الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٦

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٦

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-198-X
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧٢

إلى دفع الذين هم تحت أيديهم ، إلى مواجهة الأخطار ودرئها عنهم ، وأن يجدوا فيهم ما يغنيهم عن التعرض لها ومكابدتها ..

فإن كان ثمة من خطر ، فليتوجه إلى أولئك الأتباع ، لأن حفظ القائد هو الأهم والأولى والأوجب ..

ولكنه يرى الأمر مع هؤلاء القادمين على خلاف ما اعتاده ومارسه ، فهو يسمع قادتهم ، يتسابقون للتضحية بأنفسهم حبا بسلامة إخوانهم من قادة وغيرهم ..

١ ـ إن غرور عمرو بنفسه ، واعتماده على بعد صيته ، وخوف الناس منه ، قد انتهى به إلى هذا التراجع والإنكسار الذليل ، دون أن يكلف نفسه عناء خوض معركة ، أو بذل جهد في قتال ، يعذر فيه بعد استنفاذ القوة والحيلة. بل لقد آثر رجوع الخوف والجبن ، والشعور بالضعف والإنبهار بقوة الطرف الآخر. معلنا أن هؤلاء الذين يواجههم يعتبرونه جزرا ..

وهذا يدل على : أن ما كان قد اكتسبه من سمعة بين العرب في الشجاعة والقتال ، كانت تشوبه شائبة التزوير. ولو بالدعايات الفارغة ، والتهويلات الباطلة. ولعله كان يبطش ببعض الضعفاء والجبناء ، أو يغدر ببعض الآمنين من الأقوياء ، أو يختلق الروايات ، ويشيع الخرافات وينتج الأوهام والأباطيل ، عن بطولات موهومة ، وأفاعيل لم يكن لها وجود إلا في مخيلة قائليها .. ولعل كل ذلك قد كان ، فقد عرف عمرو بالكذب كما سنرى ..

شجعان وفرسان صنعتهم السياسة :

لقد حاول أعداء علي «عليه‌السلام» أن يطروا خصومه ، ويعظموهم

٢٨١

بما ليس فيهم ، وأن يظهروا ميزاته الفريدة في أناس آخرين ، ظنا منهم أنهم يطمسون بذلك ذكر علي «عليه‌السلام» ، وينقصون من قدره ، ويحطون من مقامه ..

ولعل من أمثلة ذلك سعيهم لنسبة البطولات إلى خالد بن الوليد ، وإلى الزبير بن العوام ، وطلحة ، وأبي دجانة ، وأضرابهم من الصحابة ..

بل إن إطراءهم لعنترة ، ونسج القصص الخيالية حول شجاعته النادرة ، لعله يدخل في هذا السياق أيضا .. مع أن عنترة كان رجلا عاديا جدا .. حتى لقد لخص بعضهم واقعه التاريخي بقوله عنه : إنه رجل من بني عبس يلقى الفارس أو الفارسين.

ثم اخترعوا قصص بني هلال ، وقصة سيف بن ذي يزن ، وقصص ذات الهمة. وفيروز شاه ، وبهرام شاه ، والمياسة والمقداد .. و.. و..

ويبدو أن عمرو بن معد يكرب قد حالفه الحظ في هذا المجال أيضا حتى اعتبروه فارس العرب ، وأنه مشهور بالشجاعة (١). إلى غير ذلك من أوصاف وادعاءات .. مع أن الفضل في ذلك كله لعلي «عليه‌السلام» ، فإن شدة بغضهم له قد دعاهم إلى إطراء غيره من المنحرفين عنه بما ليس فيهم ،

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٤٦ و ٣٨٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٦ ص ٣٦٩ والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج ٢ ص ٥٢٠ و (ط دار الجيل) ج ٣ ص ١٢٠٤ وأسد الغابة ج ٤ ص ١٣٣ وتنبيه الغافلين عن فضائل الطالبين لابن كرامة ص ٥٦ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٢٥٩ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٥ ص ٥٢٥ والإصابة (ط دار الكتب العلمية) ج ٤ ص ٥٦٩ وعيون الأثر لابن سيد الناس ج ٢ ص ٢٩٢.

٢٨٢

فصنعوا لهم الفضائل ، واخترعوا لهم المواقف ، وجعلوهم من صانعي المعجزات ، ونسبوا إليهم الخوارق ، دون ان يخافوا من غضب الله الخالق.

أسئلة لا تجد لها جوابا :

وقد ادّعت الرواية المتقدمة : أن عمروا انصرف عن علي «عليه‌السلام». فهل كان علي «عليه‌السلام» ، وخالد بن سعيد ومن معهما يقصدون بني زبيد؟! أم كانوا يقصدون قوما آخرين؟! أم كان القصد هو دعوة كل من يصادفونه إلى الإسلام؟!

