدم ذكر القيد في حالةٍ يتيسَّر للمتكلّم فيها ذكر القيد ، وإلاّ لم يكن سكوته عن التقييد كاشفاً عن الإطلاق الثبوتي.

الحالات المختلفة لاسم الجنس :

ممّا ذكرناه يتّضح أنّ أسماء الأجناس لا تدلّ على الإطلاق بالوضع ، بل بالظهور الحاليّ وقرينة الحكمة. ولاسم الجنس ثلاث حالات :

الاولى : أن يكون معرّفاً باللام من قبيل كلمة «البيع» في «أَحَلَّ الله الْبَيْعَ».

٢٤٥

الثانية : أن يكون منكّراً ، أي منوَّناً بتنوين التنكير (١) من قبيل كلمة «رجل» في «جاءَ رجلٌ» أو «جِئني برجل».

الثالثة : أن يكون خالياً من التعريف والتنكير ، كما في حالة كونه منوّناً بتنوين التمكين (٢) أو كونه مضافاً.

ويلاحظ : أنّ اسم الجنس يبدو بوضعه الطبيعيّ وبدون تطعيمٍ لمعناه في الحالة الثالثة ، بينما يطعّم في الحالة الثانية بشيءٍ من التنكير ، وفي الحالة الاولى بشيءٍ من التعريف.

أمّا الحيثيّة التي طُعِّم بها مدلول اسم الجنس في الحالة الثانية فأصبح نكرةً فالمعروف أنّها حيثيّة الوحدة ، فالنكرة موضوعة للطبيعة المأخوذة بقيد الوحدة ، ولهذا لا يمكن أن يكون الإطلاق شموليّاً حين ينصبّ الأمر على نكرةٍ مثل «أكرم عالماً» ؛ وذلك لأنّ طبيعة عالم ـ مثلاً ـ حين تتقيَّد بقيد الوحدة لا يمكن أن تنطبق على أكثر من واحدٍ ـ أيِّ واحدٍ ـ وهو معنى الإطلاق البدليّ.

__________________

(١) الظاهر أنّ المؤلّف الشهيد رحمه‌الله استعمل تنوين التنكير في غير مصطلحه النحوي ، فإنّه عند النحاة عبارة عن التنوين «اللاحق لبعض الأسماء المبنيّة فرقاً بين معرفتها ونكرتها ، ويقع في باب اسم الفعل بالسماع كصهٍ ومهٍ وإ يهٍ ، وفي العلم المختوم بويه بقياس ، نحو : جاءني سيبويهِ وسيبويهٍ آخر» (مغنى اللبيب / الباب الأوّل / حرف النون) في حين أنّ السيّد الشهيد رحمه‌الله قصد بذلك التنوين الذي يلحق الاسم النكرة لإفادة قيد الوحدة ، مثل : أكرم فقيراً ، أي فقيراً واحداً

(٢) الظاهر أنّه رحمه‌الله استعمل تنوين التمكين أيضاً في غير مصطلحه النحوي ، فإنّه عند النحاة عبارة عن التنوين «اللاحق للاسم المعرب المنصرف إعلاماً ببقائه على أصله ... وذلك كزيد ورجل ورجالٍ» (المصدر السابق) ولا فرق في هذا المعنى بين ما يدلّ على قيد الوحدة وما لا يدلّ عليه. في حين انّه رحمه‌الله قصد بذلك خصوص التنوين الذي لا دلالة فيه على قيد الوحدة ، وإنّما يتمحّض في الدلالة على بقاء الاسم المعرب المنصرف على أصله مثل قوله تعالى : (قولٌ معروفٌ خيرٌ من صدقةٍ يتبعها أذى) بناءً على إرادة جنس القول المعروف

٢٤٦

وأمّا الحيثيّة التي طُعِّم بها مدلول اسم الجنس في الحالة الاولى فأصبح معرفةً فهي التعيين ، فاللام تُعيِّن مدلول مدخولها وتطبِّقه على صورةٍ مألوفةٍ : إمّا بحضورها فعلاً كما في العهد الحضوريّ ، وإمّا بذكرها سابقاً كما في العهد الذكريّ ، وإمّا باستئناسٍ ذهنيٍّ خاصٍّ بها كما في العهد الذهنيّ ، وإمّا باستئناسٍ ذهنيٍّ عامٍّ بها كما في لام الجنس ، فإنّ في الذهن لكلّ جنسٍ انطباعات معيّنة تشكِّل لوناً من الاستئناس العامِّ الذهنيِّ بمفهوم ذلك الجنس ، فإن قيل : «نار» دلّت الكلمة على ذات المفهوم. وإن قيل : «النار» واريد باللام لام الجنس أفاد ذلك تطبيق هذا المفهوم على حصيلة تلك الانطباعات ، وبذلك يصبح معرفة.

