دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

الأدلّة المُحْرِزَة

تمهيد

١ ـ الدليل الشرعي.

٢ ـ الدليل العقلي.

٢٠١
٢٠٢

[تمهيد]

تقسيم البحث في الأدلّة المحرزة :

يعتمد الفقيه في عمليّة الاستنباط على عناصر مشتركةٍ تسمّى بالأدلّة المحرزة ، كما تقدّم. وهي : إمّا أدلّة قطعيّة بمعنى أنها تؤدّي إلى القطع بالحكم فتكون حجّةً على أساس حجّيّة القطع الناتج عنها ، وإمّا أدلّة ظنّية ويقوم دليل قطعيّ على حجّيتها شرعاً ، كما إذا علمنا بأنّ المولى أمر باتّباعها فتكون حجّةً بموجب الجعل الشرعي.

والدليل المحرز في الفقه سواء كان قطعيّاً أوْ لا ينقسم إلى قسمين :

الأوّل : الدليل الشرعيّ ، ونعني به : كلّ ما يصدر من الشارع ممّا له دلالة على الحكم ، ككلام الله سبحانه ، أو كلام المعصوم.

الثاني : الدليل العقلي ، ونعني به : القضايا التي يدركها العقل ويمكن أن يستنبط منها حكم شرعيّ ، كالقضيّة العقليّة القائلة : بأنّ إيجاب شيء يستلزم إيجاب مقدّمته.

والقسم الأوّل ينقسم بدوره إلى نوعين :

أحدهما : الدليل الشرعيّ اللفظيّ ، وهو كلام المعصوم كتاباً أو سنّة.

والآخر : الدليل الشرعيّ غير اللفظيّ ، ويتمثّل في فعل المعصوم ، سواء كان تصرّفاً مستقلاًّ ، أو موقفاً إمضائيّاً تجاه سلوكٍ معيَّن ، وهو الذي يسمّى بالتقرير.

والبحث في هذا القسم بكلا نوعيه : تارةً يقع في تحديد دلالات الدليل

٢٠٣

الشرعي ، واخرى في ثبوت صغراه ، وثالثةً في حجّيّة تلك الدلالة ووجوب الأخذ بها ، ففي الدليل الشرعيّ إذن ثلاثة أبحاث.

ولكن قبل البدء بهذه الأبحاث على الترتيب المذكور نستعرض بعض المبادئ والقواعد العامّة في الأدلّة المحرزة.

الأصل عند الشكّ في الحجّيّة :

عرفنا أنّ للشارع دخلاً في جعل الحجّيّة للأدلّة المحرزة غير القطعية (الأمارات) ، فإن أحرزنا جعل الشارع الحجّية لأمارةٍ فهو ، وإذا شككنا في ذلك لم يكن بالإمكان التعويل على تلك الأمارة لمجرّد احتمال جعل الشارع الحجّية لها ؛ لأ نّها : إن كانت نافيةً للتكليف ونريد أن نثبت بها المعذّريّة فمن الواضح ـ بناءً على ما تقدّم ـ عدم إمكان ذلك ما لم نحرز جعل الحجّية لها ، الذي يعني إذن الشارع في ترك التحفّظ تجاه التكليف المشكوك ، إذ بدون إحراز هذا الإذن تكون منجّزيّة الاحتمال للتكليف الواقعيّ قائمةً بحكم العقل ، ولا ترتفع هذه المنجّزيّة إلاّبإحراز الإذن في ترك التحفّظ ، ومع الشكّ في الحجّية لا إحراز للإذن المذكور.

وإن كانت الأمارة مثبتةً للتكليف ونريد أن نثبت بها المنجّزيّة خروجاً عن أصلٍ معذّرٍ ـ كأصالة الحلّ المقرّرة شرعاً ـ فواضح أيضاً أنَّا ما لم نقطع بحجّيتها لا يمكن رفع اليد بها عن دليل أصالة الحلّ مثلاً ، فدليل الأصل الجاري في الواقعة والمؤمّن عن التكليف المشكوك هو المرجع ما لم يقطع بحجّية الأمارة المثبتة للتكليف.

