الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٦

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٦

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-198-X
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧٢

فالظاهر الذي تعطيه مراجعة النصوص في المصادر الروائية والتاريخية : أن ثمة خلطا بين الروايات ، والصحيح هو : أن عليا «عليه‌السلام» قد ذهب في سرية وذهب خالد في سرية أخرى ، وقال لهما رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إن التقيتما فعلي هو الأمير ..

ثم جرى فتح بعض الحصون على يد علي «عليه‌السلام» ، ولعل خالدا أيضا قد حصّل بعض السبايا بسبب قتال في مجال آخر .. ثم اصطفى علي «عليه‌السلام» جاريته ، واشتكى عليه بريدة بتحريض من خالد. أو بمشاركة منه كما تقدم ..

ولعل هذا قد حصل في سرية كانت إلى بعض أطراف اليمن ، أو القريبة منها ، وهي غير إرسال علي «عليه‌السلام» وخالد لدعوة أهل اليمن .. حسبما فصلناه ..

سرور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بإسلام همدان :

إن سرور النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بدخول الناس في الإسلام لهو أمر طبيعي يرفضه حرصه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على إخراج الناس من الظلمات إلى النور. بالإضافة إلى أن يشعر كل من ينجز عملا يتضمن نجاة النفوس من الهلاك بنشوة خاصة ، ولذة غير عادية.

ولكن ما أظهره النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من سرور حين بلغه إسلام قبيلة همدان كان غير عادي أيضا إذا قيس بما رأيناه منه حين إسلام جماعات أخرى من الناس قد تكون أكثر عددا ، ولها موقع قد يتراءى أنه أشد حساسية ، وأعظم أهمية ..

٢٢١

فقد سجد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ثم رفع رأسه وقال : السلام على همدان .. أكثر من مرة. وأطلق كلمات هامة في حق همدان أيضا ..

ونحن نعلم : أن اهتمام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأمر ، يعكس أهمية ذلك الأمر في تأييد الدين ، ونيل رضا رب العالمين ، فهل تراه كان ينظر إلى الغيب ، وتكشف له الحجب عن موقف مميز لهذه القبيلة ، يكون له أثر هام في تأييد دين الله ، وفي نصرة وصيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ووليه تبارك وتعالى؟!

وإذا راجعنا التاريخ ، فإننا لا نجد لهمدان هذا الموقف المميز في حياة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بل كانت لها مواقف عظيمة بعد وفاته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» طافحة بالتأييد والنصرة في ساحات الجهاد لوصي علي أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام ، في صفين وفي غيرها ، حتى قال «عليه‌السلام» مادحا لها :

فلو كنت بوابا على باب جنة

لقلت لهمدان ادخلوا بسلام (١)

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب ج ١ ص ٣٩٤ والبحار ج ٣٢ ص ٤٧٧ وج ٣٨ ص ٧١ وأصدق الأخبار للسيد محسن الأمين ص ٩ والغدير ج ١١ ص ٢٢٢ ومستدرك سفينة البحار ج ١٠ ص ٥٥٢ والإمام علي بن ابي طالب «عليه‌السلام» للرحماني الهمداني ص ٧٧٠ ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٥٥٦ و ٥٧٥ ومواقف الشيعة ج ١ ص ٣٩٠ ونهج السعادة للمحمودي ج ٥ ص ٤٣ وشرح النهج للمعتزلي ج ٥ ص ٢١٧ وج ٨ ص ٧٨ وتفسير الآلوسي ج ١٩ ص ١٤٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٥ ص ٤٨٧ والأعلام للزركلي ج ٨ ص ٩٤ وأنساب الأشراف للبلاذري ص ٣٢٢ والأنساب للسمعاني ج ٥ ص ٦٤٧ ـ

٢٢٢

ونذكر مثالين آخرين هنا أيضا من مواقف همدان في نصرة الحق وأهله ، وهما :

١ ـ إنه حين أراد أهل الكوفة بعد موت يزيد «لعنه الله» أن يؤمروا عليهم الخبيث المجرم عمر بن سعد لعنه الله واخزاه ، جاءت نساء همدان ، وربيعة ، وكهلان ، والأنصار ، والنخع إلى الجامع الأعظم صارخات ، باكيات ، معولات ، يندبن الحسين «عليه‌السلام» ويقلن : أما رضي عمر بن سعد بقتل الحسين حتى أراد ان يكون أميرا علينا على الكوفة؟!

