دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

الاستنباط ، وفي ما يلي نماذج من هذه العلاقات :

تقسيم البحث :

توجد في العالم التشريعيّ أقسام من العلاقات : فهناك قسم من العلاقات قائم بين نفس الأحكام ـ أي بين حكمٍ شرعيٍّ وحكمٍ شرعيٍّ آخر ـ وقسم ثانٍ من العلاقات قائم بين الحكم وموضوعه ، وقسم ثالث بين الحكم ومتعلّقه ، وقسم رابع بين الحكم ومقدماته ، وقسم خامس وهو العلاقات القائمة في داخل الحكم الواحد ، وقسم سادس وهو العلاقات القائمة بين الحكم وأشياء اخرى خارجةٍ عن نطاق العالم التشريعي.

وسوف نتحدّث عن نماذج لأكثر هذه الأقسام (١) في ما يلي :

__________________

(١) أي لغير القسم السادس ، وأ مّا القسم السادس فنريد به ما كان من قبيل علاقة التلازم بين الحكم العقلي والحكم الشرعي المقرّر في المبدأ القائل : «كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع» فانّ هذه العلاقة تقوم بين الحكم الشرعي وشيء خارج عن نطاق العالم التشريعي ، وهو حكم العقل. وقد أجّلنا دراسة ذلك إلى الحلقات المقبلة. المؤلف قدس‌سره

١٢١

العلاقات القائمة بين نفس الأحكام

علاقة التضادّ بين الوجوب والحرمة :

من المعترف به في علم الاصول أنّه ليس من المستحيل أن يأتي المكلّف بفعلين في وقتٍ واحدٍ أحدهما واجب والآخر حرام ، فيعتبر مطيعاً من ناحية إتيانه بالواجب وجديراً بالثواب ، ويعتبر عاصياً من ناحية إتيانه للحرام ومستحقّاً للعقاب.

ومثاله : أن يشرب الماءَ النجسَ ويدفع الزكاة إلى الفقير في وقتٍ واحد.

وأمّا الفعل الواحد فلا يمكن أن يتّصف بالوجوب والحرمة معاً ؛ لأنّ العلاقة بين الوجوب والحرمة هي علاقة تضادٍّ ولا يمكن اجتماعهما في فعلٍ واحد ، كما لا يمكن أن يجتمع السواد والبياض في جسمٍ واحد ، فدفع الزكاة إلى الفقير لا يمكن أن يكون ـ وهو واجب ـ حراماً في نفس الوقت ، وشرب النجس لا يمكن أن يكون ـ وهو حرام ـ واجباً في نفس الوقت.

وهكذا يتّضح :

أولاً : أنّ الفعلين المتعدّدين ـ كدفع الزكاة وشرب النجس ـ يمكن أن يتّصف أحدهما بالوجوب والآخر بالحرمة ، ولو أوجدهما المكلّف في زمانٍ واحد.

وثانياً : أنّ الفعل الواحد لا يمكن أن يتّصف بالوجوب والحرمة معاً.

والنقطة الرئيسية في هذا البحث عند الاصوليين هي : أنّ الفعل قد يكون واحداً بالذات والوجود ، ومتعدّداً بالوصف والعنوان ، وعندئذٍ فهل يلحق بالفعل الواحد لأنّه واحد وجوداً وذاتاً ، أو يلحق بالفعلين ؛ لأنّه متعدّد بالوصف والعنوان؟

ومثاله : أن يتوضّأ المكلّف بماءٍ مغصوب ، فإنّ هذه العملية التي يؤدّيها إذا

١٢٢

لوحظت من ناحية وجودها فهي شيء واحد ، وإذا لوحظت من ناحيةِ أوصافها فهي توصف بوصفين ، إذ يقال عن العملية : إنّها وضوء ، ويقال عنها في نفس الوقت : إنّها غصب وتصرُّف في مال الغير بدون إذنه ، وكلّ من الوصفين يسمّى «عنواناً» ، ولأجل ذلك تعتبر العملية في هذا المثال واحدةً ذاتاً ووجوداً ، ومتعدّدةً وصفاً وعنواناً.