وبهذا صحّ القول : إنّ الأصل عند الشكّ في الحجّية عدم الحجّية ، بمعنى أنّ الأصل نفوذ الحالة المفترضة لولا تلك الأمارة من منجّزيةٍ أو معذّريّة.

٢٠٤

مقدار ما يثبت بالأدلّة المحرزة :

الدليل المحرز له مدلول مطابقيّ ومدلول التزاميّ ، فكلّما كان الدليل المحرز حجّةً ثبت بذلك مدلوله المطابقيّ ، وأمّا مدلوله الالتزاميّ ففيه بحث ، وحاصله : أنّ الدليل المحرز إذا كان قطعيّاً فلا شكّ في ثبوت مدلولاته الالتزاميّة به ؛ لأنّها تكون قطعيّة أيضاً ، فتثبت بالقطع كما يثبت المدلول المطابقيّ بذلك.

وإذا كان الدليل ظنّياً وقد ثبتت حجّيته بجعل الشارع ـ كما في الأمارة ، مثل خبر الثقة وظهور الكلام ـ فهنا حالتان :

الاولى : أن يكون موضوع الحجّية ـ أي ما حكم الشارع بأ نّه حجّة ـ صادقاً على الدلالة الالتزاميّة كصدقه على الدلالة المطابقيّة ، ومثال ذلك : أن يرِدَ دليل على حجّية خبر الثقة ، ويقال بأنّ الإخبار عن شيءٍ إخبار عن لوازمه ، وفي هذه الحالة يثبت المدلول الالتزاميّ ؛ لأنّه ممّا أخبر عنه الثقة بالدلالة الالتزاميّة ، فيشمله دليل الحجّية المتكفّل للأمر بالعمل بكلّ ما أخبر به الثقة مثلاً.

الثانية : أن لا يكون موضوع الحجّية صادقاً على الدلالة الالتزاميّة ، ومثال ذلك : أن يرِدَ دليل على حجّية ظهور اللفظ ، فإنّ الدلالة الالتزاميّة غير العرفيّة ليست ظهوراً لفظيّاً ؛ فلا تشكِّل فرداً من موضوع دليل الحجّية ، فمن هنا يقع البحث في حجّية الدليل لإثبات المدلول الالتزاميّ في حالةٍ من هذا القبيل.

وقد يُستشكَل في ثبوت هذه الحجّية بدليل حجّية الظهور ؛ لأنّ دليل حجّية الظهور لا يثبت الحجّية إلاّلظهور اللفظ ، والدلالة الالتزاميّة لهذا الظهور ليست ظهوراً لفظيّاً فلا تكون حجّة ، ومجرّد علمنا من الخارج بأنّ ظهور اللفظ إذا كان صادقاً فدلالته الالتزاميّة صادقة أيضاً لا يبرِّر استفادة الحجّية للدلالة الالتزاميّة ؛ لأنّ الحجّية حكم شرعيّ وقد يخصّصه بإحدى الدلالتين دون الاخرى على الرغم

٢٠٥

من تلازمهما في الصدق.

ويوجد في هذا المجال اتّجاهان :

أحدهما للمشهور ، وهو : أنّ دليل الحجّية كلّما استُفِيد منه جعل الحجّية لشيءٍ بوصفه أمارةً على الحكم الشرعيّ كان ذلك كافياً لإثبات لوازمه ومدلولاته الالتزاميّة ، وعلى هذا الأساس وضعوا قاعدةً مؤدّاها : أنّ مثبتات الأمارات حجّة ، أي أنّ الأمارة كما يعتبر إثباتها لمدلولها المطابقيّ حجّةً ، كذلك إثباتها لمدلولها الالتزامي.

والاتّجاه الآخر للسيّد الاستاذ (١) ، حيث ذهب إلى أنّ مجرّد قيام دليلٍ [على] حجّيّة أمارةٍ على أساس ما لها من كشفٍ عن الحكم الشرعيّ لا يكفي لذلك ، إذ من الممكن ثبوتاً أنّ الشارع يتعبّد المكلّف بالمدلول المطابقي من الأمارة فقط ، كما يمكنه أن يتعبّده بكلّ ما تكشف عنه مطابقةً أو التزاماً ، وما دام كلا هذين الوجهين ممكناً ثبوتاً فلا بدّ لتعيين الأخير منهما من وجود إطلاقٍ في دليل الحجّية يقتضي امتداد التعبّد وسريانه إلى المداليل الالتزاميّة.

