الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٦

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٦

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-198-X
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧٢

عليه وآله» كان ينتظر تأكد إسلامهم عمليا ، بحيث يظهر ذلك ، ويرى الناس صدقهم فيه ، وأنه لم يكن عن خوف من علي «عليه‌السلام» .. فلما بلغه ذلك كتب إليهم بهذا الكتاب.

٣ ـ لقد لاحظنا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يستبق الأمور فيما يرتبط بدفع الوساوس والشبهات عن الناس ، وتحصينهم من سوء الظن الذي يسيء إلى صفاء العقيدة ، بل قد يسوقهم إلى التشكيك بالنبوة ، والخروج من الإسلام ، أو يجعل إسلامهم مشوبا بالنفاق ، حين يظنون برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حب الدنيا ، والطمع بأموالهم ..

فأفهمهم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بما كتبه إليهم عن الصدقات التي تؤخذ منهم : أنه لا مجال لتلك التوهمات في حقه ، لأن ذلك مما لا يمكن حصوله ، فقد أعلمهم أن هذه الأموال التي يأخذها منهم محرمة عليه وعلى أهل بيته أيضا.

يضاف إلى ذلك : أنها ملك الغير ، وليس مطلق الغير ، بل خصوص الفقراء منهم.

فيتعاضد الحاجز الشرعي المتمثل بحرمة ذلك ، مع المانع العاطفي والإنساني ، ما دام أن ذلك المال هو للفقراء ، الذين يكون نفس فقرهم حاجزا للإنسان عن العدوان على أموالهم ، الأمر الذي يجعل من أي وسوسة شيطانية ظاهرة الفساد ، ولا يمكن إفساح المجال لها ، إلا ممن يكون في قلبه مرض.

٢٤١
٢٤٢

الفصل الثامن :

عودة علي عليه‌السلام إلى اليمن

٢٤٣
٢٤٤

سرية علي بن أبي طالب عليه‌السلام إلى اليمن المرة الثانية :

قال محمد بن عمر ، وابن سعد ، واللفظ للأول : بعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليا إلى اليمن في شهر رمضان ، وأمره أن يعسكر بقناة ، فعسكر بها حتى تتامّ أصحابه. فعقد له رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لواء ، وأخذ عمامته فلفها مثنية مربعة ، فجعلها في رأس الرمح ، ثم دفعها إليه. وعممه بيده عمامة ثلاثة أكوار ، وجعل له ذراعا بين يديه ، وشبرا من ورائه ، وقال له : «امض ولا تلتفت».

فقال علي «عليه‌السلام» : يا رسول الله ، ما أصنع؟

قال : «إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك ، وادعهم إلى أن يقولوا : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، فإن قالوا : نعم ، فمرهم بالصلاة ، فإن أجابوا ، فمرهم بالزكاة ، فإن أجابوا فلا تبغ منهم غير ذلك ، والله ، لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت».

فخرج علي «عليه‌السلام» في ثلاثمائة فارس ، فكانت خيلهم أول خيل دخلت تلك البلاد. فلما انتهى إلى أدنى الناحية التي يريد من مذحج فرق أصحابه ، فأتوا بنهب وغنائم وسبايا ، نساء وأطفالا ، ونعما وشاء ، وغير ذلك.

فجعل علي «عليه‌السلام» على الغنائم بريدة بن الحصيب الأسلمي ،

٢٤٥

فجمع إليه ما أصابوا قبل أن يلقى لهم جمعا. ثم لقي جمعهم ، فدعاهم إلى الإسلام ، فأبوا ، ورموا أصحابه بالنبل والحجارة.

فلما رأى أنهم لا يريدون إلا القتال صف أصحابه ، ودفع اللواء إلى مسعود بن سنان السلمي ، فتقدم به ، فبرز رجل من مذحج يدعو إلى البراز ، فبرز إليه الأسود بن خزاعي ، فقتله الأسود ، وأخذ سلبه.

ثم حمل عليهم علي «عليه‌السلام» وأصحابه ، فقتل منهم عشرين رجلا ، فتفرقوا وانهزموا ، وتركوا لواءهم قائما ، وكفّ علي «عليه‌السلام» عن طلبهم ، ثم دعاهم إلى الإسلام ، فأسرعوا وأجابوا.

وتقدم نفر من رؤسائهم ، فبايعوه على الإسلام وقالوا : نحن على من وراءنا من قومنا. وهذه صدقاتنا ، فخذ منها حق الله تعالى.

