دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

ومثال الأوّل : وضع أسماء الأجناس ، ومثال الثاني : وضع الهيئة المحفوظة في ضمن كلّ أسماء الفاعلين لمعنى هيئة اسم الفاعل ، فإنّ الهيئة لَمَّا كانت لا تنفصل في مقام التصوّر عن المادة ؛ وكان من الصعب إحضار تمام الموادّ عند وضع اسم الفاعل اعتاد الواضع أن يُحضِر الهيئة في ضمن مادّةٍ معيّنةٍ كفاعل ، ويضع كلّ ما كان على هذه الوتيرة للمعنى الفلانيّ فيكون الوضع نوعيّاً.

المجاز :

يكتسب اللفظ بسبب وضعه للمعنى الحقيقيّ صلاحيّة الدلالة على المعنى الحقيقيّ من أجل الاقتران الخاصّ بينهما ، كما يكتسب صلاحيّة الدلالة على كلّ معنىً مقترنٍ بالمعنى الحقيقيّ اقتراناً خاصّاً ، كالمعاني المجازيّة المشابهة ، غير أنّها صلاحيّة بدرجةٍ أضعف ؛ لأنّها تقوم على أساس مجموع اقترانين ، ومع اقتران اللفظ بالقرينة على المعنى المجازيّ تصبح هذه الصلاحيّة فعليّة ؛ ويكون اللفظ دالاًّ فعلاً على المعنى المجازي.

وأمّا في حالة عدم وجود القرينة فالذي ينسبق إلى الذهن من اللفظ تصوّر المعنى الموضوع له ، ومن هنا يقال : إنّ ظهور الكلام في مرحلة المدلول التصوّريّ يتعلَّق بالمعنى الموضوع له دائماً ، بمعنى أنّه هو الذي تأتي صورته إلى الذهن بمجرّد سماع اللفظ دون المعنى المجازي.

وما ذكرناه من اكتساب اللفظ صلاحيّة الدلالة على المعنى المجازيّ لا يحتاج إلى وضعٍ خاصٍّ وراء وضع اللفظ لمعناه الحقيقيّ ، وإنّما يحصل بسبب وضعه للمعنى الحقيقي.

وإنّما الكلام في أنّه هل يصحّ استعمال اللفظ في المعنى المجازيّ ما دام أصبح صالحاً للدلالة عليه ، أو تتوقّف صحّته على وضعٍ معيّن؟

٢٢١

وعلى تقدير القول بالتوقّف لابدّ من تصوير الوضع المصحّح للاستعمال المجازيّ بنحوٍ يختلف عن الوضع للمعنى الحقيقي ـ وإلاّ لانقلب المعنى المجازيّ إلى حقيقيٍّ وهو خلف ـ ويحفظ الطوليّة بين الوضعين على نحوٍ يفسّر أسبقيّة المعنى الحقيقيّ إلى الذهن عند سماع اللفظ المجرّد عن القرينة ، وذلك بأن يدّعى ـ مثلاً ـ وضع اللفظ المنضمّ إلى القرينة للمعنى المجازيّ ، فحيث لا قرينة تنحصر علاقة اللفظ بالمعنى الحقيقيّ ولا يزاحمه المعنى المجازيّ.

والصحيح : عدم الاحتياج إلى وضعٍ في المجاز لتصحيح الاستعمال ؛ لأنّه : إن اريد بصحّة الاستعمال حسنه فواضح أنّ كلّ لفظٍ له صلاحيّة الدلالة على معنىً يحسن استعماله فيه وقصد تفهيمه به ، واللفظ له هذه الصلاحيّة بالنسبة إلى المعنى المجازيّ ـ كما عرفت ـ فيصحّ استعماله فيه.

وإن اريد بصحّة الاستعمال انتسابه إلى اللغة التي يريد المتكلِّم التكلّم بها فيكفي في ذلك أن يكون الاستعمال مبنيّاً على صلاحيّةٍ في اللفظ للدلالة على المعنى ناشئةٍ من أوضاع تلك اللغة.

علامات الحقيقة والمجاز :

ذكر المشهور عدّةَ علاماتٍ لتمييز المعنى الحقيقيّ عن المجازي :

منها : التبادر من اللفظ ، أي انسباق المعنى إلى الذهن منه ؛ لأنّ المعنى المجازيّ لا يتبادر من اللفظ إلاّبضمِّ القرينة ، فإذا حصل التبادر بدون قرينةٍ كشف عن كون المتبادر معنىً حقيقيّاً.

وقد يعترض على ذلك : بأنّ تبادر المعنى الحقيقيّ من اللفظ يتوقّف على علم الشخص بالوضع ، فإذا توقّف علمه بالوضع على هذه العلامة لزم الدور.

واجيب على ذلك : بأنّ التبادر يتوقّف على العلم الارتكازيِّ بالمعنى ، وهو

٢٢٢

العلم المترسّخ في النفس الذي يلتئم مع الغفلة عنه فعلاً ، والمطلوب من التبادر العلم الفعليّ المتقوّم بالالتفات ، فلا دَور ، كما أنّ افتراض كون التبادر عند العالم ، علامةً عند الجاهل لا دَور فيه أيضاً.

