دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

أوصَل كلامه الثاني بكلامه الأوّل فقال : «الربا في التعامل مع أيّ شخصٍ حرام ، ولا بأس به بين الوالد وولده» لأبطل الخاصّ مفعول العامِّ وظهوره في العموم.

وقد عرفنا سابقاً (١) أنّ القرينة تُقدَّم على ذي القرينة ، سواء كانت متّصلةً أو منفصلة.

ويسمّى تقديم الخاصِّ على العامّ «تخصيصاً» للعامّ إذا كان عمومه ثابتاً بأداةٍ من أدوات العموم ، و «تقييداً» له إذا كان عمومه ثابتاً بالإطلاق وعدم ذكر القيد.

ويسمّى الخاصّ في الحالة الاولى «مخصِّصاً» وفي الحالة الثانية «مقيِّداً».

وعلى هذا الأساس يتَّبع الفقيه في الاستنباط قاعدةً عامة ، وهي : الأخذ بالمخصِّص والمقيِّد وتقديمهما على العامّ والمطلق. إلاّأنّ العام والمطلق يظلّ حجّةً في غير ما خرج بالتخصيص والتقييد ، إذ لا يجوز رفع اليد عن الحجّة إلاّبمقدار ما تقوم الحجّة الأقوى على الخلاف ، لا أكثر.

٤ ـ وقد يكون أحد الكلامين دالاّ على ثبوت حكمٍ لموضوع ، والكلام الآخر ينفي ذلك في حالةٍ معيّنةٍ بنفي ذلك الموضوع.

ومثاله : أن يقال في كلامٍ : «يجب الحجّ على المستطيع» ، ويقال في كلامٍ آخر : «المَدِين ليس مستطيعاً» ، فالكلام الأوّل يوجب الحجّ على موضوعٍ محدّدٍ وهو المستطيع ، والكلام الثاني ينفي صفة المستطيع عن المَدِين ، فيؤخذ بالثاني ويسمّى «حاكماً» ، ويسمّى الدليل الأوّل «محكوماً».

وتسمّى القواعد التي اقتضت تقديم أحد الدليلين على الآخر في هذه الفقرة والفقرتين السابقتين ب «قواعد الجمع العرفي».

٥ ـ إذا لم يوجد في النصّين المتعارضين كلام صريح قطعي ، ولا ما يصلح أن

__________________

(١) في بحث حجّية الظهور ، تحت عنوان : القرينة المتّصلة والمنفصلة

١٦١

يكون قرينةً على تفسير الآخر ومخصِّصاً له أو مقيِّداً أو حاكماً عليه فلا يجوز العمل بأيِّ واحدٍ من الدليلين المتعارضين ؛ لأنّهما على مستوىً واحدٍ ولا ترجيح لأحدهما على الآخر.

حالات التعارض الاخرى :

وحالات التعارض بين دليلٍ لفظيٍّ ودليلٍ من نوعٍ آخر ، أو دليلين من غير الأدلّة اللفظية لها قواعد أيضاً نشير إليها ضمن النقاط التالية :

١ ـ الدليل اللفظيّ القطعيّ لا يمكن أن يعارضه دليل عقليّ قطعي ؛ لأنّ دليلاً من هذا القبيل إذا عارض نصّاً صريحاً من المعصوم عليه‌السلام أدّى ذلك إلى تكذيب المعصوم عليه‌السلام وتخطئته ، وهو مستحيل.

ولهذا يقول علماء الشريعة : إنّ من المستحيل أن يوجَد أيّ تعارضٍ بين النصوص الشرعية الصريحة وأدلّة العقل القطعية.

وهذه الحقيقة لا تفرضها العقيدة فحسب ، بل يبرهن عليها الاستقراء في النصوص الشرعية ودراسة المعطيات القطعية للكتاب والسنّة ، فإنّها جميعاً تتّفق مع العقل ، ولا يوجد فيها ما يتعارض مع أحكام العقل القطعية إطلاقاً.

٢ ـ إذا وجد تعارض بين دليلٍ لفظيٍّ ودليلٍ آخر ليس لفظياً ولا قطعياً قدّمنا الدليل اللفظي ؛ لأنّه حجّة ، وأمّا الدليل غير اللفظيّ فهو ليس حجّةً ما دام لا يؤدّي إلى القطع.