والصحيح هو الاتّجاه الأوّل ؛ وذلك لأنّنا عرفنا سابقاً (٢) أنّ الأمارة معناها الدليل الظنّيّ الذي يُستظهر من دليل حجّيته : أنّ تمام الملاك لحجّيته (٣) هو كشفه بدون نظرٍ إلى نوع المنكشف ، وهذا الاستظهار متى ما تمّ في دليل الحجّية كان كافياً لإثبات الحجّية في المدلولات الالتزاميّة أيضاً ؛ لأنّ نسبة كشف الأمارة إلى المدلول المطابقيّ والالتزاميّ بدرجةٍ واحدةٍ دائماً ، وما دام الكشف هو تمام الملاك للحجّية بحسب الفرض فيعرف من دليل الحجّية أنّ مثبتات الأمارة كلّها حجّة.

__________________

(١) راجع مصباح الاصول ٣ : ١٥٥

(٢) سبق تحت عنوان : الامارات والاصول

(٣) في الطبعة الاولى : بحجّيته. والأولى ما أثبتناه

٢٠٦

وعلى خلاف ذلك الاصول العمليّة تنزيليّةً أو غيرها ، فإنّها لمّا كانت مبنيّةً على ملاحظة نوع المؤدّى ـ كما تقدّم ـ فلا يمكن أن يستفاد من دليلها إسراء التعبّد إلى كلّ اللوازم إلاّبعنايةٍ خاصّةٍ في لسان الدليل.

ومن هنا قيل : إنّ الاصول العمليّة ليست حجّةً في مثبتاتها (١) ، أي في مدلولاتها الالتزاميّة ، وسيأتي تفصيل الكلام عن ذلك في أبحاث الاصول العمليّة (٢) إن شاء الله تعالى.

تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة :

عرفنا أنّ الأمارات حجّة في المدلول المطابقيّ والمدلول الالتزاميّ معاً ، والمدلول الالتزاميّ : تارةً يكون مساوياً للمدلول المطابقيّ ، واخرى يكون أعمَّ منه ، ففي حالة المساواة إذا علم بأنّ المدلول المطابقيّ باطل فقد علم ببطلان المدلول الالتزاميّ أيضاً ، وبذلك تسقط الأمارة بكلا مدلولَيها عن الحجّية. وأمّا إذا كان اللازم أعمّ وبطل المدلول المطابقيّ فالمدلول الالتزاميّ يظلّ محتملاً.

ومن هنا يأتي البحث التالي ، وهو : أنّ حجّية الأمارة في إثبات المدلول الالتزاميّ هل ترتبط بحجّيتها في إثبات المدلول المطابقيّ ، أوْ لا؟

فالارتباط يعني أنّها إذا سقطت عن الحجّية في المدلول المطابقيّ ، للعلم ببطلانه ـ مثلاً ـ سقطت أيضاً عن الحجّية في المدلول الالتزاميّ ، وهو معنى التبعيّة.

وعدم الارتباط يعني أنّ كلاًّ من الدلالة المطابقيّة والدلالة الالتزاميّة حجّة ما لم يعلم ببطلان مفادها بالخصوص ، ومجرّد العلم ببطلان المدلول المطابقيّ لا يوجد

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٤٨٧

(٢) سوف يأتي ضمن بحث الاستصحاب ، تحت عنوان : مقدار ما يثبت بالاستصحاب

٢٠٧

خللاً في حجّية الدلالة الالتزامية مادام المدلول الالتزاميّ محتملاً ولم يتّضح بطلانه بعد.

وقد يستدلّ على الارتباط بأحد الوجهين التاليين :

الأوّل : أنّ الدلالة الالتزاميّة متفرّعة في وجودها على الدلالة المطابقيّة ، فتكون متفرّعةً في حجّيتها أيضاً.

ويلاحظ على ذلك : أنّ التفرّع في ا لوجود لماذا يستلزم التفرّع في الحجّية؟ أوَ لايمكن أن نفترض أنّ كلّ واحدةٍ من الدلالتين موضوع مستقلّ للحجّية بلحاظ كاشفيّتها؟!