والتحقيق : أنّ الاعتراض بالدور لا محلّ له أساساً ؛ لأنّه مبنيّ على افتراض أنّ انتقال الذهن إلى المعنى من اللفظ فرع العلم بالوضع ، مع أنّه فرع نفس الوضع ، أي وجود عمليّة القرن الأكيد بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى في ذهن الشخص ، فالطفل الرضيع الذي اقترنت عنده كلمة «ماما» برؤية امّه يكفي نفس هذا الاقتران الأكيد ليتصوّر امّه عندما يسمع كلمة «ماما» ، مع أنّه ليس عالماً بالوضع ؛ إذ لا يعرف معنى الوضع.

فالتبادر إذن يتوقّف على وجود عمليّة القرن الأكيد بين التصوّرَين في ذهن الشخص ، والمطلوب من التبادر تحصيل العلم بالوضع ، أي العلم بذلك القرن الأكيد ، فلا دَور.

ومنها : صحّة الحمل ، فإن صحّ الحمل الأوّليّ الذاتيّ لِلَّفظ المراد استعلام حاله على معنىً ثبت كونه هو المعنى الموضوع له ، وإن صحّ الحمل الشائع ثبت كون المحمول عليه مصداقاً لعنوانٍ هو المعنى الموضوع له اللفظ ، وإذا لم يصحّ كلا الحملين ثبت عدم كون المحمول عليه نفس المعنى الموضوع له ، ولا مصداقه.

والصحيح : أنّ صحّة الحمل إنّما تكون علامةً على كون المحمول عليه هو نفس المعنى المراد في المحمول ، أو مصداق المعنى المراد ، أمّا أنّ هذا المعنى المراد في جانب المحمول هل هو معنىً حقيقيّ لِلَّفظ ، أو مجازيّ؟ فلا سبيل إلى تعيين ذلك عن طريق صحّة الحمل ، بل لا بدّ أن يرجع الإنسان إلى مرتكزاته لكي يعيّن ذلك.

ومنها : الاطِّراد ، وهو : أن يصحّ استعمال اللفظ في المعنى المشكوك كونه حقيقيّاً في جميع الحالات وبلحاظ أيّ فردٍ من أفراد ذلك المعنى ، فيدلّ الاطِّراد في

٢٢٣

صحّة الاستعمال على كونه هو المعنى الحقيقيّ لِلَّفظ ، إذ لا اطّراد في صحّة الاستعمال في المعنى المجازي.

وقد اجيب على ذلك : بأنّ الاستعمال في معنىً إذا صحّ مجازاً ولو في حالٍ وبلحاظ فردٍ صحّ دائماً وبلحاظ سائر الأفراد ، مع الحفاظ على كلّ الخصوصيّات والشؤون التي بها صحّ الاستعمال في تلك الحالة أو في ذلك الفرد ، فالاطِّراد ثابت إذن في المعاني المجازيّة أيضاً ؛ مع الحفاظ على الخصوصيّات التي بها صحّ الاستعمال.

تحويل المجاز إلى حقيقة :

إذا استعمل الإنسان كلمة «الأسد» ـ مثلاً ـ الموضوعة للحيوان المفترس في الرجل الشجاع فهذا استعمال مجازيّ. وقد يحتال لتحويله إلى استعمالٍ حقيقيٍّ بأن يستعمله في الحيوان المفترس ويطبّقه على الرجل الشجاع بافتراض أنّه مصداق للحيوان المفترس ، إذ بالإمكان أن يفترض غير المصداق مصداقاً بالاعتبار والعناية ، ففي هذه الحالة لا يوجد تجوّز في الكلمة ؛ لأنّها استعملت في ما وضعت له ، وإنّما العناية في تطبيق مدلولها على غير مصداقه فهو مجاز عقليّ لا لفظي.

استعمال اللفظ وإرادة الخاصّ :

إذا استعمل اللفظ واريد به معنىً مباين لما وضع له فهو مجاز بلا شكّ ، وأمّا إذا كان المعنى الموضوع له اللفظ ذا حصصٍ وحالاتٍ كثيرةٍ واريد به بعض تلك الحصص ، كما إذا أتيت بلفظ «الماء» وأردت ماء الفرات فهذا له حالتان :

الاولى : أن تستعمل لفظة «الماء» بمفردها في تلك الحصّة بالذات ، أي في ماء الفرات بماهو ماء خاصّ ، وهذايكون مجازاً ؛ لأنّ اللفظلم يوضع للخاصّ بماهو خاصّ.

٢٢٤

الثانية : أن تستعمل لفظة «الماء» في معناها المشترك بين ماء الفرات وغيره وتأتي بلفظٍ آخر يدلّ على خصوصية الفرات بأن تقول : «ائتني بماء الفرات» ، فالحصّة الخاصّة قد افيدت بمجموع كلمتي «ماء» و «الفرات» ، لا بكلمة «ماء» فقط ، وكلّ من الكلمتين قد استعملت في معناها الموضوعة له فلا تجوز ، ونطلق على إرادة الخاصِّ بهذا النحو «طريقة تعدّد الدالِّ والمدلول» ، فطريقة تعدّد الدالِّ والمدلول نعني بها : إفادة مجموعة من المعاني بمجموعةٍ من الدوال وبإزاء كلِّ دالٍّ واحد من تلك المعاني.

الاشتراك والترادف :

لا شكّ في إمكان الاشتراك (وهو وجود معنيين لِلَفظٍ واحد) والترادف (وهو وجود لفظين لمعنىً واحدٍ) بناءً على غير مسلك التعهّد في تفسير الوضع ، ومجرّد كون الاشتراك مؤدّياً إلى الإجمال وتردّد السامع في المعنى المقصود لا يوجب فقدان الوضع المتعدّد لحكمته ؛ لأنّ حكمته إنّما هي إيجاد ما يصلح للتفهيم في مقام الاستعمال ولو بضمّ القرينة.