وجمع علي «عليه‌السلام» ما أصاب من تلك الغنائم ، فجزأها خمسة أجزاء ، فكتب في سهم منها لله ، ثم أقرع عليها ، فخرج أول السهمان سهم الخمس ، وقسم علي «عليه‌السلام» على أصحابه بقية المغنم. ولم ينفل أحدا من الناس شيئا ، وكان من كان قبله يعطون خيلهم الخاص دون غيرهم من الخمس ، ثم يخبرون رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بذلك فلا يردّه عليهم ، فطلبوا ذلك من علي «عليه‌السلام» ، فأبى ، وقال : الخمس أحمله إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يرى فيه رأيه (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٣٨ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٠٦ والطبقات الكبرى ج ٢ ق ١ ص ١٢٢ وشرح المواهب اللدنية ج ٥ ص ١٧٧ عن ابن سعد وراجع : إمتاع الأسماع ج ٢ ص ٩٦ و ٩٧ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٢١ ص ٦٢٧.

٢٤٦

وأقام فيهم يقرئهم القرآن ، ويعلمهم الشرائع ، وكتب إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كتابا مع عبد الله بن عمرو بن عوف المزني يخبره الخبر.

فأتى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يوافيه الموسم ، فانصرف عبد الله بن عمرو بن عوف إلى علي «عليه‌السلام» بذلك ، فانصرف علي «عليه‌السلام» راجعا.

فلما كان بالفتق تعجل إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يخبره الخبر ، وخلّف على أصحابه والخمس أبا رافع ، فوافى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بمكة قد قدمها للحج.

وكان في الخمس ثياب من ثياب اليمن ، أحمال معكومة ، ونعم وشاء مما غنموا ، ونعم من صدقة أموالهم. فسأل أصحاب علي «عليه‌السلام» أبا رافع أن يكسوهم ثيابا يحرمون فيها ، فكساهم منها ثوبين ثوبين.

فلما كانوا بالسدرة داخلين خرج علي «عليه‌السلام» ليتلقّاهم ليقدم بهم ، فرأى على أصحابه الثياب ، فقال لأبي رافع : ما هذا؟

فقال : «كلموني ، ففرقت من شكايتهم ، وظننت أن هذا ليسهل عليك ، وقد كان من قبلك يفعل هذا بهم».

فقال : «قد رأيت امتناعي من ذلك ، ثم أعطيتهم؟! وقد أمرتك أن تحتفظ بما خلّفت ، فتعطيهم»؟.

فنزع علي «عليه‌السلام» الحلل منهم.

فلما قدموا على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» شكوه ، فدعا عليا «عليه‌السلام» ، فقال : «ما لأصحابك يشكونك»؟

قال : ما أشكيتهم ، قسمت عليهم ما غنموا ، وحبست الخمس حتى

٢٤٧

يقدم عليك فترى فيه رأيك.

فسكت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

ونقول :

إن هذا النص قد تضمن أمورا عديدة يحسن الوقوف عندها ، وهي التالية :

أول خيل دخلت إلى اليمن :

ذكر النص المتقدم : أن خيل علي «عليه‌السلام» كانت أول خيل دخلت إلى بلاد اليمن.

وهذا يلقي بظلال من الشك على ما تقدم ، من أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أرسل خالدا إلى اليمن ، وأنه قد حصل على بعض الغنائم ، فطلب من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يرسل إليه من يقبضها منه ..

إلا أن يقال : إنه ليس بالضرورة أن يكون خالد قد حصل على تلك الغنائم من بلاد اليمن ، فلعلها حصلت له من مواجهات مع بعض القبائل التي صادفها في طريقه ، أو قصدها لغرض الدعوة ..

ولعله حين دخل خالد إلى بلاد اليمن لم يدخلها في خيل قتال .. ولكنه قد تعرض لأهل اليمن ببعض ما يسوءهم ، فأثار حفيظتهم ، فامتنعوا عن الإسلام .. ثم لما جاءهم علي «عليه‌السلام» وجدوا فيه نمطا يختلف تماما عن نمط من سبقوه ، فقبلوا منه.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٣٩ وراجع : إمتاع الأسماع ج ٢ ص ٩٧ وشرح إحقاق الحق ج ٢١ ص ٦٢٨.