٣ ـ إذا عارض الدليل اللفظيّ غير الصريح دليلاً عقلياً قطعياً قُدِّم العقليّ على اللفظي ؛ لأنّ العقليّ يؤدّي إلى العلم بالحكم الشرعي ، وأمّا الدليل اللفظيّ غير الصريح فهو إنّما يدلّ بالظهور ، والظهور إنّما يكون حجّةً بحكم الشارع إذا لم نعلم ببطلانه ، ونحن هنا على ضوء الدليل العقليّ القطعيّ نعلم بأنّ الدليل اللفظيّ لم يَرِدِ

١٦٢

المعصوم عليه‌السلام منه معناه الظاهر الذي يتعارض مع دليل العقل ، فلا مجال للأخذ بالظهور.

٤ ـ إذا تعارض دليلان من غير الأدلّة اللفظية فمن المستحيل أن يكون كلاهما قطعياً ؛ لأنّ ذلك يؤدّي إلى التناقض ، وإنّما قد يكون أحدهما قطعياً دون الآخر ، فيؤخذ بالدليل القطعي.

٢ ـ التعارض بين الاصول

وأمّا التعارض بين الاصول فالحالة البارزة له هي التعارض بين البراءة والاستصحاب ، ومثالها : أنّا نعلم بوجوب الصوم عند طلوع الفجر من نهار شهر رمضان حتّى غروب الشمس ، ونشكّ في بقاء الوجوب بعد الغروب إلى غياب الحمرة ، ففي هذه الحالة تتوفّر أركان الاستصحاب من اليقين بالوجوب أوّلاً ، والشك في بقائه ثانياً ، وبحكم الاستصحاب يتعيّن الالتزام عملياً ببقاء الوجوب.

ومن ناحيةٍ اخرى نلاحظ أنّ الحالة تندرج ضمن نطاق أصل البراءة ؛ لأنّها شبهة بدوية في التكليف غير مقترنةٍ بالعلم الإجمالي ، وأصل البراءة ينفي وجوب الاحتياط ويرفع عنّا الوجوب عملياً ، فبأيّ الأصلين نأخذ؟

والجواب : أنّا نأخذ بالاستصحاب ونقدِّمه على أصل البراءة ، وهذا متّفق عليه بين الاصوليِّين ، والرأي السائد بينهم لتبرير ذلك : أنّ دليل الاستصحاب حاكم على دليل أصل البراءة ؛ لأنّ دليل أصل البراءة هو النصّ النبويّ القائل : «رفع ما لا يعلمون» (١) ، وموضوعه كلّ ما لا يعلم ، ودليل الاستصحاب هو النصّ

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث الأول

١٦٣

القائل : «لا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» (١) ، وبالتدقيق في النصّين نلاحظ أنّ دليل الاستصحاب يلغي الشكّ ، ويفترض كأنّ اليقين باقٍ على حاله ، فيرفع بذلك موضوع أصل البراءة.

ففي مثال وجوب الصوم لا يمكن أن نستند إلى أصل البراءة عن وجوب الصوم بعد غروب الشمس بوصفه وجوباً مشكوكاً ؛ لأنّ الاستصحاب يفترض هذا الوجوب معلوماً ، فيكون دليل الاستصحاب حاكماً على دليل البراءة ؛ لأنّه ينفي موضوع البراءة.

٣ ـ التعارض بين النوعين

ونصل الآن إلى فرضية التعارض بين دليلٍ محرزٍ وأصلٍ عملي كأصل البراءة أو الاستصحاب.

والحقيقة أنّ الدليل إذا كان قطعياً فالتعارض غير متصوّرٍ عقلاً بينه وبين الأصل ؛ لأنّ الدليل القطعيّ على الوجوب ـ مثلاً ـ يؤدّي إلى العلم بالحكم الشرعي ، ومع العلم بالحكم الشرعيّ لا مجال للاستناد إلى أيّ قاعدةٍ عملية ؛ لأنّ القواعد العملية إنّما تجري في ظرف الشكّ ، إذ قد عرفنا سابقاً أنّ أصل البراءة موضوعه كلّ ما لا يعلم ، والاستصحاب موضوعه أن نشكَّ في بقاء ما كنّا على يقينٍ منه ، فإذا كان الدليل قطعيّاً لم يبقَ موضوع هذه الاصول والقواعد العملية.