فإن كان القصد إلى بني زبيد ، فعلى أي شيء اتفقوا مع عمرو والذين جاؤوا معه حين افترقوا عنهم؟! وكيف تركوهم ينصرفون دون دعوة؟! وهل لاحقوا بقية القبيلة في مواضع أخرى؟! أم اكتفوا بما جرى؟!.

وإذا كانوا يقصدون غير بني زبيد ، فلما ذا تعرّض لهما عمرو؟! ، ولو أنهم هابوه ، فما ذا كان سيصنع بهم ، هل سوف يأسرهم؟ أم أنه سيسلبهم ، أم سيقتلهم؟!.

وإن كانوا يقصدون كل أحد إلى الله تعالى ، فلما ذا لم يبادروا إلى دعوة عمرو ، ومن معه؟ ولما ذا تركوهم ينصرفون عنهم ، دون أن يؤدوا هذا الواجب؟!.

سبي بني زبيد :

وعن سبي بني زبيد ، نقول :

١ ـ إن مجرد أن لا يسمع المسلمون أذانا من جماعة من الناس لا يسوّغ الإغارة عليهم ، وترويعهم ، فضلا عن سبيهم .. مع ملاحظة : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يزل يصدر أوامره لمبعوثيه بأن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم.

٢٨٣

ومع أوامره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعلي «عليه‌السلام» بأن لا يقاتل أحدا حتى يدعوه (١).

كما أن ذلك لا يتناسب مع لزوم إقامة الحجة على الناس قبل التعرض لهم ، ولا مع إيجاب الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، فقد قال تعالى لرسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٢) ..

٢ ـ أين كان عمرو بن معديكرب الزبيدي حين سبا خالد بن سعيد بني زبيد؟! فإن كان حاضرا ، فلما ذا لم يدافع عنهم؟! وإن كان غائبا ، فهل تغيّظ مما جرى؟! أم أنه تلقاه بنفس راضية؟! وما هي ردة فعله لذلك؟!

النص الأوضح ، والأصح والأصرح :

وبعد أن ظهرت المفارقات غير المقبولة في النصوص المتقدمة ، فإن علينا أن نورد هنا النص الأصح والأوضح ، ثم نشير إلى الخصوصيات الواردة فيه ، وفقا لما يقتضيه الحال ، فنقول :

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٦ والبحار ج ١٩ ص ١٦٧ وج ٩٧ ص ٣٤ وج ١٠١ ص ٣٦٤ ومستدرك سفينة البحار ج ١٠ ص ٥٠٢ والنوادر للراوندي ص ١٣٩ ومشكاة الأنوار لعلي الطبرسي ص ١٩٣ وتذكرة الفقهاء (ط. ج) ج ٩ ص ٤٤ و ٤٥ و (ط. ق) ج ١ ص ٤٠٩ ومنتهى المطلب (ط. ق) ج ٢ ص ٩٠٤ ورياض المسائل للطباطبائي ج ٧ ص ٤٩٣.

(٢) الآية ١٢٥ من سورة النحل.

٢٨٤

قالوا : لما عاد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من تبوك إلى المدينة قدم إليه عمرو بن معدي كرب ، فقال له النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أسلم يا عمرو يؤمنك الله من الفزع الأكبر.

قال : يا محمد ، وما الفزع الأكبر؟ فإني لا أفزع.

فقال : يا عمرو ، إنه ليس كما تظن وتحسب ، إن الناس يصاح بهم صيحة واحدة ، فلا يبقى ميت إلا نشر ، ولا حى إلا مات ، إلا ما شاء الله ، ثم يصاح بهم صيحة أخرى ، فينشر من مات ، ويصفون جميعا ، وتنشق السماء ، وتهد الأرض ، وتخر الجبال هدا ، وترمي النار بمثل الجبال شررا ، فلا يبقي ذو روح إلا انخلع قلبه ، وذكر ذنبه ، وشغل بنفسه إلا من شاء الله ، فأين أنت يا عمرو من هذا؟

قال : ألا إني أسمع أمرا عظيما ؛ فآمن بالله ورسوله ، وآمن معه من قومه ناس ، ورجعوا إلى قومهم.

ثم إن عمرو بن معدي كرب نظر إلى أبي بن عثعث الخثعمي ، فأخذ برقبته ، ثم جاء به إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : أعدني على هذا الفاجر الذي قتل والدي.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أهدر الإسلام ما كان في الجاهلية ، فانصرف عمرو مرتدا ، فأغار على قوم من بني الحارث بن كعب ، ومضى إلى قومه.

فاستدعى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» وأمّره على المهاجرين ، وأنفذه إلى بني زبيد ، وأرسل خالد بن الوليد

٢٨٥

في الأعراب وأمّره أن يعمد لجعفي (١). فإذا التقيا فأمير الناس أمير المؤمنين «عليه‌السلام».