٢٤٨

إمض ولا تلتفت :

إننا نلاحظ : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قال لعلي «عليه‌السلام» حين وجهه إلى اليمن : «إمض ولا تلتفت».

وهذه هي نفس الكلمة التي قالها له «عليه‌السلام» : حين وجهه إلى يهود خيبر ، حيث قتل مرحبا ، واقتلع باب خيبر ، وفتح الحصن .. ولم نره قال ذلك لعلي «عليه‌السلام» في غير هذين الموردين.

وقد يقال : إن من نقاط الإشتراك بينهما : أن فتح خيبر ، فيه إسقاط لهيمنة اليهود ، في تلك المنطقة ، وكسر لشوكتهم ، وإذلال لهم .. وإسلام اليمن يمثل أيضا ضربة قوية لعنفوان اليهود ، الذين كانت لهم هيمنة كبيرة وانتشار واسع في تلك البلاد.

يضاف إلى ذلك : إرادة إظهار مدى طاعة علي «عليه‌السلام» ، والتزامه بحرفية أوامر النبي الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. لكي يوازن الناس بين ذلك وبين ممارسات غيره ، ممن تكون أهواؤهم ، وعصبياتهم هي المهيمنة على تصرفاتهم.

ثم إن هذا التوجيه يشير إلى لزوم الإنضباط التام ، وعدم التسامح ، ولزوم الكف عن التوسع الإجتهادي في تطبيق الأوامر الصادرة عن القيادة ، فكيف إذا كانت هذه القيادة معصومة ، ولها مقام النبوة الخاتمة؟!

ثم إن هذا الأمر يعطي الإيحاء القوي : بأن على الإنسان حين يكلف بمهمة جهادية ، وخصوصا إذا كان ذلك من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن لا يشغله أي شأن آخر ، وأن يركز كل همه ، ويحصر كل تفكيره ، في تلك المهمة التي أوكلت إليه ، وأن يقطع جميع تعلقاته بأي شيء آخر مهما كان ..

٢٤٩

لا تقاتلهم حتى يقاتلوك :

إن الإمام «عليه‌السلام» حين قال للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : ما أصنع؟ فإنما أراد للناس كلهم أن يسمعوا الرسول الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو يحتم على مبعوثيه : أن لا يقاتلوا الآخرين حتى يقاتلوهم. وإن المهمة منحصرة في الدعوة إلى الإسلام والإيمان ، وأن المطلوب هو هداية الناس إلى الله ، وإلى سلوك طريق الرشاد والسداد ، والهدى.

وهذا يشير إلى : أن هذا العدد الضخم لأفراد السرية قد كان لأجل أن يحفظ بعضهم بعضا في أسفارهم في البراري والقفار حتى لا يجتري عليهم ضعفاء النفوس ، والمتطفلون ، والطامعون ممن يمتهنون السلب والنهب كوسيلة للحصول على ما يعتاشون به ، كما هو حال كثير من الناس في تلك الأيام.

التدرج في الدعوة ، والإكتفاء باليسير :

وقد لوحظ : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أمر عليا «عليه‌السلام» : بأن تكون دعوته للناس على مراحل ..

ولوحظ أيضا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أمر عليا «عليه‌السلام» بأن يطلب منهم أمورا ثلاثة ، بل هو قد منعه من طلب الزائد ، أيّا كان نوعه وطبيعته ..

فالمطلوب الأول هو : أن يقولوا : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ..

فمجرد قول هذه الكلمة يكفي في عدم جواز التعرض لهم بشيء ، بل هو لم يسمح بأي من أنواع التدقيق والبحث عما وراء هذا القول ، حتى ولا

٢٥٠

الإستفهام عن درجة الإيمان ومضمونه ..

فإن قالوا ذلك ، فالمطلوب الثاني هو : أن يصلّوا ..

فإن فعلوا ذلك ، فالمطلوب الثالث هو : أن يزكّوا ..

ثم إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد حسم الأمر فيما زاد عن ذلك ، فقال : ولا تبغ منهم غير ذلك.

وهذا يعني : أن على من يشارك في تلك السرايا أن لا يتوهم أنها من مصادر الرزق ، وأنه يباح له سلب أموال الناس تحت غطاء الدين والدعوة ..

وأن على الذين يدعون للإسلام أن لا يفكروا بأن هؤلاء الدعاة ومن وراءهم يطمعون بأموالهم ، أو بنسائهم ، أو بالهيمنة عليهم ..

