دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

وفي نفس الوقت قد تستعمل صيغة النهي في موارد الكراهة ، فيُنهى عن المكروه أيضاً بسبب الشبه القائم بين الكراهة والحرمة ، ويعتبر استعمالها في موارد المكروهات استعمالاً مجازياً.

٣ ـ الإطلاق :

وتوضيحه : أنّ الشخص إذا أراد أن يأمر ولده بإكرام جاره المسلم فلا يكتفي عادةً بقوله : «أكرِم الجار» ، بل يقول : «أكرِم الجارَ المسلم» ، وأمّا إذا كان يريد من ولده أن يُكرِم جاره مهما كان دينه فيقول : «أكرم الجار» ، ويطلق كلمة «الجار» ـ أي لا يقيّدها بوصفٍ خاصٍّ ـ ويفهم من قوله عندئذٍ أنّ الأمر لا يختصّ بالجار المسلم ، بل يشمل الجار الكافر أيضاً ، وهذا الشمول نفهمه نتيجةً لذكر كلمة «الجار» مجرّدةً عن القيد ، ويسمّى هذا ب «الإطلاق» ويسمّى اللفظ في هذه الحالة «مطلقاً».

وعلى هذا الأساس يعتبر تجرّد الكلمة من القيد اللفظيّ في الكلام دليلاً على شمول الحكم ، ومثال ذلك من النصّ الشرعيّ قوله تعالى : «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» (١) ، فقد جاءت كلمة «البيع» هنا مجرّدةً عن أيِّ قيدٍ في الكلام ، فيدلّ هذا الإطلاق على شمول الحكم بالحلّيّة لجميع أنواع البيع.

وأمّا كيف أصبح ذكر الكلمة بدون قيدٍ في الكلام دليلاً على الشمول؟ وما هو مصدر هذه الدلالة؟ فهذا ما لا يمكن تفصيل الكلام فيه على مستوى هذه الحلقة.

ولكن نقول على نحو الإيجاز : إنّ ظاهر حال المتكلِّم حينما يكون له مرامٌ في نفسه يدفعه إلى الكلام أن يكون في مقام بيان تمام ذلك المرام ، فإذا قال : «أكرم الجار» وكان مرامه الجار المسلم خاصّةً لم يكتفِ بما قال ، بل يردفه عادةً بما يدلّ

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥

١٠١

على قيد الإسلام ، وفي كلّ حالةٍ لا يأتي بما يدلّ على القيد نعرف أنّ هذا القيد غير داخلٍ في مرامه ، إذ لو كان داخلاً في مرامه ومع هذا سكتَ عنه لكان ذلك على خلاف ظاهر حاله القاضي بأ نّه في مقام بيان تمام المراد بالكلام ، فبهذا الاستدلال نستكشف الإطلاق من السكوت وعدم ذكر القيد ، ويعبّر عن ذلك بقرينة الحكمة.

٤ ـ أدوات العموم :

أدوات العموم مثالها «كلّ» في قولنا : «احترِمْ كلَّ عادل» ؛ وذلك أنّ الآمر حين يريد أن يدلِّل على شمول حكمه وعمومه قد يكتفي بالإطلاق وذكر الكلمة بدون قيدٍ ـ كما شرحناه آنفاً ـ فيقول : «أكرم الجار» ، وقد يريد مزيداً من التأكيد على العموم والشمول فيأتي بأداةٍ خاصّةٍ للدلالة على ذلك ، فيقول في المثال المتقدّم مثلاً : «أكرم كلّ جار» ، فيفهم السامع من ذلك مزيداً من التأكيد على العموم والشمول ، ولهذا تعتبر كلمة «كلّ» من أدوات العموم ؛ لأنّها موضوعة في اللغة لذلك ، ويسمّى اللفظ الذي دلّت الأداة على عمومه «عامّاً» ، ويعبَّر عنه ب «مدخول الأداة» ؛ لأنّ أداة العموم دخلت عليه وعمّمته.

ونستخلص من ذلك : أنّ التدليل على العموم يتمّ بإحدى طريقتين :

الاولى : سلبية ، وهي الإطلاق ، أي ذكر الكلمة بدون قيد.

والثانية : إيجابية ، وهي استعمال أداةٍ للعموم ، نحو «كلّ» و «جميع» و «كافّة» ، وما إليها من ألفاظ.

وقد اختلف الاصوليّون في صيغة الجمع المعرَّف باللام ، من قبيل «الفقهاء» ، «العقود».

١٠٢

فقال بعضهم (١) : إنّ هذه الصيغة نفسها من أدوات العموم أيضاً ، مثل كلمة «كلّ» ، فأيّ جمعٍ من قبيل «فقهاء» إذا أراد المتكلِّم إثبات الحكم لجميع أفراده والتدليل على عمومه بطريقةٍ إيجابيّةٍ أدخل عليه اللام ، فيجعله جمعاً معرّفاً باللام ، ويقول : «احترم الفقهاء» ، أو «أوفوا بالعقود».