الثاني : أنّ نفس السبب الذي يوجب سقوط الدلالة المطابقيّة عن الحجّية يوجب دائماً سقوط الدلالة الالتزاميّة ، فإذا علم ـ مثلاً ـ بعدم ثبوت المدلول المطابقيّ وسقطت بذلك حجّية الدلالة المطابقيّة ، فإنّ هذا العلم بنفسه يعني العلم أيضاً بعدم ثبوت المدلول الالتزاميّ ؛ لأنّ ما تحكي عنه الدلالة الالتزاميّة دائماً حصّة خاصّة من اللازم ، وهي الحصّة الناشئة أو الملازمة للمدلول المطابقيّ ، لا طبيعيّ اللازم على الإطلاق ، وتلك الحصّة مساوية للمدلول المطابقيّ دائماً.

وبكلمةٍ اخرى : إنّ ذات اللازم وإن كان أعمّ أحياناً ولكنّه بما هو مدلول التزاميّ مساوٍ دائماً للمدلول المطابقيّ ، فلا يتصوّر ثبوته بدونه ، فموت زيدٍ وإن كان أعمَّ من احتراقه بالنار ولكنّ مَن أخبر باحتراقه بالمطابقة فهو لا يخبر التزاماً بالموت الأعمّ ولو كان بالسمّ ، بل مدلوله الالتزاميّ هو الموت الناشئ من الاحتراق خاصّة ، فإذا كنّا نعلم بعدم الاحتراق فكيف نعمل بالمدلول الالتزاميّ؟ وسيأتي تكميل البحث عن ذلك وتعميقه في الحلقة الآتية إن شاء الله تعالى.

وفاءُ الدليل بدور القطع الموضوعي :

الدليل المحرز إذا كان قطعيّاً فهو يفي بما يقتضيه القطع الطريقيّ من منجّزيّةٍ ومعذّريّة ؛ لأنّه يوجد القطع في نفس المكلّف بالحكم الشرعي ، كما أنّه يفي بما يترتّب

٢٠٨

على القطع الموضوعيّ من أحكام شرعيّة ؛ لأنّ هذه الأحكام يتحقّق موضوعها وجداناً.

والدليل المحرز غير القطعيّ ـ أي الأمارة ـ يفي بما يقتضيه القطع الطريقيّ من منجّزيّةٍ ومعذّريّة ، فالأمارة الحجّة شرعاً إذا دلّت على ثبوت التكليف أكّدت منجّزيّته ، وإذا دلّت على نفي التكليف كانت معذّراً عنه ورفعت أصالة الاشتغال ، كما لو حصل القطع الطريقيّ بنفي التكليف ، كما تقدّم (١) توضيحه ، وهذا معناه قيام الأمارة مقام القطع الطريقيّ.

ولكن هل تفي الأمارة بالقيام مقام القطع الموضوعيّ؟ فيه بحث وخلاف ، فلو قال المولى : «كلّ ما قطعتَ بأ نّه خمر فأرقْهُ» ، وقامت الأمارة الحجّة شرعاً على أنّ هذا خمر ولم يحصل القطع بذلك. فهل يترتّب وجوب الإراقة على هذه الأمارة كما يترتّب على القطع ، أوْ لا؟

وهنا تفصيل ، وهو : أنّا تارةً نفهم من دليل وجوب إراقة مقطوع الخمريّة أنّ مقصود هذا الدليل من المقطوع ما قامت حجّة منجّزة على خمريّته ؛ وليس القطع إلاّ كمثال. واخرى نفهم منه إناطة الحكم بوجوب الإراقة بالقطع بوصفه كاشفاً تامّاً لا يشوبه شكّ.

ففي الحالة الاولى تقوم الأمارة الحجّة مقام القطع الموضوعيّ ، ويترتّب عليها وجوب الإراقة ؛ لأنّها تحقّق موضوع هذا الوجوب وجداناً وهو الحجّة.