فبكى الناس وأعرضوا عنه (١).

٢ ـ إنه حين طعن الإمام الحسن «عليه‌السلام» دعا ربيعة وهمدان. فأطافوا به ومنعوه ، فسار ومعه شوب من غيرهم (٢).

__________________

ـ والجوهرة في نسب الإمام علي وآله للبري ص ٢٥ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ق ١ ص ٢٥٢ وتاريخ الكوفة للسيد البراقي ص ٢٣٤ و ٥٣١ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٤١٠ و ٤٨٩ و ٥٠٥ و ٥٥٣ وج ٢ ص ٥١٥ وج ٤ ص ١٦٠ و ٣٦٦ وج ٧ ص ٤٣ و ٢٤٣ و ٢٤٥ وج ٩ ص ٢٣٤ ووقعة صفين للمنقري ص ٢٧٤ و ٤٣٧ والفصول المهمة لابن الصباغ ج ١ ص ٦٠٤ وجواهر المطالب في مناقب الإمام علي «عليه‌السلام» لابن الدمشقي ج ٢ ص ٢٥٥ والخصائص الفاطمية للشيخ الكجوري ج ٢ ص ١١٠.

(١) مروج الذهب ج ٢ ص ١٠٥ ومقتل الحسين للمقرم ص ٢٤٦ عنه. وأنصار الحسين «عليه‌السلام» للشيخ محمد مهدي شمس الدين ص ١٩٩ عن المبرد (أبو العباس محمد بن يزيد) : الكامل (تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم والسيد شحاتة ـ مطبعة نهضة مصر) (غير مؤرخة) ج ١ ص ٢٢٣.

(٢) كشف الغمة للأربلي ج ٢ ص ١٦٣ وراجع : الأخبار الطوال ص ٢١٧ والإرشاد ـ

٢٢٣

لعله يغضب لابنته :

وقد ذكرت بعض نصوص حديث بريدة المتقدم : أنه لما ارتد عمرو بن معديكرب أرسل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليا «عليه‌السلام» إلى بني زبيد ، فغنم وسبى ، واصطفى «عليه‌السلام» جارية ، وذهب بريدة ليشتكي على علي «عليه‌السلام».

فسار حتى انتهى إلى باب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلقيه عمر بن الخطاب ، فسأله عن حال غزوتهم ، وعن الذي أقدمه. فأخبره أنه إنما جاء ليقع في علي «عليه‌السلام» ، وذكر له اصطفاءه الجارية من الخمس لنفسه.

فقال له عمر : امض لما جئت له ، فإنه سيغضب لابنته مما صنع علي.

ثم ذكرت الرواية : أن بريدة دخل على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وجعل يحدثه بما جرى ، فتغير وجه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال له بريدة : إنك إن رخصت للناس في مثل هذا ذهب فيؤهم ..

فقال له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : ويحك يا بريدة ، أحدثت نفاقا!!

إن علي بن أبي طالب يحل له من الفيء ما يحل لي.

إن علي بن أبي طالب خير الناس لك ولقومك ، وخير من أخلف بعدي لكافة أمتي.

يا بريدة ، احذر أن تبغض عليا فيبغضك الله.

__________________

ـ للمفيد ج ٢ ص ١٢ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ٤١ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٥٦٩.

٢٢٤

قال بريدة : فتمنيت أن الأرض انشقت لي فسخت فيها الخ .. (١).

والذي يثير الإنتباه في هذا النص هو الأمور التالية :

١ ـ إن بريدة قدم خصيصا ليقع في علي «عليه‌السلام».

