دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

الحالة الثانية اسم «الاصول العمليّة المحرزة» ، وقد يعبّر عنها ب «الاصول العمليّة التنزيليّة».

اجتماع الحكم الواقعيّ والظاهري :

وبناءً على ما تقدّم يمكن أن يجتمع في واقعةٍ واحدةٍ حكمان : أحدهما واقعيّ ، والآخر ظاهريّ.

مثلاً : إذا كان الدعاء عند رؤية الهلال واجباً واقعاً ، وقامت الأمارة على إباحته ، فحكم الشارع بحجّيّة الأمارة وبأنّ الفعل المذكور مباح في حقّ من يشكّ في وجوبه ، فقد اجتمع حكمان تكليفيّان على واقعةٍ واحدة ، أحدهما واقعيّ وهو الوجوب ، والآخر ظاهريّ وهو الإباحة ، وما دام أحدهما من سنخ الأحكام الواقعيّة والآخر من سنخ الأحكام الظاهريّة فلا محذور في اجتماعهما ، وإنّما المستحيل أن يجتمع في واقعةٍ واحدةٍ وجوب واقعيّ وإباحة واقعيّة.

القضيّة الحقيقيّة والقضيّة الخارجيّة للأحكام :

الحكم الشرعيّ : تارةً يجعل على نحو القضيّة الخارجيّة ، واخرى يجعل على نحو القضيّة الحقيقيّة.

وتوضيح ذلك : أنّ المولى المشرِّع تارةً يشير إلى الأفراد الموجودين فعلاً من العلماء مثلاً ، فيقول : «أكرمهم» ، واخرى يفترض وجود العالم ويحكم بوجوب إكرامه ولو لم يكن هناك عالم موجود فعلاً ، فيقول : «إذا وجد عالم فأكرمه».

والحكم في الحالة الاولى مجعول على نحو القضيّة الخارجيّة ، وفي الحالة الثانية مجعول على نحو القضيّة الحقيقيّة ، وما هو المفترض فيها نطلق عليه اسم

١٨١

الموضوع للقضيّة الحقيقيّة.

والفارق النظري بين القضيّتين : أنّنا بموجب القضيّة الحقيقيّة نستطيع أن نقول : لو ازداد عدد العلماء لوجب إكرامهم جميعاً ؛ لأنّ موضوع هذه القضيّة العالم المفترض ، وأيّ فردٍ جديدٍ من العالم يحقّق الافتراض المذكور ، ولا نستطيع أن نؤكّد القول نفسه بلحاظ القضيّة الخارجيّة ؛ لأنّ المولى في هذه القضيّة أحصى عدداً معيَّناً وأمر بإكرامهم ، وليس في القضيّة ما يفترض تعميم الحكم لو ازداد العدد.

١٨٢

تنويعُ البحث

حينما يستنبط الفقيه الحكم الشرعيّ ويستدلّ عليه تارةً : يحصل على دليلٍ يكشف عن ثبوت الحكم الشرعيّ فيعوّل على كشفه ، واخرى : يحصل على دليلٍ يحدّد الموقف العمليّ والوظيفة العمليّة تجاه الواقعة المجهول حكمها ، وهذا ما يكون في الاصول العمليّة التي هي أدلّة على الوظيفة العمليّة ، وليست أدلّةً على الواقع.

وعلى هذا الأساس سوف نصنِّف بحوث علم الاصول إلى نوعين :

أحدهما : البحث في الأدلّة من القسم الأوّل ، أي العناصر المشتركة في عمليّة الاستنباط التي تتّخذ أدلّةً باعتبار كشفها عن الحكم الشرعيّ ، ونسمّيها بالأدلّة المحرزة.

والآخر : البحث في الاصول العمليّة ، وهي الأدلّة من القسم الثاني ، أي العناصر المشتركة في عمليّة الاستنباط التي تتّخذ أدلّةً على تحديد الوظيفة العمليّة تجاه الحكم الشرعيّ المجهول ، ونسمّيها بالأدلّة العمليّة ، أو الاصول العمليّة.

وكلّ ما يستند إليه الفقيه في استدلاله الفقهيّ واستنباطه للحكم الشرعيّ لا يخرج عن أحد هذين القسمين من الأدلّة.

ويمكن القول على العموم (١) : بأنّ كلّ واقعةٍ يعالج الفقيه حكمها يوجد فيها أساساً دليل من القسم الثاني ، أي أصل عمليّ يحدّد الوظيفة العمليّة ، فإن توفّر للفقيه الحصول على دليلٍ محرز أخذ به وترك الأصل العمليّ ؛ وفقاً لقاعدة تقدّم الأدلّة

__________________

(١) هذه العبارة : من قوله : «ويمكن القول على العموم» الى قوله : «حيث لا يوجد دليل محرز» مكرّرة بعينها تقريباً فيما سيأتي تحت عنوان : «تحديد المنهج في الأدلّة والاصول»

١٨٣

المحرزة على الاصول العمليّة ، كما يأتي (١) إن شاء الله تعالى ، وإن لم يتوفّر دليل محرز أخذ بالأصل العمليّ ، فهو المرجع العامّ للفقيه حيث لا يوجد دليل محرز.

