الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٦

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٦

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-198-X
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧٢

عليك يا أبا إبراهيم» (١).

وفي نص آخر : لما ولد إبراهيم كاد يقع في نفس النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حتى أتاه جبرئيل ، فقال : «السلام عليك يا أبا إبراهيم» (٢).

وأصرح من ذلك : ما روي : من أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لعمر : «ألا أخبرك يا عمر : إن جبرئيل «عليه‌السلام» أخبرني أن الله عزوجل قد برّأ مارية وقريبها مما وقع في نفسي ، وبشرني : أن في بطنها غلاما ، وأنه أشبه الخلق بي ، وأمرني أن أسميه إبراهيم» (٣).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١ ص ٥٣٧ وج ١١ ص ٢١ و ٢١٩ عن ابن سعد ، والبحار ج ١٥ ص ٢٨٠ وج ١٦ ص ١٢٠ و ١٣١ وج ٢١ ص ١٨٣ والمستدرك للحاكم ج ٢ ص ٦٠٤ ومجمع الزوائد ج ٤ ص ٣٢٩ والآحاد والمثاني ج ٥ ص ٤٤٩ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ٤٧ و ١٣٥ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣ ص ٤٤ و ١٣٣ والإصابة ج ١ ص ٣١٨ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ١ ص ٣٤ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٣٣٠ وإمتاع ج ٢ ص ١٤٨ والشفا بتعريف حقوق المصطفى ج ١ ص ٢٣٥ وإعلام الورى ج ١ ص ٤٣ وكشف الغمة ج ١ ص ١٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٦١٢.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١ ص ٥٣٧ وج ١١ ص ٢١ عن ابن مندة ، والسنن الكبرى للبيهقي ج ٧ ص ٤١٣ وعمدة القاري ج ١٦ ص ١٠٠ وفيض القدير ج ٣ ص ٣٢٣.

(٣) كنز العمال ج ١١ ص ٤٧١ وج ١٤ ص ٩٧ عن ابن عساكر بسند حسن ، والإصابة ج ٣ ص ٣٣٥ عن فتوح مصر لابن عبد الحكم ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣١٢ و ٣١٣ و (ط دار المعرفة) ص ٣٩٩ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ١٦٢ والإصابة ج ٥ ص ٥١٨ وراجع : دلائل الصدق ج ٣ ق ٢ ص ٢٦ وراجع : رسالة حول خبر مارية ص ٢٨ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣ ص ٤٦ وفتوح مصر وأخبارها للقرشي المصري ص ١٢١.

٢١

ثم أكد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على هذا الأمر حتى حين موت إبراهيم ، فقد روي : أنه «لما توفي إبراهيم قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إن إبراهيم ابني ، وإنه مات في الثدي ، وإن له لظئرين تكملان رضاعه في الجنة» (١).

فجبرئيل قد أخبر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليس فقط بشبه ولده به ، بل هو قد أخبره : بأنه أشبه الخلق به ، حتى قبل أن يولد.

ولكن عائشة لا ترى أي شبه لإبراهيم برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وجبرئيل يخبر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأن هذا الطفل ابنه ، وعائشة تقول لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعد موت هذا الطفل : إنه ليس ولده ، بل هو ابن جريج القبطي .. وتشكك في بنوته له قبل أن يولد أيضا.

ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يخبر عمر قبل أن تلد مارية ولده : بأن

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٧ ص ٧٧ وفتح الباري ج ٣ ص ١٤٠ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٤٦ وعمدة القاري ج ٨ ص ١٠٣ والديباج على مسلم ج ٥ ص ٣٢٠ والجامع الصغير ج ١ ص ٣٣٠ وكنز العمال ج ١١ ص ٤٧٠ وج ١٢ ص ٤٥٥ وج ١٤ ص ٩٨ عن أبي نعيم ، وراجع : رسالة حول خبر مارية ص ٣٠ ومسند أبي يعلى ج ٧ ص ٢٠٥ وفيض القدير ج ٢ ص ٥١٥ وتفسير القرآن العظيم ج ١ ص ٢٩٠ ومعجم المحاسن والمساوئ ص ٣٩٨ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ١٣٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣ ص ١٣٦ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٣٣١ وإمتاع الأسماع للمقريزي ج ٢ ص ٢٢٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٦١٣ وسبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٦١ والجمع بين الصحيحين ج ٢ ص ٦٥٥ ومشكاة المصابيح ج ٣ ص ١٦٢١ والمنتظم ج ٤ ص ١١ وراجع : سبل السلام ج ٣ ص ٢١٧ والمجازات النبوية ص ٣٨٣ ومسند أحمد ج ٣ ص ١١٢ وشرح مسلم للنووي ج ١٥ ص ٧٦.

٢٢

جبرئيل قد برّأ مارية مما قذفت به ، وبأن الجنين ابنه ..

وعائشة تبقى مصرة على قذف مارية قبل أن تلد ولدها ، وبعد ولادتها ، وحتى بعد موت ذلك الولد أيضا.