وفي هذه النقطة قولان للُاصوليِّين :

أحدهما : أنّ هذه العملية ما دامت متعدّدةً بالوصف والعنوان تلحق بالفعلين المتعدّدين ، فكما يمكن أن يتّصف دفع الزكاة للفقير بالوجوب وشرب الماء النجس بالحرمة ، كذلك يمكن أن يكون أحد وصفي العملية وعنوانيها واجباً وهو عنوان الوضوء ، والوصف الآخر حراماً وهو عنوان الغصب. وهذا القول يطلق عليه اسم «القول بجواز اجتماع الأمر والنهي» (١).

والقول الآخر : يؤكّد على إلحاق العملية بالفعل الواحد على أساس وحدتها الوجودية ، ولا يبرِّر مجرّد تعدّد الوصف والعنوان عنده تعلّق الوجوب والحرمة معاً بالعملية ، وهذا القول يطلق عليه اسم «القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي» (٢).

وهكذا اتّجه البحث الاصوليّ إلى دراسة تعدّد الوصف والعنوان من ناحية أنّه هل يبرّر اجتماع الوجوب والحرمة معاً في عملية الوضوء بالماء المغصوب ، أو أنّ العملية ما دامت واحدةً وجوداً وذاتاً فلا يمكن أن توصف بالوجوب والحرمة في وقتٍ واحد؟

فقد يقال : إنّ الأحكام باعتبارها أشياء تقوم في نفس الحاكم إنّما تتعلّق

__________________

(١) ذهب الى هذا القول المحقق النائيني راجع فوائد الاصول ٢ : ٣٩٨

(٢) نسب المحقق الخراساني هذا القول الى المشهور واختاره هو أيضاً (كفاية الاصول : ١٩٣)

١٢٣

بالعناوين والصور الذهنية ، لا بالواقع الخارجي مباشرةً ، فيكفي التعدّد في العناوين والصور لارتفاع المحذور ، وهذا معناه جواز اجتماع الأمر والنهي.

وقد يقال : إنّ الأحكام وإن كانت تتعلّق بالعناوين والصور الذهنية ولكنّها لا تتعلّق بها بما هي صور ذهنية ، إذ من الواضح أنّ المولى لا يريد الصورة ، وإنّما تتعلّق الأحكام بالصور بما هي معبّرة عن الواقع الخارجيّ ومرآة له ، وحيث إنّ الواقع الخارجيّ واحد فيستحيل أن يجتمع عليه الوجوب والحرمة ولو بتوسّط عنوانين وصورتين.

وعلى هذا الأساس يقال : إنّ تعدّد العناوين إن كان ناتجاً عن تعدّد الواقع الخارجيّ وكاشفاً عن تكثّر الوجود جاز أن يتعلّق الأمر بأحدهما والنهي بالآخر ، وإن كان مجرّد تعددٍ في عالم العناوين والصور الذي هو الذهن فلا يسوغ ذلك.

هل تستلزم الحرمة البطلان؟

إنّ صحّة العقد معناها : أن يترتّب عليه أثره الذي اتّفق عليه المتعاقدان ، ففي عقد البيع يعتبر البيع صحيحاً ونافذاً إذا ترتّب عليه نقل ملكية السلعة من البائع إلى المشتري ، ونقل ملكية الثمن من المشتري إلى البائع ، ويعتبر فاسداً وباطلاً إذا لم يترتّب عليه ذلك.

وبديهيّ أنّ العقد لا يمكن أن يكون صحيحاً وباطلاً في وقتٍ واحد ، فإنّ الصحّة والبطلان متضادّان كالتضادّ بين الوجوب والحرمة.

والسؤال هو : هل يمكن أن يكون العقد صحيحاً وحراماً؟

ونجيب على ذلك بالإيجاب ، إذ لا تضادّ بين الصحة والحرمة ، ولا تلازم بين الحرمة والفساد ؛ لأنّ معنى تحريم العقد منع المكلف من إيجاد البيع ، ومعنى صحّته أنّ المكلّف إذا خالف هذا المنع والتحريم وباع ترتّب الأثر على بيعه وانتقلت الملكية من

١٢٤

البائع إلى المشتري ، ولا تنافي بين أن يكون إيجاد المكلّف للبيع مبغوضاً للشارع وممنوعاً عنه وأن يترتّب عليه الأثر في حالة صدوره من المكلّف ، كالظهار فإنّه ممنوع شرعاً ولكن لو وقع لترتّب عليه أثره.