فسار أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، واستعمل على مقدمته خالد بن سعيد بن العاص ، واستعمل خالد على مقدمته أبا موسى الأشعري.

فأما جعفي فإنها لما سمعت بالجيش افترقت فرقتين : فذهبت فرقة إلى اليمن ، وانضمت الفرقة الأخرى إلى بني زبيد.

فبلغ ذلك أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، فكتب إلى خالد بن الوليد : أن قف حيث أدركك رسولي ، فلم يقف.

فكتب إلى خالد بن سعيد بن العاص : تعرض له حتى تحبسه.

فاعترض له خالد حتى حبسه ، وأدركه أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، فعنفه على خلافه.

ثم سار حتى لقي بني زبيد بواد يقال له : كثير (أو كسير) ، فلما رآه بنو زبيد قالوا لعمرو : كيف أنت يا أبا ثور إذا لقيك هذا الغلام القرشي فأخذ منك الإتاوة؟!

قال : سيعلم إن لقيني.

قال : وخرج عمرو فقال : من يبارز؟

فنهض إليه أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، وقام إليه خالد بن سعيد وقال له : دعني يا أبا الحسن ـ بأبي أنت وأمي ـ أبارزه.

فقال له أمير المؤمنين «عليه‌السلام» : إن كنت ترى أن لي عليك طاعة

__________________

(١) جعفي بن سعد العشيرة ، بطن من سعد العشيرة ، من مذحج ، من القحطانية.

٢٨٦

فقف مكانك ، فوقف.

ثم برز إليه أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، فصاح به صيحة ، فانهزم عمرو ، وقتل «عليه‌السلام» أخاه وابن أخيه ، وأخذت امرأته ركانة بنت سلامة ، وسبي منهم نسوان.

وانصرف أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، وخلف على بني زبيد خالد بن سعيد ليقبض صدقاتهم ، ويؤمن من عاد إليه من هرابهم مسلما.

فرجع عمرو بن معدي كرب ، واستأذن على خالد بن سعيد ، فأذن له ، فعاد إلى الإسلام ، فكلمه في امرأته وولده ، فوهبهم له.

وقد كان عمرو لما وقف بباب خالد بن سعيد وجد جزورا قد نحرت ، فجمع قوائمها ثم ضربها بسيفه فقطعها جميعا ، وكان يسمى سيفه الصمصامة ، فلما وهب خالد بن سعيد لعمرو امرأته وولده وهب له عمرو الصمصامة.

وكان أمير المؤمنين «عليه‌السلام» قد اصطفى من السبي جارية ، فبعث خالد بن الوليد بريدة الأسلمي إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وقال له : تقدم الجيش إليه ، فأعلمه بما فعل علي من اصطفائه الجارية من الخمس لنفسه ، وقع فيه.

فسار بريدة حتى انتهى إلى باب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلقيه عمر بن الخطاب ، فسأله عن حال غزوتهم وعن الذي أقدمه ، فأخبره أنه إنما جاء ليقع في علي «عليه‌السلام» وذكر له اصطفاءه الجارية من الخمس لنفسه.

فقال له عمر : امض لما جئت له ، فإنه سيغضب لابنته مما صنع علي «عليه‌السلام».

فدخل بريدة على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ومعه كتاب من خالد بما

٢٨٧

أرسل به بريدة ، فجعل يقرأه ووجه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يتغير ، فقال بريدة : يا رسول الله إنك إن رخصت للناس في مثل هذا ذهب فيئهم ، فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : ويحك يا بريدة ، أحدثت نفاقا؟!

إن علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» يحل له من الفيء ما يحل لي ، إن علي بن أبي طالب خير الناس لك ولقومك ، وخير من أخلف بعدي لكافة أمتي ، يا بريدة ، احذر أن تبغض عليا ، فيبغضك الله.

قال بريدة : فتمنيت أن الأرض انشقت لي ، فسخت فيها ، وقلت : أعوذ بالله من سخط الله وسخط رسول الله. يا رسول الله ، استغفر لي فلن أبغض عليا أبدا ، ولا أقول فيه إلا خيرا.

فاستغفر له النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

وفي الديوان المنسوب إلى أمير المؤمنين «عليه‌السلام» وشرحه : أن عمرو بن معدي كرب خاطب عليا «عليه‌السلام» حين واجهه :

الآن حين تقلصت منك الكلى

إذ حر نارك في الوقيعة يسطع

والخيل لا حقة الأياطل شزب

قب البطون ثنيها والأقرع

يحملن فرسانا كراما في الوغا

لا ينكلون إذا الرجال تكعكع

إني امرؤ أحمي حماي بعزة

وإذا تكون شديدة لا أجزع

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ٣٥٦ ـ ٣٥٨ عن إعلام الورى (ط ١) ص ٨٧ و (ط ٢) ص ١٣٤ و (ط مؤسسة آل البيت) ج ١ ص ٢٥٢ و ٢٥٣ والإرشاد للمفيد ج ١ ص ١٥٩ ـ ١٦١ وكشف اليقين ص ١٥١ و ١٥٢ والمستجاد من الإرشاد (المجموعة) ص ٩٨ و ٩٩ وكشف الغمة ج ١ ص ٢٢٩ و ٢٣٠.