قسوة وجرأة :

وبعد .. فإن عظمة الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهو أفضل وأشرف وأقدس خلق الله تعالى .. من شأنها : أن تجعل الناس جميعا يتريثون في الإقدام على أي موقف ، أو التفوه بأية كلمة ، أو القيام بأي تصرف في حضوره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

وتفرض عليهم حسابات كثيرة في هذا الإتجاه ، ويخضعون لهذا الواقع بصورة عفوية ، ومن دون حاجة إلى توجيه أو دلالة من أحد ..

أضف إلى ذلك : أن موقع النبوة ، وقداسة الأنبياء ، وعلاقة ذلك برضا الله تعالى ، وبقبول الأعمال ، وبالثواب والعقاب يفرض المزيد من الحذر ، ومراقبة الإنسان لنفسه ، ويحتم عليه السير نحو الإنضباط التام في كل حركة وسكون ، وقول وفعل ، ما دام أن قيمة أي زلل أو خطل سيكون هو مستقبل الإنسان ومصيره في الدنيا والآخرة.

ولكننا إذا رجعنا إلى حياة أم المؤمنين عائشة مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فسنجد : أنها لا تخضع لهذا التقدير ، ولم تتأثر بهذا الواقع .. بل هي تبدو شديدة الإندفاع في الإتجاه الآخر ، من خلال ما نشهده من جرأة لها على مقام النبوة ، ثم من عدم مبالاة في عواقب تعاملها البالغ في القسوة على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالذات .. بخلاف ما نشاهده لدى

٢٣

خديجة وأم سلمة وميمونة مثلا .. من سلوك خاضع لمقام النبوة والرسالة.

أما سائر أمهات المؤمنين ، وخصوصا حفصة وكذلك أم حبيبة .. فكنّ يتأثرن بالأجواء التي تثيرها عائشة نفسها ، التي كانت تحرك الأمور باتجاه حالة من التوتر والمشاحنات التي لا مبرر لها ، دون أن يردعها عن ذلك ما ينشأ عنه من أذى ، بل ومن إهانة لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولأهل بيته الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

بل ولعل من أوضح مفردات هذا الواقع قولها لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إن الله يسارع في هواك (١).

__________________

(١) الدر المنثور ج ٥ ص ٢١٠ و ٢١١ عن البخاري ، ومسلم ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن ماجة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وأحمد ، وابن أبي حاتم ، وراجع ما عن ابن سعد أيضا. وراجع : تفسير الصافي ج ٤ ص ١٩٦ وأحكام القرآن للجصاص ص ٤٧٩ وتفسير القرآن العظيم ج ٣ ص ٢٥ وج ١٤ ص ٢٠٨ و ٢١٤ والبحار ج ٢٢ ص ١٨١ وفتح القدير ج ٤ ص ٢٩٥ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ٢ ص ٢٤٥ ومجمع البيان (ط مؤسسة الأعلمي) ج ٨ ص ١٧١ ونور الثقلين ج ٤ ص ٢٩٣ والميزان (تفسير) ج ١٦ ص ٣٤٢ وراجع : المبسوط للطوسي ج ٤ ص ١٥٨ والصراط المستقيم ج ٣ ص ١٦٦ وشرح مسلم للنووي ج ١٠ ص ٤٩ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ٦٢٥ والبحار ج ٢٢ ص ١٨١ وصحيح البخاري ج ٦ ص ٢٤ وعن مسند أحمد ج ٦ ص ٢٦١ وعن فتح الباري ج ٨ ص ٤٠٥ وج ٩ ص ١٤٢ وعمدة القاري ج ١٩ ص ١١٩ وج ٢٠ ص ١٠٩ والديباج على مسلم ج ٤ ص ٧١ وحاشية السندي على النسائي ج ٦ ص ٥٤ وتخريج الحاديث والآثار ج ٣ ص ١١٨ وتغليق التعليق ج ٤ ص ٤١٠ وتفسير جوامع الجامع ج ٣ ص ٧٥ ـ

٢٤

وقولها : أنت الذي تزعم أنك نبي الله (١).

وقولها له أمام أبيها : اقصد (٢). أي أعدل (أو قل ولا تقل إلا حقا).

ثم ما لهجت به النصوص ، التي قدمناها عن تصرفات عائشة مع شخص رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيما يرتبط بأمر بالغ الحساسية والخطورة بالنسبة إليه.

وتفصيل ذلك ، قولها : كان في متاعي خف وكان على جمل ناج وكان متاع صفية فيه ثقل ، وكان على جمل ثقال ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «حولوا متاع عائشة على جمل صفية ، وحولوا متاع صفية على جمل عائشة حتى يمضي الركب».

__________________

ـ وتفسير مجمع البيان ج ٨ ص ١٧١ وصحيح ابن حبان ج ١٤ ص ٢٨٢ واحكام القرآن للجصاص ج ٣ ص ٤٧٩ وتفسير البغوي ج ٣ ص ٥٣٨ وأحكام القرآن لابن العربي ج ٣ ص ٥٩٥ و ٦٠٤ و ٦٠٦ والجامع لأحكام القرآن ج ٢ ص ٢٥ وج ١٤ ص ٢٠٨ و ٢١٤ وتفسير القرآن العظيم ج ٣ ص ٥٠٨ ومصادر كثيرة أخرى.