ويوجد عنصر مشترك يدخل في جميع عمليّات استنباط الحكم الشرعيّ ، سواء ما استند فيه الفقيه إلى دليلٍ من القسم الأوّل أو إلى دليلٍ من القسم الثاني ، وهذا العنصر هو حجّيّة القطع.

ونريد بالقطع : انكشاف قضيّةٍ بدرجةٍ لا يشوبها شكّ ، ومعنى حجّيته : كونه منجِّزاً ، أي مصحّحاً للعقاب إذا خالف العبد مولاه في تكليفٍ مقطوعٍ به لديه ، وكونه معذِّراً ، أي نافياً لاستحقاق العقاب عن العبد إذا خالف مولاه نتيجة عمله بقطعه.

وواضح أنّ حجّية القطع بهذا المعنى لا يستغني عنها جميع عمليّات الاستنباط ؛ لأنّها إنّما تؤدّي إلى القطع بالحكم الشرعيّ أو بالموقف العمليّ تجاهه ، ولكي تكون هذه النتيجة ذات أثرٍ لابدّ من الاعتراف مسبقاً بحجّيّة القطع ، بل إنّ حجّيّة القطع ممّا يحتاجها الاصوليّ في الاستدلال على القواعد الاصوليّة نفسها ؛ لأنّه مهما استُدلّ على ظهور صيغة «افعل» في الوجوب ـ مثلاً ـ فلن يحصل على أحسن تقديرٍ إلاّعلى القطع بظهورها في ذلك ، وهذا لا يفيد إلاّمع افتراض حجّيّة القطع.

كما أنّه بعد افتراض تحديد الأدلّة العامّة والعناصر المشتركة في عمليّة الاستنباط قد يواجه الفقيه حالات التعارض بينها ، سواء كان التعارض بين دليلٍ من القسم الأوّل ودليلٍ من القسم الثاني ، كالتعارض بين الأمارة والأصل ، أو بين دليلين من قسمٍ واحد ، سواء كانا من نوعٍ واحدٍ ، كخبرين لثقتين ، أو من نوعين ، كالتعارض بين خبر الثقة وظهور الآية ، أو بين أصالة الحلّ والاستصحاب.

__________________

(١) في موضوع التعارض بين الأدلّة المحرزة والاصول العملية ، آخر هذا الجزء

١٨٤

ومن أجل ذلك سنبدأ في ما يلي بحجّيّة القطع ، ثمّ نتكلّم عن القسم الأوّل من الأدلّة ، ثمّ عن القسم الثاني «الاصول العمليّة» ، ونختم بأحكام تعارض الأدلّة إن شاء الله تعالى ، ومنه نستمدّ التوفيق.

١٨٥

حجّية القطع

للقطع كاشفيّة بذاته عن الخارج. وله أيضاً نتيجة لهذه الكاشفيّة محركيّة نحو ما يوافق الغرض الشخصيّ للقاطع إذا انكشف له بالقطع ، فالعطشان إذا قطع بوجود الماء خلفه تحرّك نحو تلك الجهة طلباً للماء. وللقطع ـ إضافةً إلى الكاشفيّة والمحركية المذكورتين ـ خصوصيّة ثالثة وهي : «الحجّيّة» ، بمعنى أنّ القطع بالتكليف ينجِّز ذلك التكليف ، أي يجعله موضوعاً لحكم العقل بوجوب امتثاله وصحّة العقاب على مخالفته.

والخصوصيّة الاولى والثانية بديهيّتان ولم يقع بحث فيهما ، ولا تفيان بمفردهما بغرض الاصولي ـ وهو تنجيز التكليف الشرعيّ على المكلّف بالقطع به ـ وإنّما الذي يفي بذلك الخصوصيّة الثالثة.

كما أنّه لا شكّ في أنّ الخصوصيّة الاولى هي عين حقيقة القطع ؛ لأنّ القطع هو عين الانكشاف والإراءة ، لا أنّه شيء من صفاته الانكشاف.

ولا شكّ أيضاً في أنّ الخصوصيّة الثانية من الآثار التكوينية للقطع بما يكون متعلّقاً للغرض الشخصي ، فالعطشان الذي يتعلّق غرض شخصيّ له بالماء حينما يقطع بوجوده في جهةٍ يتحرّك نحو تلك الجهة لا محالة ، والمحرّك هنا هو الغرض ، والمكمِّل لمحرِّكيّة الغرض هو قطعه بوجود الماء ، وبإمكان استيفاء الغرض في تلك الجهة.

