دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

سبحانه في نطاق التكاليف المعلومة فقط بمعنى أنّ الله سبحانه ليس له حقّ الطاعة على الإنسان إلاّفي التكاليف التي يعلم بها ، وأمّا التكاليف التي يشكّ فيها ولا علم له بها فلا يمتدّ إليها حقّ الطاعة ، أو أنّ حقّ الطاعة كما يدركه العقل في نطاق التكاليف المعلومة يدركه أيضاً في نطاق التكاليف المحتملة ، بمعنى أنّ من حقّ الله على الإنسان أن يطيعه في التكاليف المعلومة والمحتملة ، فإذا علم بتكليفٍ كان من حقّ الله عليه أن يمتثله ، وإذا احتمل تكليفاً كان من حقّ الله أن يحتاط ، فيترك ما يحتمل حرمته أو يفعل ما يحتمل وجوبه؟

والصحيح في رأينا هو : أنّ الأصل في كلّ تكليفٍ محتملٍ هو الاحتياط ؛ نتيجةً لشمول حقّ الطاعة للتكاليف المحتملة ، فإنّ العقل يدرك أنّ للمولى على الإنسان حقَّ الطاعة لا في التكاليف المعلومة فحسب ، بل في التكاليف المحتملة أيضاً ، ما لم يثبت بدليلٍ أنّ المولى لا يهتمّ بالتكليف المحتمل إلى الدرجة التي تدعو إلى إلزام المكلّف بالاحتياط.

وهذا يعني أنّ الأصل بصورةٍ مبدئيةٍ كلّما احتملنا حرمةً أو وجوباً هو أن نحتاط ، فنترك ما نحتمل حرمته ونفعل ما نحتمل وجوبه ، ولا نخرج عن هذا الأصل إلاّ إذا ثبت بالدليل أنّ الشارع لا يهتمّ بالتكليف المحتمل إلى الدرجة التي تفرض الاحتياط ؛ ويرضى بترك الاحتياط ، فإنّ المكلّف يصبح حينئذٍ غير مسؤولٍ عن التكليف المحتمل.

فالاحتياط إذن واجب عقلاً في موارد الشكّ ، ويسمّى هذا الوجوب «أصالة الاحتياط» أو «أصالة الاشتغال» ـ أي اشتغال ذمّة الإنسان بالتكليف المحتمل ـ ونخرج عن هذا الأصل حين نعرف أنّ الشارع يرضى بترك الاحتياط.

وهكذا تكون أصالة الاحتياط هي القاعدة العملية الأساسية.

ويخالف في ذلك كثير من الاصوليّين ؛ إيماناً منهم بأنّ الأصل في المكلّف أن لا

١٤١

يكون مسؤولاً عن التكاليف المشكوكة ولو احتمل أهمّيتها بدرجةٍ كبيرة ، ويرى هؤلاء الأعلام أنّ العقل هو الذي يحكم بنفي المسؤولية ؛ لأنّه يدرك قبح العقاب من المولى على مخالفة المكلّف للتكليف الذي لم يصل إليه ، ولأجل هذا يطلقون على الأصل من وجهة نظرهم اسم «قاعدة قبح العقاب بلا بيان» ، أو «البراءة العقلية» ، أي أنّ العقل يحكم بأنّ عقاب المولى للمكلّف على مخالفة التكليف المشكوك قبيح ، وما دام المكلّف مأموناً من العقاب فهو غير مسؤولٍ ولا يجب عليه الاحتياط.

ويستشهد لذلك بما استقرَّت عليه سيرة العقلاء من عدم إدانة الموالي للمكلَّفين في حالات الشكّ ، وعدم قيام الدليل ، فإنّ هذا يدلّ على قبح العقاب بلا بيانٍ في نظر العقلاء.

ولكي ندرك أنّ العقل هل يحكم بقبح معاقبة الله تعالى للمكلّف على مخالفة التكليف المشكوك ، أوْ لا؟ يجب أن نعرف حدود حقّ الطاعة الثابت لله تعالى ، فإذا كان هذا الحقّ يشمل التكاليف المشكوكة التي يحتمل المكلّف أهمّيتها بدرجةٍ كبيرةٍ ـ كما عرفنا ـ فلا يكون عقاب الله للمكلّف إذا خالفها قبيحاً ؛ لأنّه بمخالفتها يفرِّط في حقّ مولاه فيستحقّ العقاب.