(١) إحياء علوم الدين (ط مصر) ج ٢ ص ٢٩ و (ط دار المعرفة) ص ٤٣ ومكاشفة القلوب ص ٢٣٧ باب ٩٤ ص ٢٣٧ والمراجعات ص ٣٢٦ والنص والإجتهاد ص ٤١٨ وفيض القدير ج ٣ ص ٦٦١ والصراط المستقيم ج ٣ ص ١٦٦ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١ ص ٣٣ وراجع : المصنف للصنعاني ج ١١ ص ٤٣١.

(٢) إحياء العلوم للغزالي ج ٢ ص ٣٥ آداب النكاح ، ومكاشفة القلوب ص ٢٣٨ باب ٩٤ وكنز العمال (ط حيدرآباد) ج ٧ ص ١٦ ح (١٠٢٠) والمراجعات ص ٣٢٦ والنص والإجتهاد ص ٤١٧ والصراط المستقيم ج ٣ ص ١٦٦ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ٦٢٥ والطرائف لابن طاووس ص ٢٩٢ وعين العبرة للسيد أحمد آل طاووس ص ٤٥ وإحقاق الحق (الأصل) ص ٣٠٦ و ٣٠٧.

٢٥

قلت : يا لعباد الله ، غلبتنا هذه اليهودية على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

قالت : فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «يا أم عبد الله ، إن متاعك فيه خف ، وكان متاع صفية فيه ثقل ، فأبطأ الركب فحولنا متاعها على بعيرك وحولنا متاعك على بعيرها.

قالت : فقلت : ألست تزعم أنك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فتبسم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وقال : أو في شك؟

أنت يا أم المؤمنين يا أم عبد الله.

قالت : قلت : ألست تزعم أنك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فهلا عدلت. وسمعني أبو بكر الخ .. (١).

إنها مسألة تمس موقع النبوة أولا ، وتمثل طعنة نجلاء في أعماق أعماق روحه ، بحربة تقطر بسم الحقد ، والضغينة ، وتهدف إلى هدم شرفه ، وتقويض كرامته ، والنيل من عزه ، ومجده الأثيل ..

فالنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أغير مخلوق وجد ، فما بالها تطعن في عرضه ، مرة بعد أخرى ، غير آبهة بتواتر الوحي الإلهي ، بالتأكيد على طهارة ذلك العرض ، وبراءته من أي مغمز ، وسلامته من أي وليجة ..

ولما ذا لا تكف عن غمزها ، ولا يقنعها الوحي الإلهي ، ولا يؤثر فيها

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ١٨٢ وج ٩ ص ٧١ عن أبي يعلى بسند لا بأس به ، وأبو الشيخ بن حيان بسند جيد قوي عن عائشة ، وفي هامشه عن : مجمع البيان ج ٤ ص ٣٢٢ والمطالب العالية (١٥٤٠) و (١٩٢٧). وراجع : مجمع الزوائد ج ٤ ص ٣٢٢ ومسند أبي يعلى ج ٨ ص ١٣٠.

٢٦

قول جبرئيل ، ولا تأكيد الرسول المسدد والمؤيد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، الذي لا ينطق عن الهوى؟!

وما الذي يدعوها إلى نبذ أبسط قواعد اللياقة والأدب ، مع أشرف وأفضل ، وأقدس وأنبل ، وأعظم ، وأكمل الخلق ، وسيد رسل الله تعالى؟!

إن أقوالها مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حول ولده إبراهيم بعيدة كل البعد عن أبسط قواعد الأدب ، والإلتزام والإحترام .. فلما ذا هذا الطعن المتوالي الممعن في القسوة لقلب الإنسانية ، الطافح بالرحمة ، والمودة ، والحنان ، والغيرة ، والشعور بالكرامة والعزة؟!

وهل يجرؤ إنسان يدّعي أنه قريب وحبيب على التصريح لمن يحبه ، ويتقرب منه ، بأن ولده الذي يبكي عليه ، وقد مات قبل ساعة أو ساعات ليس ولده الشرعي؟!

رغم قيام الشواهد لذلك الأب على صحة ولادة ذلك الطفل وشرعيته.

فكيف إذا كان الوحي الإلهي هو الذي يؤكد له هذه الحقيقة ، التي يصر الآخرون على إنكارها وتكذيبها ، بلا أي شاهد أو مبرر؟!. إلا الحسد والغيرة ، وإلا التجني والإمعان في جرح الكرامة ، وإلا الإيذاء ..

مرضعة إبراهيم :

هذا .. ولا نرى أن ثمة تناقضا بين رواية إرضاع أم سيف لإبراهيم ، أو رواية إرضاع أم بردة بنت المنذر له. فلعل كل واحدة منهما قد أرضعته برهة من الزمن. وربما تكون أم سيف قد أرضعته أياما يسيرة ، ثم أخذته أم بردة ، فإنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أعطى أم بردة هذه قطعة نخل.