واسم الجنس في حالة كونه معرفةً ، وكذلك في الحالة الثالثة التي يخلو فيها من التعريف والتنكير معاً يصلح للإطلاق الشموليّ ، ولهذا إذا قلت : «أكرم العالم» جرت قرينة الحكمة لإثبات الإطلاق الشموليّ في كلمة «العالم».

الانصراف :

قد يتكوّن نتيجةً لملابساتٍ انسٌ ذهنيّ خاصّ بحصّةٍ معيّنةٍ من حصص المعنى الموضوع له اللفظ ، وهذا الانس على نحوين :

أحدهما : أن يكون نتيجةً لتواجد تلك الحصّة في حياة الناس وغلبة وجودها على سائر الحصص.

والآخر : أن يكون نتيجةً لكثرة استعمال اللفظ وإرادة تلك الحصّة على طريقة تعدّد الدالّ والمدلول.

أمّا النحو الأوّل فلا يؤثّر على إطلاق اللفظ شيئاً ؛ لأنّه انس ذهنيّ بالحصّة مباشرةً دون أن يؤثّر في مناسبة اللفظ لها ، أو يزيد في علاقته بما هو لفظ بتلك الحصّة خاصّة.

٢٤٧

وأمّا النحو الثاني فكثرة الاستعمال المذكورة قد تبلغ إلى درجةٍ توجب نقل اللفظ من وضعه الأوّل إلى الوضع للحصّة ، أو تحقّق وضعاً تعيّنيّاً للَّفظ لتلك الحصّة بدون نقل ، وقد لا توجب ذلك أيضاً ، ولكنّها تشكّل درجةً من العلاقة والقرن بين اللفظ والحصّة بمثابةٍ تصلح أن تكون قرينةً على إرادتها خاصّةً من اللفظ ، فلا يمكن حينئذٍ إثبات الإطلاق بقرينة الحكمة ؛ لأنّها تتوقّف على أن لا يكون في كلام المتكلّم ما يدلّ على القيد ، وتلك العلاقة والانس الخاصّ يصلح للدلالة عليه.

الإطلاق المقاميّ :

الإطلاق الذي استعرضناه وعرفنا أنّه يثبت بقرينة الحكمة والظهور الحاليّ السياقيّ نسمّيه «الإطلاق اللفظيّ» تمييزاً له عن نحوٍ آخر من الإطلاق لابدّ من معرفته ، نطلق عليه اسم «الإطلاق المقاميّ».

ونقصد بالإطلاق اللفظيّ : حالة وجود صورةٍ ذهنيّةٍ للمتكلّم وصدور الكلام منه في مقام التعبير عن تلك الصورة ، ففي مثل هذه الحالة إذا تردَّدنا في هذه الصورة هل أنّها تشتمل على قيدٍ غير مذكورٍ في الكلام الذي سيق للتحدّث عنها ، كان مقتضى الظهور الحاليّ السياقيّ في أنّ المتكلّم يبيّن تمام المراد بالخطاب مع عدم ذكره للقيد هو الإطلاق ، وهذا هو الإطلاق اللفظيّ ؛ لأنّه يرتبط بمدلول اللفظ.