ومثال ذلك في حياتنا الاعتيادية : أنّك قد لا تريد أن يزورك فلان وتبغض ذلك أشدّ البغض ، ولكن إذا اتّفق وزارك ترى لزاماً عليك أن ترتّب الأثر على زيارته وتقوم بضيافته.

وهكذا نعرف أنّ النهي عن المعاملة ـ أي عقد البيع ونحوه ـ لا يستلزم فسادها ، بل يتّفق مع الحكم بصحة العقد في نفس الوقت ، خلافاً لعددٍ من الاصوليّين (١) القائلين بأنّ النهي عن المعاملة يقتضي بطلانها.

وكما يتعلّق التحريم بالعقد والمعاملة كذلك قد يتعلّق بالعبادة ، كتحريم صوم يوم العيد ، أو صلاة الحائض مثلاً ، وهذا التحريم يقتضي بطلان العبادة خلافاً للتحريم في المعاملة ؛ وذلك لأنّ العبادة لا تقع صحيحةً إلاّإذا أتى بها المكلّف على وجهٍ قربي ، وبعد أن تصبح محرَّمةً لا يمكن قصد التقرّب بها ؛ لأنّ التقرّب بالمبغوض وبالمعصية غير ممكنٍ فتقع باطلة.

__________________

(١) كالشهيد الأول في القواعد والفوائد ١ : ١٩٩ ، قاعدة [٥٧]. والفاضل التوني في الوافية : ١٠١

١٢٥

العلاقات القائمة بين الحكم وموضوعه

الجعل والفعلية :

حين حكمت الشريعة بوجوب الحجّ على المستطيع وجاء قوله تعالى : (وللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إليْهِ سَبيلاً) (١) أصبح الحجّ من الواجبات في الإسلام ، وأصبح وجوبه حكماً ثابتاً في الشريعة. ولكن إذا افترضنا أنّ المسلمينَ وقتئذٍ لم يكن فيهم شخص مستطيع تتوفّر فيه خصائص الاستطاعة شرعاً فلا يتوجّه وجوب الحجّ إلى أيّ فردٍ من أفراد المسلمين ؛ لأنّهم ليسوا مستطيعين ، والحجّ إنّما يجب على المستطيع ، أي أنّ وجوب الحجّ لا يثبت في هذه الحالة لأيِّ فردٍ بالرغم من كونه حكماً ثابتاً في الشريعة ، فإذا أصبح أحد الأفراد مستطيعاً اتّجه الوجوب نحوه وأصبح ثابتاً بالنسبة إليه.

وعلى هذا الضوء نلاحظ أنّ للحكم ثبوتين : أحدهما ثبوت الحكم في الشريعة ، والآخر ثبوته بالنسبة إلى هذا الفرد أو ذاك.

فحين حكم الإسلام بوجوب الحجّ على المستطيع في الآية الكريمة ثبت هذا الحكم في الشريعة ولو لم يكن يوجد مستطيع وقتئذٍ إطلاقاً ، بمعنى أنّ شخصاً لو سأل في ذلك الوقت ما هي أحكام الشريعة؟ لذكرنا من بينها وجوب الحجّ على المستطيع ، سواء كان في المسلمين مستطيع فعلاً أوْ لا ، وبعد أن يصبح هذا الفرد أو ذاك مستطيعاً يثبت الوجوب عليه.

ونعرف على هذا الأساس أنّ الحكم بوجوب الحجّ على المستطيع لا يتوقّف

__________________

(١) آل عمران : ٩٧

١٢٦

ثبوته في الشريعة بوصفه حكماً شرعياً إلاّعلى تشريعه ، وجعله من قبل الله تعالى ، سواء كانت [الاستطاعة] متوفِّرةً في المسلمين فعلاً أوْ لا.

وأمّا ثبوت وجوب الحجّ على هذا المكلّف أو ذاك فيتوقّف ـ إضافةً إلى تشريع الله للحكم وجعله له ـ على توفّر خصائص الاستطاعة في المكلّف. والثبوت الأوّل للحكم ـ أي ثبوته في الشريعة ـ يسمّى بالجعل «جعل الحكم». والثبوت الثاني للحكم ـ أي ثبوته على هذا المكلّف بالذات أو ذاك ـ يسمّى بالفعلية «فعلية الحكم» ، أو المجعول ، فجعل الحكم معناه تشريعه من قبل الله ، وفعلية الحكم معناها ثبوته فعلاً لهذا المكلّف أو ذاك.