وأمّا على مسلك التعهّد فلا يخلو تصوير الاشتراك والترادف من إشكال ؛ لأنّ التعهّد إذا كان بمعنى (الالتزام بعدم الإتيان باللفظ إلاّإذا قصد تفهيم المعنى الذي يضع له اللفظ) امتنع الاشتراك المتضمّن لتعهّدين من هذا القبيل بالنسبة إلى لفظٍ واحد ، إذ يلزم أن يكون عند الإتيان باللفظ قاصداً لكلا المعنيين وفاءً بكلا التعهّدين ، وهو غير مقصودٍ من المتعهّد جزماً.

وإذا كان التعهّد بمعنى (الالتزام بالإتيان باللفظ عند قصد تفهيم المعنى) امتنع الترادف المتضمّن لتعهّدين من هذا القبيل بالنسبة إلى معنىً واحد ، إذ يلزم أن يأتي بكلا اللفظين عند قصد تفهيم المعنى ، وهو غير مقصودٍ من المتعهّد جزماً.

٢٢٥

وحلُّ الإشكال : إمّا بافتراض (تعدّد المتعهّد) أو (وحدة المتعهّد بأن يكون متعهّداً بعدم الإتيان باللفظ إلاّإذا قصد تفهيم أحد المعنيين بخصوصه ، أو متعهّداً عند قصد تفهيم المعنى بالإتيان بأحد اللفظين) أو (فرض تعهّدَين مشروطَين على نحوٍ يكون المتعهَّد به في كلٍّ منهما مقيّداً بعدم الآخر) (١).

تصنيف اللغة :

تنقسم اللغة إلى كلمةٍ بسيطة ، وكلمةٍ مركّبة ، وهيئةٍ تركيبيّة تقوم بأكثر من كلمة.

فالكلمة البسيطة : هي الكلمة الموضوعة بمادّة حروفها وتركيبها الخاصّ بوضعٍ واحدٍ للمعنى ، من قبيل أسماء الأجناس وأسماء الأعلام والحروف.

والكلمة المركّبة : هي الكلمة التي يكون لهيئتها وضع ولمادتها وضع آخر ، من قبيل الفعل.

والهيئة التركيبية : هي الهيئة التي تحصل بانضمام كلمةٍ إلى اخرى وتكون موضوعةً لمعنىً خاصّ.

والهيئات والحروف عموماً لا تستقلّ معانيها بنفسها ؛ لأنّها من سنخ النسب والارتباطات ، ففي قولنا : «السير إلى مكّة المكرّمة واجب» تدلّ «إلى» على نسبةٍ خاصّةٍ بين السير ومكّة ، حيث إنّ السير ينتهي بمكّة ، وتدّل هيئة «مكّة المكرّمة» على نسبةٍ وصفيّةٍ وهي كون «المكرّمة» وصفاً لمكّة ، وتدلّ هيئة جملة «السير ... واجب» على نسبةٍ خاصّةٍ بين السير وواجب ، وهي : أنّ الوجوب ثابت فعلاً للسير.

__________________

(١) هذه حلول ثلاثة للإشكال أفرزنا بعضها عن بعض بالأقواس لتسهيل الأمر على الطالب

٢٢٦

والنسبة التي يدلّ عليها الحرف غير كافيةٍ بمفردها لتكوين جملةٍ تامّة ، ولهذا تسمّى بالنسبة الناقصة. وأمّا الهيئات فبعضها يدلّ على النسبة الناقصة كهيئة الجملة الوصفيّة ، وبعضها يدلّ على النسبة التي تتكوّن بها جملة تامّة ، وتسمّى «نسبة تامّة» ، وذلك كهيئة الجملة الخبريّة ، أو هيئة الجملة الإنشائية من قبيل «زيدٌ عالم» و «صُمْ».

ويصطلح اصوليّاً على التعبير بالمعنى الحرفيّ عن كلّ نسبة ، سواء كانت مدلولةً للحرف ، أو لهيئة الجملة الناقصة ، أو لهيئة الجملة التامّة. وبالمعنى الاسميّ عمّا سوى ذلك من المدلولات.

ويختلف المعنى الحرفيّ عن المعنى الاسميّ في امورٍ ، منها : أنّ المعنى الحرفيّ باعتباره نسبةً وكلّ نسبةٍ متقوّمة بطرفيها ، فلا يمكن أن يلحظ دائماً إلاّضمن لحاظ طرفي النسبة ، وأمّا المعنى الاسميّ فيمكن أن يلحظ بصورةٍ مستقلّة.

وقد ذهب المحقّق النائينيّ رحمه‌الله إلى التفرقة بين المعاني الاسميّة والمعاني الحرفيّة بأنّ الاولى إخطاريّة ، والثانية إيجاديّة. والمستفاد من ظاهر كلمات مقرّري بحثه (١) أنّ مراده بكون المعنى الاسميّ إخطاريّاً : أنّ الاسم يدلّ على معنىً ثابتٍ في ذهن المتكلّم في المرتبة السابقة على الكلام ، وليس دور الاسم إلاّالتعبير عن ذلك المعنى. ومراده بكون المعنى الحرفيّ إيجاديّاً : أنّ الحرف أداة للربط بين مفردات الكلام ، فمدلوله هو نفس الربط الواقع في مرحلة الكلام بين مفرداته ، ولا يعبّر عن معنىً أسبق رتبةً من هذه المرحلة ، ومن هنا يكون الحرف موجداً لمعناه ؛ لأنّ معناه ليس إلاّالربط الكلاميّ الذي يحصل به.