وفي الحالة الثانية لا يكفي مجرّد كون الأمارة حجّةً وقيام دليلٍ على حجّيّتها ووجوب العمل بها لكي تقوم مقام القطع الموضوعي ؛ لأنّ وجوب الإراقة منوط بالقطع بما هو كاشف تامّ ، والأمارة وإن أصبحت حجّةً ومنجّزةً لمؤدّاها بجعل الشارع ولكنّها ليست كاشفاً تامّاً على أيّ حال ، فلا يترتّب عليها وجوب الإراقة

__________________

(١) مضى تحت عنوان : «حجية القطع»

٢٠٩

إلاّ إذا ثبت في دليل الحجّية أو في دليلٍ آخر أنّ المولى أعمل عنايةً ونزّل الأمارة منزلة الكاشف التامّ في أحكامه الشرعيّة ، كما نزّل الطواف منزلة الصلاة في قوله : «الطواف بالبيت صلاة» (١) ، وهذه عناية إضافيّة لايستبطنها مجرّد جعل الحجّية للأمارة.

وبهذا صحّ القول : إنّ دليل حجّية الأمارة بمجرّد افتراضه الحجّية لا يفي لإقامتها مقام القطع الموضوعيّ.

إثبات الدليل لجواز الإسناد :

من المقرّر فقهيّاً أنّ إسناد حكم إلى الشارع بدون علمٍ غير جائز ، وعلى هذا الأساس فإذا قام على الحكم دليل وكان الدليل قطعيّاً فلا شكّ في جواز إسناد مؤدّاه إلى الشارع ؛ لأنّه إسناد بعلم. وأمّا إذا كان الدليل غير قطعيِّ ـ كما في الأمارة التي قد جعل الشارع لها الحجّية وأمر باتّباعها ـ فهل يجوز هنا إسناد الحكم إلى الشارع؟

لا ريب في جواز إسناد نفس الحجّية والحكم الظاهريّ إلى الشارع ؛ لأنّه معلوم وجداناً. وأمّا الحكم الواقعيّ الذي تحكي عنه الأمارة فقد يقال : إنّ إسناده غير جائزٍ ؛ لأنّه لا يزال غير معلوم ، ومجرّد جعل الحجّية للأمارة لا يبرِّر الإسناد بدون علم ، وإنّما يجعلها منجّزةً ومعذّرةً من الوجهة العمليّة.

وقد يقال : إنّ هذا مرتبط بالبحث السابق في قيام الأمارة مقام القطع الموضوعيّ ؛ لأنّ القطع اخذ موضوعاً لجواز إسناد الحكم إلى المولى ، فإذا استفيدت من دليل الحجّية تلك العناية الإضافيّة التي تقوم الأمارة بموجبها مقام القطع الموضوعيّ ترتّب عليها جواز إسناد مؤدّى الأمارة إلى الشارع ، وإلاّ فلا.

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٩ : ٤١٠ ، الباب ٣٨ من أبواب الطواف ، الحديث ٢

٢١٠

١ ـ الأدلّة المحرزة

الدليل الشرعيّ

تحديد دلالات الدليل الشرعي.

إثبات صغرى الدليل الشرعي.

إثبات حجّية الدلالة في الدليل الشرعي.

٢١١
٢١٢

١ ـ الدليل الشرعي

تحديد

دلالات الدليل الشرعي

١ ـ الدليل الشرعيّ اللفظيّ.

٢ ـ الدليل الشرعيّ غير اللفظيّ.

٢١٣
٢١٤

١ ـ الدليل الشرعيّ اللفظيّ

تمهيد

لمّا كان الدليل الشرعيّ اللفظيّ يتمثّل في ألفاظٍ يحكمها نظام اللغة ناسب ذلك أن نبحث في مستهلِّ الكلام عن العلاقات اللغويّة بين الألفاظ والمعاني ، ونصنِّف اللغة بالصورة التي تساعد على ممارسة الدليل اللفظيّ والتمييز بين درجاتٍ من الظهور اللفظي.

الظهور التصوّريّ والظهور التصديقي :

إذا سمعنا كلمةً مفردةً كالماء من آلةٍ ، انتقل ذهننا إلى تصوّر المعنى ، وكذلك إذا سمعناها من إنسانٍ ملتفت ، ولكنّنا في هذه الحالة لا نتصوّر المعنى فحسب ، بل نستكشف من اللفظ أنّ الإنسان قصد بتلفّظه أن يخطر ذلك المعنى في ذهننا ، بينما لا معنى لهذا الاستكشاف حينما تصدر الكلمة من آلة ، فهناك إذن دلالتان لكلمة «الماء» :

إحداهما : الدلالة الثابتة حتّى في حالة الصدور من آلة ، وتسمّى بالدلالة التصوريّة.