موضوع الحكم :

وموضوع الحكم مصطلح اصوليّ نريد به مجموع الأشياء التي تتوقّف عليها فعلية الحكم المجعول بمعناها الذي شرحناه ، ففي مثال وجوب الحجّ يكون وجود المكلّف المستطيع موضوعاً لهذا الوجوب ؛ لأنّ فعلية هذا الوجوب تتوقّف على وجود مكلّفٍ مستطيع.

ومثال آخر : حكمت الشريعة بوجوب الصوم على كلّ مكلّفٍ غير مسافرٍ ولا مريضٍ إذا هلَّ عليه هلال شهر رمضان ، وهذا الحكم يتوقّف ثبوته الأوّل على جعله شرعاً ، ويتوقّف ثبوته الثاني ـ أي فعليّته ـ على وجود موضوعه ، أي وجود مكلّفٍ غير مسافرٍ ولا مريضٍ وهلَّ عليه هلال شهر رمضان ، فالمكلّف وعدم السفر وعدم المرض وهلال شهر رمضان هي العناصر التي تكوّن الموضوع الكامل للحكم بوجوب الصوم.

وإذا عرفنا معنى موضوع الحكم استطعنا أن ندرك أنّ العلاقة بين الحكم والموضوع تشابه ببعض الاعتبارات العلاقة بين المسبَّب وسببه كالحرارة والنار ،

١٢٧

فكما أنّ المسبَّب يتوقّف على سببه ، كذلك الحكم يتوقّف على موضوعه ؛ لأنّه يستمد فعليّته من وجود الموضوع ، وهذا معنى العبارة الاصولية القائلة : «إنّ فعليّة الحكم تتوقّف على فعليّة موضوعه» ، أي أنّ وجود الحكم فعلاً يتوقّف على وجود موضوعه فعلاً.

وبحكم هذه العلاقة بين الحكم والموضوع يكون الحكم متأخّراً رتبةً عن الموضوع ، كما يتأخّر كلّ مسبَّبٍ عن سببه في الرتبة.

وتوجد في علم الاصول قضايا تُستنتج من هذه العلاقة وتصلح للاشتراك في عمليات الاستنباط.

فمن ذلك : أنّه لا يمكن أن يكون موضوع الحكم أمراً مسبَّباً عن الحكم نفسه ، ومثاله : العلم بالحكم فإنّه مسبّب عن الحكم ؛ لأنّ العلم بالشيء فرع الشيء المعلوم ، ولهذا يمتنع أن يكون العلم بالحكم موضوعاً لنفسه ، بأن يقول الشارع : أحكم بهذا الحكم على مَن يعلم بثبوته له ؛ لأنّ ذلك يؤدّي إلى الدور.

١٢٨

العلاقات القائمة بين الحكم ومتعلّقه

عرفنا أنّ وجوب الصوم ـ مثلاً ـ موضوعه مؤلّف من عدّة عناصر تتوقّف عليها فعليّة الوجوب ، فلا يكون الوجوب فعليّاً وثابتاً إلاّإذا وجد مكلّف غير مسافرٍ ولا مريضٍ وهَلَّ عليه هلال شهر رمضان ، وأمّا متعلّق هذا الوجوب فهو الفعل الذي يؤدّيه المكلّف نتيجةً لتوجّه الوجوب إليه ، وهو الصوم في هذا المثال.

وعلى هذا الضوء نستطيع أن نميِّز بين متعلّق الوجوب وموضوعه ، فإنّ المتعلّق يوجد بسبب الوجوب ، فالمكلّف إنّما يصوم لأجل وجوب الصوم عليه ، بينما يوجد الحكم نفسه بسبب الموضوع ، فوجوب الصوم لا يصبح فعلياً إلاّإذا وجد مكلّف غير مريضٍ ولا مسافرٍ وهَلَّ عليه الهلال.

