الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٦

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٦

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-198-X
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧٢

قضاء علي عليه‌السلام قضاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وقد ذكروا العديد من مفردات الأقضية التي صدرت عن علي «عليه‌السلام» في اليمن ، ومنها :

١ ـ قالوا : احتفر قوم بئرا باليمن ، فأصبحوا وقد سقط فيها أسد ، فنظروا إليه ، فسقط إنسان بالبئر ، فتعلق بآخر ، وتعلق الآخر بآخر ، حتى كانوا في البئر أربعة ، فقتلهم الأسد ، فأهوى إليه رجل برمح فقتله.

فتحاكموا إلى علي «عليه‌السلام».

فقال : ربع دية ، وثلث دية ، ونصف دية ، ودية تامة : للأسفل ربع دية ، من أجل أنه هلك فوقه ثلاثة ، وللثاني ثلث دية ، لأنه هلك فوقه إثنان ، وللثالث نصف دية ، من أجل أنه هلك فوقه واحد ، وللأعلى الدية كاملة.

فإن رضيتم فهو بينكم قضاء ، وإن لم ترضوا فلا حق لكم حتى تأتوا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيقضي بينكم.

فلما أتوا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قصوا عليه خبرهم ، فقال : «أنا أقضي بينكم إن شاء الله تعالى».

فقال بعضهم : يا رسول الله ، إن عليا قد قضى بيننا.

قال : «فيم قضى»؟ فأخبروه.

فقال : «هو كما قضى به» (١).

__________________

(١) راجع : مسند الطيالسي ص ١٨ وأخبار القضاة لوكيع ج ١ ص ٩٥ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٨ ص ١١١ وذخائر العقبى ص ٨٤ وتذكرة الخواص ص ٤٩ والقياس في الشرع الإسلامي ص ٤٥ وأعلام الموقعين ج ٢ ص ٣٩ ومجمع بحار الأنوار ـ

٢٦١

٢ ـ كان علي «عليه‌السلام» باليمن ، فأتي بامرأة وطأها ثلاثة نفر في طهر واحد ، فسأل اثنين : أتقران لهذا بالولد؟

فلم يقرّا.

ثم سأل اثنين : أتقران لهذا بالولد؟

فلم يقرّا.

ثم سأل اثنين ، حتى فرغ ، يسأل اثنين اثنين غير واحد ، فلم يقرّوا.

ثم أقرع بينهم ، فألزم الولد ، الذي خرجت عليه القرعة ، وجعل عليه ثلثي الدية.

فرفع ذلك للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فضحك حتى بدت نواجذه

زاد في نص آخر : وقال : «القضاء ما قضى».

أو قال : «لا أعلم فيها إلا ما قضى علي».

__________________

ـ ج ٢ ص ٥٧ وينابيع المودة ص ٧٥ وأرجح المطالب ص ١٢٠ والطرق الحكمية لابن القيم ص ٢٦٢ عن أحمد ، وأبي داود ، والنسائي ، وابن ماجة ، والحاكم في صحيحه ، وإرشاد الفحول ص ٢٥٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٣٩ ومسند أحمد ج ١ ص ٧٧ و ١٥٢ ومشكل الآثار ج ٣ ص ٥٨ وكتاب الديات للشيباني ص ٦٥ وتفريع الأحباب ص ٣٢١ ووسيلة النجاة للسهالوي ص ١٥٢ ومرآة المؤمنين ص ٧٠ وكنز العمال (ط الهند) ج ١٥ ص ١٠٣ عن الطيالسي ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، وابن منيع ، وابن جرير وصححه ، وقرة العينين في تفضيل الشيخين ص ١٥٨ وبذل القوة ص ٢٨٥ وتلخيص التحبير ج ٤ ص ٣٠ عن أحمد ، والبزار ، والبيهقي ، وإحقاق الحق (الملحقات) ج ١٧ ص ٤٩٣ ـ ٤٩٧ وج ٨ ص ٦٧ ـ ٧٠ عما تقدم وعن مصادر أخرى.

٢٦٢

أو قال : «حكمت فيه بحكم الله».

أو قال : «لقد رضي الله عزوجل حكمك فيهم» (١).