والسؤال الظاهر هنا هو : ألم يكن بإمكانه هو وخالد بن الوليد أن يصبرا حتى يقدما مع السرية على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟

أم أنهما أرادا أن يتخذ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إجراء غيابيا في حق علي «عليه‌السلام» من دون أن يتمكن علي «عليه‌السلام» من الدفاع عن نفسه؟

أم أن الذي دعاهما للعجلة هو شدة بغضهما لعلي «عليه‌السلام» ، وقد وجدا الفرصة للتنفيس عن هذا الحقد؟

أم أنهما خافا أن يحن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى صهره ، وابن عمه ، لو أن الشكوى كانت بحضوره؟!

أما في حال غيبته ، فإن وطأة هذا الحنين ستكون أخف ، ولعل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يسارع إلى إصدار حكمه ضده ، وسيكون التراجع عنه صعبا ، أو سيكون تراجعا ضعيفا وترقيعيا ، لا يفي بالغرض ، ولا يزيل جميع الآثار والندوب والتشويهات؟!

٢ ـ إن عليا «عليه‌السلام» قد بين لهم الحكم الشرعي ، فلما ذا ، وما هو

__________________

(١) الإرشاد للمفيد ج ١ ص ١٦٠ و ١٦١ وراجع : قاموس الرجال ج ٢ ص ٢٨٨ عنه. وراجع : المستجاد من الإرشاد (المجموعة) ص ٩٨ والبحار ج ٢١ ص ٣٥٨ وكشف الغمة ج ١ ص ٢٣٠.

٢٢٥

المبرر للوقيعة به عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعد أن اتضح لهم أنه «عليه‌السلام» لم يخالف حكم الله ، فإن كانوا يرون خطأ علي «عليه‌السلام» فيما قال فلما ذا لم يعترضوا عليه ، ويفندوا أقواله؟!

ثم ألم يخطر في بالهم أن يجيبهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بنفس ما أجابهم به علي «عليه‌السلام»؟

وهذا ما حصل بالفعل ، فإنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أكد ما قاله لهم علي «عليه‌السلام» وزاد عليه : أن نصيب علي في الخمس كان أكثر من وصيفة.

٣ ـ ما هذا الحرص من عمر بن الخطاب على رؤية النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يغضب على علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» ، من أجل ابنته فاطمة الزهراء «عليها‌السلام» ..

فهل كان يرى أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يبيح للناس أمرا .. ثم إنه حين يكون الأمر متعلقا بابنته ، يغضب ويمنع منه ، انطلاقا من هواه والعياذ بالله؟

ولما ذا لم يقل عمر لبريدة : إن وقيعته بعلي «عليه‌السلام» لا تجدي ، لأن عليا «عليه‌السلام» قد فعل ما يحل له .. إلا إذا كان عمر بن الخطاب أيضا يجهل هذا الحكم الشرعي؟! وهذا ما لا يرضى فريق كبير من الناس بنسبته إلى عمر!!

٤ ـ إن عليا «عليه‌السلام» كان رجلا حييا وستّيرا ولم يكن من عادته أن يظهر للناس أي شيء يدلهم على طبيعة ممارساته الجنسية ، إلا إذا قتضت ضرورات دينية ذلك منه ، وقد رأيناه هنا وكأنه يعتمد دفعهم إلى معرفة ما فعله ، حيث يخرج على الناس ورأسه يقطر ، فدعاهم ذلك إلى سؤاله عن

٢٢٦

ذلك ، وإذ به يجيبهم بالتفصيل ، مصرحا لهم : بأنه قد وقع بتلك الوصيفة التي هي من أفضل السبي ، على حد تعبير الروايات ، وقد رأوها وعرفوها ولعلهم كانوا يرغبون بها أيضا.

مع أنه كان يستطيع أن يتجنب التصريح بهذا الأمر ، فإن الإغتسال قد يكون لأكثر من سبب ، أو أن يمتنع عن الإجابة ، ويقول : ما أنتم وهذا السؤال؟

خير الناس علي عليه‌السلام :

وقد ذكرت رواية المفيد «رحمه‌الله» : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قال لبريدة عن علي «عليه‌السلام» : إنه خير الناس لبريدة ولقومه ، بل هو خير من يخلف بعده لكافة أمته «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وبذلك يكون «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أدخل عليا «عليه‌السلام» إلى قلب بريدة عن طريق الرغبة الطبيعية لكل إنسان باستجلاب المنافع لنفسه ولقومه ، ودرء المضار والأسواء عن نفسه وعنهم ..