ثم إن الشهادة لله بالوحدانية ، ولمحمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالرسالة هما من الأمور الإعتقادية القلبية ، التي لا يعود نفعها لغير المعتقد بها .. وأما الصلاة فما هي إلا صلة وعلاقة بين الإنسان وربه .. والزكاة أيضا إنما يعود نفعها للفقراء والمساكين ، الذين لا يتحرج الناس في برّهم ، وسدّ حاجاتهم .. ولا يجوز للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولا لأحد من أهل بيته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وعشيرته أن يستفيد منها ، ولو بمقدار حبة ، وذلك بمقتضى التشريع الإلهي الذي جاء به رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

هل أتوا بنهب وسبايا؟! :

وقد ذكرت الروايات المتقدمة : أنه «عليه‌السلام» لما وصل إلى أدنى ما يريد من مذحج ، فرق أصحابه ، فأتوه بنهب وسبايا الخ .. قبل أن يلقى لهم

٢٥١

جمعا ، ثم لقي جمعهم فدعاهم الخ ..

ولكن ذلك موضع ريب كبير ، فإن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أوصى عليا «عليه‌السلام» بأن لا يقاتلهم حتى يقاتلوه ، فما معنى : أن يقبل من أصحابه السبايا والغنائم ، والنهب الذي جاؤوه به ، حيث اغتنموا فرصة غيبة الرجال عن الحي ولم يكن هناك من تعرض عليه الدعوة ، فيقبلها ، أو يردها؟!.

فهل أجاز النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» له الإنتهاب والسبي ، ومنعه من القتال؟!

وهل يتوقع أن يتعرض مال شخص للإنتهاب ، وعرضه وأطفاله للسبي ، ثم يقف مكتوف اليدين؟! فلا يعترض!! ولا يغضب!! ولا يعتبر ذلك ظلما وتعديا؟! ألا يتوقع منه أن يقول : لما ذا لم تسألوني ، ولم تعرضوا علي مطالبكم أولا؟! فإن رفضتها بلا مبرر ، فلكم الحق بانتهاب مالي ، وسبي عيالي ، وأطفالي؟!

وهل يصح اعتبار هذا التصرف من مصاديق قوله تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)؟! (١) أم أنه أبعد ما يكون عن مفهوم هذه الآية؟!

من أجل ذلك نقول :

لعل في الرواية تحريفا لغاية في نفس يعقوب ، أو لعل فيها سقطا أوجب اختلال المعنى. أو لعل فيها تقديما وتأخيرا ، بتقدير ، أن يكون «عليه‌السلام»

__________________

(١) الآية ١٢٥ من سورة النحل.

٢٥٢

قد واجه رجالهم فدعاهم إلى الإسلام ، فأبوا ، ورموا أصحابه بالنبل والحجار ، فقاتلهم فهزمهم ، وقتل منهم ، وتفرق أصحابه إلى مواضع نزولهم فأتوا بسبي وغنائم ، ثم كفّ «عليه‌السلام» عن طلبهم ، ثم دعاهم إلى الإسلام مرة أخرى فأسرعوا وأجابوا ، وبايعه نفر من رؤسائهم ، وضمنوا له الإسلام وراءهم ..

سيرة علي عليه‌السلام في الخمس تخالف سيرة غيره :

وعن سيرة علي «عليه‌السلام» في الخمس نقول :

لقد كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يريد من جهة : أن يربي الناس على مفاهيم الشريعة ، وعلى الإلتزام بأحكامها. ويريد من جهة أخرى : أن يكون رفيقا ورحيما بهم ، ومتألفا لهم على هذا الدين.

وكان الناس آنئذ حديثي عهد بالجاهلية ، ولم تستأصل مفاهيمها من نفوسهم ، ولهم في الأموال رغبة ، وفيهم إليها حاجة بصورة عامة .. وربما لم تكن القناعة قد تبلورت لديهم في موضوع الخمس ، ولعل بعضهم كان يرى : أنه إذا كان ـ الخمس ـ للرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فالمفروض هو : أن يتنازل عنه لمصلحتهم.

فصاروا يستأثرون به لأنفسهم بصورة منتظمة ، فيعطيه قادتهم إلى خيلهم الخاص دون غيرهم ، ثم يخبرون النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بذلك ، فلا يرده عليهم ..