والاخرى : الدلالة التي توجد عند صدور الكلمة من المتلفِّظ الملتفت ، وتسمّى بالدلالة التصديقيّة.

٢١٥

وإذا ضَمَّ المتلفّظ الملتفت كلمةً اخرى فقال : «الماء بارد» استكشفنا أنّه يريد أن يخطر في ذهننا معنى الماء ، ومعنى بارد ، ومعنى جملة «الماء بارد» ككلّ.

ولكن لماذا يريد أن نتصوّر ذلك كلّه؟

والجواب : أنّ تلفّظه بهذه الجملة يدلّ عادةً على أنّ المتكلّم يريد بذلك أن يخبرنا ببرودة الماء ويقصد الحكاية عن ذلك ، بينما في بعض الحالات لا يكون قاصداً ذلك ، كما في حالات الهزل ، فإنّ الهازل لا يقصد إلاّإخطار صورة المعنى في ذهن السامع فقط ، على خلاف المتكلّم الجادّ.

فالمتكلّم الجادّ حينما يقول : «الماء بارد» يكتسب كلامه ثلاث دلالات ، وهي : الدلالة التصوّريّة المتقدّمة ، والدلالة التصديقيّة المتقدّمة ، (ولنسمِّها بالدلالة التصديقيّة الاولى) ، ودلالة ثالثة هي الدلالة على قصد الحكاية والإخبار عن برودة الماء ، وتسمّى بالدلالة على المراد الجدّي ، كما تسمّى بالدلالة التصديقية الثانية.

وأمّا الهازل حين يقول : «الماء بارد» فلكلامه دلالة تصوريّة ودلالة تصديقيّة اولى دون الدلالة التصديقيّة الثانية ؛ لأنّه ليس جادّاً ولا يريد الإخبار حقيقة. وأمّا الآلة حين تردّد الجملة ذاتها فليس لها إلاّدلالة تصوّريّة فقط. وهكذا أمكن التمييز بين ثلاثة أقسامٍ من الدلالة.

الوضع وعلاقته بالدلالات المتقدّمة :

والدلالة التصوريّة هي في حقيقتها علاقة سببيّة بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى ، ولمّا كانت السببيّة بين شيئين لا تحصل بدون مبرِّرٍ اتّجه البحث إلى تبريرها ، ومن هنا نشأت عدّة احتمالات :

الأوّل : احتمال السببيّة الذاتيّة بأن يكون اللفظ بذاته دالاًّ على المعنى وسبباً لإحضار صورته ، ولا شكّ في سقوط هذا الاحتمال ؛ لما هو معروف بالخبرة

٢١٦

والملاحظة من عدم وجود أيّة دلالةٍ لِلَّفظ لدى الإنسان قبل الاكتساب والتعلّم.

الثاني : افتراض أنّ السببيّة المذكورة نشأت من وضع الواضع اللفظَ للمعنى ، والوضع نوع اعتبارٍ يجعله الواضع وإن اختلف المحقّقون في نوعيّة المعتبَر (١) ، فهناك من قال : إنّه «اعتبار سببيّة اللفظ لتصوّر المعنى». ومن قال : إنّه «اعتبار كون اللفظ أداةً لتفهيم المعنى». ومن قال : إنّه «اعتبار كون اللفظ على المعنى ، كما توضع الأعمدة على رؤوس الفراسخ».

ويرد على هذا المسلك بكلّ محتملاته : أنّ سببيّة اللفظ لتصوّر المعنى سببيّة واقعيّة بعد الوضع ، ومجرّد اعتبار كون شيءٍ سبباً لشيءٍ أو اعتبار ما يقارب هذا المعنى لا يحقِّق السببيّة واقعاً ، فلا بدّ لأصحاب مسلك الاعتبار في الوضع أن يفسِّروا كيفيّة نشوء السببيّة الواقعيّة من الاعتبار المذكور ، وقد يكون عجز هذا المسلك عن تفسير ذلك أدّى بآخرينَ إلى اختيار الاحتمال الثالث الآتي :