وبعض الاصوليِّين (٢) يذهب إلى أنّ صيغة الجمع المعرَّف باللام ليست من أدوات العموم ، ونحن إنّما نفهم الشمول في الحكم عندما نسمع المتكلِّم يقول : «احترم الفقهاء» ـ مثلاً ـ بسبب الإطلاق وتجرّد الكلمة عن القيود ، لا بسبب دخول اللام على الجمع ، أي بطريقةٍ سلبيةٍ لا إيجابية ، فلا فرق بين أن يقال : «أكرم الفقهاء» ، أو : «أكرم الفقيه» ، فكما يستند فهمنا للشمول في الجملة الثانية إلى الإطلاق كذلك الحال في الجملة الاولى ، فالمفرد والجمع المعرَّفان لا يدلاّن على الشمول إلاّبالطريقة السلبية.

٥ ـ أداة الشرط :

أداة الشرط مثالها «إذا» في قولنا : «إذا زالت الشمس فصلِّ» ، و «إذا أحرمت للحجِّ فلا تتطيّب» ، وتسمّى الجملة التي تدخل عليها أداة الشرط جملة شرطية ، وهي تختلف في وظيفتها اللغوية عن غيرها من الجمل التي لا توجد فيها أداة شرط ، فإنّ سائر الجمل تقوم بربط كلمةٍ باخرى ، نظير ربط الخبر بالمبتدأ في

__________________

(١) كالمحقق النائيني رحمه‌الله في فوائد الاصول ٢ : ٥١٦

(٢) منهم المحقّق العراقي في نهاية الأفكار ٢ : ٥١٠ ، والمحقّق الخراساني في كفاية الاصول : ٢٥٥

١٠٣

القضية الحملية.

وأمّا الجملة الشرطية فهي تربط بين جملتين ، وهما : جملة الشرط وجملة الجزاء ، وكلّ من هاتين الجملتين تتحوّل بسبب هذا الربط الشرطيّ من جملةٍ تامّةٍ إلى جملةٍ ناقصة ، وتكون الجملة التامة هي الجملة الشرطية بكاملها.

وإذا لاحظنا المثالين المتقدِّمَين للجملة الشرطية وجدنا أنّ الشرط في المثال الأوّل زوال الشمس ، وفي المثال الثاني هو الإحرام للحجّ ، وأمّا المشروط فهو مدلول جملة «صلِّ» و «لا تتطيّب». ولمّا كان مدلول «صلِّ» بوصفه صيغة أمرٍ هو الوجوب ، ومدلول «لا تتطيّب» بوصفه صيغة نهيٍ هو الحرمة ـ كما تقدم ـ فنعرف أنّ المشروط هو الوجوب أو الحرمة ، أي الحكم الشرعي ، ومعنى أنّ الحكم الشرعيّ مشروط بزوال الشمس أو بالإحرام للحجّ : أنّه مرتبط بالزوال أو الإحرام ومقيّد بذلك ، والمقيّد ينتفي إذا انتفى قيده.

وينتج عن ذلك : أنّ أداة الشرط تدلّ على انتفاء الحكم الشرعيّ في حالة انتفاء الشرط ؛ لأنّ ذلك نتيجة لدلالتها على تقييد الحكم الشرعيّ وجعله مشروطاً ، فيدلّ قولنا : «إذا زالت الشمس فصلِّ» على عدم وجوب الصلاة قبل الزوال ، ويدلّ قولنا : «إذا أحرمت للحجِّ فلا تتطيّب» على عدم حرمة الطِيب في حالة عدم الإحرام للحجّ ، وبذلك تصبح الجملة الشرطية ذات مدلولين : أحدهما إيجابي ، والآخر سلبي.

فالإيجابيّ : هو ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط ، ومدلولها السلبيّ هو انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط.

ويسمّى المدلول الإيجابيّ «منطوقاً» للجملة ، والمدلول السلبيّ «مفهوماً».

وكلّ جملةٍ لها مثل هذا المدلول السلبيّ يقال في العرف الاصولي : إنّ هذه الجملة أو القضية ذات مفهوم.

١٠٤

وقد وضع بعض الاصوليِّين (١) قاعدةً عامّةً لهذا المدلول السلبيّ في اللغة ، فقال : إنّ كلّ أداةٍ لغويةٍ تدلّ على تقييد الحكم وتحديده لها مدلول سلبي ، إذ تدلّ على انتفاء الحكم خارج نطاق الحدود التي تضعها للحكم ، وأداة الشرط تعتبر مصداقاً لهذه القاعدة العامة ؛ لأنّها تدلّ على تحديد الحكم بالشرط.