وأمّا الخصوصيّة الثالثة وهي حجّيّة القطع ـ أي منجِّزيّته للتكليف بالمعنى المتقدّم ـ فهي شيء ثالث غير مستبطنٍ في الخصوصيّتين السابقتين ، فلا يكون التسليم بهما من الناحية المنطقيّة تسليماً ضمنيّاً بالخصوصيّة الثالثة ، وليس التسليم

١٨٦

بهما مع إنكار الخصوصيّة الثالثة تناقضاً منطقيّاً ، فلا بدّ إذن من استئناف نظرٍ خاصٍّ في الخصوصيّة الثالثة.

وفي هذا المجال يقال عادةً : إنّ الحجّيّة لازم ذاتيّ للقطع ، كما أنّ الحرارة لازم ذاتيّ للنار ، فالقطع بذاته يستلزم الحجّيّة والمنجّزيّة ، ولأجل ذلك لا يمكن أن تُلغى حجّيّته ومنجّزيّته في حالٍ من الأحوال ، حتّى من قبل المولى نفسه ؛ لأنّ لازم الشيء لا يمكن أن ينفكّ عنه ، وإنّما الممكن للمولى أن يزيل القطع عن القاطع ، فيخرجه عن كونه قاطعاً بدلاً عن أن يفكّك بين القطع والحجّيّة. ويتلخّص هذا الكلام في قضيّتين :

إحداهما : أنّ الحجّيّة والمنجّزيّة ثابتة للقطع ؛ لأنّها من لوازمه.

والاخرى : أنّها يستحيل أن تنفكّ عنه ؛ لأنّ اللازم لا ينفكّ عن الملزوم.

أمّا القضيّة الاولى فيمكن أن نتساءل بشأنها : أيّ قطعٍ هذا الذي تكون المنجّزيّة من لوازمه؟ هل هو القطع بتكليف المولى ، أو القطع بتكليف أيِّ آمر؟

ومن الواضح أنّ الجواب هو الأوّل ؛ لأنّ غير المولى إذا أمر لا يكون تكليفه منجّزاً على المأمور ولو قطع به ، فالمنجّزيّة إذن تابعة للقطع بتكليف المولى ، فنحن إذن نفترض أوّلاً أنّ الآمر مولى ، ثمّ نفترض القطع بصدور التكليف منه ، وهنا نتساءل من جديد : ما معنى المولى؟

والجواب : أنّ المولى هو مَن له حقّ الطاعة ، أي من يحكم العقل بوجوب امتثاله واستحقاق العقاب على مخالفته ، وهذا يعني أنّ الحجّيّة (التي محصّلها ـ كما تقدم ـ حكم العقل بوجوب الامتثال واستحقاق العقاب على المخالفة) قد افترضناها مسبقاً بمجرّد افتراض أنّ الآمر مولى ، فهي إذن من شؤون كون الآمر مولى ، ومستبطنة في نفس افتراض المولويّة ، فحينما نقول : إنّ القطع بتكليف المولى حجّة ـ أي يجب امتثاله عقلاً ـ كأ نّنا قلنا : إنّ القطع بتكليف مَن يجب امتثاله يجب امتثاله ، وهذا تكرار لما هو المفترض ، فلا بدّ أن نأخذ نفس حقّ الطاعة والمنجّزيّة المفترضة

١٨٧

في نفس كون الآمر مولى ، لنرى مدى ما للمولى من حقّ الطاعة على المأمور ، وهل له حقّ الطاعة في كلّ ما يقطع به من تكاليفه ، أو أوسع من ذلك بأن يفترض حقّ الطاعة في كلّ ما ينكشف لديه من تكاليفه ولو بالظنّ أو الاحتمال ، أو أضيق من ذلك بأن يفترض حقّ الطاعة في بعض ما يقطع به من التكاليف خاصّة؟

وهكذا يبدو أنّ البحث في حقيقته بحثٌ عن حدود مولويّة المولى ، وما نؤمن به له مسبقاً من حقّ الطاعة.

فعلى الأوّل تكون المنجّزيّة ثابتةً في حالات القطع خاصّة.

وعلى الثاني تكون ثابتةً في كلّ حالات القطع والظنّ والاحتمال.

وعلى الثالث تكون ثابتةً في بعض حالات القطع.

والذي ندركه بعقولنا أنّ مولانا سبحانه وتعالى له حقّ الطاعة في كلّ ما ينكشف لنا من تكاليفه بالقطع أو بالظنّ أو بالاحتمال ما لم يرخّص هو نفسه في عدم التحفّظ ، وهذا يعني أنّ المنجّزيّة ليست ثابتةً للقطع بما هو قطع ، بل بما هو انكشاف ، وأنّ كلّ انكشافٍ منجِّز مهما كانت درجته ما لم يحرز ترخيص الشارع نفسه في عدم الاهتمام به.

نعم ، كلّما كان الانكشاف بدرجةٍ أكبر كانت الإدانة وقبح المخالفة أشدّ ، فالقطع بالتكليف يستتبع لا محالة مرتبةً أشدّ من التنجّز والإدانة ؛ لأنّه المرتبة العليا من الانكشاف.