وحين لم يفعل ذلك علي «عليه‌السلام» طالبوه به ، فرفض إجابة طلبهم ، وحمل الخمس إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فلما رجعوا شكوا عليا «عليه‌السلام» إليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. فسأله فأخبره ، فسكت «صلى الله

٢٥٣

عليه وآله» ، وانتهى الأمر عند هذا الحد ..

فنلاحظ هنا :

١ ـ أنه كان من غير اللائق بأولئك القادة أن يتصرفوا بالخمس ، من دون إذن من صاحبه ، واضعين النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أمام الأمر الواقع.

٢ ـ إن القائد الذي يولّيه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أمين على الأموال ، وليس وكيلا في صرفها كيف شاء.

٣ ـ إن مطالبة أولئك الناس لقوادهم بأموال ليست لهم ، لا مبرر لها ..

فكيف إذا بلغ الأمر بهم حد شكاية قائدهم ، إذا امتنع عن إعطائهم أموالا لا حق لهم فيها؟!.

٤ ـ لو أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أراد أن يضع حدا لهذا التصرف لاتهم بالبخل والعياذ بالله .. فلذلك كان لا يطالبهم بما أخذوه مما يعود إليه.

٥ ـ لو أن عليا «عليه‌السلام» لم يبادر إلى وضع حد لهذا التصرف المخالف ، لأصبح سنة ، ولضاعت الفائدة من تشريع الخمس ، ولبطل التشريع من أصله ، إذا كان هناك من يريد أن يفهم من هذا السلوك النبوي وسماحته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وكرم أخلاقه على أنه نسخ للتشريع بصورة عملية ..

٦ ـ إنهم قد اغتنموا فرصة غياب علي «عليه‌السلام» لمعاودة السعي للحصول على تلك الأموال التي لا حق لهم بها ، وكأنهم ظنوا أن غيبته «عليه‌السلام» تزيل عنه صفة الأمين على ذلك المال والمسؤول عنه ..

٧ ـ إن عليا «عليه‌السلام» قد استعاد الحلل التي كان أبو رافع قد قسمها على أفراد السرية وإن كان أبو رافع قد تحجج ب :

ألف : أنه قد خاف من شكايتهم.

٢٥٤

ب : أنه ظن أن هذا الأمر يسهل على علي «عليه‌السلام».

ج : أن من كان قبل علي «عليه‌السلام» كان يفعل ذلك ..

وهي حجج واهية : فإنه رجل قد اؤتمن على مال غيره ، فلا معنى للخوف من شكاية الناس الذين كانوا معه ، إذا كانت شكايتهم على منعهم أمرا لا يستحقونه ..

وقد كان المال لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وعلى علي «عليه‌السلام» أن يوصله إليه ، فكيف يسهل عليه إعطاؤه لغير صاحبه؟!

وفعل غير علي «عليه‌السلام» إذا كان خطأ ، لا يصلح للتأسي به ، أو الإستناد إليه .. فإن الخطأ لا ينتج صوابا ..

٨ ـ إن هؤلاء الذين يسعون للحصول على مال لا يملكونه ، ويغتنمون فرصة غياب الأمين على ذلك المال ، ليأخذوه من الذي ائتمنه عليه ، بعد أن منعهم هو منه ، يريدون أن يستفيدوا من نفس هذا المال في إحرام حجهم ، الذي يفترض فيهم : أن يهتموا بأن يبعدوه عن أية شبهة ، وعن أي مال يشك في حليته وطيبه ..

علي عليه‌السلام المقرئ والمعلم :

وقد تقدم : أن عليا «عليه‌السلام» أقام في أهل اليمن يقرئهم القرآن ، ويعلمهم الشرائع .. وهذا هو ما يطمح إليه أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، فإن ما يسعده ، ويلذّ له هو إخراج الناس من ظلمات الجهل إلى نور العلم ، ومن الضلال إلى الهدى ، وأن يعيش الناس أحرارا ، سعداء برضا الله ، ملتزمين بشرائعه ، إخوانا على سرر متقابلين ، لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا

٢٥٥

من دون الله ، ولا يسعى بعضهم للتسلط على بعض ، وإذلا له ، والإستئثار بالخيرات والمنافع دونه ..

ولا يريد أن يكون جبارا في الأرض ، ولا أن يهيمن على الناس ، وتخضع له رقابهم ، ولا يبغى الراحة لنفسه بتعبهم ، ولا الغنى بفقرهم ، ولا عزة بذلهم.