وهذا المعنى من الإيجاديّة للحرف واضح البطلان ؛ لأنّ الحرف وإن كان

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٦ ـ ٢٠. وفوائد الاصول ١ : ٣٧ ـ ٤٣.

٢٢٧

يوجد الربط في مرحلة الكلام ولكنّه إنّما يوجد ذلك بسبب دلالته على معنى ، أي على الجانب النسبيّ والربطيّ في الصورة الذهنية ، ونسبته إلى الربط القائم في الصورة الذهنيّة على حدّ ربط الاسم بالمعاني الاسميّة (١) الداخلة في تلك الصورة ، فلا تصحّ التفرقة بين المعاني الاسميّة والحرفيّة بالإخطاريّة والإيجاديّة.

نعم ، هناك معنىً آخر دقيق ولطيف لإيجاديّة المعاني الحرفيّة تتميّز به عن المعاني الاسميّة ؛ تأتي الإشارة إليه في الحلقة الثالثة إن شاء الله تعالى.

المقارنة بين الحروف والأسماء الموازية لها :

كلّ حرفٍ نجد تعبيراً اسميّاً موازياً له ، ف «إلى» يوازيها في الأسماء «انتهاء» ، و «من» يوازيها «ابتداء» ، و «في» توازيها «ظرفيّة» وهكذا ، وعلى الرغم من الموازاة فإنّ الحرف والاسم الموازي له لَيسا مترادفَين ؛ بدليل أنّه لا يمكن استبدال أحدهما في موضع الآخر ؛ كما هو الشأن في المترادفَين عادة. والسبب في ذلك يعود إلى أنّ الحرف يدلّ على النسبة ، والاسم يدلّ على مفهومٍ اسميٍّ يوازي تلك النسبة ويلازمها ، ومن هنا لم يكن بالإمكان أن يفصل مدلول «إلى» عن طرفيه ويلحظ مستقلاًّ ؛ لأنّ النسبة لا تنفصل عن طَرَفَيها ، بينما بالإمكان أن نلحظ كلمة «الانتهاء» بمفردها ونتصوّر معناها.

ونفس الشيء نجده في هيئات الجمل مع أسماءٍ موازيةٍ لها ، فقولك : «زيد عالم» إخبار بعلم زيد ، فالإخبار بعلم زيدٍ تعبير اسميّ عن مدلول هيئة «زيد عالم» ، إلاّأ نّه لا يرادفه ؛ لوضوح أنّك لو نطقت بهذا التعبير الاسميّ لكنت قد قلت

__________________

(١) هكذا جاءت العبارة في الطبعة الاولى ، والأنسب : على حدّ نسبة الاسم إلى المعاني الاسميّة

٢٢٨

جملةً ناقصةً لا يصحّ السكوت عليها ، بينما «زيد عالم» جملة تامّة يصحّ السكوت عليها.

تنوّع المدلول التصديقيّ :

عرفنا في ما سبق أنّ الألفاظ لها دلالة تصوّريّة تنشأ من الوضع ، ولها دلالة تصديقيّة تنشأ من السياق. والدلالة التصديقيّة الاولى تشترك فيها الكلمات والجمل الناقصة والجمل التامّة. والدلالة التصديقيّة الثانية على المراد الجدّيِّ تختصّ بها الجمل التامّة. وسنخ المدلول التصديقيّ الأوّل واحد في جميع الألفاظ ؛ وهو قصد المتكلّم إخطار صورة المعنى في ذهن السامع. وأمّا سنخ المدلول التصديقيّ الثاني ـ أي المراد الجدّيّ ـ فيختلف من جملةٍ تامّةٍ إلى جملةٍ تامّةٍ اخرى. فالجملة الخبريّة مثل «زيد عالم» مدلولها الجدّيّ قصد الإخبار والحكاية عن النسبة التامّة التي تدلّ عليها هيئتها ، والجملة الاستفهاميّة «هل زيد عالم؟» مدلولها الجدّيّ طلب الفهم والاطّلاع على وقوع تلك النسبة التامّة ، والجملة الطلبيّة «صلّ» مدلولها الجدّيّ طلب إيقاع النسبة التامّة التي تدلّ عليها هيئة «صَلِّ» أي طلب وقوع الصلاة من المخاطب.

ويختلف في ذلك السيد الاستاذ (١) فإنّه بنى ـ كما عرفنا سابقاً ـ على أنّ الوضع عبارة عن التعهّد ، وفرّع عليه أنّ الدلالة اللفظيّة الناشئة من الوضع دلالة تصديقيّة ، لا تصوّريّة بحتة ، وعلى هذا الأساس اختار أنّ كلّ جملةٍ تامّةٍ موضوعة بالتعهّد لنفس مدلولها التصديقيّ الجدّيّ مباشرةً ، وقد عرفت الحال في مبناه سابقاً.