٢٧

كاد يقع في نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وعن الرواية التي تدّعي : أنه لما ولد إبراهيم كاد يقع في نفس النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. نقول :

إنها لا يمكن أن تصح ، لأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان أتقى لله من أن يقع في قلبه أمر من هذا القبيل .. وهو الذي عرّفه جبرئيل حتى قبل ولادة إبراهيم : بأن مارية تحمل ولدا هو أشبه الناس به ..

يضاف إلى ذلك : أن جبرئيل ـ كما تقدم ـ حين ولد إبراهيم قد جاءه ، وقال له : السلام عليك يا أبا إبراهيم ..

ثم إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يعلم : بأن رمي هؤلاء لمارية لا يستند إلى شاهد ولا يعتمد على دليل .. ويعرف أن من يرمي المؤمنين بشيء من ذلك ، لا بد أن يأتي بالشهداء على ما يقول ، فإذا لم يأت بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون.

بل هم يستحقون العقاب والنكال على قذفهم هذا. لو لا أن الله تعالى لم يرد معاقبتهم في الدنيا ، لكي لا يتعرض مقام النبوة الأقدس للريب والشك والكيد من أصحاب النفوس المريضة ، فيضر ذلك بإيمان الناس إلى يوم القيامة ..

إنّا بك يا إبراهيم لمحزونون :

وروي : أن إبراهيم ابن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مات سنة عشر ، وجزم به الواقدي ، وقال : مات يوم الثلاثاء لعشر خلون من شهر

٢٨

ربيع الأول (١).

وقالت عائشة : عاش ثمانية عشر شهرا (٢). وروي ذلك عن غير عائشة أيضا.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ٢٢ و ٢٤ وعمدة القاري ج ٧ ص ٦٤ وج ٨ ص ١٠٣ و ٢١١ والمعجم الكبير للطبراني ج ٢٤ س ٣٠٦ و ٣٠٧ ومعرفة السنن والآثار ج ٣ ص ٩١ والإستيعاب لابن عبد البر ج ١ ص ٥٦ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ١٤٣ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣ ص ١٤٥ وج ٣٤ ص ٢٩٠ و ٢٩١ وج ٦٠ ص ٢٩٦ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٣٣٢ والإصابة ج ١ ص ٣١٨ وإمتاع الأسماع للمقريزي ج ٥ ص ٣٣٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٦١٥ والمجموع للنووي ج ٥ ص ٥٨ وذخائر العقبى ص ١٥٥ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٣ ص ٣٣٦ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ١٦٢ وفتح الباري ج ٣ ص ١٤٠.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ٢٢ و ٢٧ ومسند أحمد ج ٦ ص ٢٦٧ وسنن أبي داود ج ٢ ص ٧٦ ومعرفة السنن والآثار ج ٣ ص ١٣٩ والإستيعاب ج ١ ص ٥٦ و ٥٧ والإصابة ج ١ ص ٣١٨ و ٣١٩ والمحلى لابن حزم ج ٥ ص ١٥٨ ونصب الراية ج ٢ ص ٣٢٢ والدراية في تخريج أحاديث الهداية ج ١ ص ٢٣٦ وفيض القدير ج ١ ص ٢٥٧ والعلل لابن حنبل ج ١ ص ٢٨٣ وأحكام الجنائز للألباني ص ٧٩ عن أبي داود ، وابن حزم ، وأحمد ، وراجع : تاج المواليد للطبرسي (المجموعة) ص ٩ والمستدرك للحاكم ج ٤ ص ٣٨ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٣ ص ٣٣٦ وعمدة القاري ج ٨ ص ٢١١ وعون المعبود ج ٤ ص ٣١ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٨ ص ٤٩ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ١٤٢ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ١٤٢ و ١٤٣ وج ٣ ص ٧ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣ ص ١٤٥ و ١٤٦ وأسد الغابة ج ١ ص ٣٩ والوافي بالوفيات ج ٦ ص ٦٧ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٣٢٢ وإمتاع الأسماع للمقريزي ج ٥ ص ٣٣٨ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٢٢٣ وسيرة ابن إسحاق ج ٥ ص ٢٥١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٦١٤ و ٦١٥.

٢٩

وفي صحيح البخاري : أنه عاش سبعة عشر شهرا ، أو ثمانية عشر شهرا على الشك (١).

وعن البراء ، وأنس ، وجابر : توفي إبراهيم ابن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو ابن ستة عشر شهرا أو ثمانية عشر شهرا (٢).