وأمّا ما استشهد به من سيرة العقلاء فلا دلالة له في المقام ، لأنّه إنّما يثبت أنّ حقّ الطاعة في الموالي العرفيِّين يختصّ بالتكاليف المعلومة ، وهذا لا يستلزم أن يكون حقّ الطاعة لله تعالى كذلك أيضاً ، إذ أيّ محذورٍ في التفكيك بين الحقّين والالتزام بأنّ أحدهما أوسع من الآخر؟!

فالقاعدة الأوّلية إذن هي أصالة الاحتياط.

١٤٢

ـ ٢ ـ

القاعدة العمليّة الثانوية

وقد انقلبت بحكم الشارع تلك القاعدة العملية الأساسية إلى قاعدةٍ عمليةٍ ثانوية ، وهي أصالة البراءة القائلة بعدم وجوب الاحتياط.

والسبب في هذا الانقلاب : أنّا علمنا عن طريق البيان الشرعيّ أنّ الشارع لايهتمّ بالتكاليف المحتملة إلى الدرجة التي تُحتِّم الاحتياط على المكلّف ، بل يرضى بترك الاحتياط.

والدليل على ذلك : نصوص شرعية متعدّدة ، من أشهرها النصّ النبويّ القائل : «رُفع عن امّتي ما لا يعلمون» (١) ، بل استدلّ ببعض الآيات على ذلك ، كقوله تعالى : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٢). فإنّ الرسول يُفهَم كمثالٍ على البيان والدليل ، فتدلّ الآية على أنّه لا عقاب بدون دليل ، وهكذا أصبحت القاعدة العملية هي عدم وجوب الاحتياط بدلاً عن وجوبه ، وأصالة البراءة شرعاً بدلاً عن أصالة الاشتغال عقلاً.

وتشمل هذه القاعدة العملية الثانوية موارد الشكّ في الوجوب وموارد الشكّ في الحرمة على السواء ؛ لأنّ النصّ النبويّ مطلق ، ويسمَّى الشكّ في الوجوب

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث الأول. ومتن الحديث كالتالي : «رفع عن امتي تسعة أشياء : الخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، و...»

(٢) الإسراء : ١٥

١٤٣

بـ «الشبهة الوجوبية» ، والشكّ في الحرمة ب «الشبهة التحريمية».

كما تشمل القاعدة أيضاً الشكّ مهما كان سببه ؛ ولأجل هذا نتمسّك بالبراءة إذا شككنا في التكليف ، سواء نشأ شكّنا في ذلك من عدم وضوح أصل جعل الشارع للتكليف ، أو من عدم العلم بتحقّق موضوعه.

ومثال الأوّل : شكّنا في وجوب صلاة العيد ، أو في حرمة التدخين ، ويسمّى بالشبهة الحكمية.

ومثال الثاني : شكّنا في وجوب الحجّ لعدم العلم بتوفّر الاستطاعة ، مع علمنا بأنّ الشارع جعل وجوب الحجّ على المستطيع [ويسمّى بالشبهة الموضوعيّة].

وإن شئت قلت : إنّ المكلّف في الشبهة الحكمية يشكّ في الجعل ، وفي الشبهة الموضوعية يشكّ في المجعول ، وكلّ منهما مجرىً للبراءة شرعاً.

١٤٤

ـ ٣ ـ

قاعدة منجّزية العلم الإجمالي

تمهيد :

قد تعلم أنّ أخاك الأكبر قد سافر إلى مكّة ، وقد تشكّ في سفره ، لكنّك تعلم على أيِّ حالٍ أنّ أحد أخويك (الأكبر ، أو الأصغر) قد سافر فعلاً إلى مكّة ، وقد تشكّ في سفرهما معاً ولا تدري هل سافر واحد منهما إلى مكّة ، أوْ لا؟

فهذه حالات ثلاث ، ويطلق على الحالة الاولى اسم «العلم التفصيلي» ؛ لأنّك في الحالة الاولى تعلم أنّ أخاك الأكبر قد سافر إلى مكّة ، وليس لديك في هذه الحقيقة أيُّ تردّدٍ أو غموض ، فلهذا كان العلم تفصيلياً.