وأمّا الإطلاق المقاميّ فلا يراد به نفي شيءٍ لو كان ثابتاً لكان قيداً في الصورة الذهنيّة التي يتحدّث عنها اللفظ ، وإنّما يراد به نفي شيءٍ لو كان ثابتاً لكان صورةً ذهنيّةً مستقلّةً وعنصراً آخر ، فإذا قال المتكلّم : «الفاتحة جزء في الصلاة ، والركوع جزء فيها ، والسجود جزء فيها ...» وسكت ، وأردنا أن نثبت بعدم ذكره لجزئيّة السورة أنّها ليست جزءاً كان هذا إطلاقاً مقاميّاً. ويتوقّف هذا الإطلاق المقاميّ على إحراز أنّ المتكلّم في مقام بيان تمام أجزاء الصلاة ، إذ ما لم يحرز ذلك لا يكون

٢٤٨

عدم ذكره لجزئيّة السورة كاشفاً عن عدم جزئيّتها ، ومجرّد استعراضه لعددٍ من أجزاء الصلاة لا يكفي لإحراز ذلك ، بل يحتاج إحرازه إلى قيام قرينةٍ خاصّةٍ على أنّه في هذا المقام.

وبذلك يختلف الإطلاق المقاميّ عن الإطلاق اللفظيّ ؛ إذ في الإطلاق اللفظيّ يوجد ظهور سياقيّ عامّ يتكفّل إثبات أنّ كلّ متكلّمٍ يسوق لفظاً للتعبير عن صورةٍ ذهنيّة ، فلا تزيد الصورة الذهنيّة التي يعبّر عنها باللفظ عن مدلول اللفظ ، ولا يوجد في الإطلاق المقاميّ ظهور مماثل في أنّ كلّ من يستعرض عدداً من أجزاء الصلاة فهو يريد الاستيعاب.

بعض التطبيقات لقرينة الحكمة :

يدلّ الأمر على الطلب ، وأ نّه على نحو الوجوب ، كما تقدّم (١). وقد يقال بهذا الصدد : إنّ دلالته على الوجوب ليست بالوضع ، وإنّما هي بالإطلاق وقرينة الحكمة ؛ لأنّ الطلب غير الوجوبيّ طلب ناقص محدود ، وهذا التحديد تقييد في هويّة الطلب ، ومع عدم نصب قرينةٍ على التقييد يثبت بالإطلاق إرادة الطلب المطلق ، أي الطلب الذي لا حدّ له بما هو طلب وهو الوجوب.

وللطلب انقسامات عديدة :

كانقسامه إلى الطلب النفسيّ والغيريّ ، فالأوّل هو طلب الشيء لنفسه ، والثانيّ هو طلب الشيء لأجل غيره.

وانقسامه إلى الطلب التعيينيّ والتخييريّ ، فالأوّل هو طلب شيءٍ معيَّن ، والثانيّ طلب أحد الأشياء على سبيل التخيير.

__________________

(١) تقدم تحت عنوان : الأمر والنهي

٢٤٩

وانقسامه إلى العينيّ والكفائيّ ، فالأوّل هو طلب الشيء من المكلّف بعينه ، والثاني طلبه من أحد المكلّفين على سبيل البدل.

وبالإطلاق وقرينة الحكمة يمكن أن نُثبِت كون الطلب نفسيّاً تعيينيّاً عينيّاً.

ويقال في توضيح ذلك : إنّ الغيريّة تقتضي تقييد وجوب الشيء بما إذا وجب ذلك الغير ، والتخييريّة تقتضي تقييده بما إذا لم يؤتَ بالآخر ، والكفائيّة تقتضي تقييده بما إذا لم يأتِ الآخر بالفعل ، وكلّ هذه التقييدات تُنفى مع عدم القرينة عليها بقرينة الحكمة ، فيثبت المعنى المقابل لها.

٢٥٠

العموم

تعريف العموم :

الاستيعاب تارةً يثبت دون أن يكون مدلولاً للَّفظ ، واخرى يكون مدلولاً له ، فالأوّل كاستيعاب الحكم الوارد على المطلق لأفراده ، فإذا قيل : «أكرم العالم» اقتضى اسم الجنس استيعاب وجوب الإكرام لأفراد العالم ، إلاّأنّ هذا الاستيعاب ليس مدلولاً للَّفظ ، وإنّما الكلام يدلّ على نفي القيد ، ومن لوازم ذلك انحلال الحكم حينئذٍ في مرحلة التطبيق على جميع أفراد العالم.

والثاني هو العموم ، كما في قولنا : «كلُّ رجل» ، فإنّ «كلّ» هنا تدلّ بنفسها على الاستيعاب.