٣ ـ عن أبي جعفر الباقر «عليه‌السلام» ، قال : بعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليا «عليه‌السلام» إلى اليمن ، فانفلت فرس لرجل من أهل اليمن ، فنفح رجلا برجله فقتله ، وأخذه أولياء المقتول ، فرفعوه إلى علي «عليه‌السلام» ، فأقام صاحب الفرس البيّنة أن الفرس انفلت من داره فنفح الرجل برجله ، فأبطل علي «عليه‌السلام» دم الرجل.

فجاء أولياء المقتول من اليمن إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يشكون عليا «عليه‌السلام» فيما حكم عليهم ، فقالوا : إن عليا ظلمنا ، وأبطل دم صاحبنا.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إن عليا ليس بظلام ، ولم يخلق

__________________

(١) راجع : مسند أحمد ج ٤ ص ٣٧٣ وسنن النسائي (ط الميمنة بمصر) ج ٢ ص ١٠٧ وأخبار القضاة ج ١ ص ٩٠ و ٩١ و ٩٣ و ٩٤ ومستدرك الحاكم ج ٢ ص ٢٠٧ وج ٣ ص ١٣٥ وج ٤ ص ٩٦ وتلخيص المستدرك للذهبي (مطبوع مع المستدرك) ج ٤ ص ٩٦ وذخائر العقبى ص ٨٥ والقياس في الشرع الإسلامي ص ٤٨ وزاد المعاد لابن القيم (ط الأزهرية بمصر) ج ٧ ص ٣٨٠ والبداية والنهاية ج ٥ ص ١٠٧ عن أحمد ، وأبي داود ، والنسائي ، وينابيع المودة ص ٢١١ و ٧٥ وتيسير الوصول ج ٢ ص ٢٨١ وأرجح المطالب ص ١٢١ والمعجم الكبير ج ٥ ص ١٩٣ و ١٩٤ وفيه : أن عليا «عليه‌السلام» كتب إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يخبره بذلك. ومسند ابن أبي شيبة ج ٢ ص ٣٤٥ وأخبار الموفقيات ص ٣٦٣ عن مسند الحميدي ، ومرآة المؤمنين ص ٧١.

٢٦٣

علي للظلم ، وإن الولاية من بعدي لعلي ، والحكم حكمه ، والقول قوله ، لا يرد حكمه وقوله وولايته إلا كافر ، ولا يرضى بحكمه وقوله وولايته إلا مؤمن.

فلما سمع اليمانيون قول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في علي «عليه‌السلام» قالوا : يا رسول الله ، رضينا بقول علي وحكمه.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : هو توبتكم مما قلتم (١).

ونقول :

إن هناك العديد من الأمور التي تضمنتها هذه النصوص ، ويحسن منا لفت النظر إليها هنا ، ومنها :

شكاية الخصوم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

إن المتخاصمين لم يرضوا بقضاء علي «عليه‌السلام» في الموارد الثلاثة المنقولة آنفا ، ولا نرى أن ذلك لسوء نظر ، أو لكراهة منهم لشخص علي «عليه‌السلام» ، بل لأن التخاصم بين الناس يكون عادة بسبب شبهة دخلت على أحد المتخاصمين ، أو على كليهما ، توجب وقوعه في وهم أن

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ٣٦٢ عن قصص الأنبياء ، الأمالي للشيخ الصدوق ص ٤٢٨ ومستدرك الوسائل ج ١٨ ص ٣٢٢ والبحار ج ٢١ ص ٣٦٢ وج ٣٨ ص ١٠٢ وج ٤٠ ص ٣١٦ وج ١٠١ ص ٣٩٠ وجامع أحاديث الشيعة ج ٢٦ ص ٣٤٣ وعجائب أحكام أمير المؤمنين «عليه‌السلام» للسيد محسن الأمين ص ٤٢ وقضاء أمير المؤمنين علي «عليه‌السلام» ص ١٩٢ عن الكليني ، والشيخ ، وعن الصدوق في أماليه. والكافي ج ٧ ص ٣٥٣.

٢٦٤

يكون الحق معه وإلى جانبه. فيبحث عمن يساعده في نيل حقه ، أو عمن يدفع عنه خصومة مدعي الحق عنده. وفق ضوابط عقلية ، ومسلمات شرعية ، أو توافقات أو أعراف اجتماعية مع رعاية قانون العدل والإنصاف ، وعدم الإنقياد للهوى فيما يقضى به ..