ومن مصاديق القاعدة أيضاً : أداة الغاية ، حين تقول مثلاً : «صُمْ حتّى تغيب الشمس» ، فإنّ «صُمْ» هنا فعل أمرٍ يدلّ على الوجوب ، وقد دلّت «حتّى» بوصفها أداة غايةٍ على وضع حدٍّ وغايةٍ لهذا الوجوب الذي تدلّ عليه صيغة الأمر ، ومعنى كونه غايةً له : تقييده ، فيدلّ على انتفاء وجوب الصوم بعد مغيب الشمس ، وهذا هو المدلول السلبيّ الذي نطلق عليه اسم المفهوم. ويسمّى المدلول السلبيّ للجملة الشرطية ب «مفهوم الشرط» ، كما يسمّى المدلول السلبيّ لأداة الغاية ـ من قبيل حتّى في المثال المتقدم ـ ب «مفهوم الغاية».

وأمّا إذا قيل : «أكرم الفقير العادل» فلا يدلّ القيد هنا على أنّ غير العادل لا يجب إكرامه ؛ لأنّ هذا القيد ليس قيداً للحكم ، بل هو وصف للفقير وقيد له ، والفقير هو موضوع الحكم لانفسه ، وما دام التقييد لا يعود إلى الحكم مباشرةً فلا دلالة له على المفهوم ، ومن هنا يقال : إنّه لا مفهوم للوصف ، ويراد به ما كان من قبيل كلمة «العادل» في هذا المثال.

__________________

(١) ذكر ذلك صاحب الكفاية في بحث مفهوم الغاية. (كفاية الاصول : ٢٤٦) وكذا المحقق النائيني في بحث مفهوم الوصف (أجود التقريرات ١ : ٤٣٥)

١٠٥

حجّية الظهور

إذا واجهنا دليلاً شرعياً فليس المهمّ أن نفسِّره بالنسبة إلى مدلوله التصوّريّ اللغويّ فحسب ، بل أن نفسِّره بالنسبة إلى مدلوله التصديقي ؛ لنعرف ماذا أراد الشارع به ، وكثيراً ما نلاحظ أنّ اللفظ صالح لدلالاتٍ لغويةٍ وعرفيةٍ متعدّدة فكيف نستطيع أن نعيِّن مراد المتكلِّم منه؟

وهنا نستعين بظهورين :

أحدهما : ظهور اللفظ في مرحلة الدلالة التصورية في معنىً معيّن ، ومعنى الظهور في هذه المرحلة : أنّ هذا المعنى أسرع انسباقاً إلى تصوّر الإنسان عند سماع اللفظ من غيره من المعاني فهو أقرب المعاني إلى اللفظ لغةً.

والآخر : ظهور حال المتكلِّم في أنّ ما يريده مطابق لظهور اللفظ في مرحلة الدلالة التصورية ، أي أنّه يريد أقرب المعاني إلى اللفظ لغةً ، وهذا ما يسمّى بظهور التطابق بين مقام الإثبات ومقام الثبوت ، ومن المقرّر في علم الاصول أنّ ظهور حال المتكلِّم في إرادة أقرب المعاني إلى اللفظ حجّة.

ومعنى حجّيّة الظهور : اتّخاذه أساساً لتفسير الدليل اللفظيّ على ضوئه ، فنفترض دائماً أنّ المتكلِّم قد أراد المعنى الأقرب إلى اللفظ في النظام اللغويِّ العامِ (١) أخذاً بظهور حاله. ولأجل ذلك يطلق على حجّية الظهور اسم «أصالة الظهور» ؛ لأ نّها تجعل الظهور هو الأصل لتفسير الدليل اللفظي.

وفي ضوء هذا نستطيع أن نعرف لماذا كنَّا نهتمّ في البحث السابق بتحديد

__________________

(١) لا نريد باللغة والنظام اللغويّ العامّ هنا اللغة في مقابل العرف ، بل النظام القائم بالفعل لدلالة الألفاظ ، سواء كان لغويّاً أوّليّاً أو ثانوياً. المؤلف قدس‌سره

١٠٦

المدلول اللغويِّ الأقرب للكلمة والمعنى الظاهر لها بموجب النظام اللغويّ العامّ ، مع أنّ المهمّ عند تفسير الدليل اللفظيّ هو اكتشاف ماذا أراد المتكلِّم باللفظ من معنى ، لا ما هو المعنى الأقرب إليه في اللغة ، فإنَّا ندرك في ضوء أصالة الظهور أنّ الصلة وثيقة جدّاً بين اكتشاف مراد المتكلِّم وتحديد المدلول اللغويّ الأقرب للكلمة ؛ لأنّ أصالة الظهور تحكم بأنّ مراد المتكلِّم من اللفظ هو نفس المدلول اللغويّ الأقرب ، أي المعنى الظاهر من اللفظ لغةً ، فلكي نعرف مراد المتكلِّم يجب أن نعرف المعنى الأقرب إلى اللفظ لغةً لنحكم بأ نّه هو المعنى المراد للمتكلِّم.

والدليل على حجّية الظهور يتكوّن من مقدِّمتين :

الاولى : أنّ الصحابة وأصحاب الأئمة عليهم‌السلام كانت سيرتهم قائمةً على العمل بظواهر الكتاب والسنّة واتّخاذ الظهور أساساً لفهمهما ، كما هو واضح تأريخيّاً من عملهم وديدنهم.