وبهذا ظهر أنّ أسماء العدد ـ كعشرة ـ رغم استيعابها لوحداتها ليست عموماً ؛ لأنّ هذا الاستيعاب صفة واقعيّة للعشرة ، فإنّ كلّ مركّبٍ يستوعب أجزاءه ، وليس مدلولاً عليه بنفس لفظ العشرة ، فحاله حال انقسام العشرة إلى متساويَين ، فكما أنّه صفة واقعيّة وليس داخلاً في مدلول اللفظ كذلك الاستيعاب.

أدوات العموم ونحو دلالتها :

لا شكّ في وجود أدواتٍ تدلّ على العموم بالوضع ، مثل كلمة «كلّ» و «جميع» ونحوهما من الألفاظ الخاصّة بإفادة الاستيعاب ، غير أنّ النقطة الجديرة بالبحث فيها وفي كلّ ما ثبت أنّه من أدوات العموم بالوضع هي : أنّ إسراء الحكم إلى تمام أفراد مدخول الأداة ـ أي «عالم» مثلاً في قولنا «أكرم كلّ عالم» ـ هل

٢٥١

يتوقّف على إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في المدخول ، أو أنّ دخول أداة العموم على الكلمة يغنيها عن مقدّمات الحكمة ، وتتولّى الأداة بنفسها دور تلك القرينة؟

وقد ذكر صاحب الكفاية رحمه‌الله (١) : أنّ كلا الوجهين ممكن من الناحية النظريّة ؛ لأنّ أداة العموم إذا كانت موضوعةً لاستيعاب ما يراد من المدخول تعيّن الوجه الأوّل ؛ لأنّ المراد بالمدخول لا يعرف حينئذٍ من ناحية الأداة ، بل بقرينة الحكمة. وإذا كانت موضوعةً لاستيعاب تمام ما يصلح المدخول للانطباق عليه تعيَّن الوجه الثاني ؛ لأنّ المدخول مفاده الطبيعة ؛ وهي صالحة للانطباق على تمام الأفراد ، فيتمّ تطبيقها كذلك بتوسّط الأداة مباشرة.

وقد استظهر رحمه‌الله ـ بحقٍّ ـ الوجه الثاني.

وقد لا يكتفى بالاستظهار في تعيين الوجه الثاني ، بل يبرهن على إبطال الوجه الأوّل بلزوم اللغويّة ، إذ بعد فرض الاحتياج إلى قرينة الحكمة لإثبات الإطلاق في المرتبة السابقة على دخول الأداة يكون دور الأداة لغواً صرفاً ، ولا يمكن افتراض كونها تأكيداً ؛ لأنّ فرض الطوليّة بين دلالة الأداة وثبوت الإطلاق بقرينة الحكمة يمنع عن تعقّل كون الأداة ذات أثرٍ ولو تأكيديّ.

دلالة الجمع المعرَّف باللام :

وممّا ادُّعيت دلالته على العموم «الجمع المعرّف باللام» بعد التسليم بأنّ الجمع الخالي من اللام لا يدلّ على العموم ، وأنّ المفرد المعرّف باللام لا يدلّ على ذلك أيضاً ، وإنّما يجري فيه الإطلاق وقرينة الحكمة.

والكلام في ذلك يقع في مرحلتين :

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٢٥٤

٢٥٢

الاولى : تصوير هذه الدلالة ثبوتاً ، والصحيح في تصويرها أن يقال : إنّ الجمع المعرّف باللام مشتمل على دوالّ ثلاثة :

أحدها يدلّ على المعنى الذي يراد استيعاب أفراده ، وهو المادّة.

وثانيها يدلّ على الجمع ، وهو هيئة الجمع.

وثالثها يدلّ على استيعاب الجمع لتمام أفراد مدلول المادّة ، وهو اللام.

والثانية : في حال هذه الدلالة إثباتاً ، وتفصيل ذلك : أنّه تارةً يدّعى وضع اللام الداخلة على الجمع للعموم ، واخرى يدّعى وضعها لتعيين مدخولها ، وحيث لا يوجد معيّن للأفراد الملحوظِين في الجمع من عهدٍ ونحوه تتعيّن المرتبة الأخيرة من الجمع ؛ لأنّها المرتبة الوحيدة التي لا تَردُّدَ في انطباقها وحدود شمولها ، فيكون العموم من لوازم المدلول الوضعيّ ، وليس هو المدلول المباشر.