٢٨٨

وأنا المظفر في المواطن كلها

وأنا شهاب في الحوادث يلمع

من يلقني يلقى المنية والردى

وحياض موت ليس عنه مذيع

فاحذر مصاولتي وجانب موقفي

إني لدى الهيجا أضر وأنفع

فأجابه «عليه‌السلام» :

يا عمرو قد حمي الوطيس وأضرمت

نار عليك وهاج أمر مفظع

وتساقت الأبطال كأس منية

فيها ذراريح وسم منقع

فإليك عني لا ينالك مخلبي

فتكون كالأمس الذي لا يرجع

إني امرؤ أحمي حماي بعزة

والله يخفض من يشاء ويرفع

إني إلى قصد الهدى وسبيله

وإلى شرايع دينه أتسرع

ورضيت بالقرآن وحيا منزلا

وبربنا ربا يضر وينفع

فينا رسول الله أيد بالهدى

فلواؤه حتى القيامة يلمع (١)

ونقول :

إن المقارنة بين هذه الرواية ، والروايات التي ذكرناها فيما سبق يظهر مدى انسجام هذه ، ومدى ما نال تلك من تزوير وتحوير ، هروبا من الإقرار ببعض الحقائق ، وسعيا في طمس ما لا يروق لهم ظهوره ، ولا تذوق أعينهم طعم النوم حين يسطع نوره.

ومهما يكن من أمر ، فإننا نحب لفت النظر إلى ما يلي :

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ٣٥٩ عن الديوان المنسوب لأمير المؤمنين «عليه‌السلام» ص ٧٩ و ٨٠.

٢٨٩

عمرو يرتد في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

لقد صرحت الروايات المتقدمة : بأن عمروا ارتد بعد وفاة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

ولكن هذه الرواية تقول : إنه ارتد عن الإسلام في عهد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حين لم يرض رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالإقتصاص له من قاتل أبيه ، لأنه قتله قبل أن يسلم ، وقد محا الإسلام ما كان قبله.

ولو أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قبل من عمرو ما طلبه منه ، فقد كان يجب أن يقتل عمروا نفسه بالذين كان قد قتلهم قبل إسلامه ..

علي عليه‌السلام على المهاجرين ، وخالد على الأعراب :

قد صرحت الرواية : بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أمّر عليا «عليه‌السلام» على المهاجرين ، وأمّر خالد بن الوليد على الأعراب .. وهذا يتضمن

__________________

(١) راجع : تاريخ مدينة دمشق ج ٤٦ ص ٣٧٢ و ٣٧٣ و ٣٧٧ والطبقات الكبرى ج ٦ ص ٥٢٦ وتاريخ الأمم والملوك (بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم) ج ٣ ص ١٣٤ و (ط دار صادر) ج ٢ ص ٣٩١ و ٥٣٨ والكامل في التاريخ لابن الأثير ج ٢ ص ٣٧٧ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٢ ص ١١٢ ومستدركات علم رجال الحديث ج ٦ ص ٦٤ والإصابة (ط دار الكتب العلمية) ج ٥ ص ٢٨١ والأعلام للزركلي ج ٥ ص ٨٦ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٨٤ وج ٦ ص ٣٦٤ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٠٥ وعيون الأثر ج ٢ ص ٢٩١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ١٣٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٨٦ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٢٥٩ و ٢٦٠.

٢٩٠

إشارة لطيفة ، لا تخفى على الأريب الخبير ، والناقد البصير.

ويتأكد لنا مضمون هذه الإشارة حين نقرأ : أن عليا «عليه‌السلام» قد جعل على مقدمته خالد بن سعيد بن العاص. أما خالد بن الوليد فجعل على مقدمته أبا موسى الأشعري.

وشتان ما بين هذين الرجلين ، فأبو موسى الأشعري هو الذي قعد بأهل الكوفة عن جهاد الناكثين (١).

وكان علي «عليه‌السلام» يلعنه مع جماعة آخرين في صلاة الفجر والمغرب (٢).

وهو جاثليق هذه الأمة (٣).

وهو الذي سلّم على معاوية فقال : السلام عليك يا أمين الله (٤).

__________________

(١) راجع : شرح الأخبار للقاضي النعمان ج ٢ ص ٣٨٤ وج ٢ ص ٨٣.

(٢) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٢٦ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٢٦٠ ومستدركات علم رجال الحديث ج ٨ ص ٤٥٩ وراجع : الغدير ج ٢ ص ١٣٢ ومستدرك سفينة البحار ج ٨ ص ٦١١ وطرائف المقال ج ٢ ص ١٤١.