عممه بعمامته ، وبيده :

وقد تقدم : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد تصرف مع علي «عليه‌السلام» بصورة من شأنها أن تظهر فضله «عليه‌السلام» وموقعه ، حين انتظر حتى تتام أصحابه في معسكرهم.

ثم عقد له لواء ، وأخذ عمامته ولفها مثنية مربعة ، فجعلها في رأس الرمح.

ثم دفعها إليه ..

ثم عممه بيده عمامة ثلاثة أكوار. وجعل له ذراعا بين يديه ، وشبرا من ورائه ، ثم أصدر إليه الأمر بالمضي ، وعدم الإلتفات ..

وكل ذلك يجعل الناس يعيشون لحظات من الرقابة المتمازجة بمشاعر الإعجاب والرضا ، والإيغال في آفاق البهاء والصفاء ، والجمال والجلال ، والمحبة والرضا.

القاضي والمعلم لأهل اليمن :

تقدم : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد نهى عليا «عليه‌السلام» عن قتال أحد إلا أن يقاتلوه ، وأعطاه تعليماته التي بينت : أن المطلوب هو دعوتهم إلى الله تعالى ، وأن عليه أن يتدرج في طلب ذلك منهم ، ولكنه لم يزد

٢٥٦

عن طلب ثلاثة أشياء ، كما سلف ..

وصرحت نصوص أخرى : بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، قد أرسل عليا «عليه‌السلام» إلى اليمن قاضيا.

وزعمت : أنه «عليه‌السلام» قال للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : تبعثني إلى قوم وأنا حدث السن ولا علم لي بالقضاء (أو بكثير من القضاء) ، فوضع يده على صدره وقال : إن الله سيهدي قلبك ، ويثبت لسانك. يا علي ، إذا جلس إليك الخصمان ، فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر الخ .. (١).

__________________

(١) مسند أحمد ج ١ ص ٨٣ و ٨٨ و ١٤٩ و (ط دار صادر) ج ١ ص ١١١ والطبقات الكبرى (ط دار المعارف بمصر) ج ٢ ص ٣٣٧ والسنن الكبرى للبيهقي ج ١٠ ص ١٤٠ وذخائر المواريث ج ٣ ص ١٤ وتيسير الوصول (ط نول كشور) ج ٢ ص ٢١٦ وقضاة الأندلس ص ٢٣ وخصائص الإمام علي «عليه‌السلام» للنسائي (ط التقدم بمصر) ص ١٢ وأخبار القضاة لوكيع ج ١ ص ٨٥ وفرائد السمطين ، ونظم درر السمطين ص ١٢٧ والشذورات الذهبية ص ١١٩ وطبقات الفقهاء ص ١٦ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٢٣٦ ومناقب علي «عليه‌السلام» لابن المغازلي ص ٢٤٨ والرصف ص ٣١٣ وجمع الفوائد من جامع الأصول ، ومجمع الزوائد ج ١ ص ٢٥٩ وفتح المنعم (مطبوع مع زاد المسلم) ج ٤ ص ٢١٧ والبحار ج ٢١ ص ٣٦٠ و ٣٦١ وفي هامشه عن : إعلام الورى (ط ١) ص ٨٠ و (ط ٢) ص ١٣٧. وراجع : العمدة لابن البطريق ص ٢٥٦ وفتح الباري ج ٨ ص ٥٢ والسنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ١١٧ وكنز العمال ج ١٣ ص ١٢٥ والبداية والنهاية ج ٥ ص ١٢٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٢٠٨ وجواهر المطالب في مناقب الإمام علي «عليه‌السلام» ج ١ ص ٢٠٥ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٧ ص ٦٥ وج ٢٠ ص ٥٦٥ و ٥٧١ وج ٢٢ ص ١٧٦ وج ٣١ ص ٣٨٧.

٢٥٧

ولذلك اعتبر السكتواري عليا «عليه‌السلام» أول قاض بعثه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى اليمن (١).

غير أننا نقول :

إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان قد صرح بما يدل على رسوخ قدم علي «عليه‌السلام» في العلم في مناسبات كثيرة قبل ذهاب علي «عليه‌السلام» إلى اليمن ، ولم يزل يجهر بذلك على مدى ثلاث وعشرين سنة ، فهو عيبة علمه ، وهو منه بمنزلة هارون من موسى ، وهو مدينة العلم وعلي بابها ، إلى غير ذلك مما يتعذر جمعه ، وإحصاؤه ، وقد نزلت فيه «عليه‌السلام» آيات كثيرة تشير إلى علمه هذا ، ويكفي قوله تعالى : (.. قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٢).