الثانية : أنّ هذه السيرة على مرأىً ومسمعٍ من المعصومين عليهم‌السلام ولم يعترضوا عليها بشيء ، وهذا يدلّ على صحّتها شرعاً ، وإلاّ لردعوا عنها ، وبذلك يثبت إمضاء الشارع للسيرة القائمة على العمل بالظهور ، وهو معنى حجّية الظهور شرعاً.

تطبيقات حجّية الظهور على الأدلّة اللفظية :

ونستعرض في ما يلي ثلاث حالاتٍ لتطبيق قاعدة حجّية الظهور :

الاولى : أن يكون لِلَّفظ في الدليل معنىً وحيد في اللغة ولا يصلح للدلالة على معنىً آخر في النظام اللغويِّ والعرفيِّ العامّ.

والقاعدة العامّة تحتِّم في هذه الحالة أن يُحمَل اللفظ على معناه الوحيد ويقال : «إنّ المتكلِّم أراد ذلك المعنى» ؛ لأنّ المتكلِّم يريد باللفظ دائماً المعنى المحدَّد له في النظام اللغويِّ العامّ ، ويعتبر الدليل في مثل هذه الحالة صريحاً في معناه ونصّاً.

١٠٧

الثانية : أن يكون لِلَّفظ معانٍ متعدِّدةٌ متكافئة في علاقتها باللفظ بموجب النظام اللغوي العام ، من قبيل المشترك ، وفي هذه الحالة لا يمكن تعيين المراد من اللفظ على أساس تلك القاعدة ، إذ لا يوجد معنى أقرب إلى اللفظ من ناحيةٍ لغويةٍ لتطبَّق القاعدة عليه ، ويكون الدليل في هذه الحالة مجملاً.

الثالثة : أن يكون لِلَّفظ معانٍ متعدِّدة في اللغة وأحدها أقرب إلى اللفظ لغوياً من سائر معانيه ، ومثاله : كلمة «البحر» التي لها معنىً حقيقيّ قريب وهو «البحر من الماء» ، ومعنىً مجازيّ بعيد وهو «البحر من العلم» ، فإذا قال الآمر : «إذهب إلى البحر في كلّ يومٍ» وأردنا أن نعرف ماذا أراد المتكلم بكلمة «البحر» من هذين المعنيين ، يجب علينا أن ندرس السياق الذي جاءت فيه كلمة «البحر» ونريد ب «السياق» كلّ ما يكتنف اللفظ الذي نريد فهمه من دوالّ اخرى ، سواء كانت لفظيةً كالكلمات التي تشكّل مع اللفظ الذي نريد فهمه كلاماً واحداً مترابطاً ، أو حاليّةً كالظروف والملابسات التي تحيط بالكلام وتكون ذات دلالةٍ في الموضوع.

فإن لم نجد في سائر الكلمات التي وردت في السياق ما يدلّ على خلاف المعنى الظاهر من كلمة «البحر» كان لزاماً علينا أن نفسِّر كلمة «البحر» على أساس المعنى اللغوي الأقرب تطبيقاً للقاعدة العامة القائلة بحجّية الظهور.

وقد نجد في سائر أجزاء الكلام ما لا يتّفق مع ظهور كلمة «البحر» ، ومثاله أن يقول الآمر : «إذهب إلى البحر في كلّ يوم واستمع إلى حديثه باهتمام» ، فإنّ الاستماع إلى حديث البحر لا يتّفق مع المعنى اللغويّ الأقرب إلى كلمة «البحر» ، وإنّما يناسب العالم الذي يشابه البحر لغزارة علمه ، وفي هذه الحالة نجد أنفسنا تتساءل : ماذا أراد المتكلِّم بكلمة «البحر»؟ هل أراد بها البحر من العلم بدليل أنّه أمرنا بالاستماع إلى حديثه ، أو أراد بها البحر من الماء ولم يقصد بالحديث هنا المعنى الحقيقيّ ، بل أراد به الإصغاء إلى صوت أمواج البحر؟ وهكذا نظلّ متردِّدين بين كلمة «البحر»

١٠٨

وظهورها اللغويّ من ناحية ، وكلمة «الحديث» وظهورها اللغوي من ناحيةٍ اخرى ، ومعنى هذا أنّا نتردّد بين صورتين :

إحداهما : صورة الذهاب إلى بحرٍ من الماء المتموِّج والاستماع إلى صوت موجه ، وهذه الصورة هي التي توحي بها كلمة «البحر».

والاخرى : صورة الذهاب إلى عالمٍ غزير العلم والاستماع إلى كلامه ، وهذه الصورة هي التي توحي بها كلمة «الحديث».