ويطلق على الحالة الثانية اسم «العلم الإجمالي» ؛ لأنّك في هذه الحالة تجد في نفسك عنصرين مزدوجين : أحدهما عنصر الوضوح ، والآخر عنصر الخفاء ، فعنصر الوضوح يتمثَّل في علمك بأنّ أحد أخويك قد سافر فعلاً ، فأنت لا تشكّ في هذه الحقيقة. وعنصر الخفاء والغموض يتمثّل في شكِّك وتردّدك في تعيين هذا الأخ ، ولهذا تسمّى هذه الحالة ب «العلم الإجمالي» ، فهي علم ، لأنّك لا تشكّ في سفر أحد أخويك ، وهي إجمال وشكّ ، لأنّك لا تدري أيّ أخويك قد سافر. ويسمّى كلّ من سفر الأخ الأكبر وسفر الأصغر «طرفاً» للعلم الإجمالي ؛ لأنّك تعلم أنّ أحدهما لا على سبيل التعيين قد سافر بالفعل.

وأفضل صيغةٍ لغويةٍ تمثِّل هيكل العلم الإجماليّ ومحتواه النفسيّ بكلا عنصريه هي «إمّا وإمّا» ، إذ تقول في المثال المتقدِّم : «سافَرَ إمّا أخي الأكبر ، وإمّا

١٤٥

أخي الأصغر» فإنّ جانب الإثبات في هذه الصيغة يمثّل عنصر الوضوح والعلم ، وجانب التردّد الذي تصوّره كلمة «إمّا» يمثّل عنصر الخفاء والشكّ ، وكلّما أمكن استخدام صيغةٍ من هذا القبيل دلّ ذلك على وجود علمٍ إجماليٍّ في نفوسنا.

ويطلق على الحالة الثالثة اسم «الشكّ الابتدائي» ، أو «البدوي» ، أو «الساذج» ، وهو شكّ محض غير ممتزجٍ بأيِّ لونٍ من العلم ، ويسمّى بالشكّ الابتدائيّ أو البدوي تمييزاً له عن الشكّ في طرف العلم الإجمالي ؛ لأنّ الشكّ في طرف العلم الإجماليّ يوجد نتيجةً للعلم نفسه ، فأنت تشكّ في أنّ المسافر هل هو أخوك الأكبر ، أو الأصغر؟ نتيجةً لعلمك بأنّ أحدهما ـ لا على التعيين ـ قد سافر حتماً ، وأمّا الشكّ في الحالة الثالثة فيوجد بصورةٍ ابتدائية دون علمٍ مسبق.

وهذه الحالات الثلاث توجد في نفوسنا تجاه الحكم الشرعي ، فوجوب صلاة الصبح معلوم تفصيلاً ، ووجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة مشكوك شكّاً ناتجاً عن العلم الإجماليّ بوجوب الظهر أو الجمعة في ذلك اليوم ، ووجوب صلاة العيد مشكوك ابتدائيّ غير مقترنٍ بالعلم الإجمالي.

وهذه الأمثلة كلّها من الشبهة الحكمية ، ونفس الأمثلة يمكن تحصيلها من الشبهة الموضوعية ، فتكون : تارةً عالماً تفصيلاً بوقوع قطرة دمٍ في هذا الإناء ، واخرى عالماً إجمالاً بوقوعها في أحد إناءين ، وثالثةً شاكّاً في أصل وقوعها شكّاً بدوياً.

ونحن في حديثنا عن القاعدة العملية الثانوية التي قلّبت القاعدة العملية الأساسية كنّا نتحدّث عن الحالة الثالثة ، أي حالة الشكّ البدويّ الذي لم يقترن بالعلم الإجمالي.

والآن ندرس حالة الشكّ الناتج عن العلم الإجمالي ، أي الشكّ في الحالة الثانية من الحالات الثلاث السابقة ، وهذا يعني أنّنا درسنا الشكّ بصورته الساذجة ،

١٤٦

وندرسه الآن بعد أن نُضيف إليه عنصراً جديداً وهو العلم الإجمالي ، فهل تجري فيه القاعدة العملية الثانوية كما كانت تجري في موارد الشكّ البدويّ ، أوْ لا؟

منجّزية العلم الإجمالي :

وعلى ضوء ما سبق يمكننا تحليل العلم الإجماليّ إلى علمٍ بأحد الأمرين ، وشكٍّ في هذا ، وشكٍّ في ذاك.

ففي يوم الجمعة نعلم بوجوب أحد الأمرين «صلاة الظهر ، أو صلاة الجمعة» ، ونشكّ في وجوب الظهر كما نشكّ في وجوب الجمعة ، والعلم بوجوب أحد الأمرين بوصفه علماً تشمله قاعدة حجّية القطع التي درسناها في بحثٍ سابق (١) ، فلا يسمح لنا العقل لأجل ذلك بترك الأمرين معاً : الظهر والجمعة ؛ لأنّنا لو تركناهما معاً لخالفنا علمنا بوجوب أحد الأمرين ، والعلم حجّة عقلاً في جميع الأحوال ، سواء كان إجمالياً أو تفصيلياً.