وهكذا نجد أنّ وجود الحكم يتوقّف على وجود الموضوع ، بينما يكون سبباً لإيجاد المتعلّق وداعياً للمكلّف نحوه.

وعلى هذا الأساس نعرف أنّ من المستحيل أن يكون الوجوب داعياً إلى إيجاد موضوعه ومحرّكاً للمكلّف نحوه كما يدعو إلى إيجاد متعلّقه ، فوجوب الصوم على كلّ مكلّفٍ غير مسافرٍ ولا مريضٍ لا يمكن أن يفرض على المكلّف أن لا يسافر ، وإنّما يفرض عليه أن يصوم إذا لم يكن مسافراً ، ووجوب الحجّ على المستطيع لا يمكن أن يفرض على المكلّف أن يكتسب ليحصل على الاستطاعة ، وإنّما يفرض الحجّ على المستطيع ؛ لأنّ الحكم لا يوجد إلاّبعد وجود موضوعه ، فقبل وجود الموضوع لا وجود للحكم لكي يكون داعياً إلى إيجاد موضوعه.

١٢٩

ولأجل ذلك وضعت في علم الاصول القاعدة القائلة : «إنّ كلّ حكمٍ يستحيل أن يكون محرِّكاً نحو أيِّ عنصرٍ من العناصر الدخيلة في تكوين موضوعه ، بل يقتصر تأثيره وتحريكه على نطاق المتعلّق».

١٣٠

العلاقات القائمة بين الحكم والمقدِّمات

المقدِّمات التي يتوقّف عليها وجود الواجب على قسمين :

أحدهما : المقدِّمات التي يتوقّف عليها وجود المتعلّق ، من قبيل السفر الذي يتوقّف أداءُ الحجّ عليه ، أو الوضوء الذي تتوقّف الصلاة عليه ، أو التسلّح الذي يتوقّف الجهاد عليه.

والآخر : المقدِّمات التي تدخل في تكوين موضوع الوجوب ، من قبيل نيّة الإقامة التي يتوقّف عليها صوم شهر رمضان ، والاستطاعة التي تتوقّف عليها حجّة الاسلام.

والفارق بين هذين القسمين : أنّ المقدمة التي تدخل في تكوين موضوع الوجوب يتوقّف على وجودها الوجوب نفسه ؛ لِمَا شرحناه سابقاً من أنّ الحكم الشرعيّ يتوقّف وجوده على وجود موضوعه ، فكلّ مقدمةٍ دخيلة في تحقّق موضوع الحكم يتوقّف عليها الحكم ولا يوجد بدونها ، خلافاً للمقدِّمات التي لا تدخل في تكوين الموضوع وإنّما يتوقّف عليها وجود المتعلّق فحسب ، فإنّ الحكم يوجد قبل وجودها ؛ لأنّها لا تدخل في موضوعه.

ولنوضّح ذلك في مثال الاستطاعة والوضوء : فالاستطاعة مقدمة تتوقّف عليها حجَّة الإسلام ، والتكسّب مقدمة للاستطاعة ، وذهاب الشخص إلى محلّه في السوق مقدمة للتكسّب ، وحيث إنّ الاستطاعة تدخل في تكوين موضوع وجوب الحجّ فلا وجوب للحجّ قبل الاستطاعة وقبل تلك الامور التي تتوقّف عليها الاستطاعة.

وأمّا الوضوء فلا يدخل في تكوين موضوع وجوب الصلاة ؛ لأنّ وجوب

١٣١

الصلاة لا ينتظر أن يتوضّأ الإنسان لكي يتّجه إليه ، بل يتّجه إليه قبل ذلك ، وإنّما يتوقّف متعلّق الوجوب ـ أي الصلاة ـ على الوضوء ، ويتوقّف الوضوء على تحضير الماء الكافي ، ويتوقّف تحضير هذا الماء على فتح خزّان الماء مثلاً. فهناك إذن سلسلتان من المقدّمات :

الاولى : سلسلة مقدّمات المتعلّق ، أي الوضوء الذي تتوقّف عليه الصلاة ، وتحضير الماء الذي يتوقّف عليه الوضوء ، وفتح الخزّان الذي يتوقّف عليه تحضير الماء.