وقال محمد بن المؤمل : بلغ سبعة عشر شهرا وثمانية أيام (٣).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ٢٢ والإصابة ج ١ ص ٣٢٠ وراجع : فتح الباري ج ١٠ ص ٤٧٧.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ج ٣ ص ١٣٥ و ١٣٧ و ١٣٨ و ١٤٤ وراجع : فتح الباري ج ١٠ ص ٤٧٧ وتاريخ المدينة لابن شبة ج ١ ص ٩٧ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٣٣١ و ٣٣٢ وإمتاع الأسماع ج ٥ ص ٣٣٨ وشرح معاني الآثار ج ١ ص ٥٠٨ و ٥٠٩ وفيض القدير ج ٢ ص ٥١٥ الإصابة ج ١ ص ٣٢٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٦١٢ و ٦١٤ وراجع : مسند أحمد ج ٤ ص ٢٨٣ و ٢٨٩ و ٣٠٤ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٤ ص ٩ وعمدة القاري ج ٧ ص ٦٩ ومسانيد أبي يحيى الكوفي ص ٢٢ و ٢٦ والمصنف للصنعاني ج ٧ ص ٤٩٤ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٣ ص ٢٥٥ والآحاد والمثاني ج ٥ ص ٤٥١ ومسند أبي يعلى ج ٣ ص ٢٥١ والإستيعاب ج ١ ص ٥٨ ونصب الراية ج ٢ ص ٣٣١ والدراية في تخريج أحاديث الهداية ج ١ ص ٢٣٥ وكنز العمال ج ١٢ ص ٤٥٢ و ٤٥٤ و ٤٥٥ والإكمال في أسماء الرجال للخطيب التبريزي ص ٧ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ١٤٠ والعلل لابن حنبل ج ٢ ص ٤١٢ و ٥٦٥ و ٥٦٦.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ٢٢ والإصابة ج ١ ص ٣١٨ وأسد الغابة ج ١ ص ٣٩ والإستيعاب ج ١ ص ٥٦ وإمتاع الأسماع ج ٥ ص ٣٣٨ وعمدة القاري ج ٧ ص ٦٩.

٣٠

وقيل : توفي وهو ابن سنة وعشرة أشهر وستة أيام (١).

وقيل : مات وهو له إحدى وسبعون ليلة (٢).

وروي عن مكحول ، وعطاء ، وعبد الرحمن بن عوف ، وبكير بن عبد الله بن الأشج ، وقتادة ، وأنس : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف ، فانطلق به إلى النخل الذي فيه إبراهيم «عليه‌السلام» ، فدخل وإبراهيم يجود بنفسه ، فوضعه في حجره ، فلما (مات) ذرفت عينا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : تبكي يا رسول الله؟ أو لم تنه عن البكاء؟

قال : «إنما نهيت عن النوح ، وعن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نغمة لهو ولعب ، ومزامير الشيطان ، وصوت عند مصيبة خمش وجه ، وشق جيب ، ورنة شيطان» (٣).

__________________

(١) إمتاع الأسماع ج ٥ ص ٣٣٨ وعمدة القاري ج ٧ ص ٦٩ وج ٨ ص ١٠٣ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٣٩٥.

(٢) إمتاع الأسماع ج ٥ ص ٣٣٨.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ٢٢ عن ابن سعد ، ومستدرك الوسائل ج ٢ ص ٤٥٦ و ٤٥٨ وج ١٣ ص ٩٤ والبحار ج ٧٩ ص ٩٠ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ٤٧٠ و ٤٨٦ وميزان الحكمة ج ٢ ص ١٦٧٤ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٤ ص ٦٩ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٣ ص ٢٦٦ ومنتخب مسند عبد بن حميد ص ٣٠٩ وكنز العمال ج ١٥ ص ٦١٥ و ٦١٦ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ١٣٨ وسيرة ابن إسحاق ج ٥ ص ٢٥١ وغوالي اللآلي ج ١ ص ٨٩ والتمهيد لابن عبد البر ج ٢٤ ص ٤٤٢ وكتاب المجروحين ج ٢ ص ٢٤٥ وفتوح مصر وأخبارها ص ١٢٤ وسيرة ابن إسحاق ج ٥ ص ٢٥١ والتمهيد ج ٢٤ ص ٤٤٢ ونصب الراية ج ٥ ص ٩٠.

٣١

وفي رواية : فلقد رأيته يكيد بنفسه ، فدمعت عينا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول ما يسخط الرب ، والله يا إبراهيم ، إنا بك لمحزونون».

وعن أنس وأبي أمامة : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : «تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول إلا ما يرضي الله تعالى ، والله إنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٧ ص ٣٠ وج ١١ ص ٢٣ عن مسلم ، وأبي داود ، وابن سعد ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والطبراني ، وراجع : ابن ماجة ، وابن عساكر ، عن أسماء بنت يزيد ، وبكير بن عبد الله ، وراجع : الذكرى للشهيد الأول ج ٢ ص ٤٧ والحدائق الناضرة ج ٤ ص ١٦٣ وكشف الغمة (ط ق) ج ١ ص ١٥٨ والكافي للكليني ج ٣ ص ٢٦٢ ودعائم الإسلام ج ١ ص ٢٢٤ وتحف العقول ص ٣٧ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٣ ص ٢٨٠ و (ط دار الإسلامية) ج ٢ ص ٩٢١ ومستدرك الوسائل ج ٢ ص ٣٨٥ و ٤٦٠ و ٤٦٢ و ٤٦٣ ومكارم الأخلاق ص ٢٢ وذخائر العقبى ص ١٥٣ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٣٩٤ وغوالي اللآلي ج ١ ص ٨٩ ومسكن الفؤاد للشهيد الثاني ص ٥ و ٩٣ و ٩٤ والبحار ج ١٦ ص ٢٣٥ وج ٢٢ ص ١٥٧ و ٢٦٤ وج ٢٤ ص ٢٦٤ وج ٦٥ ص ٥٤ وج ٧٤ ص ١٤٠ وج ٧٩ ص ٩١ و ١٠١ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ٤٠٥ و ٤٧٠ و ٤٧١ و ٤٧٢ و ٤٨١ ومسند أحمد ج ٣ ص ١٩٤ وصحيح البخاري ج ٢ ص ٨٤ وصحيح مسلم ج ٧ ص ٧٦ وسنن ابن ماجة ج ١ ص ٥٠٦ وسنن أبي داود ج ٢ ص ٦٤ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٤ ص ٦٩ وعمدة القاري ج ٨ ص ٧٥ و ١٠١ والمصنف للصنعاني ج ٣ ص ٥٥٣ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٣ ص ٢٦٧ ومنتخب مسند عبد بن حميد ص ٣٨٥ والإعتبار لابن أبي الدنيا ـ