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٤٨ و ١٠٤

٢٢٩

المقارنة بين الجمل التامّة والناقصة :

لا شكّ في أنّ المعنى الموضوع له للجملة التامّة يختلف عن المعنى الموضوع له للجملة الناقصة ؛ لأنّ الاولى يصحّ السكوت عليها دون الثانية. وهذا الاختلاف يوجد تفسيران له :

أحدهما : مبنيّ على أنّ المعنى الموضوع له هو المدلول التصديقيّ مباشرةً ، كما اختاره السيّد الاستاذ تفريعاً على تفسيره للوضع بالتعهّد ، وحاصله : أنّ الجملة التامّة في قولنا : «المفيدُ عالم» موضوعة لقصد الحكاية والإخبار عن ثبوت المحمول للموضوع ، والجملة الناقصة الوصفيّة في قولنا : «المفيد العالم» موضوعة لقصد إخطار صورة هذه الحصّة الخاصّة (١).

والجواب على ذلك : ما تقدّم من أنّ المعنى الموضوع له غير المدلول التصديقيّ ، بل هو المدلول التصوّريّ ، والمدلول التصوّريّ للحروف والهيئات هو النسبة ، فلابدّ من افتراض فرقٍ بين نحوين من النسبة : أحدهما يكون مدلولاً للجملة التامّة ، والآخر مدلول للجملة الناقصة.

والتفسير الآخر : أنّ هيئة كلتا الجملتين موضوعة للنسبة ، ولكنّها في إحداهما اندماجيّة وفي الاخرى غير اندماجيّة ، وكلّ جملةٍ موضوعة للنسبة الاندماجيّة فهي ناقصة ؛ لأنّها تحوِّل المفهومَين إلى مفهومٍ واحدٍ وتُصيّر الجملة في قوّة كلمةٍ واحدة ، وكلّ جملةٍ موضوعة للنسبة غير الاندماجيّة فهي جملة تامّة. وقد تقدّم في الحلقة السابقة بعض الحديث عن ذلك.

__________________

(١) راجع ما جاء في هامش أجود التقريرات ١ : ٢٤ و ٣١

٢٣٠

الدلالات الخاصّة والمشتركة :

هذه نبذة تمهيديّة عن الدلالة اللفظيّة وعلاقات الألفاظ بالمعاني ؛ نكتفي بها للدخول في الحديث عن تحديد دلالات الدليل الشرعيّ اللفظيّ.

ومن الواضح أنّ هذه الدلالات على قسمين : فبعضها دلالات خاصّة ترتبط ببعض المسائل الفقهيّة ، كدلالة كلمة «الصعيد» أو «الكعب» ، وبعضها دلالات عامّة تصلح أن تكون عنصراً مشتركاً في عمليّة الاستنباط في مختلف أبواب الفقه ، كدلالة الأمر على الوجوب. وقد عرفت سابقاً أنّ ما يدخل في البحث الاصوليّ إنّما هو القسم الثاني ، ولهذا فسوف يكون البحث عن الدلالات العامّة للدليل الشرعيّ اللفظي.

٢٣١

الأمرُ والنهي

الأمر :

الأمرُ تارةً يستعمل بمادّته ، فيقال : «آمرك بالصلاة» ، واخرى بصيغته ، فيقال : «صَلِّ».

أمّا مادّة الأمر فلا شكّ في دلالتها بالوضع على الطلب ، ولكن لا بنحوٍ تكون مرادفةً لِلَفظ الطلب ؛ لأنّ لفظ الطلب ينطبق بمفهومه على الطلب التكوينيّ ، كطلب العطشان للماء ، والطلب التشريعيّ ، سواء صدر من العالي أو من غيره ، بينما الأمر لا يصدق إلاّعلى الطلب التشريعيّ من العالي ، سواء كان مستعلياً ـ أي متظاهراً بعلوِّهِ ـ أوْ لا.

كما أنّ مادّة الأمر لا ينحصر معناها لغةً بالطلب ، بل ذكرت لها معانٍ اخرى : كالشيء ، والحادثة ، والغرض ، وعلى هذا الأساس تكون مشتركاً لفظيّاً ، وتعيين الطلب بحاجةٍ إلى قرينة ، ومتى دلّت القرينة على ذلك يقع الكلام في أنّ المادّة تدلّ على الطلب بنحو الوجوب ، أو تلائم مع الاستحباب؟

فقد يستدلّ على أنّها تدلّ على الوجوب بوجوه :

منها : قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ) (١). وتقريبه : أنّ الأمر لو كان يشمل الطلب الاستحبابي لَما وقع على إطلاقه موضوعاً للحذر من العقاب.

__________________

(١) النور : ٦٣

٢٣٢

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لولا أن أشُقَّ على امّتي لأمرتهم بالسواك» (١). وتقريبه : أنّ الأمر لو كان يشمل الاستحباب لَما كان الأمر مستلزماً للمشقّة كما هو ظاهر الحديث.

ومنها : التبادر ، فإنّ المفهوم عرفاً من كلام المولى حين يستعمل كلمة الأمر أنّه في مقام الإيجاب والإلزام ، والتبادر علامة الحقيقة.

وأمّا صيغة الأمر فقد ذكرت لها عدّة معانٍ ، كالطلب ، والتمنّي ، والترجّي ، والتهديد ، والتعجيز ، وغير ذلك ، وهذا في الواقع خلط بين المدلول التصوّريّ للصيغة والمدلول التصديقيّ الجدِّي لها باعتبارها جملةً تامّة.

وتوضيحه : أنّ الصيغة ـ أي هيئة فعل الأمر ـ لها مدلول تصوّريّ ، ولا بدّ أن يكون من سنخ المعنى الحرفيّ ، كما هو الشأن في سائر الهيئات والحروف ، فلا يصحّ أن يكون مدلولها نفس الطلب بما هو مفهوم اسميّ ، ولا مفهوم الإرسال نحو المادّة ، بل نسبة طلبيّة أو إرساليّة توازي مفهوم الطلب أو مفهوم الإرسال ، كما توازي النسبة التي تدلّ عليها «إلى» مفهوم «الانتهاء».