وإنّما يمكن افتراض لونٍ من التعارض بين الدليل والأصل إذا لم يكن الدليل قطعياً ، كما إذا دلّ خبر الثقة على الوجوب أو الحرمة ـ وخبر الثقة كما مرَّ بنا (٢) دليل

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٨ ، باب الأحداث الموجبة للطهارة ، الحديث ١١

(٢) في بحث الدليل الشرعي اللفظي ، تحت عنوان : إثبات الصدور

١٦٤

ظنّيّ حكم الشارع بوجوب اتّباعه واتّخاذه دليلاً ـ وكان أصل البراءة من ناحيةٍ اخرى يوسِّع ويرخِّص.

ومثاله : خبر الثقة الدالّ على حرمة الارتماس على الصائم ، فإنّ هذه الحرمة إذا لاحظناها من ناحية الخبر فهي حكم شرعيّ قد قام عليه الدليل الظنّي ، وإذا لاحظناها بوصفها تكليفاً غير معلومٍ نجد أنّ دليل البراءة ـ رفع ما لا يعلمون ـ يشملها ، فهل يحدّد الفقيه في هذه الحالة موقفه على أساس الدليل الظنّيّ المعتبر ، أو على أساس الأصل العملي؟

ويسمّي الاصوليون الدليل الظنّيّ بالأمارة ، ويطلقون على هذه الحالة اسم «التعارض بين الأمارات والاصول».

ولا شكّ في هذه الحالة لدى علماء الاصول في تقديم خبر الثقة وما إليه من الأدلّة الظنّية المعتبرة على أصل البراءة ونحوه من الاصول العملية ؛ لأنّ الدليل الظنّيّ الذي حكم الشارع بحجّيته يؤدّي بحكم الشارع هذا دور الدليل القطعي ، فكما أنّ الدليل القطعيّ ينفي موضوع الأصل ولا يبقي مجالاً لأيّ قاعدةٍ عملية فكذلك الدليل الظنّي الذي أسند إليه الشارع نفس الدور وأمرنا باتّخاذه دليلاً ، ولهذا يقال عادةً : «إنّ الأمارة حاكمة على الاصول العملية».

١٦٥
١٦٦

دروس في علم الاصول

الحلقة الثانية

كتاب دراسيّ في علم اصول الفقه اعدّ

لطلبة المرحلة الثانية من دراسة هذا العلم

١٦٧
١٦٨

التمهيد

تعريف علم الاصول.

موضوع علم الاصول وفائدته.

الحكم الشرعيّ وتقسيمه.

تنويع البحوث الاصولية.

حجّيّة القطع وأحكامه.

١٦٩
١٧٠

بسم الله الرحمن الرحيم

تعريف علم الاصول

يُعرَّف علم الاصول عادةً بأ نّه : «العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الحكم الشرعي» (١).

وتوضيح ذلك : أنّ الفقيه في استنباطه ـ مثلاً ـ للحكم بوجوب ردّ التحيّة من قوله تعالى : (وإذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأحسَنَ مِنْهَا أوْ رُدُّوهَا) (٢) يستعين بظهور صيغة الأمر في الوجوب ، وحجّيّة الظهور. فهاتان قاعدتان ممهّدتان لاستنباط الحكم الشرعيّ بوجوب ردّ التحيّة.

وقد يلاحظ على التعريف : أنّ تقييد القاعدة بوصف التمهيد يعني أنّها تكتسب اصوليّتها من تمهيدها وتدوينها لغرض الاستنباط ، مع أنّنا نطلب من التعريف إبداء الضابط الموضوعيّ الذي بموجبه يدوّن علماء الاصول في علمهم هذه المسألة دون تلك ، ولهذا قد تحذف كلمة «التمهيد» ويقال : «إنّه العلم بالقواعد التي تقع في طريق الاستنباط».