وأمّا القضيّة الثانية ـ وهي أنّ المنجّزيّة لا تنفكّ عن القطع بالتكليف ، وليس بإمكان المولى نفسه أن يتدخّل بالترخيص في مخالفة القطع وتجريده من المنجّزيّة ـ فهي صحيحة ، ودليلها : أنّ هذا الترخيص إمّا حكم واقعيّ ، أو حكم ظاهريّ ، والأوّل مستحيل ؛ لأنّ التكليف الواقعيّ مقطوع به ، فإذا ثبتت أيضاً إباحة واقعيّة لزم اجتماع الضدّين ؛ لِمَا تقدّم من التنافي والتضادّ بين الأحكام التكليفية الواقعية.

١٨٨

والثاني مستحيل أيضاً ؛ لأنّ الحكم الظاهريّ ـ كما تقدم (١) ـ ما اخذ في موضوعه الشكّ ، ولا شكّ مع القطع.

وبهذا يظهر أنّ القطع لا يتميّز عن الظنّ والاحتمال في أصل المنجّزيّة ، وإنّما يتميّز عنهما في عدم إمكان تجريده عن تلك المنجّزيّة ؛ لأنّ الترخيص في مورده مستحيل كما عرفت ، وليس كذلك في حالات الظنّ والاحتمال ، فإنّ الترخيص الظاهريّ فيها ممكن ؛ لأنّه لا يتطلّب أكثر من فرض الشكّ ، والشكّ موجود.

ومن هنا صحّ أن يقال : إنّ منجّزيّة القطع غير معلّقة ، بل ثابتة على الإطلاق ، وإنّ منجّزيّة غيره من الظنّ والاحتمال معلّقة ؛ لأنّها مشروطة بعدم إحراز الترخيص الظاهريّ في ترك التحفّظ.

معذّريّة القطع :

كنّا نتحدّث حتّى الآن عن الجانب التنجيزيّ والتسجيليّ من حجّيّة القطع «المنجّزيّة» ، والآن نشير إلى الجانب الآخر من الحجّيّة وهو «المعذّريّة» ، أي كون القطع بعدم التكليف معذّراً للمكلّف على نحوٍ لو كان مخطئاً في قطعه لمَا صحّت معاقبته على المخالفة ، وهذه المعذّريّة تستند إلى تحقيق حدود مولويّة المولى وحقّ الطاعة ؛ وذلك لأنّ حقّ الطاعة هل موضوعه الذي تفرض طاعته ، تكاليف المولى بوجودها في الشريعة بقطع النظر عن قطع المكلّف بها وشكّه فيها ، أو قطعه بعدمها ، أي أنّها تستتبع حقّ الطاعة في جميع هذه الحالات ، أو أنّ موضوع حقّ الطاعة تكاليف المولى المنكشفة للمكلّف ولو بدرجةٍ احتماليّةٍ من الانكشاف؟

فعلى الأوّل لا يكون القطع معذّراً إذا خالف الواقع ، وكان التكليف ثابتاً على

__________________

(١) مضى تحت عنوان : الحكم الواقعي والحكم الظاهري

١٨٩

خلاف ما قطع.

وعلى الثاني يكون القطع معذّراً ، إذ لا حقّ طاعةٍ للمولى في حالة عدم انكشاف التكليف ولو انكشافاً احتماليّاً.

والأوّل من هذين الاحتمالين غير صحيح ؛ لأنّ حقّ الطاعة من المستحيل أن يحكم به العقل بالنسبة إلى تكليفٍ يقطع المكلّف بعدمه ، إذ لا يمكن للمكلّف أن يتحرّك عنه فكيف يحكم العقل بلزوم ذلك؟!

فيتعيّن الاحتمال الثاني ، ومعه يكون القطع بعدم التكليف معذّراً عنه ؛ لأنّه يخرج في هذه الحالة عن دائرة حقّ الطاعة ، أي عن نطاق حكم العقل بوجوب الامتثال.

التجرّي :

إذا قطع المكلّف بوجوبٍ أو تحريمٍ فخالفه وكان التكليف ثابتاً في الواقع اعتبر عاصياً ، وأمّا إذا قطع بالتكليف وخالفه ولم يكن التكليف ثابتاً واقعاً سمّي متجرّياً ، وقد وقع البحث في أنّه هل يُدانُ مثل هذا المكلّف المتجرّي بحكم العقل ويستحقّ العقاب كالعاصي ، أوْ لا؟

ومرّةً اخرى يجب أن نرجع إلى حقّ الطاعة الذي تمثّله مولويّة المولى لنحدّد موضوعه ، فهل موضوعه هو التكليف المنكشف للمكلّف ، أو مجرّد الانكشاف ولو لم يكن مصيباً؟ بمعنى أنّ حقّ المولى على الإنسان هل في أن يطيعه في تكاليفه التي انكشفت لديه ، أو في كلّ ما يُتراءى له من تكاليفه ، سواءكان هناك تكليف حقّاً أوْ لا؟

فعلى الأوّل لا يكون المكلّف المتجرّي قد أخلّ بحقّ الطاعة ، إذ لا تكليف ، وعلى الثاني يكون قد أخلّ به فيستحقّ العقاب.