وفي هذا المجال يجب أن نلاحظ السياق جميعاً ككلٍّ ونرى أيَّ هاتين الصورتين أقرب إليه في النظام اللغوي العام؟ أي أنّ هذا السياق إذا القي على ذهن شخصٍ يعيش اللغة ونظامها بصورةٍ صحيحةٍ هل سوف تسبق إلى ذهنه الصورة الاولى ، أو الصورة الثانية؟ فإن عرفنا أنّ إحدى الصورتين أقرب إلى السياق بموجب النظام اللغويّ العام ـ ولنفرضها الصورة الثانية ـ تكوَّن للسياق ـ ككلٍّ ـ ظهور في الصورة الثانية ، ووجب أن نفسِّر الكلام على أساس تلك الصورة الظاهرة.

ويطلق على كلمة «الحديث» في هذا المثال اسم «القرينة» ؛ لأنّها هي التي دلّت على الصورة الكاملة للسياق وأبطلت مفعول كلمة «البحر» وظهورها.

وأمّا إذا كانت الصورتان متكافئتين في علاقتهما بالسياق فهذا يعني أنّ الكلام أصبح مجملاً ولا ظهور له ، فلا يبقى مجال لتطبيق القاعدة العامّة.

القرينة المتَّصلة والمنفصلة :

عرفنا أنّ كلمة «الحديث» في المثال السابق قد تكون قرينةً في ذلك السياق ، وتسمّى «قرينةً متّصلة» ؛ لأنّها متّصلة بكلمة «البحر» التي أبطلت مفعولها وداخلة معها في سياقٍ واحد ، والكلمة التي يبطل مفعولها بسبب القرينة تسمّى

١٠٩

ب «ذي القرينة».

ومن أمثلة القرينة المتّصلة : الاستثناء من العامّ ، كما إذا قال الآمر : «أكرِم كلَّ فقيرٍ إلاّالفُسّاق» ، فإنّ كلمة «كلّ» ظاهرة في العموم لغةً ، وكلمة «الفُسّاق» تتنافى مع العموم ، وحين ندرس السياق ككلٍّ نرى أنّ الصورة التي تقتضيها هذه الكلمة أقرب إليه من صورة العموم التي تقتضيها كلمة «كلّ» ، بل لا مجال للموازنة بينهما ، وبهذا تعتبر أداة الاستثناء قرينةً على المعنى العامّ للسياق.

فالقرينة المتّصلة هي : كلّ ما يتّصل بكلمةٍ اخرى ، فيبطل ظهورها ويوجّه المعنى العامّ للسياق الوجهة التي تنسجم معه.

وقد يتّفق أنّ القرينة بهذا المعنى لا تجيء متّصلةً بالكلام بل منفصلةً عنه ، فتسمّى «قرينةً منفصلة».

ومثاله : أن يقول الآمر : «أكرم كلَّ فقير» ، ثمّ يقول في حديثٍ آخر بعد ساعة : «لا تكرم فسّاق الفقراء» ، فهذا النهي لو كان متّصلاً بالكلام الأوّل لاعتُبِر قرينةً متّصلة ، ولكنّه انفصل عنه في هذا المثال.

وفي هذا الضوء نفهم معنى القاعدة الاصولية القائلة : «إنّ ظهور القرينة مقدَّم على ظهور ذي القرينة ، سواء كانت القرينة متّصلة أو منفصلة».

١١٠

إثبات الصدور

لكي نعمل بكلامٍ بوصفه دليلاً شرعياً لابدّ من إثبات صدوره من المعصوم ؛ وذلك بأحد الطرق التالية :

الأوّل : التواتر ، وذلك بأن ينقله عدد كبير من الرواة ، وكلّ خبرٍ من هذا العدد الكبير يشكِّل احتمالاً للقضية وقرينةً لإثباتها ، وبتراكم الاحتمالات والقرائن يحصل اليقين بصدور الكلام ، وحجّية التواتر قائمة على أساس إفادته للعلم ، ولا تحتاج حجّيته إلى جعلٍ وتعبّدٍ شرعي.

الثاني : الإجماع والشهرة ، وتوضيح ذلك : أنَّا إذا لاحظنا فتوى الفقيه الواحد بوجوب الخمس في المعادن ـ مثلاً ـ نجد أنّها تشكِّل قرينة إثبات ناقصة على وجود دليلٍ لفظيٍّ مسبقٍ يدلّ على هذا الوجوب ؛ لأنّ فتوى الفقيه تجعلنا نحتمل تفسيرين لها :

أحدهما : أن يكون قد استند في فتواه إلى دليلٍ لفظيٍّ ـ مثلاً ـ بصورةٍ صحيحة.

والآخر : أن يكون مخطئاً في فتواه.