ولم يكن هؤلاء الناس قد عرفوا شيئا ذا بال عن علي «عليه‌السلام» ، وعن جهاده ، وتضحياته ، وعلمه ، والآيات النازلة في حقه ، وأقوال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيه .. إلا ما ربما يكونون قد شاهدوه منه في تلك المدة اليسيرة التي عاشها بينهم ، وهو يعلمهم ، ويهديهم ، ويرشدهم ، ويقضي بينهم بأمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فلعلهم ظنوا : أنه لا يملك الكثير من المعرفة بأسرار القضاء ، فطلبوا الإستيثاق من صحة قضائه.

أو أنهم ظنوا : أنه قد ظلمهم في بعض قضائه فيهم ..

فجاءهم الرد الحاسم من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في هذه الرواية الأخيرة ، حيث بين لهم حقيقة علي «عليه‌السلام» وموقعه ، والمقام الذي جعله الله تعالى له فيهم ، وهو مقام الولاية ، وحكم من يردّ حكمه ، وقوله ، وولايته ..

علي ليس بظلام :

٢ ـ وقد قرر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أن عليا «عليه‌السلام» ليس بظلام ، ولم يخلق علي «عليه‌السلام» للظلم .. ليكون هذا القول هو الضابطة في شأن من تكون له الولاية على الناس ، فإن من يظلم فردا من الناس فلا يؤمن من

٢٦٥

أن ينال بظلمه كل فرد فرد منهم ، إذ لا خصوصية للفرد الذي ظلم أولا. ولذلك عبّر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بكلمة «ظلّام».

والمطلوب من الولي هو : إنصاف الناس ، وإيصال الخير إليهم ، فالظلّام الذي قد ينال ظلمه كل فرد فرد ، ولو على سبيل الإحتمال لا يصلح للولاية ..

ثم إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بيّن أن غاية خلق علي «عليه‌السلام» لم تكن هي الظلم ، فهو صاحب الفطرة الصافية التي لا تشوبها أية شائبة ، وقد استمرت على هذا الصفاء والنقاء ، حيث إنه لا تصدر منه أي من مفردات الظلم ، فهو ليس بظلام للأفراد ..

عودة إلى مسألة التربية :

بالنسبة للذين قتلهم الأسد في البئر نقول :

اختلفت الرواية في الحكم الذي صدر عنه «عليه‌السلام» ، فواحدة تقول : إن للأول ربع الدية ، وللثاني ثلثها ، وللثالث نصفها ، وللرابع الدية كاملة ، وجعلها «عليه‌السلام» على قبائل الذين ازدحموا ..

قال التستري : للأول الربع ، لاحتمال استناد موته إلى أربعة أشياء :

أحدها : تضييق المزدحمين ، وباقيها إسقاطه لثلاثة رجال فوق نفسه.

وللثاني الثلث ، لإحتمال استناده إلى ثلاثة أمور :

أحدها : إسقاط الأول له.

وللثالث النصف ، حيث يحتمل استناده إلى أمرين :

أحدهما : إسقاط الثاني له.

وللرابع التمام حيث إن قتله كله مستند إلى الثالث ، وجعل الدية على

٢٦٦

قبائل المزدحمين لأن الساقطين أيضا كانوا منهم (١).

وجاء في نص آخر أنه «عليه‌السلام» قال : الأول فريسة الأسد ، وغرّم أهله ثلث الدية لأهل الثاني ، وغرّم الثاني لأهل الثالث ثلثي الدية .. وغرّم الثالث لأهل الرابع الدية كاملة (٢).

وذكر التستري : أن الوجه في ذلك : أن هلاك الأول لم يكن مستندا إلى أحد ..

والثاني كان هلاكه مستندا إلى ثلاثة أمور : جذب الأول ، وسقوط الثالث والرابع فوقه ، وكان هو السبب في سقوطهما ، فيكون ثلث قتله مستندا إلى الأول فله الثلث.

والثالث كان ثلث قتله مستندا إلى نفسه بجذب الرابع ، فيكون له الثلثان فقط على الثاني.

والرابع كان جميع قتله مستندا إلى الثالث ، فكان عليه تمام ديته (٣).

__________________

(١) قضاء أمير المؤمنين علي «عليه‌السلام» ص ٣٦.