والثانية : سلسلة مقدّمات الوجوب ، وهي : الاستطاعة التي تدخل في تكوين موضوع وجوب الحجّ والتكسّب الذي تتوقّف عليه الاستطاعة ، وذهاب الشخص إلى محلّه في السوق الذي يتوقّف عليه التكسّب.

وموقف الوجوب من هذه السلسلة الثانية وكلّ ما يندرج في القسم الثاني من المقدّمات سلبيّ دائماً ؛ لأنّ هذا القسم يتوقّف عليه وجود موضوع الحكم ، وقد عرفنا سابقاً أنّ الوجوب لا يمكن أن يدعو إلى موضوعه. وتسمّى كلّ مقدمةٍ من هذا القسم «مقدّمة وجوب» ، أو «مقدمة وجوبية».

وأمّا السلسلة الاولى والمقدّمات التي تندرج في القسم الأوّل فالمكلّف مسؤول عن إيجادها ، أي أنّ المكلّف بالصلاة ـ مثلاً ـ مسؤول عن الوضوء لكي يصلّي ، والمكلَّف بالحجّ مسؤول عن السفر لكي يحجّ ، والمكلّف بالجهاد مسؤول عن التسلّح لكي يجاهد.

والنقطة التي درسها الاصوليّون هي نوع هذه المسؤولية ، فقد قدّموا لها تفسيرين :

أحدهما : أنّ الواجب شرعاً على المكلّف هو الصلاة فحسب ، دون مقدّماتها من الوضوء ومقدّماته ، وإنّما يجد المكلّف نفسه مسؤولاً عن إيجاد الوضوء وغيره من

١٣٢

المقدّمات عقلاً ؛ لأنّه يرى أنّ امتثال الواجب الشرعيّ لا يتأتى له إلاّبإيجاد تلك المقدمات (١).

والآخر : أنّ الوضوء واجب شرعاً ؛ لأنّه مقدمة للواجب ، ومقدمة الواجب واجبة شرعاً ، فهناك إذن واجبان شرعيّان على المكلّف : أحدهما الصلاة ، والآخر الوضوء بوصفه مقدمة الصلاة. ويسمّى الأوّل ب «الواجب النفسي» ؛ لأنّه واجب لأجل نفسه. ويسمّى الثاني ب «الواجب الغيري» ؛ لأنّه واجب لأجل غيره ، أي لأجل ذي المقدمة وهو الصلاة.

وهذا التفسير أخذ به جماعة من الاصوليّين (٢) إيماناً منهم بقيام علاقة تلازمٍ بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، فكلّما حكم الشارع بوجوب فعلٍ حكم عقيب ذلك مباشرةً بوجوب مقدماته.

ويمكن الاعتراض على ذلك : بأنّ حكم الشارع بوجوب المقدمة في هذه الحالة لا فائدة فيه ولا موجب له ؛ لأنّه : إن أراد به إلزام المكلّف بالمقدمة فهذا حاصل بدون حاجةٍ إلى حكمه بوجوبها ، إذ بعد أن وجب الفعل المتوقّف عليها يدرك العقل مسؤولية المكلّف من هذه الناحية. وإن أراد الشارع بذلك مطلباً آخر دعاه إلى الحكم بوجوب المقدمة فلا نتعقَّله.

وعلى هذا الأساس يعتبر حكم الشارع بوجوب المقدمة لغواً فيستحيل ثبوته ، فضلاً عن أن يكون ضروريّ الثبوت كما يدّعيه القائل بالتلازم بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته.

__________________

(١) اختار هذ االتفسير جمع من الاصوليين ، منهم : المحقق الايراواني في حاشيته على الكفاية. نهاية النهاية ١ : ١٨١ والسيّد الخوئي : محاضرات في اصول الفقه ٢ : ٤٣٨

(٢) منهم المحقّق الخراساني في كفاية الاصول : ١٥٦. والمحقّق العراقي في نهاية الأفكار ١ : ٣٥١ والمحقق النائيني في فوائد الاصول ١ ـ ٢ : ٢٨٤

١٣٣

العَلاقات القائمة في داخل الحكم الواحد

قد يتعلّق الوجوب بشيءٍ واحدٍ ، كوجوب السجود على كلِّ من سمع آية السجدة ، وقد يتعلّق بعمليةٍ تتألف من أجزاءٍ وتشتمل على أفعالٍ متعدّدة ، من قبيل وجوب الصلاة ، فإنّ الصلاة عمليَّة تتألف من أجزاءٍ وتشتمل على أفعالٍ عديدة ، كالقراءة والسجود والركوع والقيام والتشهّد ، وما إلى ذلك.