وما دمنا نحتمل فيها هذين التفسيرين معاً فهي قرينة إثباتٍ ناقص ، فإذا أضفنا إليها فتوى فقيهٍ آخر بوجوب الخمس في المعادن أيضاً كَبُر احتمال وجود دليلٍ لفظيٍّ يدلّ على الحكم ؛ نتيجةً لاجتماع قرينتين ناقصتين ، وحين ينضمّ إلى الفقيهين فقيه ثالث نزداد مَيلاً إلى الاعتقاد بوجود هذا الدليل اللفظي ، وهكذا نزداد مَيلاً إلى الاعتقاد بذلك كلّما ازداد عدد الفقهاء [المفتين] بوجوب الخمس في المعادن ، فإذا كان الفقهاء قد اتّفقوا جميعاً على هذه الفتوى سُمِّي ذلك «إجماعاً» ، وإذا كانوا

١١١

يشكِّلون الأكثرية فقط سُمِّي ذلك «شهرة».

فالإجماع والشهرة طريقان لاكتشاف وجود الدليل اللفظيِّ في جملةٍ من الأحيان.

وحكم الإجماع والشهرة من ناحيةٍ اصوليةٍ أنّه متى حصل العلم بالدليل الشرعيِّ بسبب الإجماع أو الشهرة وجب الأخذ بذلك في عملية الاستنباط ، وأصبح الإجماع والشهرة حجّة ، وإذا لم يحصل العلم بسبب الإجماع أو الشهرة فلا اعتبار بهما ، إذ لا يفيدان حينئذٍ إلاّالظنّ ، ولا دليل على حجّية هذا الظنّ شرعاً ، فالأصل عدم حجّيته ؛ لأنّ هذا هو الأصل في كلّ ظنٍّ ، كما تقدم.

الثالث : سيرة المتشرّعة ، وهي السلوك العامّ للمتديِّنين في عصر المعصومين ، من قبيل اتّفاقهم على إقامة صلاة الظهر في يوم الجمعة بدلاً عن صلاة الجمعة ، أو على عدم دفع الخمس من الميراث.

وهذا السلوك العامّ إذا حلّلناه إلى مفرداته ، ولاحظنا سلوك كلّ واحدٍ بصورةٍ مستقلّةٍ نجد أنّ سلوك الفرد المتديِّن الواحد في عصر التشريع يعتبر قرينةَ إثباتٍ ناقصة على صدور بيانٍ شرعيٍّ يقرّر ذلك السلوك ، ونحتمل في نفس الوقت أيضاً الخطأ والغفلة وحتّى التسامح.

فإذا عرفنا أنّ فردين في عصر التشريع كانا يسلكان نفس السلوك ويصلّيان الظهر ـ مثلاً ـ في يوم الجمعة ازدادت قوّة الإثبات ، وهكذا تكبر قوّة الإثبات حتى تصل إلى درجةٍ كبيرةٍ عندما نعرف أنّ ذلك السلوك كان سلوكاً عامّاً يتّبعه جمهرة المتديّنين في عصر التشريع ، إذ يبدو من المؤكَّد حينئذٍ أنّ سلوك هؤلاء جميعاً لم ينشأ عن خطأ أو غفلةٍ أو تسامح ؛ لأنّ الخطأ والغفلة أو التسامح قد يقع فيه هذا أو ذاك ، وليس من المحتمل أن يقع فيه جمهرة المتديّين في عصر التشريع جميعاً.

١١٢

وهكذا نعرف أنّ السلوك العامّ مستند إلى بيانٍ شرعيٍّ يدلّ على إمكان إقامة الظهر في يوم الجمعة ، وعدم وجوب الخمس في الميراث ، وهي في الغالب تؤدِّي إلى الجزم بالبيان الشرعيّ ضمن شروطٍ لا مجال لتفصيلها الآن.

ومتى كانت كذلك فهي حجّة ، وأما إذا لم يحصل منها الجزم فلا اعتبار بها ؛ لعدم الدليل على الحجّية حينئذٍ.

وهذه الطرق الثلاث كلّها مبنيّة على تراكم الاحتمالات وتجمّع القرائن.

الرابع : خبر الواحد الثقة ، ونعبِّر بخبر الواحد عن كلّ خبرٍ لا يفيد العلم ، وحكمه : أنّه إذا كان المخبر ثقةً اخذ به وكان حجّة ، وإلاّ فلا ، وهذه الحجّية ثابتة شرعاً لا عقلاً ؛ لأنّها لا تقوم على أساس حصول القطع ، بل على أساس أمر الشارع باتّباع خبر الثقة ، فقد دلّت أدلّة شرعية عديدة على ذلك ، ويأتي بيانها في حلقةٍ مقبلةٍ إن شاء الله تعالى.

ومن تلك الأدلّة : آية النبأ ، وهي قوله تعالى : (يا أيُّها الذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بنَباً فَتَبَيَّنُوا ...) (١) الآية ، فإنّه يشتمل على جملةٍ شرطية ، وهي تدلّ منطوقاً على إناطة وجوب التبيّن بمجيء الفاسق بالنبأ ، وتدلّ مفهوماً على نفي وجوب التبيّن في حالة مجيء النبأ من قبل غير الفاسق ، وليس ذلك إلاّلحجّيته ، فيستفاد من الآية الكريمة حجّية خبر العادل الثقة.