والصحيح هو الثاني ؛ لأنّ حقّ الطاعة ينشأ من لزوم احترام المولى عقلاً

١٩٠

ورعاية حرمته ، ولا شكّ في أنّه من الناحية الاحتراميّة ورعاية الحرمة لا فرق بين التحدّي الذي يقع من العاصي والتحدّي الذي يقع من المتجرّي ، فالمتجرّي إذن يستحقّ العقاب كالعاصي.

العلم الإجمالي :

القطع تارةً يتعلّق بشيءٍ محدّدٍ ويسمّى بالعلم التفصيلي ، ومثاله : العلم بوجوب صلاة الفجر ، أو العلم بنجاسة هذا الإناء المعيّن.

واخرى يتعلّق بأحد شيئين لا على وجه التعيين ، ويسمّى بالعلم الإجمالي ، ومثاله : العلم بوجوب صلاةٍمّا في ظهر الجمعة هي : إمّا الظهر أوالجمعة دون أن تقدر على تعيين الوجوب في إحداهما بالضبط ، أو العلم بنجاسة أحد الإناءين بدون تعيّن.

ونحن إذا حلّلنا العلم الإجماليّ نجد أنّه مزدوج من العلم بالجامع بين الشيئين ، ومن شكوكٍ واحتمالاتٍ بعدد الأطراف التي يتردّد بينها ذلك الجامع ، ففي المثال الأوّل يوجد عندنا علم بوجوب صلاةٍ مّا ، وعندنا احتمالان : لوجوب صلاة الظهر خاصّة ، ولوجوب صلاة الجمعة خاصّة.

ولا شكّ في أنّ العلم بالجامع منجّز ، وأنّ الاحتمال في كلّ طرفٍ منجّز أيضاً ، وفقاً لما تقدّم من أنّ كلّ انكشافٍ منجّز مهما كانت درجته ، ولكنّ منجّزيّة القطع ـ على ما عرفت ـ غير معلّقة ، ومنجّزيّة الاحتمال معلّقة ، ومن هنا كان بإمكان المولى في حالات العلم الإجماليّ أن يبطل منجّزيّة احتمال هذا الطرف أو ذاك ، وذلك بالترخيص الظاهريّ في عدم التحفّظ ، فإذا رخّص فقط في إهمال احتمال وجوب صلاة الظهر بطلت منجّزيّة هذا الاحتمال ، وظلّت منجّزيّة احتمال وجوب الجمعة على حالها ، وكذلك منجّزيّة العلم بالجامع فإنّها تظلّ ثابتةً أيضاً ، بمعنى أنّ المكلّف لا يمكنه أن يترك كلتا الصلاتين رأساً.

١٩١

وإذا رخّص المولى فقط في إهمال احتمال وجوب صلاة الجمعة بطلت منجّزيّة هذاالاحتمال ، وظلّت منجّزيّة الباقي كماتقدّم. وبإمكان المولى أن يرخّص في كلٍ من الطرفين معاً بترخيصين ظاهريَّين ، وبهذا تبطل كلّ المنجّزيّات بما فيها منجّزيّة العلم بالجامع.

وقد تقول : إنّ العلم بالجامع فرد من القطع ، وقد تقدّم أنّ منجّزيّة القطع غير معلّقة ، فكيف ترتفع منجّزيّة العلم بالجامع هنا؟!

والجواب : أنّ القطع الذي تكون منجّزيّته غير معلّقةٍ هو العلم التفصيليّ ، إذ لا مجال للترخيص الظاهريّ في مورده ؛ لأنّ الترخيص الظاهريّ لا يمكن إلاّفي حالة الشكّ ، ولا شكّ مع العلم التفصيليّ ، ولكن في حالة العلم الإجماليّ حيث إنّ الشكّ في كلّ طرفٍ موجود فهناك مجال للترخيص الظاهريّ ، فتكون منجّزيّة العلم الإجماليِّ معلّقةً على عدم إحراز الترخيص الظاهريّ في كلٍّ من الطرفين.

هذا من الناحية النظريّةثبوتاً ، وأمّا من الناحية الواقعيّة إثباتاً وأ نّه هل صدر من الشارع ترخيص في كلّ من طرفي العلم الإجمالي؟ فهذا ما يقع البحث عنه في الاصول العمليّة.