وفي هذه الحالة تصبح العملية ـ بوصفها مركّبةً من تلك الأجزاء ـ واجبة ، ويصبح كلّ جزءٍ واجباً أيضاً ، ويطلق على وجوب المركّب اسم «الوجوب الاستقلالي» ، ويطلق على وجوب كلّ جزءٍ فيه اسم «الوجوب الضمني» ؛ لأنّ الوجوب إنّما يتعلّق بالجزء بوصفه جزءاً في ضمن المركب ، لا بصورةٍ مستقلّةٍ عن سائر الأجزاء ، فوجوب الجزء ليس حكماً مستقلاًّ ، بل هو جزء من الوجوب المتعلّق بالعملية المركّبة.

ولأجل ذلك كان وجوب كلّ جزءٍ من الصلاة ـ مثلاً ـ مرتبطاً بوجوب الأجزاء الاخرى ؛ لأنّ الوجوبات الضمنية لأجزاء الصلاة تشكّل بمجموعها وجوباً واحداً استقلالياً.

ونتيجة ذلك : قيام علاقة التلازم في داخل إطار الحكم الواحد بين الوجوبات الضمنية فيه.

وتعني علاقة التلازم هذه : أنّه لا تمكن التجزئة في تلك الوجوبات أو التفكيك بينها ، بل إذا سقط أيّ واحدٍ منها تحتّم سقوط الباقي نتيجةً لذلك التلازم القائم بينها.

ومثال ذلك : إذا وجب على الإنسان الوضوء وهو مركّب من أجزاءٍ

١٣٤

عديدةٍ ـ كغسل الوجه وغسل اليمنى وغسل اليسرى ومسح الرأس ومسح القدمين ـ فيتعلّق بكلّ جزءٍ من تلك الأجزاء وجوب ضمنيّ بوصفه جزءاً من الوضوء الواجب ، وفي هذه الحالة إذا تعذّر على الإنسان أن يغسل وجهه لآفةٍ فيه وسقط لأجل ذلك الوجوب الضمنيّ المتعلّق بغسل الوجه ، كان من المحتّم أن يسقط وجوب سائر الأجزاء أيضاً ، فلا يبقى على الإنسان وجوب غسل يديه فقط ما دام قد عجز عن غسل وجهه ؛ لأنّ تلك الوجوبات لابدّ أن ينظر إليها بوصفها وجوباً واحداً متعلّقاً بالعمليّة كلّها ، أي بالوضوء ، وهذا الوجوب : إمّا أن يسقط كلّه ، أو يثبت كلّه ، ولا مجال للتفكيك.

وعلى هذا الضوء نعرف الفرق بين ما إذا وجب الوضوء بوجوبٍ استقلاليٍّ ووجب الدعاء بوجوبٍ استقلاليٍّ آخر فتعذّر الوضوء ، وبين ما إذا وجب الوضوء فتعذّر جزء منه كغسل الوجه مثلاً.

ففي الحالة الاولى لا يؤدّي تعذّرالوضوء إلاّإلى سقوط الوجوب الذي كان متعلّقاً به ، وأمّا وجوب الدعاء فيبقى ثابتاً ؛ لأنّه وجوب مستقلّ غير مرتبطٍ بوجوب الوضوء.

وفي الحالة الثانية حين يتعذّر غسل الوجه ويسقط وجوبه الضمنيّ يؤدّي ذلك إلى سقوط وجوب الوضوء ، وارتفاع سائر الوجوبات الضمنيّة.

قد تقول : نحن نرى أنّ الإنسان يكلّف بالصلاة ، فإذا أصبح أخرس وعجز عن القراءة فيها كُلِّف بالصلاة بدون قراءة ، فهل هذا إلاّ تفكيك بين الوجوبات الضمنيّة ، ونقض لعلاقة التلازم بينها؟

والجواب : أنّ وجوب الصلاة بدون قراءةٍ على الأخرس ليس تجزئةً

١٣٥

لوجوب الصلاة الكاملة ، وإنّما هو وجوب آخر وخطاب جديد تعلّق منذ البدء بالصلاة الصامتة ، فوجوب الصلاة الكاملة والخطاب بها قد سقط كلّه نتيجةً لتعذّر القراءة ، وخلّفه وجوب آخر وخطاب جديد.