__________________

(١) القوانين ١ : ٥

(٢) النساء : ٨٦

١٧١

ولكن يبقى هناك اعتراض أهمّ ، وهو : أنّه لا يحقّق الضابط المطلوب ؛ لأنّ مسائل اللغة كظهور كلمة «الصعيد» تقع في طريق الاستنباط أيضاً ، ولهذا كان الأولى تعريف علم الاصول بأ نّه : العلم بالعناصر المشتركة في عمليّة الاستنباط.

ونقصد بالاشتراك : صلاحيّة العنصر للدخول في استنباط حكم أيِّ موردٍ من الموارد التي يتصدّى الفقيه لاستنباط حكمها ، مثل ظهور صيغة الأمر في الوجوب فإنّه قابل لِأنْ يُستنبَط منه وجوب الصلاة أو وجوب الصوم ، وهكذا.

وبهذا تخرج أمثال مسألة ظهور كلمة «الصعيد» عن علم الاصول ؛ لأنّها عنصر خاصّ لا يصلح للدخول في استنباط حكمٍ غير متعلّقٍ بمادة الصعيد.

١٧٢

موضوع علمِ الاصول وفائدته

موضوع علم الاصول :

يذكر لكلِّ علمٍ موضوع عادة ، ويراد به ما يكون جامعاً بين موضوعات مسائله ، وينصبّ البحث في المسائل على أحوال ذلك الموضوع وشؤونه ، كالكلمة العربيّة بالنسبة إلى علم النحو مثلاً.

وعلى هذا الأساس حاول علماءُ الاصول تحديد موضوعٍ لعلم الاصول ، فذكر المتقدِّمون منهم : أنّ موضوعه هو الأدلّة الأربعة : الكتاب والسنّة والإجماع والعقل (١).

واعترض على ذلك : بأنّ الأدلّة الأربعة ليست عنواناً جامعاً بين موضوعات مسائله جميعاً ، فمسائل الاستلزامات ـ مثلاً ـ موضوعها الحكم ، إذ يقال مثلاً : إنّ الحكم بالوجوب على شيءٍ هل يستلزم تحريم ضدّه ، أوْ لا؟ ومسائل حجّية الأمارات الظنّيّة كثيراً ما يكون موضوعها الذي يبحث عن حجّيّته شيئاً خارجاً عن الأدلّة الأربعة ، كالشهرة ، وخبر الواحد ، ومسائل الاصول العمليّة موضوعها الشكّ في التكليف على أنحائه ، وهو أجنبيّ عن الأدلّة الأربعة أيضاً.

ولهذا ذكر جملة من الاصوليّين (٢) : أنّ علم الاصول ليس له موضوع واحد ، وليس من الضروريّ أن يكون للعلم موضوع واحد جامع بين موضوعات مسائله.

__________________

(١) القوانين ١ : ٩ ومناهج الأحكام والاصول : ٣

(٢) نهاية الأفكار ١ : ١٠ ودرر الفوائد : ٣٣ ـ ٣٤

١٧٣

غير أنّ بالإمكان توجيه ما قيل أوّلاً من كون الأدلّة هي الموضوع مع عدم الالتزام بحصرها في الأدلّة الأربعة بأن نقول : إنّ موضوع علم الاصول هو كلّ ما يترقّب أن يكون دليلاً وعنصراً مشتركاً في عمليّة استنباط الحكم الشرعيّ والاستدلال عليه ، والبحث في كلّ مسألةٍ اصوليّةٍ إنّما يتناول شيئاً ممّا يترقّب أن يكون كذلك ، ويتّجه إلى تحقيق دليليّته والاستدلال عليها إثباتاً ونفياً ، فالبحث في حجّية الظهور أو خبر الواحد أو الشهرة بحث في دليليّتها ، والبحث في أنّ الحكم بالوجوب على شيءٍ هل يستلزم تحريم ضدّه؟ بحث في دليليّة الحكم بوجوب شيءٍ على حرمة الضدّ ، ومسائل الاصول العمليّة يبحث فيها عن دليليّة الشكّ وعدم البيان على المعذّريّة ، وهكذا. فصحّ أنّ موضوع علم الاصول هو الأدلّة المشتركة في الاستدلال الفقهيّ ، والبحث الاصوليّ يدور دائماً حول دليليّتها.