القطع الطريقيّ والموضوعي :

تارةً يحكم الشارع بحرمة الخمر ـ مثلاً ـ فيقطع المكلّف بالحرمة ، ويقطع بأنّ هذا خمر ، وبذلك يصبح التكليف منجَّزاً عليه ، كما تقدّم (١) ، ويسمّى القطع في هذه الحالة بالقطع الطريقيّ بالنسبة إلى تلك الحرمة ؛ لأنّه مجرّد طريقٍ وكاشفٍ عنها ؛ وليس له دخل وتأثير في وجودها واقعاً ؛ لأنّ الحرمة ثابتة للخمر على أيّ حال ،

__________________

(١) في (حجية القطع)

١٩٢

سواء قطع المكلّف بأنّ هذا خمر أوْ لا.

واخرى يحكم الشارع بأنّ ما تقطع بأ نّه خمر حرام ، فلا يحرم الخمر إلاّإذا قطع المكلّف بأ نّه خمر ، ويسمّى القطع في هذه الحالة بالقطع الموضوعيّ ؛ لأنّه دخيل في وجود الحرمة ، وثبوتها للخمر ، فهو بمثابة الموضوع للحرمة.

والقطع إنّما ينجّز التكليف إذا كان قطعاً طريقيّاً بالنسبة إليه ؛ لأنّ منجّزيّته إنّما هي من أجل كاشفيّته ، وهو إنّما يكشف عمّا يكون قطعاً طريقيّاً بالنسبة إليه. وأمّا التكليف الذي يكون القطع موضوعاً له ودخيلاً في أصل ثبوته فهو لا يتنجّز بذلك القطع ، ففي المثال المتقدّم للقطع الموضوعيّ لا يكون القطع بالخمريّة منجّزاً للحرمة ؛ لأ نّه لا يكشف عنها ، وإنّما يولّدها ، بل الذي ينجّز الحرمة في هذا المثال القطع بحرمة مقطوع الخمريّة. وهكذا ينجّز كلّ قطعٍ ما يكون كاشفاً عنه وطريقاً إليه من التكاليف ، دون ما يكون موضوعاً ومولّداً له من الأحكام.

وقد يتّفق أن يكون قطع واحد طريقيّاً بالنسبة إلى تكليفٍ وموضوعيّاً بالنسبة إلى تكليفٍ آخر ، كما إذا قال المولى : الخمر حرام ، ثمّ قال : من قطع بحرمة الخمر فيحرم عليه بيعه ، فإنّ القطع بحرمة الخمر قطع طريقيّ بالنسبة إلى حرمة الخمر ، وقطع موضوعيّ بالنسبة إلى حرمة بيع الخمر.

جواز الإسناد إلى المولى :

وهناك جانب ثالث في القطع غير المنجّزيّة والمعذّريّة ، وهو جواز إسناد الحكم المقطوع إلى المولى.

وتوضيح ذلك : أنّ المنجّزيّة والمعذّريّة ترتبطان بالجانب العملي ، فيقال : إنّ القطع بالحرمة منجّز لها ، بمعنى أنّه لابدّ للقاطع أن لا يرتكب ما قطع بحرمته ، وإنّ القطع بعدم الحرمة معذّر عنها ، بمعنى أنّ له أن يرتكب الفعل. وهناك شيء آخر وهو

١٩٣

إسناد الحرمة نفسها إلى المولى ، فإنّ القطع بحرمة الخمر يؤدّي إلى جواز إسناد الحرمة إلى المولى ، بأن يقول القاطع : إنّ الشارع حرّم الخمر ؛ لأنّه قول بعلم ، وقد أذن الشارع في القول بعلمٍ وحرّم القول بلا علم.

وبالتدبّر في ما بيّنّاه من التمييز بين القطع الطريقيّ والقطع الموضوعيّ يتّضح :

أنّ القطع بالنسبة إلى جواز الإسناد قطع موضوعيّ لا طريقيّ ؛ لأنّ جواز الإسناد حكم شرعيّ اخذ في موضوعه القطع بما يسند إلى المولى.

تلخيص ومقارنة :

اتّضح ممّا ذكرناه : أنّ تنجّز التكليف المقطوع لمّا كان من شؤون حقّ الطاعة للمولى سبحانه ، وكان حقّ الطاعة له يشمل كلّ ما ينكشف من تكاليفه ولو انكشافاً احتماليّاً فالمنجّزيّة إذن ليست مختصّةً بالقطع ، بل تشمل كلّ انكشافٍ مهما كانت درجته ، وإن كانت بالقطع تصبح مؤكّدةً وغير معلّقة ، كما تقدّم.

وخلافاً لذلك مسلك من افترض المنجّزيّة والحجّيّة لازماً ذاتيّاً للقطع ، فإنّه ادّعى أنّها من خواصّ القطع. فحيث لا قطع ولا علم لا منجّزيّة ، فكلّ تكليفٍ لم ينكشف بالقطع واليقين فهو غير منجّزٍ ولا يصحّ العقاب عليه ، وسمّي ذلك بقاعدة «قبح العقاب بلا بيان» ، أي بلا قطعٍ وعلم (١) ، وفاته أنّ هذا في الحقيقة تحديد لمولويّة المولى وحقّ الطاعة له رأساً.