٣٢

وعن أنس : لما قبض إبراهيم ابن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «لا تدرجوه في أكفانه ، حتى أنظر إليه» ، فأتاه ، فانكب عليه ، وبكى (١).

__________________

ـ ص ٤١ وكتاب الهواتف لابن أبي الدنيا ص ٣٨ ومسند أبي يعلى ج ٦ ص ٤٣ وصحيح ابن حبان ج ٧ ص ١٦٢ والمعجم الأوسط ج ٨ ص ٣٤٦ والمعجم الكبير ج ٢٤ ص ١٧١ ومعرفة السنن والآثار ج ٣ ص ١٩٨ والإستذكار ج ٣ ص ٧١ والإستيعاب ج ١ ص ٥٥ و ٥٧ و ٥٨ والتمهيد لابن عبد البر ج ١٧ ص ٢٨٤ وج ٢٤ ص ٤٤٣ وتغليق التعليق ج ٢ ص ٤٧٢ وراجع : كنز العمال ج ١٥ ص ٦١٥ و ٦٢١ و ٦٢٥ وفيض القدير ج ٢ ص ٧١٧ وج ٣ ص ٢٩١ وج ٦ ص ٤٧٣ وكشف الخفاء ج ٢ ص ١٥٦ وتفسير أبي حمزة الثمالي ص ٣٦٠ وأحكام القرآن لابن العربي ج ٣ ص ٧٤ وج ٤ ص ٢٦٢ وتفسير القرطبي ج ٩ ص ٢٤٩ وفتح القدير ج ٣ ص ٤٨ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ١٣٧ و ١٣٨ و ١٤٠ و ١٤٢ و ١٤٣ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣ ص ١٣٩ و ١٤٥ وج ١٠ ص ١٠٧ وأسد الغابة ج ١ ص ٣٩ ووفيات الأعيان ج ٢ ص ٣٠٢ وتاريخ الإسلام ج ٢ ص ٦٩٩ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٣٣١ و ٣٣٢ وج ٦ ص ٣٠٥ وج ٧ ص ٨٦ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٢٢٣ و ٣٣٨ و ٣٣٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٦١٤ و ٦١٥.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ٢٣ عن ابن ماجة ، والحكيم الترمذي وراجع : سنن ابن ماجة ج ١ ص ٤٧٣ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣ ص ١٣٩ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٣٣١ وإمتاع الأسماع ج ٥ ص ٣٣٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٦١٣.

٣٣

ونقول :

إن لنا هنا بعض الوقفات ، أو الإيضاحات ، وهي التالية :

فضائل ابن عوف :

إن تفويض عمر بن الخطاب لعبد الرحمن بن عوف أمر تعيين الخليفة من بعده ، وهو الذي كان يعلم : أن هوى عبد الرحمن كان في عثمان ، فاختار عثمان .. كان وراء سعي محبي عمر إلى تعظيمه ، وتسطير الفضائل له.

فما دام أنه كان موضع ثقة ذلك الذي منحوه حبهم وإخلاصهم ، فلما ذا لا يسعى الفريق الأموي إلى التصدق على عبد الرحمن بن عوف ببعض فتات الفضائل ، أو الأدوار التي لا تكلفهم شيئا ، لأنها تكون مسروقة من محبي علي «عليه‌السلام» ، أو من أناس ليس لهم نشاط في تأييد ملكهم وسلطانهم ، ولا في إضعاف أمر علي وأهل بيته «عليهم‌السلام» ، الذين يرون أن لا بقاء ، ولا قرار لحكمهم معهم ..

الحكمة البالغة :

من المعلوم : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن عقيما ، فقد ولد له من خديجة «عليها‌السلام» عدة أولاد ، وقد ماتوا جميعا ، ولم يبق منهم سوى سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء «عليها‌السلام».

ومن المعلوم أيضا : أنه لم يطرأ عليه العقم بعد خديجة «عليها‌السلام» ، بدليل ولادة إبراهيم «عليه‌السلام» في أواخر سني حياته «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

ثم إن من المعلوم كذلك : أنه بعد أن ولدت له خديجة ومارية لم يولد له من أي من نساء العرب الأخريات ، حتى القرشيات ، ولا من نساء سائر الأمم

٣٤

التي تدّعي لنفسها أحوالا ومقامات ، فلم يولد له ممن يتصل نسبها ببني إسرائيل كصفية بنت حيي بن أخطب مثلا ، ربما منعا لأي استغلال تضليلي من قبل أولئك الناس ، الذين عرفوا بالإنتهازية ، وبتحريف الكلم عن مواضعه ، وبالمتاجرة حتى بالنصوص المقدسة ، حتى إنهم كانوا (يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ) (١).