الثالث : أنّ دلالة اللفظ تنشأ من الوضع ، والوضع ليس اعتباراً ، بل هو تعهّد من الواضع بأن لا يأتي باللفظ إلاّعند قصد تفهيم المعنى ، وبذلك تنشأ ملازمة بين الإتيان باللفظ وقصد تفهيم المعنى (٢) ، ولازم ذلك أن يكون الوضع هو السبب في الدلالة التصديقيّة المستبطنة ضمناً للدلالة التصوّريّة ، بينما على مسلك الاعتبار لا يكون الوضع سبباً إلاّللدلالة التصوّريّة ، وهذا فرق مهمّ بين المسلكين.

وهناك فرق آخر ، وهو : أنّه بناءً على التعهّد يجب افتراض كلّ متكلّمٍ متعهّداً وواضعاً لكي تتمّ الملازمة في كلامه ، وأمّا بناءً على مسلك الاعتبار فيفترض أنّ الوضع إذا صدر في البداية من المؤسِّس أوجب دلالةً تصوّريّةً عامّةً لكلّ من علم به ، بدون حاجةٍ إلى تكرار عمليّة الوضع من الجميع.

__________________

(١) راجع نهاية الدراية ١ : ٤٧ وأجود التقريرات ١ : ١١

(٢) تشريح الاصول : ٢٥ ، والمحاضرات ١ : ٤٥

٢١٧

ويرد على مسلك التعهّد :

أوّلاً : أنّ المتكلّم لا يتعهّد عادةً بأن لا يأتيَ باللفظ إلاّإذا قصد تفهيم المعنى الذي يريد وضع اللفظ له ؛ لأنّ هذا يعني التزامه ضمناً بأن لا يستعمله مجازاً ، مع أنّ كلّ متكلّمٍ كثيراً مّا يأتي باللفظ ويقصد به تفهيم المعنى المجازيّ ، فلا يحتمل صدور الالتزام الضمنيّ المذكور من كلّ متكلّم.

وثانياً : أنّ الدلالة اللفظيّة والعلقة اللغويّة بموجب هذا المسلك تتضمّن استدلالاً منطقيّاً ، وإدراكاً للملازمة ، وانتقالاً من أحد طرفيها إلى الآخر ، مع أنّ وجودها في حياة الإنسان يبدأ منذ الأدوار الاولى لطفولته وقبل أن ينضج أيّ فكرٍ استدلاليٍّ له ، وهذا يبرهن على أنّها أبسط من ذلك.

والتحقيق : أنّ الوضع يقوم على أساس قانونٍ تكوينيٍّ للذهن البشريّ ، وهو : أنّه كلّما ارتبط شيئان في تصوّر الإنسان ارتباطاً مؤكّداً أصبح بعد ذلك تصوّر أحدهما مستدعياً لتصوّر الآخر.

وهذا الربط بين تصوّرين تارةً يحصل بصورةٍ عفويّة ، كالربط بين سماع الزئير وتصوّر الأسد الذي حصل نتيجة التقارن الطبيعيّ المتكرّر بين سماع الزئير ورؤية الأسد ، واخرى يحصل بالعناية التي يقوم بها الواضع ، إذ يربط بين اللفظ وتصوّر معنىً مخصوصٍ في ذهن الناس فينتقلون من سماع اللفظ إلى تصوّر المعنى.

والاعتبار الذي تحدّثنا عنه في الاحتمال الثاني ليس إلاّطريقة يستعملها الواضع في إيجاد ذلك الربط والقرن المخصوص بين اللفظ وصورة المعنى.

فمسلك الاعتبار هو الصحيح ، ولكن بهذا المعنى. وبذلك صحّ أن يقال : إنّ الوضع قرن مخصوص بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى بنحوٍ أكيدٍ لكي يستتبع حالة إثارة أحدهما للآخر في الذهن.

ومن هنا نعرف أنّ الوضع ليس سبباً إلاّللدلالة التصوّريّة ، وأمّا الدلالتان

٢١٨

التصديقيّتان الاولى والثانية فمنشؤهما الظهور الحاليّ والسياقيّ للكلام ، لا الوضع.