ويؤمن الرأي الاصوليّ السائد في مورد العلم الإجمالي لا بثبوت الحجّية للعلم بأحد الأمرين فحسب ، بل بعدم إمكان انتزاع هذه الحجّية منه أيضاً واستحالة ترخيص الشارع في مخالفته بترك الأمرين معاً ، كما لا يمكن للشارع أن ينتزع الحجّية من العلم التفصيليّ ويرخّص في مخالفته ، وفقاً لما تقدم في بحث القطع (٢) من استحالة صدور الردع من الشارع عن القطع.

وأمّا كلّ واحدٍ من طرفي العلم الإجمالي ـ أي وجوب الظهر بمفرده ووجوب الجمعة بمفرده ـ فهو تكليف مشكوك وليس معلوماً.

__________________

(١) تحت عنوان : العنصر المشترك بين النوعين

(٢) تحت عنوان : العنصر المشترك بين النوعين

١٤٧

وقد يبدو لأوّل وهلةٍ أنّ بالإمكان أن تشمله القاعدة العملية الثانوية ، أي أصالة البراءة النافية للاحتياط في التكاليف المشكوكة ؛ لأنّ كلاًّ من الطرفين تكليف مشكوك.

ولكنّ الرأي السائد في علم الاصول يقول بعدم إمكان شمول القاعدة العملية الثانوية لطرف العلم الإجمالي ، بدليل أنّ شمولها لكلا الطرفين معاً يؤدّي إلى براءة الذمّة من الظهر والجمعة وجواز تركهما معاً ، وهذا يتعارض مع حجّية القطع بوجوب أحد الأمرين ؛ لأنّ حجّية هذا القطع تفرض علينا أن نأتي بأحد الأمرين على أقلّ تقدير ، فلو حكم الشارع بالبراءة في كلٍّ من الطرفين لكان معنى ذلك الترخيص منه في مخالفة العلم ، وهو مستحيل كما تقدم.

وشمول القاعدة لأحد الطرفين دون الآخر وإن لم يؤدِّ إلى الترخيص في ترك الأمرين معاً لكنّه غير ممكنٍ أيضاً ؛ لأنّنا نتساءل حينئذٍ : أيّ الطرفين نفترض شمول القاعدة له ونرجِّحه على الآخر؟ وسوف نجد أنَّا لا نملك مبرِّراً لترجيح أيٍّ من الطرفين على الآخر ؛ لأنّ صلة القاعدة بهما واحدة.

وهكذا ينتج عن هذا الاستدلال القول بعدم شمول القاعدة العملية الثانوية «أصالة البراءة» لأيّ واحدٍ من الطرفين ، ويعني هذا : أنّ كلّ طرفٍ من أطراف العلم الإجماليّ يظلّ مندرجاً ضمن نطاق القاعدة العملية الأساسية القائلة بالاحتياط ما دامت القاعدة الثانوية عاجزةً عن شموله.

وعلى هذا الأساس ندرك الفرق بين الشكّ البدويّ والشكّ الناتج عن العلم الإجمالي ، فالأوّل يدخل في نطاق القاعدة الثانوية وهي أصالة البراءة ، والثاني يدخل في نطاق القاعدة الأوّلية وهي أصالة الاحتياط.

وفي ضوء ذلك نعرف أنّ الواجب علينا عقلاً في موارد العلم الإجماليّ هو الإتيان بكلا الطرفين ، أي الظهر والجمعة في المثال السابق ؛ لأنّ كلاًّ منهما داخل في

١٤٨

نطاق أصالة الاحتياط.

ويطلق في علم الاصول على الإتيان بالطرفين معاً اسم «الموافقة القطعية» ؛ لأنّ المكلّف عند إتيانه بهما معاً يقطع بأنّه وافق تكليف المولى ، كما يطلق على ترك الطرفين معاً اسم «المخالفة القطعية».

وأمّا الإتيان بأحدهما وترك الآخر فيطلق عليهما اسم «الموافقة الاحتمالية» و «المخالفة الاحتمالية» ؛ لأنّ المكلّف في هذه الحالة يحتمل أنّه وافق تكليف المولى ، ويحتمل أنّه خالفه.