ثم أطلق «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دعوته الشاملة لكافة أمته إلى محبة علي «عليه‌السلام» ، مرتكزا في دعوته تلك على نفس هذه المعادلة التي قدمها لبريدة ..

وبديهي : أن الناس قبل تصفية أرواحهم ، والسمو بنظرتهم ، وإطلاق عقولهم من أسر الأهواء والشهوات ، ينطلقون في مواقفهم من حبهم وبغضهم ، وارتباطاتهم ، ويكون إقدامهم وإحجامهم من منطلقات محسوسة أو قريبة من الحس بالنسبة إليهم ، ولا يتفاعلون بعمق مع المثل والقيم الشريفة ، والمفاهيم والمعاني الإيمانية العالية ، ذات القيمة الروحية والمعنوية.

٢٢٧

من أجل ذلك كان لا بد من الرفق بهم ، وتيسير الأمور عليهم ، بإبراز الجانب الحسي ، أو القريب من الحس لتقريبهم من خط الإستقامة على طريق تصفية قلوبهم ، وأرواحهم ، ليتمكنوا من نيل المعاني السامية ، والتفاعل الروحي معها ، والإنصهار في بوتقة الإيمان ، والإنشداد إلى كل حقائقه ودقائقه ، والتفاعل معها بكل وجودهم.

ما المبرر لهذا البغض؟! :

وقد دلنا بريدة على بغضه الشديد لعلي «عليه‌السلام» ، حتى لقد ذكر أنه كان يحب البعض لمجرد معرفته بشدة بغضه لأمير المؤمنين «عليه‌السلام» .. ولكنه لم يذكر لنا أي مبرر لهذا البغض ، رغم أن بريدة قد أسلم في أول سني الهجرة ، حين مرّ النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» به ـ مهاجرا ـ من مكة ، ثم قدم إلى المدينة بعد بدر وأحد (١).

وقيل : إنه أسلم بعد منصرف النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قبل بدر (٢).

__________________

(١) الإصابة ج ١ ص ١٤٦ والإستيعاب (مطبوع بهامش الإصابة) ج ١ ص ١٧٣ و ١٧٤ و ١٧٥ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٢٣٥.

(٢) سبل السلام ج ١ ص ١٠٧ وتحفة الأحوذي ج ١ ص ٤٠٠ وج ٢ ص ١٩١ وشرح مسند أبي حنيفة للملا علي القاري ص ١٠٣ وفيض القدير ج ١ ص ٤٢١ والإكمال في أسماء الرجال للخطيب التبريزي ص ٢٧ وتقريب التهذيب ج ١ ص ١٢٤ و ٣٧٨ والأعلام للزركلي ج ٢ ص ٥٠ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٥ ص ٧٦ وأعيان الشيعة ج ٣ ص ٥٦٠ وسبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ٣٧٧ والإصابة ج ١ ص ١٤٦ والإستيعاب (مطبوع بهامش الإصابة) ج ١ ص ١٧٣ و ١٧٤ و ١٧٥.

٢٢٨

فبريدة إذن قد عاش مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ومع علي «عليه‌السلام» سنوات عديدة ، يرى فيها تضحيات علي «عليه‌السلام» وسلوكه المثالي ، وعبادته ، واستقامته ، ويرى حب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وتقديمه له ، ويسمع أقواله فيه ، فلما ذا استمر على بغضه ، ولم يؤثر فيه شيء من ذلك؟!

ثم جاء هذا التحول الذي يتحدث عنه بريدة ، بعد أن وجد نفسه أمام غضب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وغضب الله سبحانه ، الأمر الذي جعله أمام خيار خطير جدا لا قبل له به ، فآثر أن يعلن توبته عن هذه الموبقة الكبرى ، على الرضا بأن يكون في دائرة الكفر والنفاق ، الذي انتقل ـ بما سمعه من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ من الخفاء إلى العلن ، وكاد أن يجد نفسه أمام فضيحة مرعبة وهائلة .. تجعله في مواجهة الخزي والعار ، وفي موضع غضب الله ورسوله في الدنيا والآخرة.