الوضع التعيينيّ والتعيّني :

وقد قسّم الوضع من ناحية سببه إلى تعيينيٍّ وتعيّني :

فقيل (١) : إنّ العلاقة بين اللفظ والمعنى إن نشأت من جعلٍ خاصٍّ فالوضع تعيينيّ ، وإن نشأت من كثرة الاستعمال بدرجةٍ توجب الالفة الكاملة بين اللفظ والمعنى فالوضع تعيّني.

ويلاحظ على هذا التقسيم : بأنّ الوضع إذا كان هو الاعتبار أو التعهّد فلا يمكن أن ينشأ عن كثرة الاستعمال مباشرةً ؛ لوضوح أنّ الاستعمال المتكرّر لا يولِّد بمجرّده اعتباراً ولا تعهّداً ، فلا بدّ من افتراض أنّ كثرة الاستعمال تكشف عن تكوّن هذا الاعتبار أو التعهّد ، فالفرق بين الوضعين في نوعيّة الكاشف عن الوضع.

وهذه الملاحظة لا ترد على ما ذكرناه في حقيقة الوضع من أنّه «القرن الأكيد» بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى ، فإنّ حالة القرن الأكيد تحصل بكثرة الاستعمال أيضاً ؛ لأنّها تؤدّي إلى تكرّر الاقتران بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى ، فيكون القرن بينهما أكيداً بهذا التكرّر إلى أن يبلغ إلى درجةٍ تجعل أحد التصوّرين صالحاً لتوليد التصوّر الآخر ، فيتمّ بذلك الوضع التعيّني.

توقّف الوضع على تصوّر المعنى :

ويشترط في كلّ وضعٍ يباشره الواضع : أن يتصوّر الواضع المعنى الذي يريد أن يضع اللفظ له ؛ لأنّ الوضع بمثابة الحكم على المعنى واللفظ ، وكلّ حاكمٍ لا بُدّ له من

__________________

(١) انظر كفاية الاصول : ٢٤

٢١٩

استحضار موضوع حكمه عند جعل ذلك الحكم.

وتصوّر المعنى : تارةً يكون باستحضاره مباشرةً ، واخرى باستحضار عنوانٍ منطبقٍ عليه وملاحظته بما هو حاكٍ عن ذلك المعنى. وهذا الشرط يتحقّق في ثلاث حالات :

الاولى : أن يتصوّر الواضع معنىً كلّيّاً كالإنسان ويضع اللفظ بإزائه ، ويُسمّى بالوضع العامِّ والموضوع له العامّ.

الثانية : أن يتصوّر الواضع معنىً جزئيّاً كزيدٍ ويضع اللفظ بإزائه ، ويسمّى بالوضع الخاصِّ والموضوع له الخاصّ.

الثالثة : أن يتصوّر الواضع عنواناًمشيراً إلى فرده ويضع اللفظ بإزاء الفرد الملحوظ من خلال ذلك العنوان المشير ، ويسمّى بالوضع العامِّ والموضوع له الخاصّ.

وهناك حالة رابعة لا يتوفّر فيها الشرط المذكور ويطلق عليها اسم الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ ، وهي : أن يتصوّر الفرد ويضع اللفظ لمعنىً جامع ، وهذا مستحيل ؛ لأنّ الفرد والخاصّ ليس عنواناً منطبقاً على ذلك المعنى الجامع ليكون مشيراً إليه ، فالمعنى الجامع في هذه الحالة لا يكون مستحضراً بنفسه ، ولا بعنوانٍ مشيرٍ إليه ومنطبقٍ عليه.

ومثال الحالة الاولى : أسماء الأجناس ، ومثال الحالة الثانية : الأعلام الشخصيّة ، وأمّا الحالة الثالثة فقد وقع الخلاف في جعل الحروف مثالاً لها ، وسيأتي الكلام عن ذلك في بحثٍ مقبِلٍ إن شاء الله تعالى.

توقّف الوضع على تصوّر اللفظ :

كما يتوقّف الوضع على تصوّر المعنى كذلك يتوقّف على تصوّر اللفظ : إمّا بنفسه فيُسَمّى الوضع «شخصيّاً» ، وإمّا بعنوانٍ مشيرٍ إليه فيسمّى الوضع «نوعيّاً».

٢٢٠