ويدلّ على حجّية خبره أيضاً : أنّ سيرة المتشرّعة والعقلاء عموماً على الاتّكال عليه ، ونستكشف من انعقاد سيرة المتشرّعة على ذلك واستقرار عمل

__________________

(١) الحجرات : ٦

١١٣

أصحاب الأئمّة والرواة عليه أنّ حجّيته متلقّاة لهم من قبل الشارع ؛ وفقاً لما تقدّم من حديثٍ (١) عن سيرة المتشرّعة وكيفية الاستدلال بها.

__________________

(١) وذلك في الطريق الثالث من طرق إثبات الصدور

١١٤

ب ـ الدليل الشرعي غير اللفظي

الدليل الشرعيّ غير اللفظيِّ : كلّ ما يصدر من المعصوم ممّا له دلالة على الحكم الشرعي ، وليس من نوع الكلام.

ويدخل ضمن ذلك فعل المعصوم ، فإن أتى المعصوم بفعلٍ دلّ على جوازه ، وإن تركه دلّ على عدم وجوبه ، وإن أوقعه بعنوان كونه طاعةً لله تعالى دلّ على المطلوبية. ويثبت لدينا صدور هذه الأنحاء من التصرّف عن المعصوم بنفس الطرق المتقدمة التي يثبت بها صدور الدليل الشرعيِّ اللفظي.

ويدخل ضمن ذلك تقرير المعصوم ـ وهو السكوت منه عن تصرّفٍ يواجهه ـ فإنّه يدلّ على الإمضاء ، وإلاّ لكان على المعصوم أن يردع عنه ، فيستكشف من عدم الردع الإمضاء والارتضاء.

والتصرّف : تارةً يكون شخصياً في واقعةٍ معيّنة ، كما إذا توضّأ إنسان أمام الإمام فمسح منكوساً وسكت الإمام عنه ، واخرى يكون نوعياً كالسيرة العقلائية ، وهي عبارة عن مَيلٍ عامٍّ عند العقلاء نحو سلوكٍ معيّنٍ دون أن يكون للشرع دور إيجابيّ في تكوين هذا الميل.

ومثال ذلك : الميل العامّ لدى العقلاء نحو الأخذ بظهور كلام المتكلّم ، أو خبر الثقة ، أو باعتبار الحيازة سبباً لتملّك المباحات الأولية ، والسيرة العقلائية بهذا المعنى تختلف عن سيرة المتشرّعة التي تقدّم أنّها إحدى الطرق لكشف صدور الدليل الشرعي ، فإنّ سيرة المتشرّعة ـ بما هم كذلك ـ تكون عادةً وليدة البيان الشرعي ،

١١٥

ولهذا تعتبر كاشفةً عنه كشف المعلول عن العلّة.

وأمّا السيرة العقلائية فمردّها ـ كما عرفنا ـ إلى ميلٍ عامٍّ يوجد عند العقلاء نحو سلوكٍ معيّن ، لا كنتيجةٍ لبيانٍ شرعي ، بل نتيجة العوامل والمؤثّرات الاخرى التي تتكيَّف وفقاً لها ميول العقلاء وتصرّفاتهم ، ولأجل هذا لا يقتصر الميل العامّ الذي تعبِّر عنه السيرة العقلائية على نطاق المتديّنين خاصّة ؛ لأنّ الدّين لم يكن من عوامل تكوين هذا الميل.

وبهذا يتّضح أنّ السيرة العقلائية لا تكشف عن البيان الشرعيّ كشف المعلول عن العلّة ، وإنّما تدلّ على الحكم الشرعيِّ عن طريق دلالة التقرير بالتقريب التالي ، وهو : أنّ الميل الموجود عند العقلاء نحو سلوكٍ معيّنٍ يعتبر قوّةً دافعةً لهم نحو ممارسة ذلك السلوك ، فإذا سكتت الشريعة عن ذلك الميل ولم يردع المعصوم عن السيرة مع معاصرته لها كشف ذلك عن الرضا بذلك السلوك وإمضائه شرعاً.

ومثال ذلك : سكوت الشريعة عن الميل العامِّ عند العقلاء نحو الأخذ بظهور كلام المتكلّم ، وعدم ردع المعصومين عن ذلك ، فإنّه يدلّ على أنّ الشريعة تُقِرّ هذه الطريقة في فهم الكلام ، وتوافق على اعتبار الظهور حجّة ، وإلاّ لمنعت الشريعة عن الانسياق مع ذلك الميل العامّ ، وردعت عنه في نطاقها الشرعي.

وبهذا يمكن أن نستدلّ على حجّية الظهور بالسيرة العقلائية ، إضافةً إلى استدلالنا سابقاً (١) عليها بسيرة المتشرّعة المعاصرين للرسول والأ ئمّة عليهم‌السلام.

__________________

(١) في بحث الدليل الشرعي اللفظي تحت عنوان حجيّة الظهور

١١٦

ـ ٢ ـ

الدليل العقلي

العلاقات القائمة بين نفس الأحكام.