(٣) الخصال ص ٥٧٥ أبواب السبعين فما فوقها ، والبحار ج ٣١ ص ٤٣٨ ومستدرك سفينة البحار ج ٢ ص ٣٦ وتفسير نور الثقلين ج ٥ ص ٢٤١ ومستدركات علم رجال الحديث ج ٨ ص ٤٥٩ وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» في الكتاب والسنة والتاريخ ج ٨ ص ٢٣٩.

(٤) تاريخ الأمم والملوك (بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم) ج ٥ ص ٣٣٢ و (ط دار صادر) ج ٤ ص ٢٤٥ والكامل في التاريخ لابن الأثير ج ٤ ص ١٢ وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» في الكتاب والسنة والتاريخ ج ١٢ ص ٤٥.

٢٩١

وهو الذي قال له الأشتر : إنك من المنافقين قديما (١).

وقال عنه حذيفة : أشهد أنه عدو لله ولرسوله ، وحرب لهما في الحياة الدنيا ، ويوم يقوم الأشهاد ، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ، ولهم اللعنة ، ولهم سوء الدار (٢).

وكان حذيفة عارفا بالمنافقين ، أسرّ إليه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أمرهم ، وأعلمه أسماءهم (٣).

__________________

(١) تاريخ الأمم والملوك (بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم) ج ٤ ص ٤٨٧ و (ط دار صادر) ج ٣ ص ٥٠١ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٢١ والغارات ج ٢ ص ٩٢٢ وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» في الكتاب والسنة والتاريخ ج ٥ ص ١٦٠ وقاموس الرجال ج ١١ ص ٥٢٧.

(٢) راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٣١٤ وراجع : الإستيعاب ج ٢ ص ٣٧٢.

(٣) قاموس الرجال ج ٦ ص ١٠٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٣١٤ و ٣١٥ وراجع : المعجم الكبير للطبراني ج ٣ ص ١٦٥ وتفسير الرازي ج ١٦ ص ١٢٠ و ١٢١ وسبل الهدى والرشاد ج ١٠ ص ٢٦٢ وتهذيب الكمال ج ٥ ص ٥٠٢ وراجع : تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٦٨ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٣٥ وراجع : الهداية الكبرى للخصيبي ص ٨٢ والمسترشد للطبري ص ٥٩٣ والخرائج والجرائح ج ١ ص ١٠٠ والعمدة لابن البطريق ص ٣٤١ والصوارم المهرقة ص ٧ و ٨ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ١٣٥ والبحار ج ٢١ ص ٢٣٣ و ٢٣٤ و ٢٤٧ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٨ ص ٢٠٠ ومجمع الزوائد ج ١ ص ١٠٩ والمعجم الكبير للطبراني ج ٣ ص ١٦٤ و ١٦٥ وكنز العمال ج ١ ص ٣٦٩ والدر المنثور ج ٣ ص ٢٥٩ وسماء المقال في علم الرجال للكلباسي ج ١ ص ١٦ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٧٥ وج ٩ ص ٣٢٨ وإعلام الورى ج ١ ص ٢٤٦.

٢٩٢

وكان أبو موسى في جملة الذين نفروا برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ناقته ليلة العقبة ليقتلوه (١).

وهو أحد الحكمين الذين يحكمان في هذه الأمة ، وقد ضلا وأضلا (٢).

وهو سامري هذه الأمة (٣) ..

إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه ..

ولكن خالد بن سعيد بن العاص له مسار آخر ، فهو أول من قام إلى أبي بكر وقال له : إتق الله ، وانظر ما تقدم لعلي بن أبي طالب «عليه‌السلام».

ثم ذكره بقول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعلي «عليه‌السلام» يوم بني قريظة : إن علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» إمامكم من بعدي ، وخليفتي

__________________

(١) راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٣١٥ الأمالي للشيخ الطوسي «رحمه‌الله» ص ١٨٢ والدرجات الرفيعة ص ٢٦٣ وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» في الكتاب والسنة والتاريخ ج ١٢ ص ٤٤ وقاموس الرجال ج ١١ ص ٥٢٧ والمسترشد للطبري ص ٥٩٧ والبحار ج ٣٣ ص ٣٠٥ و ٣٠٦ وج ٨٢ ص ٢٦٧ وج ٢٨ ص ١٠٠.

(٢) راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٣١٥ وكنز العمال ج ١ ص ٢١٧ و ٢٧٧ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٦ ص ١٧١ والبداية والنهاية ج ٦ ص ٢٤١ وج ٧ ص ٣١٥ وإمتاع الأسماع ج ١٢ ص ٢٠٣ وسبل الهدى والرشاد ج ١٠ ص ١٥٠ ونهج السعادة للمحمودي ج ٢ ص ٥٥ والأمالي للمفيد ص ٣٠.