وقد اعترض على كلٍّ من الدعويَين :

أمّا على الاولى فبأنّ لازمها كون الاستعمال في موارد العهد مجازياً ، إذ لا عموم ، أو البناء على الاشتراك اللفظيّ بين العهد والعموم ، وهو بعيد.

وأمّا الثانية فقد أورد عليها صاحب الكفاية رحمه‌الله (١) : بأنّ التعيين كما هو محفوظ في المرتبة الأخيرة من الجمع كذلك هو محفوظ في المراتب الاخرى ، وكأ نّه يريد بالتعيين المحفوظ في كلّ تلك المراتب تعيّن العدد ، وماهية المرتبة ، وعدد وحداتها ، بينما المقصود با لتعيّن الذي تتميَّز به المرتبة الأخيرة من الجمع : تعيّن ما هو داخل من الأفراد في نطاق الجمع المعرَّف ، وهذا النحومن التعيّن لايوجد إلاّ لهذه المرتبة.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٨٥

٢٥٣

المفاهيم

تعريف المفهوم :

الكلام له مدلول مطابقيّ وهو المنطوق ، وقد يتّفق أن يكون له مدلول التزاميّ ، والمفهوم مدلول التزاميّ للكلام ، ولكن لا كلّ مدلولٍ التزامي ، بل المدلول الالتزاميّ الذي يعبِّر عن انتفاء الحكم في المنطوق إذا اختلَّت بعض القيود المأخوذة في المدلول المطابقي ، فقولك : «صلاة الجمعة واجبة» يدلّ بالدلالة الالتزاميّة على أنّ صلاة الظهر ليست واجبة ، ولكنّ هذا ليس مفهوماً ؛ لأنّه لا يعبِّر عن انتفاء نفس وجوب صلاة الجمعة ، أي انتفاء حكم المنطوق.

وتحصل الدلالة الالتزاميّة على انتفاء الحكم المنطوق باختلال بعض القيود ؛ بسبب أنّ الربط الخاصَّ المأخوذ في المدلول المطابقيّ بين الحكم وقيوده قد اخذ على نحوٍ يستدعي انتفاء الحكم المنطوق بانتفاء ما ربط به.

ولكن ليس كلّ انتفاءٍ من هذا القبيل للحكم المنطوق مفهوماً أيضاً ، بل إذا تضمّن انتفاء طبيعيّ الحكم المنطوق ، فزيدٌ ـ مثلاً ـ قد يجب إكرامه بملاك «المجاملة» ، وقد يجب إكرامه بملاك «مجازاة الإحسان» ، وقد يجب إكرامه بملاك «الشفقة» ، وهكذا ، فإذا قيل : «إذا جاءك زيدٌ فأكرمه» فوجوب الإكرام المبرَز بهذا الكلام لابدّ أن يكون واحداً من هذه الأفراد للوجوب ، ولنفرض أنّه الفرد الأوّل منها مثلاً ، وهذا الفرد من الوجوب ينتفي بانتفاء الشرط تطبيقاً لقاعدة احترازية القيود.

ولكنّ هذه القاعدة لا تنفي سائر أفراد الوجوب الاخرى ، ولا يعتبر ذلك مفهوماً ، بل المفهوم أن يدلّ الربط الخاصّ المأخوذ في المنطوق بين الحكم وقيده على انتفاء طبيعيّ الحكم بانتفاء القيد ، فقولنا : «إذا جاءَ زيد فأكرمه» ـ في المثال

٢٥٤

المتقدّم ـ إنّما يعتبر له مفهوم إذا دلّ الربط فيه بين الشرط والجزاء على أنّه في حالات انتفاء الشرط ينتفي طبيعيّ وجوب الإكرام بكلّ أفراده الآنفة الذكر.

ومن هنا صحَّ تعريف المفهوم بأ نّه : انتفاء طبيعيّ الحكم المنطوق [عند انتقاء القيد] على أن يكون هذا الانتفاء مدلولاً التزاميّاً لربط الحكم في المنطوق بطرفه.