فائدة علم الاصول :

اتّضح ممّا سبق أنّ لعلم الاصول فائدةً كبيرةً للاستدلال الفقهيّ ؛ وذلك أنّ الفقيه في كلّ مسألةٍ فقهيّةٍ يعتمد على نمطين من المقدّمات في استدلاله الفقهيّ :

أحدهما : عناصر خاصّة بتلك المسألة ، من قبيل الرواية التي وردت في حكمها ، وظهورها في إثبات الحكم المقصود ، وعدم وجود معارضٍ لها ، ونحو ذلك.

والآخر : عناصر مشتركة تدخل في الاستدلال على حكم تلك المسألة ، وفي الاستدلال على حكم مسائل اخرى كثيرةٍ في مختلف أبواب الفقه ، من قبيل : أنّ خبر الواحد الثقة حجّة ، وأنّ ظهور الكلام حجّة.

والنمط الأوّل من المقدّمات يستوعبه الفقيه بحثاً في نفس تلك المسألة ؛ لأنّ ذلك النمط من المقدّمات مرتبط بها خاصّة.

وأمّا النمط الثاني فهو بحكم عدم اختصاصه بمسألةٍ دون اخرى انيط ببحثٍ

١٧٤

آخر خارج نطاق البحث الفقهي في هذه المسألة وتلك ، وهذا البحث الآخر هو الذي يعبّر عنه علم الاصول ، وبقدر ما اتّسع الالتفات تدريجاً من خلال البحث الفقهيّ إلى العناصر المشتركة اتّسع علم الاصول وازداد أهميّةً ، وبذلك صحّ القول : بأنّ دور علم الاصول بالنسبة إلى الاستدلال الفقهيّ يشابه دور علم المنطق بالنسبة إلى الاستدلال بوجهٍ عامّ ، حيث إنّ علم المنطق يزوّد الاستدلال بوجهٍ عامٍّ بالعناصر المشتركة التي لا تختصّ ببابٍ من أبواب التفكير دون باب ، وعلم الاصول يزوّد الاستدلال الفقهيّ خاصّةً بالعناصر المشتركة التي لا تختصّ ببابٍ من أبواب الفقه دون باب.

١٧٥

الحكم الشرعيّ وتقسيمه

الحكم الشرعيّ : هو التشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الإنسان وتوجيهه ، وهو على قسمين :

أحدهما : الأحكام التكليفيّة التي تتعلّق بأفعال الإنسان ولها توجيه عمليّ مباشر.

والآخر : الأحكام الوضعيّة التي ليس لها توجيه عمليّ مباشر ، وكثيراً ما تقع موضوعاً لحكمٍ تكليفي ، كالزوجيّة التي تقع موضوعاً لوجوب النفقة مثلاً.

مبادئ الحكم التكليفي :

ونحن إذا حلّلنا عمليّة الحكم التكليفيّ كالوجوب ـ كما يمارسها أيّ مولىً في حياتنا الاعتياديّة ـ نجد أنّها تنقسم إلى مرحلتين : إحداهما مرحلة الثبوت للحكم ، والاخرى مرحلة الإثبات والإبراز ، فالمولى في مرحلة الثبوت يحدِّد ما يشتمل عليه الفعل من مصلحة ، وهي ما يسمّى بالملاك ، حتى إذا أدرك وجود مصلحةٍ بدرجةٍ معيّنةٍ فيه تولّدت إرادة لذلك الفعل بدرجةٍ تتناسب مع المصلحة المدركة ، وبعد ذلك يصوغ المولى إرادته صياغةً جعليّةً من نوع الاعتبار ، فيعتبر الفعل على ذمّة المكلّف.

فهناك إذن في مرحلة الثبوت : «ملاك» و «إرادة» و «اعتبار». وليس الاعتبار عنصراً ضروريّاً في مرحلة الثبوت ، بل يستخدم غالباً كعملٍ تنظيميٍّ وصياغيٍّ اعتاده المشرِّعون والعقلاء ، وقد سار الشارع على طريقتهم في ذلك.