انحلال العلم الإجمالي :

إذا وجدتَ كأسين من ماءٍ قد يكون كلاهما نجساً وقد يكون أحدهما نجساً فقط ، ولكنّك تعلم على أيّ حالٍ بأ نّهما ليسا طاهرين معاً ، فينشأ في نفسك علم إجماليّ بنجاسة أحد الكأسين لا على سبيل التعيين ، فإذا اتّفق لك بعد ذلك أنِ اكتشفت نجاسةً في أحد الكأسين وعلمت أنّ هذا الكأس المعيّن نجس ، فسوف يزول علمك الإجماليّ بسبب هذا العلم التفصيلي ؛ لأنّك الآن بعد اكتشافك نجاسة ذلك الكأس المعيّن لا تعلم إجمالاً بنجاسة أحد الكأسين لا على سبيل التعيين ، بل تعلم بنجاسة ذلك الكأس المعيّن علماً تفصيلياً وتشكّ في نجاسة الآخر ، لأجل هذا لا تستطيع أن تستعمل الصيغة اللغوية التي تعبّر عن العلم الإجماليّ «إمّا وإمّا» ، فلا يمكنك أن تقول : «إمّا هذا نجس أو ذاك» ، بل هذا نجس جزماً ، وذاك لا تدري بنجاسته.

ويعبّر عن ذلك في العرف الاصوليّ ب «انحلال العلم الإجماليّ إلى العلم التفصيليّ بأحد الطرفين والشكّ البدويّ في الآخر» ؛ لأنّ نجاسة ذلك الكأس المعيّن أصبحت معلومةً بالتفصيل ، ونجاسة الآخر أصبحت مشكوكةً شكّاً ابتدائياً بعد أن

١٤٩

زال العلم الإجمالي ، فيأخذ العلم التفصيليّ مفعوله من الحجّية ، وتجري بالنسبة إلى الشكّ الابتدائيّ أصالة البراءة ، أي القاعدة العملية الثانوية التي تجري في جميع موارد الشكّ الابتدائي.

موارد التردّد :

عرفنا أنّ الشكّ إذا كان بدوياً حكمت فيه القاعدة العملية الثانوية القائلة بأصالة البراءة ، وإذا كان مقترناً بالعلم الإجماليّ حكمت فيه القاعدة العملية الأوّلية.

وقد يخفى أحياناً نوع الشكّ فلا يعلم أهو من الشكّ الابتدائي ، أو من الشكّ المقترن بالعلم الإجمالي ـ أو الناتج عنه بتعبيرٍ آخر ـ ومن هذا القبيل مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر كما يسمّيها الاصوليّون.

وهي : أن يتعلّق وجوب شرعيّ بعمليةٍ مركّبةٍ من أجزاءٍ كالصلاة ، ونعلم باشتمال العملية على تسعة أجزاءٍ معيّنةٍ ونشكّ في اشتمالها على جزءٍ عاشرٍ ولا يوجد دليل يثبت أو ينفي ، ففي هذه الحالة يحاول الفقيه أن يحدّد الموقف العملي ، فيتساءل : هل يجب الاحتياط على المكلّف فيأتي بالتسعة ويضيف إليها هذا العاشر الذي يحتمل دخوله في نطاق الواجب ، لكي يكون مؤدّياً للواجب على كلّ تقدير ، أو يكفيه الإتيان بالتسعة التي يعلم بوجوبها ولا يطالب بالعاشر المجهول وجوبه؟

وللُاصوليِّين جوابان مختلفان على هذا السؤال يمثّل كلّ منهما اتّجاهاً في تفسير الموقف.

فأحد الاتّجاهين يقول بوجوب الاحتياط تطبيقاً للقاعدة العملية الأوّلية ؛ لأنّ الشكّ في العاشر مقترن بالعلم الإجمالي ، وهذا العلم الإجماليّ هو علم المكلّف بأنّ الشارع أوجب مركّباً مّا ، ولا يدري أهو المركّب من تسعةٍ ، أو المركّب من عشرة ، أي من تلك التسعة بإضافة واحد؟