ورغم كثرة النساء اللواتي تزوجهن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقد كن من قبائل مختلفة ، فإن الله تعالى لم يرزقه ولدا إلا من خديجة ، ثم من جارية أهديت إليه من بلاد بعيدة ، ليدل ذلك على سرّ إلهي في خديجة والزهراء «عليهما‌السلام» ، مفقود في جميع النساء الأخريات ، ولا يمكن أن يتوفر في أي ذرية تولد له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» منهن.

بل ربما تكون ولادة وبقاء ذرية له من غير خديجة أمرا مضرا بالإسلام بدرجة يصعب على البشر تقدير حجم الخطر والضرر فيه ..

ولذلك حرم سائر نسائه رغم كثرتهن من الولد. وتلك حكمة بالغة ، وتسديد ولطف إلهي بالبشر كلهم ، ولعل تصرفات عدد من نسائه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» التي تعبر عن طموحات خطيرة ، وعن نفسيات غير سليمة تظهر هذه الحقيقة بجلاء ، ولا نريد أن نقول أكثر من ذلك ..

النياحة المنهي عنها :

وبعد .. فقد بين «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سبب نهيه عن النياحة على الأموات ،

__________________

(١) الآية ٧٩ من سورة البقرة.

٣٥

فقال ـ كما روي عنه ـ : «إنما نهيت عن النياحة ، وأن يندب الميت بما ليس فيه».

ثم قال : «.. وإنما هذه رحمة ، ومن لا يرحم لا يرحم يا إبراهيم ، لو لا أنه حق ، ووعد صادق ، ويوم جامع ..» (١).

ونقول :

١ ـ إن هذه الكلمات تدلنا على أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد بكى رحمة منه لإبراهيم.

أي أن هذا البكاء كان استجابة منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لشعور حرّكته رؤية لحالة ضعف أو عجز ، أو نقص وجده في ذلك الطفل تمثل فيما كان يعانيه إبراهيم من جهد أو ألم حين كان يصارع المرض ، أو حين كان يجود بنفسه.

فلم يكن البكاء إذن لأجل شيء يعود لشخص رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فهو لا يبكي لأنه يفقد شيئا يشعر أنه بحاجة إلى استمرار

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ٢٣ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ١٣٨ والتحفة السنية (مخطوط) ص ٤٤ ومستدرك الوسائل ج ٢ ص ٣٨٥ وذخائر العقبى ص ١٥٥ ومسكن الفؤاد للشهيد الثاني ص ٩٣ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ٤٧٠ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٤ ص ٦٩ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٣ ص ٢٦٦ ومنتخب مسند عبد بن حميد ص ٣٠٩ والإستيعاب ج ١ ص ٥٧ والتمهيد لابن عبد البر ج ٢٤ ص ٤٤٣ وكنز العمال ج ١٥ ص ٦١٥ و ٦١٦ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ١٣٨ وكتاب المجروحين ج ٢ ص ٢٤٦ وأسد الغابة ج ١ ص ٣٩ وفتوح مصر وأخبارها ص ١٢٤ والوافي بالوفيات ج ٦ ص ٦٨ وسيرة ابن إسحاق ج ٥ ص ٢٥١ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٩٤.

٣٦

احتفاظه به ، ولا لأن ذلك يورد عليه نقصا ، أو يسبب له عجزا ، أو يوجب له ألما ، وأذى كشخص.

وإذن ، فهذا البكاء لم يكن أنانيا بل هو بكاء إنساني ، إذ إن حالة إبراهيم لو وجدت في أي شخص آخر ـ قريبا كان أو غير قريب ـ فسيبكي له رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، كما بكى «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على عثمان بن مظعون ، وعلى الشهداء في مؤتة ، وفي مناسبات أخرى .. لأن بكاءه بكاء الرحمة ، وليس بكاء الحرص ، أو الشعور بالنقص ، أو للإحساس بالخسارة الشخصية.

وذلك كله يدلنا على كمال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في ميزاته وخصائصه ، وفي مشاعره ، وأحاسيسه ، الإنسانية. وعلى أن النبوة لا تمنع من هذا الكمال ، بل هي ترسخه وتؤكده.

٢ ـ إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أوضح ما قصده حين نهى عن النياحة ، وأعطى الضابطة الصحيحة للحزن وللفرح على حد سواء.

فذكر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أن الحزن لا يبرر إطلاق الدعاوى الفارغة في الهواء ، والكذب ، ولا ينبغي أن يفسح المجال ليدخل إلى حياة الناس ، ولو على مستوى التعبير عن العاطفة .. ولا يجوز أن يجعل وسيلة لسلو المحزونين ، فإن الإحساس بنفع الكذب ولو بهذا المقدار يجرئ الناس على الاستفادة منه في كل موقع يرون أن لهم فيه فائدة شخصية ، وتصبح الفائدة الشخصية هي المعيار عندهم في الحلال والحرام. وتضيع المعايير الواقعية ، ويتلاشى تأثيرها.