(٢) راجع : الوسائل (ط الإسلامية) ج ٩ ص ١٧٦ وقضاء أمير المؤمنين علي «عليه‌السلام» للتستري ص ٣٥ عن الإرشاد ، وعن المشايخ الثلاثة ، والمناقب ، ومسند أحمد ، وأمالي أحمد بن منيع. وراجع : دعائم الإسلام ج ٢ ص ٤١٨ ومستدرك الوسائل ج ١٨ ص ٣١٣ وشرح الأخبار ج ٢ ص ٣٣١ والإرشاد للشيخ المفيد ج ١ ص ١٩٦ ومناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب ج ٢ ص ١٩٨ والبحار ج ٤٠ ص ٢٤٥ وج ١٠١ ص ٣٩٣ وجامع أحاديث الشيعة ج ٢٦ ص ٣٣٨ و ٣٣٩.

(٣) قضاء أمير المؤمنين علي «عليه‌السلام» ص ٣٥ و ٣٦.

٢٦٧

من وصايا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام :

١ ـ روى الكليني ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» قال : قال أمير المؤمنين «عليه‌السلام» : بعثني رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى اليمن وقال لي : يا علي ، لا تقاتلن أحدا حتى تدعوه ، وأيم الله لأن يهدي الله على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت ، ولك ولاؤه يا علي (١).

قال المجلسي «رحمه‌الله» : قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : ولك ولاؤه ، أي لك ميراثه إن لم يكن له وارث ، وعليك خطاؤه (٢).

٢ ـ روى جماعة عن أبي المفضل ، عن عبد الرزاق بن سليمان ، عن الفضل بن الفضل الأشعري ، عن الرضا ، عن آبائه «عليهم‌السلام» : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعث عليا «عليه‌السلام» إلى اليمن ، فقال له وهو يوصيه : يا علي ، أوصيك بالدعاء ، فإن معه الإجابة ، وبالشكر فإن معه المزيد ، وإياك عن أن تخفر عهدا وتعين عليه ، وأنهاك عن المكر ، فإنه لا يحيق

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ٣٦١ عن الكافي ج ٥ ص ٢٨ ومختلف الشيعة ج ٤ ص ٣٩٣ وكشف اللثام (ط ج) ج ٩ ص ٣٤١ و (ط ق) ج ٢ ص ٢٧٦ وجواهر الكلام ج ٢١ ص ٥٢ وتهذيب الأحكام ج ٦ ص ١٤١ والوسائل (ط مؤسسة أهل البيت) ج ١٥ ص ٤٣ و (ط دار الإسلامية) ج ١١ ص ٣٠ ومستدرك الوسائل ج ١١ ص ٣٠ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ١٤٣ وموسوعة أحاديث أهل البيت ج ١٢ ص ٢٣ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٤١٨.

(٢) البحار ج ٢١ ص ٣٦١.

٢٦٨

المكر السيء إلا بأهله ، وأنهاك عن البغي ، فإنه من بغي عليه لينصرنه الله (١).

ونقول :

إن وصية النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليا «عليه‌السلام» : بأن لا يقاتل أحدا حتى يدعوه ثم قوله له : «وأيم الله لأن يهدي الله على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت» قد أظهرت : أن الهدف الأول والأخير هو هداية الناس ، ونشر الدعوة.

فلا يصح ما يذكرونه في أكثر السرايا من أنها كانت تبادر إلى الغارة واغتنام الأموال ، وسبي النساء ، والأطفال ، وأسر الرجال .. فإن كان قد حصل شىء من ذلك ، فهو على سبيل التمرد على أوامر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، طمعا بالدنيا ، وجريا على عادات أهل الجاهلية ، واستجابة لدواعي الهوى والعصبية.

٢ ـ ومن الواضح : أن مجرد أن يسلم رجل على يد شخص ليس من أسباب اختصاصه بإرثه ، إلا في موردين :

الأول : أن يكون مولى له .. وما نحن فيه ليس كذلك ، إذ المفروض : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» طلب من علي «عليه‌السلام» أن يدعوهم إلى الإسلام ، ولا يبدأ بحربهم ، فإن أسلموا كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم ..

الثاني : أن يكون ولاؤه له من حيث إنه الإمام المفترض الطاعة ،

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ٣٦١ عن المجالس والأخبار ص ٢٨ والوسائل (الإسلامية) ج ٤ ص ١٠٨٨ وجامع أحاديث الشيعة ج ١٥ ص ١٩٣ ومستدرك سفينة البحار ج ١٠ ص ٣٤٥ وموسوعة أحاديث أهل البيت «عليهم‌السلام» ج ٢ ص ٦٢ وج ١٠ ص ٤١٤.