وقد كان بريدة قبل هذه الحادثة يرى أنه قادر على التعلل فيما بينه وبين نفسه بأن له الحق في أن يبغض عليا «عليه‌السلام» ، إن كان لم يسمع قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيه : لا يبغضك إلا منافق ، أو ابن زنا ، أو نحو ذلك .. ثم أن يزين لنفسه أن جهاد وتضحية علي «عليه‌السلام» وما يراه من مواقف له ، وما يسمعه من ثناء نبوي عليه ، إنما يجري وفق ظواهر الأمور ، وربما تكون البواطن على خلاف ذلك ..

ولكنه بعد هذا الحدث ـ الصدمة ـ لم يعد قادرا على السير في هذا الإتجاه ، لأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أخبره ـ وهو كما قال الله عز

٢٢٩

وجل : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١) ـ : أن الله يبغض مبغض علي «عليه‌السلام» ، وأن حبه واجب عليه ، وأنه ولي كل مؤمن ، فلم تعد القضية مقتصرة على ظواهر الأمور ، بل هي قد كشفت بواطنها أيضا ..

إختلاف أقوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وقد ظهر من الروايات التي ذكرناها فيما سبق : أنها تتضمن نصوصا متعددة كلها منسوبة إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في حق علي «عليه‌السلام» ..

ونبادر إلى القول :

إن ذلك الإختلاف لا يقلل من قيمتها ، ولا يسيء إلى صدقيتها ، واختلافها لا يؤيد الحكم باختلاقها. لأن من القريب جدا أن يكون النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قال ذلك كله ، لكن الرواة قد اختزلوا أقواله لدواع مختلفة.

ولعل بعض الإختلاف قد كان بسبب النقل بالمعنى أحيانا ، كما أن نسيان الراوي لبعض الفقرات ، قد يكون له دور في اقتصار روايته على فقرات دون غيرها. فليلاحظ ذلك.

علي عليه‌السلام قابض أم قاسم :

قد اختلفت الروايات المتقدمة في المهمة التي أرسل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليا «عليه‌السلام» لإنجازها ، هل هي قبض الخمس من خالد؟

__________________

(١) الآيتان ٣ و ٤ من سورة النجم.

٢٣٠

أم قسمة الفيء؟

ولعل الأرجح : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أرسله ليغنم ، وليقبض ، ويقسم ، إذ لو كان المقصود هو مجرد قبض الخمس ، فقد كان بإمكان خالد أن يرسله ، أو أن يوصله هو إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من دون حاجة إلى الطلب من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأن يرسل إليه من يقبضه منه ..

وقد كانت السرايا تقتسم الغنائم ، وتحتفظ بالخمس إلى حين قدومها على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

ولم نعهد في أية سرية سوى هذه السرية أن قائد سرية أرسل إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يطلب منه أن يبعث إليه من يقبض منه خمس الغنائم ، وما أكثر السرايا التي أسر وسبى فيها المسلمون الشيء الكثير ، العشرات والمئات ، وغنموا في بعضها المئات والألوف ، من الإبل ، والغنم ، وغير ذلك ..

فما جرى في هذه الحادثة يعطينا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ لسبب ما ـ كان قد منع خالدا من التصرف بشيء من السبي والغنائم. إما لأنه كان يتهمه في أمانته ، أو لأنه أراد أن ينبه الناس على أن تأميره على السرية لا يعني صلاحيته لأي أمر آخر قد يحاول أن يرشح نفسه ، أو يرشحه محبوه له.

أو لغير ذلك من مقاصد ..

تتابع المخبرين :

وقد صرح النص المذكور عن الطبراني : بأن المخبرين قد تتابعوا على

٢٣١

خالد بما صنعه علي «عليه‌السلام» ، ثم تتابعت الأخبار.

وهذا يدل على : أن المهتمين بإيصال أخبار علي «عليه‌السلام» إلى خالد كانوا على درجة كبيرة من الكثرة ، وفي ذلك إشارة إلى كثرة المتعاطفين مع خالد ، والمتحاملين على علي «عليه‌السلام» ..