(٣) مروج الذهب ج ٢ ص ٣٩٢ والبحار ج ٣٠ ص ٢٠٨ واليقين ص ١٦٧ و (ط مؤسسة دار الكتاب ـ الجزائري) ص ٤٤٤ ومعجم رجال الحديث للسيد الخوئي ج ١١ ص ٣٠٦ عن الخصال ، ومستدركات علم رجال الحديث ج ٥ ص ٧٥ و ٣٨٦ وشرح العينية الحميرية للفاضل الهندي ص ٥٢٦.

٢٩٣

فيكم الخ ..

ثم إنه تصدى لعمر بن الخطاب حين جاء متهددا ، ومعه ألفا رجل .. وشكر له علي «عليه‌السلام» ذلك (١).

وقد امتنع عن بيعة إبي بكر أياما ، وقال لبني هاشم في هذه المناسبة : إنكم الطوال الشجر ، الطيب الثمر.

وقد اضطغنها عليه عمر ، فلم يدع أبا بكر حتى عزله عن ولاية الجند الذي استنفر إلى الشام (٢).

إلى غير ذلك من مواقف وحالات له ، تنم عن صحة رويته ، وحسن طويته ، وسلامة دينه ، ورسوخ يقينه ، فراجع (٣).

ولنا ملاحظة أخرى هنا مفادها : أن اختيار المهاجرين ليكونوا سرية لإخضاع عمرو بن معد يكرب الزبيدي المرتد عن الإسلام يراد به : الإيحاء بأن عليه أن لا يتوهم بأن أحدا في الجزيرة العربية قادر على مساعدته ، أو أنه سوف يتعاطف معه ، فإن الذين كانوا أكثر الناس حرصا على هدم الإسلام قد أصبحوا أنصاره ، والعاملين على معاقبة من يجترئ عليه .. وهم أهل مكة بالذات ..

__________________

(١) الإحتجاج ج ١ ص ٩٩ و ١٠٤ ، وراجع : الخصال ج ٢ ص ٤٦٢ ورجال البرقي ، والدر النظيم ص ٤٤٢.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٥٨ ، وراجع : تاريخ الأمم والملوك (تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم) ج ٣ ص ٣٨٨ وراجع : السقيفة وفدك للجوهري ص ٥٥ والدرجات الرفيعة ص ٣٩٣.

(٣) راجع : ترجمة خالد بن سعيد بن العاص في قاموس الرجال ج ٤ ص ١٢٠ ـ ١٢٧ وتنقيح المقال ج ١ وغير ذلك.

٢٩٤

إلا من شاء الله :

وقد لاحظنا : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين ذكر الصيحة الأولى ، وما ينشأ عنها من أمور هائلة ، مثل موت الأحياء ، وإحياء الأموات. استثنى من الجملة الأخيرة ، بقوله : «إلا ما شاء الله».

فعبّر بكلمة «ما» التي تستعمل ، ويراد بها غالبا غير العقلاء ، فلعل المراد : الإستثناء لبعض الأموات من غير البشر ، من حشرات ، أو طيور ، أو حيوانات لا يترتب على إحيائها أثر ..

ولكنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين ذكر الصيحة الثانية ، التي تنشر بها الأموات ، وترمي النار بمثل الجبال شررا ، فلا يبقى ذو روح إلا انخلع قلبه ، وذكر ذنبه ، وشغل بنفسه. استثنى من ذلك فقال : «إلا من شاء الله». مستفيدا من كلمة «من» التي تستعمل غالبا للتعبير عن العقلاء ، حيث يبدو أنه أراد أن يستثني أنبياء الله وأوصيائهم من هؤلاء الذين تنخلع قلوبهم ، وتشغلهم ذنوبهم ، إذ ليس لدى هؤلاء ذنوب يذكرونها ، ولا ما يوجب انشغالهم بأنفسهم ..

عدوانية عمرو بن معد يكرب :

وقد صرح النص المتقدم : أن عمروا حين انصرف مرتدا عن الإسلام أغار على قوم من بني الحارث بن كعب ، ومضى إلى قومه ..

وذلك يشير إلى : وقاحة وجرأة على الدماء ، وإلى الإستهانة بكرامات الناس ، والطمع بأموالهم وأعراضهم ، بشكل يوجب المبادرة إلى وضع حد له بصراحة وحزم. وهذا ما فعله رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حيث

٢٩٥

أرسل عليا «عليه‌السلام» للقيام بذلك كما سبق ..

طغيان خالد :

وقد لوحظ : أن خالدا قد تمرد على أمر أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، وأظهر أنه إنسان غير منضبط ، فعامله علي «عليه‌السلام» بالحزم والحكمة ، حين أرسل إليه خالد بن سعيد بن العاص ، الذي لا يستطيع خالد مناوأته لموقعه ومكانته في قريش ، فحبسه .. فلما أدركه أمير المؤمنين عنفه على خلافه ..