وبعد اكتمال مرحلة الثبوت بعناصرها الثلاثة أو بعنصرَيها الأوّلين على أقلّ

١٧٦

تقديرٍ تبدأ مرحلة الإثبات ، وهي المرحلة التي يُبرِز فيها المولى ـ بجملةٍ إنشائيّةٍ أو خبريّةٍ ـ مرحلة الثبوت بدافعٍ من الملاك والإرادة ، وهذا الإبراز قد يتعلّق بالإرادة مباشرةً ، كما إذا قال : «اريد منكم كذا» ، وقد يتعلّق بالاعتبار الكاشف عن الإرادة ، كما إذا قال : (للهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إليهِ سَبيلاً) (١).

وإذا تمّ هذا الإ براز من المولى أصبح من حقّه على العبد قضاءً لحقّ مولويّته الإتيان بالفعل ، وانتزع العقل عن إبراز المولى لإرادته الصادر منه بقصد التوصّل إلى مراده عناوين متعدّدةً ، من قبيل البعث والتحريك ونحوهما.

وكثيراً ما يُطلق على الملاك والإرادة ـ وهما العنصران اللازمان في مرحلة الثبوت ـ اسم «مبادئ الحكم» ، وذلك بافتراض أنّ الحكم نفسه هو العنصر الثالث من مرحلة الثبوت ـ أي الاعتبار ـ والملاك والإرادة مبادئ له ، وإن كان روح الحكم وحقيقته التي بها يقع موضوعاً لحكم العقل بوجوب الامتثال هي نفس الملاك والإرادة إذا تصدّى المولى لإبرازهما بقصد التوصّل إلى مراده ، سواء أنشأ اعتباراً أوْ لا.

ولكلّ واحدٍ من الأحكام التكليفيّة الخمسة مبادئ تتّفق مع طبيعته ، فمبادئ الوجوب هي الإرادة الشديدة ، ومن ورائها المصلحة البالغة درجةً عاليةً تأبى عن الترخيص في المخالفة. ومبادئ الحرمة هي المبغوضيّة الشديدة ، ومن ورائها المفسدة البالغة إلى الدرجة نفسها. والاستحباب والكراهة يتولّدان عن مبادئ من نفس النوع ، ولكنّها أضعف درجةً بنحوٍ يسمح المولى معها بترك المستحبّ وبارتكاب المكروه.

وأمّا الإباحة فهي بمعنيين :

__________________

(١) آل عمران : ٣

١٧٧

أحدهما : الإباحة بالمعنى الأخصّ التي تعتبر نوعاً خامساً من الأحكام التكليفيّة ، وهي تعبّر عن مساواة الفعل والترك في نظر المولى.

والآخر : الإباحة بالمعنى الأعمّ ، وقديطلق عليها اسم «الترخيص» في مقابل الوجوب والحرمة ، فتشمل المستحبّات والمكروهات مضافاً إلى المباحات بالمعنى الأخصّ ؛ لاشتراكها جميعاً في عدم الإلزام.

والإباحة قد تنشأ عن خلوِّ الفعل المباح من أيّ ملاكٍ يدعو إلى الالزام فعلاً أو تركاً ، وقد تنشأ عن وجود ملاكٍ في أن يكون المكلّف مطلق العنان ، وملاكها على الأوّل لا اقتضائيّ ، وعلى الثاني اقتضائيّ.

التضادّ بين الأحكام التكليفية :

وحين نلاحظ أنواع الحكم التكليفيّ التي مرّت بنا نجد أنّ بينها تنافياً وتضادّاً يؤدّي إلى استحالة اجتماع نوعين منها في فعلٍ واحد ، ومردّ هذا التنافي إلى التنافر بين مبادئ تلك الأحكام ، وأمّا على مستوى الاعتبار فقط فلا يوجد تنافر ، إذ لا تنافي بين الاعتبارات إذا جرّدت عن الملاك والإرادة.

وكذلك أيضاً لا يمكن أن يجتمع في فعلٍ واحدٍ فردانِ من نوعٍ واحد ، فمن المستحيل أن يتّصف شيء واحد بوجوبين ؛ لأنّ ذلك يعني اجتماع إرادتين على مرادٍ واحد ، وهو من قبيل اجتماع المثلين ؛ لأنّ الإرادة لا تتكرّر على شيءٍ واحد ، وإنّما تقوى وتشتدّ ، والمحذور هنا أيضاً بلحاظ المبادئ ، لا بلحاظ الاعتبار نفسه.