٢٦٩

والإمام وارث من لا وارث له ..

وهذا معناه : أن يصبح هذا الحديث من دلائل إمامة علي «عليه‌السلام» بعد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

٣ ـ إن الوصايا المتقدمة ، التي رويت عن الإمام الرضا «عليه‌السلام» آنفا ، عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليس فقط لا تشير إلى أي أمر بقتال صدر عنه له ، وإنما هي في سياق إثارة أجواء ومشاعر سليمة وطبيعية ، والتوجيه نحو تنظيم العلاقة مع أهل اليمن ، على أساس التوافق ، وإبرام العهود ، ولزوم الوفاء بها. ولزوم الوضوح والصدق في التعامل ، والإبتعاد عن المكر والخداع وضرورة الإبتعاد عن البغي والتجني ، والتزام جادة الإنصاف ، والرفق ..

وقد مهد لذلك كله بالتوجيه نحو الله تعالى بالدعاء ، والطلب منه دون سواه ، ثم بالشكر له ، الذي يجلب معه المزيد من العطاءات الإلهية ، والألطاف والرحمات والبركات الربانية ..

هدايا علي عليه‌السلام من اليمن إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

روى الكليني عن العدة ، عن سهل وأحمد بن محمد جميعا ، عن بكر بن صالح ، عن سليمان الجعفري ، عن أبي الحسن «عليه‌السلام» قال : سمعته يقول : أهدى أمير المؤمنين إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أربعة أفراس من اليمن ، فقال : سمها لي.

فقال : هي ألوان مختلفة.

فقال : ففيها وضح؟

٢٧٠

قال : نعم ، فيها أشقر به وضح.

قال : فأمسكه عليّ.

قال : وفيها كميتان أوضحان.

فقال : أعطهما ابنيك.

قال : والرابع أدهم بهيم.

قال : بعه ، واستخلف به نفقة لعيالك ، إنما يمن الخيل في ذوات الأوضاح (١).

ونقول :

١ ـ إننا لسنا بحاجة إلى التدليل على قيمة هذه الهدية ومغزاها من حيث لفت النظر إلى استمرار المسيرة الجهادية ، التي تحتاج إلى إعداد القوة التي ترهب العدو .. وذلك في وقت ظن فيه بعض قاصري النظر من المسلمين أن زمن الجهاد قد انتهى ، وانتفت الحاجة إلى السلاح ، فباعوا أسلحتهم ، حسبما تقدم.

٢ ـ إن هذا النص قد تضمن إشارة إلى لزوم إعطاء الألوان والمواصفات الشكلية موقعها ودورها في الإختيار .. وإلى أن لقضية اليمن أيضا أثرها ، وأن تجاهلها وإسقاطها من الحساب أمر غير حميد ، ورأي ليس بسديد ولا رشيد ..

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ٣٦١ وج ٦١ ص ١٦٩ عن الكافي ، والمحاسن للبرقي ج ٢ ص ٦٣١ والكافي ج ٦ ص ٥٣٦ ومن لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج ٢ ص ٢٨٥ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١١ ص ٤٧٥ و (ط دار الإسلامية) ج ٨ ص ٣٤٧ وجامع أحاديث الشيعة ج ١٦ ص ٨٥٥ ومسند الإمام الرضا «عليه‌السلام» للعطاردي ج ٢ ص ٣٧٧ وموسوعة أحاديث أهل البيت «عليهم‌السلام» ج ١٢ ص ٣٣٩.

٢٧١

علي عليه‌السلام في اليمن مرة أخرى :

عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» قال : دعاني رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فوجهني إلى اليمن لأصلح بينهم ، فقلت له : يا رسول الله ، إنهم قوم كثير ، وأنا شاب حدث!!

فقال لي : يا علي ، إذا صرت بأعلى عقبة فيق فناد بأعلى صوتك : يا شجر ، يا مدر ، يا ثرى ، محمد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقرؤكم السلام.

قال : فذهبت ، فلما صرت بأعلى عقبة فيق أشرفت على اليمن ، فإذا هم بأسرهم مقبلون نحوي ، مشرعون أسنتهم ، متنكبون قسيهم ، شاهرون سلاحهم ، فناديت بأعلى صوتي : يا شجر ، يا مدر ، يا ثرى ، محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقرؤكم السلام.