والعلاقة بين مدلول الصيغة ـ بوصفه معنىً حرفيّاً ـ ومفهوم الإرسال أو الطلب تُشابِه العلاقة بين مدلول «من» و «إلى» و «في» ومدلول «الابتداء» و «الانتهاء» و «الظرفيّة» ، فهي علاقة موازاة لا ترادف.

ونقصد بالنسبة الطلبيّة أو الإرسالية : الربط المخصوص الذي يحصل بالطلب أو بالإرسال بين المطلوب والمطلوب منه ، أو بين المرسَل والمرسَل إليه ، وهذا هو المدلول التصوّريّ للصيغة الثابت بالوضع.

وللصيغة باعتبارها جملةً تامّةً مكوّنةً من فعلٍ وفاعلٍ مدلولٌ تصديقيّ جدّي

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢ : ١٧ ، الباب ٣ من أبواب السواك ، الحديث ٤

٢٣٣

بحكم السياق ، لا الوضع ، إذ تكشف سياقاً عن أمرٍ ثابتٍ في نفس المتكلّم هو الذي دعاه إلى استعمال الصيغة ، وفي هذه المرحلة تتعدّد الدواعي التي يمكن أن تدلّ عليها الصيغة بهذه الدلالة ، فتارةً يكون الداعي هو الطلب ، واخرى الترجّي ، وثالثةً التعجيز ، وهكذا ؛ مع انحفاظ المدلول التصوّري للصيغة في الجميع.

هذا كلّه على المسلك المختار المشهور القائل : بأنّ الدلالة الوضعيّة هي الدلالة التصوّريّة. وأمّا بناءً على مسلك التعهّد القائل : بأنّ الدلالة الوضعيّة هي الدلالة التصديقيّة ، وأنّ المدلول الجدّيّ للجملة التامّة هو المعنى الموضوع له ابتداءً فلا بدّ من الالتزام بتعدّد المعنى في تلك الموارد ؛ لاختلاف المدلول الجدّيّ.

ثمّ إنّ الظاهر من الصيغة أنّ المدلول التصديقيّ الجدّيّ هو الطلب دون سائر الدواعي الاخرى ؛ وذلك لأنّه : إن قيل بأنّ المدلول التصوّريّ هو النسبة الطلبيّة فواضح أنّ الطلب مصداق حقيقيّ للمدلول التصوّريّ دون سائر الدواعي ، فيكون أقرب إلى المدلول التصوّريّ ، وظاهر كلّ كلامٍ أنّ مدلوله التصديقيّ أقرب ما يكون للتطابق والمصداقيّة للمدلول التصوّريّ.

وأمّا إذا قيل بأنّ المدلول التصوّريّ هو النسبة الإرساليّة فلأنّ المصداق الحقيقيّ لهذه النسبة إنّما ينشأ من الطلب ، لا من سائر الدواعي ، فيتعين داعي الطلب بظهور الكلام.

ولكن قد يتّفق أحياناً أن يكون المدلول الجدّيّ هو قصد الإخبار عن حكمٍ شرعيٍّ آخر غير طلب المادّة أو إنشاء ذلك الحكم وجعله ، كما في قوله : «اغسل ثوبك من البول» ، فإنّ المراد الجدِّي من «اغسل» ليس طلب الغسل ، إذ قد يتنجّس ثوب الشخص فيهمله ولا يغسله ولا إثم عليه ، وإنّما المراد بيان أنّ الثوب يتنجّس بالبول وهذا حكم وضعيّ ، وأ نّه يطهر بالغسل وهذا حكم وضعيّ آخر ، وفي هذه الحالة تسمّى الصيغة بالأمر الإرشادي ؛ لأنّها إرشاد وإخبار عن ذلك الحكم.

٢٣٤

وكما أنّ المعروف في دلالة مادّة الأمر على الطلب أنّها تدلّ على الطلب الوجوبيّ كذلك الحال في صيغة الأمر ، بمعنى أنّها تدلّ على النسبة الإرساليّة الحاصلة من إرادةٍ لزوميّة ، وهذا هو الصحيح ، للتبادر بحسب الفهم العرفيّ العامّ.

وكثيراً ما يستعمل غير فعل الأمر من الأفعال في إفادة الطلب ، إمّا بإدخال لام الأمر عليه ، فيكون الاستعمال بلا عناية ، وإمّا بدون إدخاله ، كما إذا قيل : «يعيد» ، و «يغتسل» ، ويشتمل الاستعمال حينئذٍ على عناية ؛ لأنّ الجملة حينئذٍ خبريّة بطبيعتها وقد استعملت في مقام الطلب. وفي الأوّل يدلّ على الوجوب بنحو دلالة الصيغة عليه ، وفي الثاني يوجد خلاف في الدلالة على الوجوب ، ويأتي الكلام عن ذلك في حلقةٍ مقبلةٍ إن شاء الله تعالى.

دلالات اخرى للأمر :

عرفنا أنّ الأمر يدلّ على الطلب ، ويدلّ على أنّ الطلب على نحو الوجوب. وهناك دلالات اخرى محتملة وقع البحث عن ثبوتها له وعدمه.