يضاف إلى ذلك : أنه «عليه‌السلام» نفس رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بنص آية المباهلة ، وهل يمكن أن يكون كذلك إذا كان ـ حسب زعمهم ـ : إلى أواخر حياة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يعرف القضاء؟!! (٣).

ويمكن أن يجاب : بأنه «عليه‌السلام» إنما تكلم بلسان غيره ، وعبر عن مكنونات ضمائرهم ، لكي يسمعهم ويسمع الأجيال كلها إلى يوم القيامة جواب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، القاطع لكل عذر ، والمبدد لجميع الأوهام ، وليبوء هؤلاء بالإثم والخزي والخذلان ..

__________________

(١) محاضرة الأوائل ص ٦٢.

(٢) الآية ٢٤ من سورة الرعد.

(٣) وقد ذكر في إحقاق الحق (قسم الملحقات) مئات الأحاديث الدالة على علم الإمام علي «عليه‌السلام» وفضله فراجع.

٢٥٨

الرواية الأقرب إلى القبول :

وبالنسبة لذهاب علي «عليه‌السلام» إلى اليمن نقول :

لعل الصحيح هو : أنه «عليه‌السلام» قد ذهب إلى اليمن أولا ، فأسلمت همدان كلها على يديه في ساعة واحدة ، وانتشر الإسلام في تلك البلاد.

ثم إن أهلها شعروا بحاجتهم إلى من يفقههم في الدين ، فوفدوا إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وطلبوا منه ذلك ، فأرسل إليهم عليا «عليه‌السلام» مرة ثانية ، فقد روي : أنه أتى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ناس من اليمن ، فقالوا : ابعث فينا من يفقهنا في الدين ، ويعلمنا السنن ، ويحكم فينا بكتاب الله.

فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : انطلق يا علي إلى أهل اليمن ، ففقههم في الدين وعلمهم السنن ، واحكم فيهم بكتاب الله.

فقلت : إن أهل اليمن قوم طغام ، يأتوني من القضاء بما لا علم لي به.

فضرب «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على صدري ، ثم قال : اذهب ، فإن الله سيهدي قلبك ، ويثبت لسانك. فما شككت في قضاء بين اثنين حتى الساعة (١).

__________________

(١) منتخب كنز العمال (مطبوع مع مسند أحمد) ج ٥ ص ٣٦ وكنز العمال ج ١٣ ص ١١٣ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٨ ص ٣٥ وو ٤٠ و ٤٥ وج ٢١ ص ٦٣٤ وج ٢٢ ص ٥١١ وج ٢٣ ص ٦٦٧ وراجع : أخبار القضاة لمحمد بن خلف بن حيان ج ١ ص ٨٦ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٣ ص ٦٣٧.

٢٥٩

وقال الطبرسي : بعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليا «عليه‌السلام» إلى اليمن ، ليدعوهم إلى الإسلام ، وليخمس ركازهم ، ويعلمهم الأحكام ، ويبين لهم الحلال والحرام ، وإلى أهل نجران ليجمع صدقاتهم ، ويقدم عليه بجزيتهم (١).

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يعلم عليا عليه‌السلام القضاء :

ولعل من المهم هنا : أن نشير إلى أن الملاحظ هو : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يعلم عليا «عليه‌السلام» القضاء ، بل اكتفى بالطلب إليه أن لا يقضي بين الخصمين حتى يسمع كلامهما .. ثم أخبره بأن الله تعالى هو الذي يتولى هداية قلبه ، وتثبيت لسانه على الحق والصواب.

ولا ريب في أن ذلك لن يكون على سبيل القهر والجبر ، بل هو منحة إلهية ، تدل على مكانة علي «عليه‌السلام» عند الله تبارك وتعالى ، وعلى أنه «عليه‌السلام» قد بلغ هذا المقام بجهده وجهاده ، فاستحق هذه الهداية الإلهية على قاعدة : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (٢) ، (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (٣) ، (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (٤).

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ٣٦٠ وفي هامشه عن : إعلام الورى (ط ١) ص ٧٩ و ٨٠ و (ط ٢) ص ١٣٧.

(٢) الآية ٦٩ من سورة العنكبوت.

(٣) الآية ١٧ من سورة محمد.

(٤) الآية ١١ من سورة التغابن.

٢٦٠