وهذا يدلنا على : أن ما جعله النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعلي «عليه‌السلام» كان أوسع من مجرد جعل الإمارة له حين يلتقي بخالد .. بل كان خالد مأمورا بطاعته ، وبتنفيذ أوامره أينما كان ، سواء التقيا أو افترقا ..

ولو لم يكن الأمر كذلك ، فإن خالدا سوف يشتكي عليا «عليه‌السلام» إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. ويعتبره متعديا عليه ، وظالما له. ولا بد أن نتوقع منه : أن يقدم على معاندة خالد بن سعيد ، والإحتجاج على علي «عليه‌السلام» ، ولو بأن يقول : إنه لم يؤمر بطاعته ، وسيقول للناس : إن عليا «عليه‌السلام» يظلمه بهذا التعنيف ، وإنه لا يحق له أن يفرض عليه تنفيذ أمره.

ولكن خالدا لم يفعل شيئا من ذلك ، ولم يعترض ، ولم يشك ، ولا اعتذر بأنه لم يكن يعلم بأن عليه أن يطيع أوامر علي «عليه‌السلام» ولا غير ذلك مما ذكرناه ..

هزيمة عمرو ، وسبي نسائه!!

وقد صرحت الرواية المتقدمة : بأنه رغم أن قوم عمرو بن معد يكرب ، قد حاولوا إثارة حفيظته بقولهم : لعل هذا الوافد يجبره على دفع الإتاوة له ،

٢٩٦

مع وصفهم لذلك الوافد بكلمة «الغلام» ، المشعرة بتميّز عمرو عليه بالسن ، وبالتجربة ، وبالموقعية ، وما إلى ذلك ..

ثم وصفوا هذا الغلام ب «القرشي» ليشعر ذلك بغربته ، وبالإختلاف معه في العدنانية والقحطانية ، وفي طبيعة الحياة ، فإن هذا الوافد حضري ، يفترض أن تكون حياته أقرب إلى الراحة والسعة والرفاه ، أما عمرو وقومه ، فإنهم يعيشون حياة البداوة والخشونة ، ويدّعون لأنفسهم الإمتياز بالقدرة على تحمل المكاره ومواجهة الصعاب والإعتزاز بالشجاعة وبالفروسية وما إلى ذلك ..

ولكن كل ذلك لم ينفع ، بل هو قد زاد من مرارة الهزيمة التي حلت بعمرو ، ومما زاد في خزي عمرو أن هزيمته قد جاءت بعد أن استعرض قوته أمام الملأ ، قائلا : من يبارز؟

وكان يرى أن الناس يهابونه ، وأنه يكفي أن يذكر لهم اسمه حتى تتبدل أحوالهم ، ويتخذون سبيل الإنسحاب من ساحة المواجهة ، بكل حيلة ووسيلة ، وإذ به يرى أن هؤلاء يتنافسون على مبارزته ، وعلى سفك دمه.

وكان الأخطر والأمرّ ، والأشر والأضر هو : هزيمة عمرو أمام نفس هذا الغلام القرشي من مجرد صيحة صدرت منه ، دون أن يلوح له بسيف ، أو يشرع في وجهه رمحا!!

فما هذه الفضيحة النكراء ، والداهية الدهياء؟!

ثم كان الأخزى من ذلك ، والأمضّ ألما ، والأعظم ذلا أن يقتل هذا الغلام القرشيّ على حد تعبيرهم أخا عمرو وابن أخيه ، ويسبي ريحانة بنت سلامة زوجة عمرو ، بالإضافة إلى نساء أخريات.

ثم انصرف أمير المؤمنين «عليه‌السلام» مطمئنا إلى عدم جرأة عمرو

٢٩٧

وغيره على القيام بأية مبادرة تجاه خالد بن سعيد ، الذي أبقاه علي «عليه‌السلام» في بني زبيد أنفسهم ، ليقبض صدقاتهم ، ويؤمّن من عاد إليه من هرّابهم مسلما.

استجداء عمرو .. وأريحية خالد!! :

وتواجهنا مفارقة هنا ، وهي : أن عمرو بن معد يكرب جاء إلى خالد بن سعيد بن العاص الذي خلّفه علي «عليه‌السلام» في بني زبيد ، فأظهر عودته إلى الإسلام ، ثم كلّمه في امرأته وولده ، فوهبهم له.

ولكن هذا المستكبر المغرور بنفسه بالأمس ، والذي جرّ على نفسه هذه الهزيمة الفضيحة ، وكان سببا في قتل أخيه ، وابن أخيه ، ثم في سبي زوجته وولده .. لا لشيء إلا لأجل أن الرسول الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يجب طلبا ظالما رفعه إليه ..