ضابط المفهوم :

وعلى ضوء ما ذكرناه في تعريف المفهوم نواجه السؤال التالي : ما هو هذا النحو من الربط الذي يستلزم انتفاء الحكم عند الانتفاء ؛ لكي نبحث بعد ذلك عن الجمل التي يمكن القول بأ نّها تدلّ على ذلك النحو من الربط ، وبالتالي يكون لها مفهوم؟

والمعروف أنّ الربط الذي يحقّق المفهوم يتوقّف على ركنين أساسيَّين :

أحدهما : أن يكون الربط معبِّراً عن حالة لزومٍ عِلِّيٍّ [تامٍ] انحصاريّ. وبكلمةٍ اخرى : أن يكون من ارتباط المعلول بعلّته المنحصرة ، إذ لو كان الربط بين الجزاء والشرط ـ مثلاً ـ مجرّد اتفاقٍ بدون لزوم ، أو لزوماً بدون علّيّة ، أو علّيّةً بدون انحصارٍ لِتوفّر علّةٍ اخرى لَما انتفى مدلول الجزاء بانتفاء ما ارتبط به في الجملة من شرط ؛ لإمكان وجوده بعلّةٍ اخرى.

والركن الآخر : أن يكون المرتبط بتلك العلّة المنحصرة طبيعيّ الحكم وسنخه ، لا شخصه ؛ لكي ينتفي الطبيعيّ بانتفاء تلك العلّة لا الشخص فقط ؛ لما عرفت سابقاً من أنّ المفهوم لا يتحقّق إلاّإذا كان الربط مستلزماً لانتفاء طبيعيّ الحكم المنطوق بانتفاء القيد.

ونلاحظ على الركن الأوّل من هذين الركنين :

أوّلاً : أنّ كون المرتبط به الحكم علّةً تامّةً ليس أمراً ضرورياً لإثبات المفهوم ،

٢٥٥

بل يكفي أن يكون جزءَ العلّة إذا افترضنا كونه جزءاً لعلّةٍ منحصرة ، فالمهمّ من ناحية المفهوم الانحصار ، لا العلّيّة.

وثانياً : أنّ الجملة الشرطيّة ـ مثلاً ـ إذا أفادت كون الجزاء ملتصقاً بالشرط ومتوقّفاً عليه كفى ذلك في إثبات الانتفاء عند الانتفاء ولو لم يكن فيها ما يثبت علّيّة الشرط للجزاء ؛ أو كونه جزءَ العلّة ، بل وحتّى لو لم يكن فيها ما يدلّ على اللزوم ، ولهذا لو قلنا : «إنّ مجيء زيدٍ متوقّف صدفةً على مجيء عمروٍ» لدلّ ذلك على عدم مجيء زيدٍ في حالة عدم مجيء عمرو ، فليست دلالة الجملة على اللزوم العِلّيِّ الانحصاريِّ هي الاسلوب الوحيد لدلالتها على المفهوم ، بل يكفي بدلاً عن ذلك دلالتها على الالتصاق والتوقّف ولو صدفةً من جانب الجزاء.

مفهوم الشرط :

من أهمّ الجمل التي وقع البحث عن مفهومها : الجملة الشرطيّة ، ولا شكّ في دلالتها على ربط الجزاء بالشرط ؛ وإن وقع الاختلاف في الدالّ على هذا الربط ، فالرأي المعروف أنّ أداة الشرط هي الدالة على الربط وضعاً.

وخالف في ذلك المحقّق الإصفهانيّ (١) ، إذ ذهب إلى أنّ الأداة موضوعة لإفادة أنّ مدخولها (أي الشرط) قد افُترِض وقُدِّر على نهج الموضوع في القضيّة الحقيقيّة ، وأمّا ربط الجزاء بالشرط وتعليقه عليه فهو مستفاد من هيئة الجملة وما فيها من ترتيبٍ للجزاء على الشرط.

وعلى أيّ حالٍ يتّجه البحث حول ما إذا كان هذا الربط المستفاد من الجملة الشرطيّة بين الجزاء والشرط يفي بإثبات المفهوم ، أوْ لا؟

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ٥٣ و ٤١٢

٢٥٦

وفي هذا المجال نواجه سؤالين على ضوء ما تقدّم من الضابط لإثبات المفهوم :

أوّلاً : هل المعلَّق طبيعيّ الحكم ، أو شخصه؟

ثانياً : هل يستفاد من الجملة أنّ الشرط علّة منحصرة للمعلَّق؟

وفي ما يتّصل بالسؤال الأوّل يقال عادةً : بأنّ المعلّق طبيعيّ الحكم ، لا الشخص ، وذلك بإجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في مفاد هيئة جملة الجزاء ، فإنّ مفادها هو المحكوم عليه بالتعليق ، ومقتضى الإطلاق أنّه لوحظ بنحو الطبيعيّ ، لا بنحو الشخص ، ففي جملة «إذا جاء زيدٌ فأكرمه» نثبت بالإطلاق أنّ مفاد «أكرم» طبيعيّ الوجوب المفاد بنحو المعنى الحرفيّ والنسبة الإرساليّة.