١٣٦

النوع الثاني

الاصول العمليّة

١ ـ القاعدة العمليّة الأساسيّة.

٢ ـ القاعدة العمليّة الثانويّة.

٣ ـ قاعدة منجّزيّة العلم الإجمالي.

٤ ـ الاستصحاب.

١٣٧
١٣٨

تمهيد :

استعرضنا في النوع الأوّل العناصر الاصولية المشتركة في الاستنباط التي تتمثّل في أدلّةٍ محرزة ، فدرسنا أقسام الأدلّة وخصائصها ، وميّزنا بين الحجّة منها وغيرها.

ونريد الآن أن ندرس العناصر المشتركة في حالةٍ اخرى من الاستنباط ، وهي حالة عدم حصول الفقيه على دليلٍ يدلّ على الحكم الشرعيّ وبقاء الحكم مجهولاً لديه ، فيتّجه البحث في هذه الحالة إلى محاولة تحديد الموقف العمليّ تجاه ذلك الحكم المجهول بدلاً عن اكتشاف نفس الحكم.

ومثال ذلك : حالة الفقيه تجاه التدخين ، فإنّ التدخين نحتمل حرمته شرعاً منذ البدء ، ونتّجه أوّلاً إلى محاولة الحصول على دليلٍ يعيّن حكمه الشرعي ، فحيث لا نجدُ نتساءل ما هو الموقف العمليّ الذي يتحتّم علينا أن نسلكه تجاه ذلك الحكم المجهول؟ وهل يتحتَّم علينا أن نحتاط ، أوْ لا؟

وهذا هو السؤال الأساسيّ الذي يعالجه الفقيه في هذه الحالة ، ويجيب عليه في ضوء الاصول العملية بوصفها عناصر مشتركةً في عملية الاستنباط ، وهذه الاصول هي موضع درسنا الآن.

١٣٩

ـ ١ ـ

القاعدة العملية الأساسيّة

ولكي نعرف القاعدة العمليّة الأساسية التي نجيب في ضوئها على سؤال «هل يجب الاحتياط تجاه الحكم المجهول؟» لابدّ لنا أن نرجع إلى المصدر الذي يفرض علينا إطاعة الشارع ، ونلاحظ أنّ هذا المصدر هل يفرض علينا الاحتياط في حالة الشكّ وعدم وجود دليل على الحرمة ، أوْ لا؟

ولكي نرجع إلى المصدر الذي يفرض علينا إطاعة المولى سبحانه لابدّ لنا أن نحدِّده ، فما هو المصدر الذي يفرض علينا إطاعة الشارع ويجب أن نستفتيه في موقفنا هذا؟

والجواب : أنّ هذا المصدر هو العقل ؛ لأنّ الإنسان يدرك بعقله أنّ لله سبحانه حقّ الطاعة على عبيده ، وعلى أساس حقّ الطاعة هذا يحكم العقل على الإنسان بوجوب إطاعة الشارع لكي يؤدّي إليه حقّه ، فنحن إذن نطيع الله تعالى ونمتثل أحكام الشريعة ؛ لأنّ العقل يفرض علينا ذلك ، لَالأنّ الشارع أمرنا بإطاعته ، وإلاّ لأعدنا السؤال مرّةً اخرى : ولماذا نمتثل أمر الشارع لنا بإطاعة أوامره؟ وما هو المصدر الذي يفرض علينا امتثاله؟ وهكذا حتّى نصل إلى حكم العقل بوجوب الإطاعة القائم على أساس ما يدركه من حقّ الطاعة لله سبحانه على الإنسان.

وإذا كان العقل هو الذي يفرض إطاعة الشارع على أساس إدراكه لحقّ الطاعة فيجب الرجوع إلى العقل في تحديد الجواب على السؤال المطروح ، ويتحتّم علينا عندئذٍ أن ندرس حقّ الطاعة الذي يدركه العقل وحدوده ، فهل هو حقّ لله

١٤٠