منها : دلالته على نفي الحرمة بدلاً عن دلالته على الطلب والوجوب في حالةٍ معيّنة ، وهي : ما إذا ورد عقيب التحريم ، أو في حالةٍ يحتمل فيها ذلك.

والصحيح : أنّ صيغة الأمر على مستوى المدلول التصوّري لا تتغيّر دلالتها في هذه الحالة ، بل تظلّ دالّةً على النسبة الطلبيّة ، غير أنّ مدلولها التصديقيّ هنا يصبح مجملاً ومردّداً بين الطلب الجدِّيّ وبين نفي التحريم ؛ لأنّ ورود الأمر في إحدى الحالتين المذكورتين يوجب الإجمال من هذه الناحية.

ومنها : دلالة الأمر بالفعل الموقّت بوقتٍ محدّدٍ على وجوب القضاء خارج الوقت على من لم يأتِ بالواجب في وقته.

وتوضيح الحال في ذلك : أنّ الأمر بالفعل الموقّت : تارةً يكون أمراً واحداً

٢٣٥

بهذا الفعل المقيّد فلا يقتضي إلاّالإتيان به ، فإن لم يأتِ به حتّى انتهى الوقت فلا موجب من قِبَله للقضاء ، بل يحتاج إيجاب القضاء إلى أمرٍ جديد.

وتارةً اخرى يكون الأمر بالفعل الموقّت أمرين مجتمعين في بيانٍ واحد : أحدهما أمر بذات الفعل على الإطلاق ، والآخر أمر بإيقاعه في الوقت الخاصّ ، فإن فات المكلّف امتثال الأمر الثاني بقي عليه الأمر الأوّل ، ويجب عليه أن يأتي بالفعل حينئذٍ ولو خرج الوقت ، فلا يحتاج إيجاب القضاء إلى أمرٍ جديد. وظاهر دليل الأمر بالموقّت هو وحدة الأمر ، فيحتاج إثبات تعدّده على الوجه الثاني إلى قرينةٍ خاصّة.

ومنها : دلالة الأمر بالأمر بشيءٍ على الأمر بذلك الشيء مباشرةً ، بمعنى أنّ الآمر إذا أمر زيداً بأن يأمر خالداً بشيءٍ فهل يستفاد الأمر المباشر لخالدٍ من ذلك ، أوْ لا؟

فعلى الأوّل لو أنّ خالداً اطَّلع على ذلك قبل أن يأمره زيد لوجب عليه الإتيان بذلك الشيء. وعلى الثاني لا يكون ملزماً بشيءٍ.

ومثاله في الفقه : أمر الشارع لوليّ الصبيّ بأن يأمر الصبيّ بالصلاة ، فإن قيل بأنّ الأمر بالأمر بشيءٍ أمرٌ به كان أمر الشارع هذا أمراً للصبيّ ـ ولو على نحو الاستحباب ـ بالصلاة.

النهي :

كما أنّ للأمر مادّةً وصيغةً كذلك الحال في النهي ، فمادّته نفس كلمة النهي ، وصيغته من قبيل «لا تكذب» ، والمادّة تدلّ على الزجر بمفهومه الاسميّ ، والصيغة تدلّ على الزجر والإمساك بنحو المعنى الحرفيّ ، وإن شئت عبِّر بالنسبة الزجريّة والإمساكيّة.

٢٣٦

وقد وقع الخلاف بين جملةٍ من الاصوليِّين في : أنّ مفاد النهي هل هو طلب الترك الذي هو مجرّد أمر عدميّ ، أو طلب الكفّ عن الفعل الذي هو أمر وجوديّ؟

وقد يستدلّ للوجه الثاني : بأنّ الترك استمرار للعدم الأزليّ الخارج عن القدرة فلا يمكن تعلّق الطلب به. ويندفع هذا الدليل : بأنّ بقاءه مقدور فيعقل التكليف به.

ويندفع الوجه الثاني : بأنّ من حصل منه الترك بدون كفٍّ لا يعتبر عاصياً للنهي عرفاً.

والصحيح : أنّ كلا الوجهين باطل ؛ لأنّ النهي ليس طلباً لا للترك ولا للكفّ ، وإنّما هو زجر بنحو المعنى الاسميّ كما في مادّة النهي ، أو بنحو المعنى الحرفيّ كما في صيغة النهي ، وهذا يعني أنّ متعلّقه الفعل ، لا الترك.

ولا إشكال في دلالة النهي مادّةً وصيغةً على كون الحكم بدرجة التحريم ، ويثبت ذلك بالتبادر والفهم العرفيّ العامّ.

٢٣٧

الاحتراز في القُيود

إذا ورد خطاب يشتمل على حكمٍ وقيدٍ له ، فقد يكون هذا القيد متعلّقاً للحكم ، كالإكرام في «أكرم الفقير». وقد يكون موضوعاً له ، كالفقير في المثال. وقد يكون شرطاً ، كما في الجملة الشرطيّة «إذا زالت الشمس فصلِّ». وقد يكون غايةً ، كما في «صُمْ إلى الليل». وقد يكون وصفاً للموضوع ، كالعادل في «أكرم الفقيرَ العادل» ، وهكذا.

وفي كلّ هذه الحالات يوجد للكلام مدلول تصوّري اريد إخطاره في ذهن السامع ، ومدلول تصديقيّ جدِّيّ ، وهو الحكم الشرعيّ الذي ابرز وكُشف عنه بذلك الخطاب.