١٥٠

والاتّجاه الآخر يطبِّق على الشكّ في وجوب العاشر القاعدة العملية الثانوية بوصفه شكّاً ابتدائياً غير مقترنٍ بالعلم الإجمالي ؛ لأنّ ذلك العلم الإجماليّ الذي يزعمه أصحاب الاتّجاه الأوّل منحلّ بعلمٍ تفصيلي ، وهو علم المكلّف بوجوب التسعة على أيّ حال ؛ لأنّها واجبة ، سواء كان معها جزء عاشر أوْ لا ، فهذا العلم التفصيليّ يؤديّ إلى انحلال ذلك العلم الإجمالي ، ولهذا لا يمكن أن نستعمل الصيغة اللغوية التي تعبِّر عن العلم الإجمالي ، فلا يمكن القول بأ نَّا نعلم : إمّا بوجوب التسعة ، أو بوجوب العشرة ، بل نحن نعلم بوجوب التسعة على أيِّ حالٍ ونشكّ في وجوب العاشر.

وهكذا يصبح الشكّ في وجوب العاشر شكّاًابتدائياً بعد انحلال العلم الإجمالي ، فتجري البراءة.

والصحيح : هو القول بالبراءة عن غير الأجزاء المعلومة من الأشياء التي يشكّ في دخولها ضمن نطاق الواجب ، كما ذكرناه.

١٥١

ـ ٤ ـ

الاستصحاب

على ضوء ما سبق نعرف أنّ أصل البراءة يجري في موارد الشبهة البدوية دون الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي.

ويوجد في الشريعة أصل آخر نظير أصل البراءة ، وهو ما يطلق عليه الاصوليون اسم «الاستصحاب».

ومعنى الاستصحاب : حكم الشارع على المكلّف بالالتزام عملياً بكلّ شيءٍ كان على يقينٍ منه ثمّ شكّ في بقائه.

ومثاله : أنّا على يقينٍ من أنّ الماء بطبيعته طاهر ، فإذا أصابه شيء متنجِّس نشكّ في بقاء طهارته ؛ لأنّنا لا نعلم أنّ الماء هل يتنجّس بإصابة المتنجِّس له ، أوْ لا؟

والاستصحاب يحكم على المكلّف بالالتزام عملياً بنفس الحالة السابقة التي كان على يقينٍ بها ، وهي طهارة الماء في المثال المتقدم. ومعنى الالتزام عملياً بالحالة السابقة : ترتيب آثار الحالة السابقة من الناحية العملية ، فإذا كانت الحالة السابقة هي الطهارة نتصرّف فعلاً كما إذا كانت الطهارة باقية ، وإذا كانت الحالة السابقة هي الوجوب نتصرّف فعلاً كما إذا كان الوجوب باقياً ، وهكذا.

والدليل على الاستصحاب هو قول الإمام الصادق عليه‌السلام في صحيحة زرارة : «ولا ينقض اليقين [أبداً] (١) بالشكّ» (٢).

__________________

(١) أثبتنا هذه الكلمة طبقاً لما في المصدر

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٨ ، باب الأحداث الموجبة للطهارة ، الحديث ١١

١٥٢

ونستخلص من ذلك : أنّ كلّ حالةٍ من الشكّ البدويّ يتوفّر فيها القطع بشيءٍ أوّلاً والشكّ في بقائه ثانياً يجري فيها الاستصحاب.

الحالة السابقة المتيقّنة :

عرفنا أنّ وجود حالةٍ سابقةٍ متيقّنةٍ شرط أساسيّ لجريان الاستصحاب ، والحالة السابقة قد تكون حكماً عامّاً نعلم بجعل الشارع له وثبوته في العالم التشريعيّ ؛ ولا ندري حدود هذا الحكم المفروضة له في جعله ، ومدى امتداده في عالمه التشريعي ، فتكون الشبهة حكمية ، ويجري الاستصحاب في نفس الحكم ، كاستصحاب بقاء طهارة الماء بعد إصابة المتنجِّس له ، ويسمّى ب «الاستصحاب الحكمي».

وقد تكون الحالة السابقة شيئاً من أشياء العالم التكوينيّ نعلم بوجوده سابقاً ، ولا ندري باستمراره وهو موضوع للحكم الشرعي ، فتكون الشبهة موضوعيةً ويجري الاستصحاب في موضوع الحكم. ومثاله : استصحاب عدالة الإمام الذي يشكّ في طروء فسقه ، واستصحاب نجاسة الثوب الذي يشكّ في طروء المطهِّر عليه ، ويسمّى ب «الاستصحاب الموضوعي» ؛ لأنّه استصحاب موضوعٍ لحكمٍ شرعي ، وهو جواز الائتمام في الأوّل ، وعدم جواز الصلاة في الثاني.