ولا بد أن ينتج ذلك أيضا : أن يكون الذين سوف يطلعون على موقف رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من هذا الأمر سيكونون كثيري العدد جدا ، خصوصا بعد انضمام كثير من أهل المدينة إليهم .. وسوف يزداد انتشار خبر بريدة ، حين يرى الناس تبدل أحواله تجاه علي «عليه‌السلام» وتحوله من مبغض حاقد إلى محب مادح وحامد. ولا بد أن يكون ذلك مفيدا جدا في تعريف الناس على ولاية علي «عليه‌السلام» ، التي أنشأها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في قوله لبريدة : من كنت وليه فعلي وليه.

أخذ الكتاب بشماله :

وعن أخذ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كتاب خالد من بريدة بشماله نقول :

إن لهذا الحديث مغزى عميقا ، ودلالة هامة جدا ، لأن المروي عنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أنه : «كان يمينه لطعامه وشرابه ، وأخذه وإعطائه ، فكان لا يأخذ إلا بيمينه ، ولا يعطي إلا بيمينه ، وكان شماله لما سوى ذلك من بدنه ، وكان يحب التيمن في كل أموره» (١).

__________________

(١) مكارم الأخلاق ص ٢٣ والبحار ج ١٦ ص ٢٣٧ وسنن النبي للسيد الطباطبائي ص ١٢٠ وموسوعة أحاديث أهل البيت «عليهم‌السلام» للشيخ هادي النجفي ـ

٢٣٢

فأخذه كتابه بشماله ـ وهو ما لم نقرأ ولم نسمع أنه فعله في أي مورد آخر ـ يدلنا على : أن الله سبحانه قد كشف لنبيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن مضمون تلك الرسالة ، وعرفه أنها تحمل في طياتها أمورا لا خير ولا يمن فيها ، بل هي بمثابة قاذورات لا بد من التنزه عنها قولا ، وفعلا ، وممارسة ، كما لا بد من إرفاقها بدلالات عملية ، من شأنها أن تتجذر في عمق الذاكرة ، لتبقى العلامة

__________________

ـ ج ١ ص ١٤٤ ومستدرك سفينة البحار ج ١٤ ص ١٥٤ وتفسير الميزان ج ٦ ص ٣١٣ ومعجم المحاسن والمساوئ لأبي طالب التبريزي ص ٤٧١.

وراجع : سنن النسائي ج ٨ ص ١٣٣ ومنتهى المطلب (ط ق) ج ١ ص ٣٠٦ ومغني المحتاج للشربيني ج ١ ص ٥٥ وفتح المعين ج ١ ص ٦٥ والمغني لابن قدامة ج ١ ص ٩٠ والشرح الكبير لابن قدامة ج ١ ص ١٩ و ١١٠ وج ٢ ص ٨٧ وتلخيص الحبير ج ١ ص ٤١٩ ومسند أحمد ج ٦ ص ٩٤ و ١٣٠ و ١٤٧ و ٢١٠ وصحيح البخاري ج ١ ص ١١٠ وج ٦ ص ١٩٧ وج ٧ ص ٤٩ وصحيح مسلم ج ١ ص ١٥٦ وسنن أبي داود ج ٢ ص ٢٧٧ وشرح مسلم للنووي ج ٣ ص ١٦٠ و ١٦١ ومسند أبي داود الطيالسي ج ١ ص ٢٠٠ ومجمع الزوائد ج ٥ ص ١٧١ وج ١٠ ص ١٣٩ وجامع الأحاديث والمراسيل ج ٥ ص ٥١٩ ومشكاة المصابيح للهيثمي ج ٢ ص ١١١ والفتح الكبير ج ٢ ص ٣٦٤ وعمدة القاري ج ٣ ص ٣١ وج ٤ ص ١٧١ وج ٢١ ص ٣١ ومسند ابن راهويه ج ٣ ص ٨٢٠ و ٨٢١ ومسند ابي يعلى ج ٤ ص ٤٧٨ والجامع الصغير ج ٢ ص ٣٥١ وكنز العمال ج ٧ ص ١٢٤ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ ص ٣٨٦ و ٤٨١ والسنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ٤١١ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤ ص ٦١ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٢٥٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٩٣ وج ٩ ص ٣٥٤ والنهاية في غريب الحديث ج ٥ ص ٣٠٢ ولسان العرب ج ١٣ ص ٤٥٨ ومجمع البحرين ج ٤ ص ٥٨٣.