٣٧

الصوتان الفاجران الأحمقان :

وقد تضمنت النصوص المتقدمة : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نهى عن صوتين فاجرين أحمقين : صوت عند نغمة لهو ولعب ، ومزامير الشيطان ، وصوت عند مصيبة خمش وجه ، وشق جيب ، ورنة شيطان» (١).

وعن بكير بن عبد الله بن الأشج : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بكى على ابنه إبراهيم ، فصرخ أسامة بن زيد ، فنهاه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : رأيتك تبكي!!

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «البكاء من الرحمة ، والصراخ من الشيطان» (٢).

ونقول :

قد تقدمت الإشارة إلى بكاء الرحمة ، وبكاء الفقدان. وأن البكاء الأول مطلوب ومحبوب ، دون الثاني. وإلى أن النياحة المنهي عنها هي تلك التي تتضمن الأكاذيب والمبالغات غير المقبولة في شأن الميت ..

وقد ذكر النص المشار إليه أعلاه أمورا أخرى في هذا السياق :

١ ـ فذكر النهي عن صوتين وصفهما بالفجور والحمق ..

فأما الفجور فيهما ، فلأنهما يتجاوزان حدود الشرع ، ويستخفان العقل ،

__________________

(١) تقدمت مصادر هذا الحديث ، وما بمعناه.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ٢٣ عن ابن سعد ، والجامع الصغير ج ١ ص ٤٩٥ وكنز العمال ج ١٥ ص ٦٠٨ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ١٣٩ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٣٩٥ وفيض القدير ج ٣ ص ٢٩١.

٣٨

ويلقيانه على قارعة الطريق ، ويسلبانه أي أثر أو دور.

وأما الحمق فيهما ، فلأنهما لا يخضعان لأي ضابطة أو ميزان عقلي. بل هما خارجان عن حدود المقبول والمعقول. فمسحة العقل تكون ضعيفة أو تكاد تكون معدومة فيهما ، لأنهما إنما يعتمدان على إبعاد العقل عن الساحة ، والتوجه نحو الغرائز ، والأهواء لمخاطبتها واستثارتها.

٢ ـ وقد اعتبر أن أول صوت أحمق فاجر هو صوت نغمات اللهو واللعب ، حيث يتم إقصاء العقل ، ويكون زمام الإنسان بيد هواه ، وغرائزه ، لأن العقل لا يرضى باللهو ولا باللعب ، كما ان المزامير الشيطانية لا تخاطب العقل ، لعدم وجود لغة مشتركة بينهما. بل هي تشطنه ، وتقيده ، وتمنعه من الحركة ومن التأثير ..

وقد تقدم : أن الإسلام لا يريد أن تدخل أمثال هذه الأمور إلى حياة الناس ، فإن ذلك من شأنه أن يفسدها ، وأن يجعلها خاضعة لأمزجة الأشخاص ، وأهوائهم ، وميولهم الفردية ، وانفعالاتهم.

يضاف إلى ذلك : أن للحياة واقعيتها ، وثباتها ، فلا يمكن بناؤها على اللهو واللعب ، والعبث. ولا رسم حدودها وفق ردود فعل الأمزجة ، والأهواء. ولا تحريكها بغير معايير العقل وضوابطه ، ومن دون الاعتماد على هدايته ودلالته ..

وهكذا الحال في حالات الحزن حين يرتكز إلى التصرف غير المتوازن ، والذي تفرضه الإنفعالات غير المسؤولة ، والتي تنتهي بتصرفات غير مبررة ، ولا ينتج عنها إلا الأذى والخسران ، لأنها مجرد حركات هستيرية ، تكون ضابطتها عدم الإلتزام بضابطة ، وقاعدتها إسقاط كل قاعدة.

٣٩

وأما حين يتم اللجوء إلى الحركات المصطنعة ، كذلك الصراخ الذي صدر عن أسامة بن زيد ، ثم يكون المبرر الذي انتحله لنفسه هو رؤيته النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يبكي ولده إبراهيم ، فإن الأمر يصبح أكثر حساسية وخطورة ، فقد تبين أن أسامة قد تجاوز الحدود المقبولة والمعقولة في فهمه لبكاء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على ولده ، وأمعن في الإبتعاد عن مراميه وأهدافه حين استنتج منه أمورا ليس فقط لا تتوافق معه ، وإنما هي في موقع النقيض منه ..

فشتان ما بين البكاء الناشئ عن الرحمة ، وبين الصراخ المصطنع ، الخاوي من أية عاطفة ، وإنما يقصد به إثارة أجواء من الأسى والغم ، وهي أجواء يجد الشيطان فيها مسرحا لتسويلاته ومجالا لإغواءاته ، وجر الناس إلى مزالق ومهالك لم تكن تخطر لهم على بال.

ولذلك قال له النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «والصراخ من الشيطان».

٤٠