ويوجد في علم الاصول اتّجاه ينكر جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية ويخصّه بالشبهة الموضوعية ، ولا شكّ في أنّ الاستصحاب في الشبهة الموضوعية هو المتيقّن من دليله ؛ لأنّ صحيحة زرارة التي ورد فيها إعطاء الإمام للاستصحاب تتضمّن شبهةً موضوعيةً وهي الشك في طروء النوم الناقض ، ولكنّ هذا لايمنع عن التمسّك بإطلاق كلام الإمام في قوله : «ولا ينقض اليقين [أبداً] بالشكّ» لإثبات عموم القاعدة لجميع الحالات ، فعلى مدّعي الاختصاص أن

١٥٣

يبرز قرينةً على تقييد هذا الإطلاق.

الشكّ في البقاء :

والشكّ في البقاء هو الشرط الأساسيّ الآخر لجريان الاستصحاب. ويقسّم الاصوليّون الشكّ في البقاء إلى قسمين تبعاً لطبيعة الحالة السابقة التي نشكّ في بقائها ؛ لأنّ الحالة السابقة قد تكون قابلةً بطبيعتها للامتداد زمانياً ، وإنّما نشكّ في بقائها نتيجةً لاحتمال وجود عاملٍ خارجيٍّ أدّى إلى ارتفاعها.

ومثال ذلك : طهارة الماء ، فإنّ طهارة الماء تستمرّ بطبيعتها وتمتدّ إذا لم يتدخّل عامل خارجي ، وإنّما نشكّ في بقائها لدخول عاملٍ خارجيٍّ في الموقف ، وهو إصابة المتنجِّس للماء.

وكذلك نجاسة الثوب ، فإنّ الثوب إذا تنجّس تبقى نجاسته وتمتدّ ما لم يوجد عامل خارجيّ وهو الغسل ، ويسمّى الشكّ في بقاء الحالة السابقة التي من هذا القبيل ب «الشكّ في الرافع».

وقد تكون الحالة السابقة غير قادرةٍ على الامتداد زمانياً ، بل تنتهي بطبيعتها في وقتٍ معيّنٍ ونشكّ في بقائها نتيجةً لاحتمال انتهائها بطبيعتها دون تدخّل عاملٍ خارجيٍّ في الموقف.

ومثاله : نهار شهر رمضان الذي يجب فيه الصوم إذا شكّ الصائم في بقاء النهار ، فإنّ النهار ينتهي بطبيعته ولا يمكن أن يمتدَّ زمانياً ، فالشكّ في بقائه لا ينتج عن احتمال وجود عاملٍ خارجي ، وإنّما هو نتيجة لاحتمال انتهاء النهار بطبيعته واستنفاده لطاقته وقدرته على البقاء. ويسمّى الشكّ في بقاء الحالة السابقة التي من هذا القبيل ب «الشكّ في المقتضي» ؛ لأنّ الشكّ في مدى اقتضاء النهار واستعداده للبقاء.

١٥٤

ويوجد في علم الاصول اتّجاه ينكر جريان الاستصحاب إذا كان الشكّ في بقاء الحالة السابقة من نوع الشكّ في المقتضي ، ويخصّه بحالات الشكّ في الرافع (١). والصحيح : عدم الاختصاص تمسّكاً بإطلاق دليل الاستصحاب.

وحدة الموضوع في الاستصحاب :

ويتّفق الاصوليّون على أنّ من شروط الاستصحاب وحدة الموضوع ، ويعنون بذلك أن يكون الشكّ منصبّاً على نفس الحالة التي كنّا على يقينٍ بها ، فلا يجري الاستصحاب إذا كان المشكوك والمتيقَّن متغايرين.

مثلاً : إذا كنّا على يقينٍ بنجاسة الماء ؛ ثمّ صار بخاراً وشككنا في نجاسة هذا البخار لم يجرِ هذا الاستصحاب ؛ لأنّ ما كنّا على يقينٍ بنجاسته هو الماءُ ، وما نشكّ فعلاً في نجاسته هو البخار ؛ والبخار غير الماء فلم يكن مصبّ اليقين والشكّ واحداً.

__________________

(١) ذهب الى ذلك الشيخ الأنصاري (فرائد الاصول ٣ : ٥١) والميرزا النائيني (أجود التقريرات ٢ : ٣٧٨)

١٥٥
١٥٦

تعارض الأدلّة

١ ـ التعارض بين الأدلّة المحرزة.