قال : فلم يبق شجرة ، ولا مدرة ، ولا ثرى إلا ارتجت بصوت واحد : وعلى محمد رسول الله وعليك السلام.

فاضطربت قوائم القوم ، وارتعدت ركبهم ، ووقع السلاح من أيديهم ، وأقبلوا مسرعين ، فأصلحت بينهم وانصرفت (١).

ونقول :

إن لنا مع هذا النص وقفات هي التالية :

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ٣٦٢ عن بصائر الدرجات ص ١٤٥ و ١٤٦ و (ط مؤسسة الأعلمي) ص ٥٢١ و ٥٢٤ وراجع : تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج ٧ ص ٦٢ وتاريخ جرجان للسهمي ص ٣٨٧.

٢٧٢

عقبة أفيق :

قال الفيروزآبادي : أفيق كامير ، قرية بين حوران والغور ، يعني : غور الأردن في أول العقبة المعروفة بعقبة أفيق التي تنزل منها إلى الغور وهي عقبة طويلة نحو ميلين (١).

والسؤال هنا هو : إذا كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أرسل عليا «عليه‌السلام» من المدينة إلى اليمن ، فإن اليمن تقع إلى الجنوب من المدينة ، وعقبة أفيق تقع في الجهة الشمالية منها ، لأنها بين حوران والغور ، فأين هذه من تلك؟! ولا سيما مع تصريح الرواية المشار إليها آنفا : بأنه «عليه‌السلام» لما صار بأعلى عقبة فيق أشرف على اليمن ، فإذا هم بأسرهم مقبلون نحوه ، مشرعون أسنتهم الخ ..

سفير سلام :

إننا لا نملك ما يؤيد أو ينفي هذه الحادثة ، التي يبدو أنها بعثة تهدف إلى الصلح بين فريقين متخاصمين ، حيث قالت الفقرة الأخيرة : «فأصلحت بينهم وانصرفت». فهل هؤلاء الناس مسلمين؟!

فإن الرواية لم تذكر ذلك كما أنها لم تذكر : أنه «عليه‌السلام» قد دعاهم إلى الإسلام ، أو أنهم هم بادروا إلى إعلان إسلامهم .. وليس فيها ما يدل على أنهم كانوا قد أرسلوا قبل ذلك إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بطلب وساطة ..

__________________

(١) معجم البلدان ج ١ ص ٢٣٣ وراجع ج ٤ ص ٢٨٦ والبحار ج ٢١ ص ٣٦٣.

وراجع : تاج العروس ج ١٣ ص ٧ وج ١٣ ص ٤١٣.

٢٧٣

لما ذا غضب أهل اليمن؟! :

إن هذه الرواية قد دلت على : أن لهم موقفا عدائيا من مبعوث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حيث إنهم جاؤوا باندفاع شديد ، ومعهم أسلحتهم ، وكان دفع شرهم عنه «عليه‌السلام» بواسطة التدخل الإلهي وبصورة إعجازية.

فلما ذا يندفع الفريقان المتنازعان لمواجهة مبعوث قد جاء ليصلح بينهم؟!

ولعلك تقول : قد يكون الذين جاؤوا غاضبين ، هم أحد الفريقين المتنازعين ، ولعلهم اعتقدوا أن هذا المبعوث لن يقف إلى جانبهم في خصومتهم ..

ويجاب : بأن الرواية قد صرحت : بأن أهل اليمن بأسرهم كانوا مقبلين نحوه مشرعين أسنتهم .. فلا يصح هذا التوجيه ..

لعلها جماعة صغيرة :

هل يمكن لأهل اليمن كلهم أن يأتوا لاستقبال علي «عليها‌السلام» بالسلاح ، ويواجهوه بالحرب؟! وهل كانت اليمن بمثابة قرية أو مدينة ، تستطيع أن تخرج عن بكرة أبيها لمواجهة أحد القادمين؟!

ألا يدلنا ذلك على : أن مهمة علي «عليه‌السلام» هي الصلح بين جماعة صغيرة من حيث العدد ، وكانت مساكنها متقاربة ، ولعلها كانت في بعض نواحي اليمن.