ولا شكّ في أنّ الصورة التي نتصوّرها في مرحلة المدلول التصوّري عند سماع الكلام المذكور هي صورة حكمٍ يرتبط بذلك القيد على نحوٍ من أنحاء الارتباط ، ونستكشف من دخول القيد في الصورة التي يدلّ عليها الكلام بالدلالة التصوّريّة دخوله أيضاً في المدلول التصديقيّ الجدّيّ ، بمعنى أنّ القيد مأخوذ في ذلك الحكم الشرعيّ الخاصّ الذي كشف عنه ذلك الكلام ، فحينما يقول المولى : «أكرم الفقير العادل» نفهم أنّ الوجوب الذي أراد كشفه بهذا الخطاب قد جعل على الفقير العادل ، واخذت العدالة في موضوعه وفقاً لأخذها في المدلول التصوّريّ للكلام ؛ وذلك لأنّ المولى لو لم يكن قد أخذ العدالة قيداً في موضوع ذلك الوجوب الذي جعله وأبرزه بقوله : «أكرم الفقيرَ العادل» لكان هذا يعني أنّه أخذ في المدلول التصوريّ لكلامه قيداً ولم يأخذ ذلك القيد في المدلول الجدّيّ لذلك الكلام ، أي أنّه بيّن بالدلالة التصوّرية للكلام شيئاً وهو القيد ، مع أنّه

٢٣٨

لايدخل في نطاق مراده الجدّيّ.

وهذا خلاف ظهورٍ عرفيٍّ سياقيّ مفاده : أنّ كلّ ما يبيّن بالكلام في مرحلة المدلول التصوّريّ فهو داخل في نطاق المراد الجدّي. وبكلمةٍ اخرى : أنّ ما يقوله يريده حقيقةً ، وبهذا الظهور نثبت قاعدة ، وهي : قاعدة احترازيّة القيود ، ومؤدّاها : أنّ كلّ قيدٍ يؤخذ في المدلول التصوّريّ للكلام فالأصل فيه بحكم ذلك الظهور أن يكون قيداً في المراد الجدّيّ أيضاً ، فإذا قال : «أكرم الإنسان الفقير» فالفقر قيد في المراد الجدّي ؛ بمعنى كونه دخيلاً في موضوع وجوب الإكرام الذي سِيقَ ذلك الكلام للكشف عنه.

ويترتّب على ذلك : أنّه إذا لم يكن الإنسان فقيراً فلا يشمله ذلك الوجوب ، ولكنّ هذا لا يعني أن إكرامه ليس واجباً باعتبارٍ آخر ، فقد يكون هناك وجوب ثانٍ يخصّ الإنسان العالم أيضاً ، فإذا لم يكن الإنسان فقيراً وكان عالماً فقد يجب إكرامه بوجوب ثانٍ.

وهكذا نعرف أنّ قاعدة احترازيّة القيود تثبت أنّ شخص الحكم الذي يشكّل المدلول التصديقيّ الجدّيّ للكلام المشتمل على القيد لا يشمل من انتفى عنه القيد ، ولا تنفي وجود حكمٍ آخر يشمله.

٢٣٩

الإطلاق

الإطلاق يقابل التقييد ، فإن تصوّرت معنىً ولاحظت فيه وصفاً خاصّاً أو حالةً معينةً كان ذلك تقييداً ، وإن تصوّرته بدون أن تلحظ معه أيّ وصفٍ أو حالةٍ اخرى كان ذلك إطلاقاً ، فالتقييد إذن هو لحاظ خصوصيّةٍ زائدةٍ في الطبيعة ، والإطلاق عدم لحاظ الخصوصيّة الزائدة. والطبيعة محفوظة في كلتا الحالتين ، غير أنّها تتميّز في الحالة الاولى بأمرٍ وجوديٍّ وهو لحاظ الخصوصيّة ، وتتميّز في الحالة الثانية بأمرٍ عدميٍّ وهو عدم لحاظ الخصوصيّة.

ومن هنا يقع البحث في أنّ كلمة «إنسان» ـ مثلاً ـ أو أيّ كلمةٍ مشابهةٍ هل هي موضوعة للطبيعة المحفوظة في كلتا الحالتين ، فلا التقييد دخيل في المعنى الموضوع له ولا الإطلاق ، بل الكلمة بمدلولها تلائم كلا الأمرين ، أو أنّ الكلمة موضوعة للطبيعة المطلقة ، فتدلّ الكلمة بالوضع على الإطلاق وعدم لحاظ القيد؟

وقد وقع الخلاف في ذلك ، ويترتّب على هذا الخلاف أمران :

أحدهما : أنّ استعمال اللفظ وإرادة المقيّد على طريقة تعدّد الدالِّ والمدلول يكون استعمالاً حقيقيّاً على الوجه الأوّل ؛ لأنّ المعنى الحقيقيّ للكلمة محفوظ في ضمن المقيّد والمطلق على السواء ، ويكون مجازاً على الوجه الثاني ؛ لأنّ الكلمة لم تستعمل في المطلق مع أنّها موضوعة للمطلق ، أي للطبيعة التي لم يلحظ معها قيد بحسب الفرض.

والأمر الآخر : أنّ الكلمة إذا وقعت في دليل حكمٍ ، كما إذا اخذت موضوعاً للحكم ـ مثلاً ـ ولم نعلم أنّ الحكم هل هو ثابت لمدلول الكلمة على الإطلاق ، أو لحصّةٍ مقيّدةٍ منه؟ أمكن على الوجه الثاني أن نستدلّ بالدلالة الوضعيّة لِلَّفظ على

٢٤٠