٢ ـ التعارض بين الاصول.

٣ ـ التعارض بين النوعين.

١٥٧
١٥٨

عرفنا في ما سبق أنّ الأدلّة على قسمين ، وهما : الأدلّة المحرزة ، والاصول العملية ، ومن هنا يقع البحث : تارةً في التعارض بين دليلين من الأدلّة المحرزة ، واخرى في التعارض بين أصلين عمليَّين ، وثالثةً في التعارض بين دليلٍ محرزٍ وأصلٍ عملي ، فالكلام في ثلاث نقاطٍ نذكرها في ما يلي تباعاً إن شاء الله تعالى.

١ ـ التعارض بين الأدلّة المحرزة

والتعارض بين دليلين محرزين معناه التنافي بين مدلوليهما ، وهو على أقسام :

منها : أن يحصل في نطاق الدليل الشرعيّ اللفظيّ بين كلامين صادرين من المعصوم.

ومنها : أن يحصل بين دليلٍ شرعيٍّ لفظيٍّ ودليلٍ عقلي.

ومنها : أن يحصل بين دليلين عقليَّين.

حالة التعارض بين دليلين لفظيَّين :

في حالة التعارض بين دليلين لفظيّين توجد قواعد ، نستعرض في ما يلي عدداً منها :

١ ـ من المستحيل أن يوجد كلامان للمعصوم يكشف كلّ منهما بصورةٍ قطعيةٍ عن نوعٍ من الحكم يختلف عن الحكم الذي يكشف عنه الكلام الآخر ؛ لأنّ التعارض بين كلامين صريحين من هذا القبيل يؤدّي إلى وقوع المعصوم في التناقض ،

١٥٩

وهو مستحيل.

٢ ـ قد يكون أحد الكلامين الصادرين من المعصوم نصّاً صريحاً وقطعياً ، ويدلّ الآخر بظهوره على ما ينافي المعنى الصريح لذلك الكلام.

ومثاله : أن يقول الشارع في حديثٍ مثلاً : «يجوز للصائم أن يرتمس في الماء حال صومه» ، ويقول في حديثٍ آخر : «لا ترتمس في الماء وأنت صائم» ، فالكلام الأوّل دالّ بصراحةٍ على إباحة الارتماس للصائم ، والكلام الثاني يشتمل على صيغة نهي ، وهي تدلّ بظهورها على الحرمة ؛ لأنّ الحرمة هي أقرب المعاني إلى صيغة النهي وإن أمكن استعمالها في الكراهة مجازاً ، فينشأ التعارض بين صراحة النصّ الأوّل في الإباحة وظهور النصّ الثاني في الحرمة ؛ لأنّ الإباحة والحرمة لا يجتمعان. وفي هذه الحالة يجب الأخذ بالكلام الصريح القطعي ؛ لأنّه يؤدّي إلى العلم بالحكم الشرعي ، فنفسّر الكلام الآخر على ضوئه ونحمل صيغة النهي فيه على الكراهة ؛ لكي ينسجم مع النصّ الصريح القطعيّ الدالّ على الإباحة.

وعلى هذا الأساس يتّبع الفقيه في استنباطه قاعدةً عامّة ، وهي : الأخذ بدليل الإباحة والرخصة إذا عارضه دليل آخر يدلّ على الحرمة أو الوجوب بصيغة نهيٍ أو أمر ؛ لأنّ الصيغة ليست صريحة ، ودليل الإباحة والرخصة صريح غالباً.

٣ ـ قد يكون موضوع الحكم الذي يدلّ عليه أحد الكلامين أضيقَ نطاقاً وأخصَّ دائرةً من موضوع الحكم الذي يدلّ عليه الكلام الآخر. ومثاله : أن يقال في نصٍّ : «الربا حرام» ، ويقال في نصٍّ آخر : «الربا بين الوالد وولده مباح» ، فالحرمة التي يدلّ عليها النصّ الأوّل موضوعها عامّ ؛ لأنّها تمنع بإطلاقها عن التعامل الربويّ مع أيّ شخص ، والإباحة في النصّ الثاني موضوعها خاصّ ؛ لأنّها تسمح بالربا بين الوالد وولده خاصّة ، وفي هذه الحالة تقدّم النصّ الثاني على الأوّل ؛ لأ نّه يعتبر بوصفه أخصَّ موضوعاً من الأوّل قرينةً عليه ، بدليل أنّ المتكلِّم لو

١٦٠