١٧٨

شمول الحكم الشرعيّ لجميع وقائع الحياة :

ولمّا كان الله تعالى عالماً بجميع المصالح والمفاسد التي ترتبط بحياة الإنسان في مختلف مجالاته الحياتيّة فمن اللطف اللائق برحمته أن يشرِّع للإنسان التشريع الأفضل وفقاً لتلك المصالح والمفاسد في شتّى جوانب الحياة ، وقد أكّدت ذلك نصوص كثيرة وردت عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام (١) ، وخلاصتها : أنّ الواقعة لا تخلو من حكم.

الحكم الواقعيّ والحكم الظاهري :

ينقسم الحكم الشرعيّ إلى واقعيٍّ وظاهري ، فالحكم الواقعيّ هو : كلّ حكمٍ لم يفترض في موضوعه الشكّ في حكمٍ شرعيٍّ مسبق ، والحكم الظاهريّ هو : كلّ حكمٍ افترض في موضوعه الشكّ في حكمٍ شرعيٍّ مسبق ، من قبيل أصالة الحلّ في قوله : «كلّ شيءٍ لكَ حلال حتّى تعلم أنّه حرام» (٢) ، وسائر الاصول العمليّة الاخرى ، ومن قبيل أمره بتصديق الثقة والعمل على وفق خبره ، وأمره بتصديق سائر الأمارات الاخرى.

وعلى هذا الأساس يقال عن الأحكام الظاهريّة بأ نّها متأخّرة رتبةً عن الأحكام الواقعيّة ؛ لأنّها قد افترض في موردها الشكّ في الحكم

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٥٢ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٨ ، وقد جاء فيه : ما من حادثةٍ إلاّو لله فيها حكم ، وفي الكافي أيضاً ما يستفاد منه هذا المضمون ، راجع ١ : ٥٩

(٢) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤

١٧٩

الواقعيّ ، ولولا وجود الأحكام الواقعيّة في الشريعة لمَا كانت هناك أحكام ظاهريّة.

الأمارات والاصول :

والأحكام الظاهريّة تصنّف عادةً إلى قسمين :

أحدهما : الحكم الظاهريّ المرتبط بكشف دليلٍ ظنيٍّ معيّنٍ على نحوٍ يكون كشف ذلك الدليل هو الملاك التامّ لجعله ، كالحكم الظاهريّ بوجوب تصديق خبر الثقة والعمل على طبقه ، سواء كان ذلك الدليل الظنّيّ مفيداً للظنّ الفعليّ دائماً ، أو غالباً وفي حالاتٍ كثيرة ، وفي هذه الحالة يسمّى ذلك الدليل ب «الأمارة» ، ويسمّى الحكم الظاهريّ ب «الحجّيّة» ، فيقال : إنّ الشارع جعل الحجّيّة للأمارة.

والقسم الآخر : الحكم الظاهريّ الذي اخذ فيه بعين الاعتبار نوع الحكم المشكوك ، سواء لم يؤخذ أيّ كشفٍ معيّنٍ بعين الاعتبار في مقام جعله ، أو اخذ ولكن لا بنحوٍ يكون هو الملاك التامّ ، بل منضمّاً إلى نوع الحكم المشكوك.

ومثال الحالة الاولى : أصالة الحلّ ، فإنّ الملحوظ فيها كون الحكم المشكوك والمجهول مردّداً بين الحرمة والإباحة ولم يلحظ فيها وجود كشفٍ معيّنٍ عن الحلّيّة.

ومثال الحالة الثانية : قاعدة الفراغ ، فإنّ التعبّد في هذه القاعدة بصحّة العمل المفروغ عنه يرتبط بكاشفٍ معيّنٍ عن الصحّة ، وهو غلبة الانتباه وعدم النسيان في الإنسان ، ولكنّ هذا الكاشف ليس هو كلّ الملاك ، بل هناك دخل لكون المشكوك مرتبطاً بعملٍ تمّ الفراغ عنه ، ولهذا لا يتعبّدنا الشارع بعدم النسيان في جميع الحالات.

وتسمّى الأحكام الظاهريّة في هذا القسم ب «الاصول العمليّة» ، ويطلق على الاصول العمليّة في الحالة الاولى اسم «الاصول العمليّة غير المحرزة» ، وعليها في

١٨٠