العلاقات القائمة بين الحكم وموضوعه.

العلاقات القائمة بين الحكم ومتعلّقه.

العلاقات القائمة بين الحكم والمقدمات.

العلاقات القائمة في داخل الحكم الواحد.

١١٧
١١٨

دراسة العلاقات العقلية :

حينما يدرس العقل العلاقات بين الأشياء يتوصّل إلى معرفة أنواعٍ عديدةٍ من العلاقة ، فهو يدرك ـ مثلاً ـ علاقة التضادّ بين السواد والبياض ، وهي تعني استحالة اجتماعهما في جسمٍ واحد ، ويدرك علاقة التلازم بين السبب والمسبّب ، فإنّ كلّ مسبّبٍ في نظر العقل ملازم لسببه ويستحيل انفكاكه عنه ، نظير الحرارة بالنسبة إلى النار ، ويدرك علاقة التقدم والتأخر في الدرجة بين السبب والمسبّب.

ومثاله : إذا أمسكت مفتاحاً بيدك وحرّكت يدك فيتحرّك المفتاح بسبب ذلك ، وبالرغم من أنّ المفتاح في هذا المثال يتحرّك في نفس اللحظة التي تتحرّك فيها يدك ، فإنّ العقل يدرك أنّ حركة اليد متقدمة على حركة المفتاح ، وحركة المفتاح متأخّرة عن حركة اليد لا من ناحية زمنية ، بل من ناحية تسلسل الوجود ، ولهذا نقول حين نريد أن نتحدّث عن ذلك : «حرّكت يدي فتحرَّك المفتاح» ، فالفاءُ هنا تدلّ على تأخّر حركة المفتاح عن حركة اليد ، مع أنّهما وقعتا في زمانٍ واحد. فهناك إذن تأخّر لا يمتّ إلى الزمان بصلة ، وإنّما ينشأ عن تسلسل الوجود في نظر العقل ، بمعنى أنّ العقل حين يلحظ حركة اليد وحركة المفتاح ويدرك أنّ هذه نابعة من تلك يرى أنّ حركة المفتاح متأخّرة عن حركة اليد بوصفها نابعةً منها ، ويرمز إلى هذا التأخّر بالفاء فيقول : «تحرّكت يدي فتحرَّك المفتاح» ، ويطلق على هذا التأخّر اسم «التأخّر الرتبي».

وبعد أن يدرك العقل تلك العلاقات يستطيع أن يستفيد منها في اكتشاف وجود الشيء أو عدمه ، فهو عن طريق علاقة التضادّ بين السواد والبياض يستطيع

١١٩

أن يثبت عدم السواد في جسمٍ إذا عرف أنّه أبيض ؛ نظراً إلى استحالة اجتماع البياض والسواد في جسمٍ واحد. وعن طريق علاقة التلازم بين المسبَّب وسببه يستطيع العقل أن يثبت وجود المسبَّب إذا عرف وجود السبب ؛ نظراً إلى استحالة الانفكاك بينهما. وعن طريق علاقة التقدُّم والتأخّر يستطيع العقل أن يكتشف عدم وجود المتأخّر قبل الشيء المتقدم ؛ لأنّ ذلك يناقض كونه متأخّراً ، فإذا كانت حركة المفتاح متأخّرةً عن حركة اليد في تسلسل الوجود فمن المستحيل أن تكون حركة المفتاح ـ والحالة هذه ـ موجودةً بصورةٍ متقدِّمةٍ على حركة اليد في تسلسل الوجود.

وكما يدرك العقل هذه العلاقات بين الأشياء ويستفيد منها في الكشف عن وجود شيءٍ أو عدمه كذلك يدرك العلاقات القائمة بين الأحكام ، ويستفيد من تلك العلاقات في الكشف عن وجود حكمٍ أو عدمه ، فهو يدرك ـ مثلاً ـ التضادّ بين الوجوب والحرمة كما كان يدرك التضادّ بين السواد والبياض ، وكما كان يستخدم هذه العلاقة في نفي السواد إذا عرف وجود البياض كذلك يستخدم علاقة التضادّ بين الوجوب والحرمة لنفي الوجوب عن الفعل إذا عرف أنّه حرام.

فهناك إذن أشياء تقوم بينها علاقات في نظر العقل ، وهناك أحكام تقوم بينها علاقات في نظر العقل أيضاً.

ونطلق على الأشياء اسم «العالم التكويني» ، وعلى الأحكام اسم «العالم التشريعي».

وكما يمكن للعقل أن يكشف وجود الشيء أو عدمه في العالم التكوينيّ عن طريق تلك العلاقات كذلك يمكن للعقل أن يكشف وجود الحكم أو عدمه في العالم التشريعيّ عن طريق تلك العلاقات.

ومن أجل ذلك كان من وظيفة علم الاصول أن يدرس تلك العلاقات في عالم الأحكام بوصفها قضايا عقلية صالحة لأنْ تكون عناصر مشتركة في عملية

١٢٠