إن هذا الرجل بالذات يتراجع عن موقفه ، ويستعطف ذلك الذي خلّفه ابن عم الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في قوم عمرو بن معد يكرب نفسه ليجبي صدقاتهم ، ويؤمّن من عاد إليه من هرّابهم مسلما ..

وقد كان هذا الرجل في غنى عن هذا الإستعطاف هنا ، وعن الإستكبار هناك ..

والأغرب من ذلك : أن نجده حتى حين يرى نفسه بحاجة إلى الإستعطاف والخضوع ، ويمارسه ، لا يتخلى عن العنجهية والغرور ، وحب الظهور ، وإثبات الذات ، وإظهار القوة بغباوة وحمق. فإنه لما وقف على باب خالد وجد جزورا قد نحرت ، فجمع قوائمها ، ثم ضربها بسيفه فقطعها جميعا ..

ثم وهب سيفه الذي كان يسميه بالصمصامة لخالد بن سعيد ، إمعانا

٢٩٨

منه في ادّعاء الشدة ، والقوة لنفسه ..

وذلك كله يجعلنا نقول :

لقد صدق من وصفه : بأنه «مائق بني زبيد» (١).

فإن المائق هو : الأحمق في غباء ، أو الهالك حمقا وغباوة (٢).

بريدة يشكو عليا عليه‌السلام إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وقد ذكرت الرواية المتقدمة حديث شكوى بريدة عليا «عليه‌السلام» إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بطلب من خالد ، وبتحريض من عمر بن الخطاب ، وقد غضب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من ذلك ، وقد تقدم الحديث عن هذه الرواية فلا نعيد.

ما ذا عن عمرو بن معد يكرب؟! :

ثم إننا لا نريد أن نؤرخ هنا لعمرو بن معد يكرب الزبيدي ، غير أننا نشير إلى لمحات قد تفيد في توضيح سبب تعظيمهم لهذا الرجل ، وتأكيدهم على شجاعته ، فنقول :

إن من أهم أسباب ذلك هو مشاركته في فتوح الشام والعراق ، كما تظهره كتب التراجم (٣).

__________________

(١) راجع : البحار ج ٤١ ص ٩٦ عن ابن إسحاق ، ومناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب ج ٢ ص ٣٣٣.

(٢) أقرب الموارد ج ٢ ص ١٢٥٢.

(٣) راجع : الإصابة ج ٣ ص ١٨ ـ ٢٠ و (ط دار الكتب العلمية) ج ٤ ص ٥٦٩ و ٥٧٠.

٢٩٩

كما أن ابن عساكر قد ذكر مفردات كثيرة ، تفيد في وضوح حجم مشاركته لهم في تلك الفتوحات العزيزة على قلوبهم (١) ، حيث قالوا : إن هذا الرجل قد شارك في عامة الفتوح بالعراق (٢) ، وكانت أكثر فتوحات العجم على يديه (٣) ..

وقد كتب عمر بن الخطاب إلى قائده النعمان بن مقرن : استشر واستعن في حربك طليحة ، وعمرو بن معد يكرب ، ولا تولهما من الأمر شيئا ، فإن كل صانع هو أعلم بصناعته (٤).

وكان عمر إذا رأى عمرو بن معد يكرب قال : «الحمد لله الذي خلقنا وخلق عمروا» (٥).

وكتب عمر إلى سعد : إني أمددتك بألفي رجل ، عمرو بن معد يكرب ،

__________________

(١) راجع : تاريخ دمشق ج ٤٦

(٢) الإستيعاب (بهامش الإصابة) ج ٢ ص ٥٢٠ و (ط دار الجيل) ج ٣ ص ١٢٠٢ والإصابة ج ٣ ص ١٨ وفيه : أنه شهد فتوح الشام وفتوح العراق.

(٣) سفينة البحار ج ٦ ص ٤٨٢ والبحار ج ٤١ ص ٩٦ عن مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٦٠٦ و (ط المكتبة الحيدرية) ج ٢ ص ٣٣٤.

(٤) الإستيعاب (بهامش الإصابة) ج ٢ ص ٥٢٣ و ٥٣٨ و (ط دار الجيل) ج ٢ ص ٧٧٣ وج ٣ ص ١٢٠٥ والإصابة ج ٣ ص ١٩ عن ابن سعد ، والواقدي ، وابن أبي شيبة ، وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٥ ص ١٧٢ وأسد الغابة لابن الأثير ج ٣ ص ٦٦ والسنن الكبرى للبيهقي ج ١٠ ص ١١٣.

(٥) البحار ج ٤١ ص ٩٦ عن المناقب لابن شهرآشوب ج ١ ص ٦٠٦ و (ط المكتبة الحيدرية) ج ٢ ص ٣٣٣ وسفينة البحار ج ٦ ص ٤٨٢.

٣٠٠