وفي ما يتّصل بالسؤال الثاني قد يقال : إنّ أداة الشرط موضوعة لغةً للربط العِلِّيِّ الانحصاريِّ بين الشرط والجزاء.

ولكن يورد على ذلك عادةً : بأ نّها لو كانت موضوعةً على هذا النحو لزم أن يكون استعمالها في مورد كون الشرط علّةً غير منحصرةٍ مجازاً ، وهو خلاف الوجدان.

ومن هنا اتّجه القائلون بالمفهوم إلى دعوى اخرى ، وهي : أنّ اللزوم مدلول وضعيّ للأداة ، والعِلّيّة مستفادة من تفريع الجزاء على الشرط بالفاء الثابتة حقيقةً أو تقديراً ، وأمّا الانحصار فيثبت بالإطلاق ، إذ لو كان للشرط بديل يتحقّق عوضاً عنه في بعض الأحيان لكان لابدّ من تقييد الشرط المذكور في الجملة بذلك البديل بحرف «أو» ونحوها ، فيقال مثلاً : «إن جاءَ زيد أو مرض فأكرمه» ، فحيث لم يذكر ذلك والقي الشرط مطلقاً ثبت بذلك عدم وجود البديل ، وهو معنى الانحصار.

٢٥٧

الشرط المسوق لتحقيق الموضوع :

يوجد في الجملة الشرطيّة «إن جاء زيد فأكرمه» حكمٌ وهو وجوب الإكرام ، وشرطٌ وهو المجيء ، وموضوعٌ ثابت في حالتي وجود الشرط وعدمه وهو زيد ، وفي هذه الحالة يثبت مفهوم الشرط تبعاً لما تقدّم من بحوث.

ولكنّنا أحياناً نجد أنّ الشرط يساوق وجود الموضوع ، ويعني تحقيقه على نحوٍ لا يكون في الجملة الشرطيّة موضوع محفوظ في حالتي وجود الشرط وعدمه ، كما في قولنا : «إذا رُزِقتَ ولداً فاختنه» ، وفي مثل ذلك لا مجال للمفهوم ؛ إذ مع عدم الشرط لا موضوع لكي تدلّ الجملة على نفي الحكم عنه ، ويسمّى الشرط في حالاتٍ من هذا القبيل بالشرط المسوق لتحقّق الموضوع.

مفهوم الوصف :

إذا قيّد متعلّق الحكم أو موضوعه بوصفٍ معيّنٍ كما في «أكرم الفقير العادل» فهل يدلّ التقييد بوصف العادل على المفهوم؟

قد يقال بثبوت المفهوم لأحد الوجهين التاليَين :

الأوّل : أنّه لو كان يجب إكرام الفقير العادل والفقير غير العادل معاً فهذا يعني أنّ العدالة ليس لها دخل في موضوع الحكم بالوجوب ، مع أنّ أخذ قيدٍ في الخطاب ظاهر عرفاً في أنّه دخيل في الحكم.

ويرد على ذلك : أنّ دلالة الخطاب على دخل القيد لا شكّ فيها ، ومردّها إلى ظهور حال المتكلّم في أنّ كلّ ما يبيّن بالكلام في مرحلة المدلول التصوّريّ فهو داخل في نطاق المراد الجدّيّ ، وحيث إنّ الوصف قد بيّن في مرحلة المدلول التصوّريّ

٢٥٨

بوصفه قيداً فيثبت بذلك أنّه دخيل في موضوع الحكم المراد جدّاً ، وعلى أساس ذلك قامت قاعدة احترازيّة القيود ، كما تقدّم. غير أنّ ذلك إنّما يقتضي دخل الوصف في شخص الحكم ، وانتفاء هذا الشخص الذي سيق الكلام لإبرازه بانتفاء الوصف ، لا انتفاء طبيعيّ الحكم ، وما نقصده بالمفهوم انتفاء الطبيعيّ.