وهذان مسلكان يحدّد كلّ منهما الطريق في كثيرٍ من المسائل المتفرّعة ، ويوضّح للفقيه منهجاً مغايراً من الناحية النظريّة لمنهج المسلك الآخر.

ونسمّي المسلك المختار بمسلك حقّ الطاعة ، والآخربمسلك قبح العقاب بلابيان.

__________________

(١) راجع كفاية الا صول : ٣٩٠ ، ومصباح الاصول ٢ : ١٦

١٩٤

الأدلّة

الأدلّة المحرزة.

الاصول العمليّة ، أو الأدلّة العمليّة.

١٩٥
١٩٦

تحديد المنهج في الأدلّة والاصول

عرفنا سابقاً أنّ الأدلّة التي يستند إليها الفقيه في استدلاله الفقهيّ واستنباطه للحكم الشرعيّ على قسمين ، فهي : إمّا أدلّة محرزة يطلب بها كشف الواقع ، وإمّا أدلّة عمليّة (اصول عمليّة) تحدّد الوظيفة العمليّة للشاكّ الذي لا يعلم بالحكم.

ويمكن القول على العموم بأنّ كلّ واقعةٍ يعالج الفقيه حكمها يوجد فيها دليل من القسم الثاني ، أي أصل عمليّ يحدّد لغير العالم الوظيفة العمليّة ، فإن توفّر للفقيه الحصول على دليلٍ محرزٍ أخذ به ، وترك الأصل العمليّ وفقاً لقاعدة تقدّم الأدلّة المحرزة على الاصول العمليّة ، كما يأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في تعارض الأدلّة. وإن لم يتوفّر دليل محرز أخذ بالأصل العملي ، فهو المرجع العامّ للفقيه حيث لا يوجد دليل محرز.

وتختلف الأدلّة المحرزة عن الاصول العمليّة في : أنّ تلك تكون أدلّةً ومستَنَداً للفقيه بلحاظ كاشفيّتها عن الواقع وإحرازها للحكم الشرعي ، وأمّا هذه فتكون أدلّةً من الوجهة العمليّة فقط ، بمعنى أنّها تحدّد كيف يتصرّف الإنسان الذي لا يعرف الحكم الشرعيّ للواقعة.

كما أنّ الأدلّة المحرزة تختلف فيما بينها ؛ لأنّ بعضها أدلّة قطعيّة تؤدّي إلى القطع بالحكم الشرعي ، وبعضها أدلّة ظنّيّة تؤدّي إلى كشفٍ ناقصٍ محتملِ الخطأ عن الحكم الشرعيّ ، وهذه الأدلّة الظنّيّة هي التي تسمّى بالأمارات.

١٩٧

المنهج على مسلك حقّ الطاعة :

وأعمّ الاصول العمليّة بناءً على مسلك حقّ الطاعة هو أصالة اشتغال الذمّة ، وهذا أصل يحكم به العقل ، ومفاده : أنّ كلّ تكليفٍ يحتمل وجوده ولم يثبت إذن الشارع في ترك التحفّظ تجاهه فهو منجّز وتشتغل به ذمّة المكلّف. ومردّ ذلك إلى ما تقدّم من أنّ حقّ الطاعة للمولى يشمل كلّ ما ينكشف من التكاليف ولوانكشافاً ظنّياً أو احتماليّاً.

وهذا الأصل هو المستَنَد العامّ للفقيه ، ولا يرفع يده عنه إلاّفي بعض الحالات التالية :

أوّلاً : إذا حصل له دليل محرز قطعيّ على نفي التكليف كان القطع معذّراً بحكم العقل ، كما تقدّم ، فيرفع يده عن أصالة الاشتغال إذ لا يبقى لها موضوع.

ثانياً : إذا حصل له دليل محرز قطعيّ على إثبات التكليف فالتنجّز يظلّ على حاله ، ولكنّه يكون بدرجةٍ أقوى وأشدّ ، كما تقدّم.

ثالثاً : إذا لم يتوفّر له القطع بالتكليف لا نفياً ولا إثباتاً ، ولكن حصل له القطع بترخيصٍ ظاهريٍّ من الشارع في ترك التحفّظ ، فحيث إنّ منجّزيّة الاحتمال والظنّ معلّقة على عدم ثبوت إذنٍ من هذا القبيل ـ كما تقدّم ـ فمع ثبوته لا منجّزيّة ، فيرفع يده عن أصالة الاشتغال.

وهذا الإذن : تارةً يثبت بجعل الشارع الحجّيّة للأمارة (الدليل المحرز غير القطعيّ) ، كما إذا أخبر الثقة المظنونُ الصدقَ بعدم الوجوب ، فقال لنا الشارع : «صدِّق الثقة». واخرى يثبت بجعل الشارع لأصلٍ عمليٍّ من قبله ، كأصالة الحلّ الشرعيّة القائلة : «كلّ شيءٍ حلال حتّى تعلم أنّه حرام» (١) ، والبراءة الشرعيّة

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤

١٩٨

القائلة : «رفع ما لا يعلمون» (١) ، وقد تقدّم الفرق بين الأمارة والأصل العملي (٢).