اليمن بلد كبير :

إن الصعود إلى أعلى عقبة أفيق ـ لو قبلنا أنها كانت في اليمن ـ هل يعني

٢٧٤

الإشراف على بلاد اليمن كلها؟! وهل كانت اليمن بقعة صغيرة تظهر معالمها للصاعد إلى أعلى عقبة أفيق؟!

ألا يدل ذلك على صحة ما قلناه : من أن المطلوب كان الصلح بين جماعة من الناس كانوا يسكنون في ناحية صغيرة؟!

علي عليه‌السلام شاب حدث :

ولا ندري بعد ذلك كله : ما معنى أن يصف علي «عليه‌السلام» نفسه لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : بأنه شاب حدث!!

فإن عمر علي «عليه‌السلام» كان في ذلك الوقت أكثر من ثلاثين عاما .. فمتى يصح وصفه بأنه رجل كامل إذن؟! وكيف نصّبه الله ورسوله وليا للمؤمنين قبل وبعد هذا التاريخ في مناسبات عديدة؟!

٢٧٥
٢٧٦

الفصل التاسع :

علي عليه‌السلام في بني زبيد

٢٧٧
٢٧٨

سرية علي عليه‌السلام إلى بني زبيد :

وقالوا : «وجه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» علي بن أبي طالب ، وخالد بن سعيد بن العاص إلى اليمن ، وقال : «إذا اجتمعتما فعلي الأمير ، وإن افترقتما فكل واحد منكما أمير» (١).

فاجتمعا. وبلغ عمرو بن معديكرب مكانهما. فأقبل على جماعة من قومه (٢). فلما دنا منهما قال : دعوني حتى آتي هؤلاء القوم ، فإني لم أسمّ لأحد قط إلا هابني.

فلما دنا منهما نادى : أنا أبو ثور ، وأنا عمرو بن معد يكرب.

فابتدره علي وخالد ، وكلاهما يقول لصاحبه : خلني وإياه ، ويفديه بأمه وأبيه.

فقال عمرو إذ سمع قولهما : العرب تفزّع بي ، وأراني لهؤلاء جزرا.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٨٦ و ٢٤٦ عن مناقب الإمام الشافعي لمحمد بن رمضان بن شاكر ، وفي هامشه عن : المعجم الكبير للطبراني ج ٤ ص ١٤ والإصابة ج ٣ ص ١٨ والإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ٢ ص ٥٢٢ و (ط دار الجيل) ج ٣ ص ١٢٠٣ وأسد الغابة ج ٤ ص ١٣٣.

(٢) أي مترئّسا على جماعة من قومه.

٢٧٩

فانصرف عنهما.

وكان عمرو فارس العرب ، مشهورا بالشجاعة. وكان شاعرا محسنا (١).

وقالوا أيضا : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعث خالد بن سعيد بن العاص إلى اليمن وقال له : «إن مررت بقرية فلم تسمع أذانا ، فاسبهم».

فمر ببني زبيد ، فلم يسمع أذانا ، فسباهم.

فأتاه عمرو بن معد يكرب ، فكلمه فيهم ، فوهبهم له ، فوهب له عمرو سيفه الصمصامة ، فتسلمه خالد. ومدح عمرو خالدا في أبيات له (٢).

غرور عمرو بن معد يكرب :

إن عمروا يظن : أن جميع الناس على شاكلته ، من حيث حبهم للحياة ، وفرقهم من الموت. ولذلك فإن مجرد تقريب احتمالات الموت إليهم يكفي في إيجاد دواعي الإبتعاد عنه لديهم ، والبحث عن خيارات أخرى تجعلهم أقرب إلى السلامة والأمن ..

وإذ به يفاجأ بعكس ما ظنه ، فهو قد اعتاد أن يرى القادة يسعون أولا

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٤٦ و ٣٨٦ والإستيعاب (ط دار الجيل) ج ٣ ص ١٢٠٤ والإصابة (ط دار الكتب العلمية) ج ٤ ص ٥٦٩ وعيون الأثر لابن سيد الناس ج ٢ ص ٢٩٢.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٤٦ عن ابن أبي شيبة من طرق. وفي هامشه عن :

كنز العمال (١١٤٤١) والإصابة ج ٣ ص ١٨ و (ط دار الكتب العلمية) ج ٤ ص ٥٦٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٦ ص ٣٧٧ وراجع : كنز العمال ج ٤ ص ٤٨٣.

٢٨٠