الثاني : أنّه لو كان يجب إكرام الفقير العادل والفقير غير العادل ولو بفردَين من الوجوب وبجعلَين لَما كانت هناك فائدة في ذكر المولى لقيد العدالة ؛ لأنّه لو لم يذكره وجاء الخطاب مطلقاً لَما أضرَّ بمقصوده ، وإذا لم تكن هناك فائدة في ذكر القيد كان لغواً ، فيتعيّن ـ لصيانة كلام المولى عن اللغويّة ـ أن يفترض لذكر القيد فائدة ، وهي التنبيه على عدم شمول الحكم للفقير غير العادل ، فيثبت المفهوم.

وهذا البيان وإن كان متّجهاً ولكنّه إنّما يقتضي نفي الثبوت الكلّيِّ الشامل للحكم في حالات انتفاء الوصف ، ولا ينفي ثبوته في بعض الحالات مع انتفائه في حالاتٍ اخرى ، إذ يكون لذكر القيد عندئذٍ فائدة وهي التحرّز عن هذه الحالات الاخرى ؛ لأنّه لو لم يذكر لَشمل الخطاب كلّ حالات الانتفاء.

فالوصف إذن له مفهوم محدود ، ويدلّ على انتفاء الحكم بانتفاء الوصف على نحو السالبة الجزئية ، لا على نحو السالبة الكلّيّة.

وينبغي أن نلاحظ في هذا المجال أنّ الوصف : تارةً يذكر مع موصوفه فيقال مثلاً : «احترِم العالمَ الفقيه» ، واخرى يذكر مستقلاًّ فيقال : «احترِم الفقيه». والوجه الأوّل لإثبات المفهوم للوصف لو تمّ يجري في كلتا الحالتين ، وأمّا الوجه الثاني فيختصّ بالحالة الاولى ؛ لأنّ ذكر الوصف في الحالة الثانية لا يكون لغواً ـ على أيّ حالٍ ـ ما دام الموصوف غير مذكور.

٢٥٩

جمل الغاية والاستثناء :

وهناك جمل اخرى يقال عادةً بثبوت المفهوم لها ، كالجملة المتكفّلة لحكمٍ مغيّى ، كما في «صُمْ إلى الليل» ، أو المتكفّلة لحكمٍ مع الاستثناء منه. ولا شكّ في أنّ الغاية والاستثناء يدلاّن على أنّ شخص الحكم الذي اريد إبرازه بذلك الخطاب منفيّ بعد وقوع الغاية ، ومنفيّ عن المستثنى تطبيقاً لقاعدة احترازيّة القيود.

ولكنّ هذا لا يكفي لإثبات المفهوم ؛ لأنّ المطلوب فيه نفي طبيعيّ الحكم ، كما في الجملة الشرطيّة ، وهذا يتوقّف على إثبات كون الغاية أو الاستثناء غايةً لطبيعيِّ الحكم واستثناءً منه ، على وِزانِ كون المعلّق في الجملة الشرطيّة طبيعيَّ الحكم ، فإن أمكن إثبات ذلك كان للغاية ولأداة الاستثناء مفهوم كمفهوم الجملة الشرطيّة ، فتدلاّن على أنّ طبيعيَّ الحكم ينتفي عن جميع الحالات التي تشملها الغاية أو يشملها المستثنى ، وإذا لم يمكن إثبات ذلك لم يكن للغاية والاستثناء مفهوم بهذا المعنى.

نعم ، يثبت لهما (١) مفهوم محدود بقدر ما ثبت للوصف بقرينة اللغويّة ، إذ لو كان طبيعيّ الحكم ثابتاً بعد الغاية أو للمستثنى أيضاً ولو بجعلٍ آخر كان ذكر الغاية أو الاستثناء بلا مبرِّرٍ عرفيّ ، فلا بدّ من افتراض انتفاء الطبيعيّ في حالات وقوع الغاية وحالات المستثنى ولو بنحو السالبة الجزئيّة صيانةً للكلام عن اللغويّة.

__________________

(١) في الطبعة الاولى : لها. والصحيح ما أثبتناه كما يظهر بالتأمّل

٢٦٠