رابعاً : إذا لم يتوفّر له القطع بالتكليف لا نفياً ولا إثباتاً ، ولكن حصل له القطع بأنّ الشارع لا يأذن في ترك التحفّظ فهذا يعني أنّ منجّزيّة الاحتمال والظنّ تظل ثابتةً ؛ غير أنّها آكد وأشدّ ممّا إذا كان الإذن محتملاً.

وهنا أيضاً : تارةً يثبت عدم الإذن من الشارع في ترك التحفّظ بجعل الشارع الحجّيّة للأمارة ، كما إذا أخبر الثقة المظنونُ الصدقَ بالوجوب ، فقال الشارع : «لا ينبغي التشكيك في ما يخبر به الثقة» ، أوقال : «صدّق الثقة». واخرى يثبت بجعل الشارع لأصلٍ عمليٍّ من قبله ، كأصالة الاحتياط الشرعيّة المجعولة في بعض الحالات.

فائدة المنجّزيّة والمعذّريّة الشرعيّة :

وبما ذكرناه ظهر أنّه في الحالتين : الاولى والثانية لا معنى لتدخّل الشارع في إيجاد معذّريّةٍ أو منجّزيّة ؛ لأنّ القطع ثابت ، وله معذّريّة ومنجّزيّة كاملة ، وفي الحالتين : الثالثة والرابعة يمكن للشارع أن يتدخّل في ذلك ، فإذا ثبت عنه جعل الحجّيّة للأمارة النافية للتكليف ، أو جعل أصلٍ مرخّصٍ كأصالة الحلّ ارتفعت بذلك منجّزيّة الاحتمال أو الظنّ ؛ لأنّ هذا الجعل منه إذن في ترك التحفّظ ، والمنجّزيّة المذكورة معلّقة على عدم ثبوت الإذن المذكور ، وإذاثبت عنه جعل الحجّيّة لأمارةٍ مثبتةٍللتكليف ، أو لأصلٍ يحكم بالتحفّظ تأكّدت بذلك منجّزيّة الاحتمال ؛ لأنّ ثبوت ذلك الجعل معناه العلم بعدم الإذن في ترك التحفّظ ، ونفي لأصالة الحلّ ونحوها.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، الحديث الأول

(٢) راجع بحث «الحكم الواقعي والحكم الظاهري»

١٩٩

المنهج على مسلك قبح العقاب بلا بيان :

وما تقدّم كان بناءً على مسلك حقّ الطاعة ، وأمّا بناءً على مسلك قبح العقاب بلا بيان فالأمر على العكس تماماً والبداية مختلفة ، فإنّ أعمّ الاصول العمليّة حينئذٍ هو قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» ، وتسمّى أيضاً بالبراءة العقليّة ، ومفادها : أنّ المكلّف غير ملزمٍ عقلاً بالتحفّظ تجاه أيّ تكليفٍ ما لم ينكشف بالقطع واليقين ، وهذا الأصل لا يرفع الفقيه يده عنه إلاّفي بعض الحالات :

ولنستعرض الحالات الأربع المتقدّمة ؛ لنرى حال الفقيه فيها بناءً على مسلك قبح العقاب بلا بيان :

أمّا الحالة الاولى فيظلّ فيها قبح العقاب ثابتاً (أي المعذّرية) ، غير أنّه يتأكّد بحصول القطع بعدم التكليف.

وأمّا الحالة الثانية فيرتفع فيها موضوع البراءة العقليّة ؛ لأنّ عدم البيان على التكليف تبدّل إلى البيان والقطع فيتنجّز التكليف.

وأمّا الحالة الثالثة فيظلّ فيها قبح العقاب ثابتاً ، غير أنّه يتأكّد بثبوت الإذن من الشارع في ترك التحفّظ.

وأمّا الحالة الرابعة فأصحاب هذا المسلك يلتزمون عمليّاً فيها بأنّ التكليف يتنجّز على الرغم من أنّه غير معلوم ، ويتحيّرون نظريّاً في كيفيّة تخريج ذلك على قاعدتهم القائلة بقبح العقاب بلا بيان ، بمعنى أنّ الأمارة المثبتة للتكليف بعد جعل الحجّيّة لها أو أصالة الاحتياط كيف تقوم مقام القطع الطريقيّ فتنجِّز التكليف ، مع أنّه لا يزال مشكوكاً وداخلاً في نطاق قاعدة قبح العقاب بلا بيان؟! وسيأتي في الحلقة التالية (١) بعض أوجه العلاج للمشكلة عند أصحاب هذا المسلك.

__________________

(١) سوف يأتي في أول بحث حجية القطع من الحلقة الثالثة

٢٠٠