٢٣٣

الفارقة ، التي لا مجال للتلاعب بها ، أو التحايل عليها ، والتي تشير إلى أن ثمة معنى سلبيا لا يتمكن أصحاب الأهواء من التعمية عليه ، وتضييع سبل الوصول إليه.

من كنت مولاه فعلي وليه :

ويأتي قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لبريدة في هذه المناسبة بالذات : «من كنت وليه ، فعلي وليه» ، ليدل على أن ما يفعله علي «عليه‌السلام» في الشأن العام وكل ما يرتبط بالناس ، فإنما هو من موقع الولاية ، التي بيّن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيها ثلاثة أمور :

الأول : أنها من سنخ ولايته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

الثاني : أن سعتها وامتدادها يوازي سعة وامتداد ولاية رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

الثالث : أنها ولاية فعلية ، وفي عرض ولاية رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وليست إنشائية ، بحيث تكون فعليتها بعد وفاة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، كما ربما يتوهمه البعض.

علي عليه‌السلام يفعل ما أمر به :

وقد صرحت رواية الطبراني المتقدمة : بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قال لبريدة حينما وقع في علي «عليه‌السلام» بسبب الجارية : «أحب عليا ، فإنما يفعل ما أمر به».

وهذا معناه : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفسه هو الذي دبر هذا الأمر ، وذلك بأمر من الله تبارك وتعالى ، ربما ليمهد السبيل إلى التقرير

٢٣٤

الواضح والصريح : في أن ولاية علي «عليه‌السلام» على الناس على حد ولاية النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليهم.

فإن استدراج خالد وحزبه لإظهار دخائل نفوسهم تجاه علي «عليه‌السلام» كان مطلوبا .. لتعريف الناس بأن ذلك يغضب الله ورسوله .. وليكون كل موقف يتخذه هؤلاء ، ومن هم على شاكلتهم إذا كان يتضمن الطعن في علي «عليه‌السلام» ، والإنتقاص منه ، فإنما يمثل تمردا منهم على وليهم الذي تبلغ حدود ولايته نفس ما بلغته ولاية رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليهم ..

وبذلك تكون الحجة قد أقيمت وتمت على هؤلاء وعلى غيرهم ، من الله ورسوله ، قبل اتخاذهم أي موقف. الأمر الذي يجعل مواقفهم المخالفة قبل حدوثها مدانة ومرفوضة ، وساقطة سلفا ، وهي من موجبات غضب الله ورسوله ، ولا مجال لأي بحث ، ولا يصح أي جدل فيها وحولها.

الغضب العظيم :

وقد صرح بريدة : بأنه رأى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد غضب غضبا لم يره غضب مثله إلا يوم قريظة والنضير ..

وكيف لا يغضب «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو يرى أن هؤلاء يصرون على الطعن في علي «عليه‌السلام» ، وعلى عدم الاستسلام لأمر الله ورسوله فيه ، رغم مرور السنوات على رؤيتهم لجهاده وتضحياته ، وكراماته الظاهرة ، وآياته الباهرة ، في بدر وفي أحد ، وفي خيبر ، والخندق ، والفتح ، وحنين ، وذات السلاسل وغير ذلك ، ورغم سماعهم مباشرة ، أو من خلال الشياع في الآفاق

٢٣٥

ما كان ينزله الله تعالى فيه من آيات ، وما يقوله رسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في حقه «عليه‌السلام».

فلما ذا يصمون آذانهم ، ويطبقون أعينهم ، فلا يرون ، ولا يسمعون ، ولا يعقلون ذلك كله ، ولا يستجيبون لما يريده الله ورسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟! وذلك هو سر تناهي غضب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى هذا الحد ، فإن من الواضح : أن عدم الإنقياد للإمام «عليه‌السلام» وعدم الرضا بالإمامة يوازي هدم أساس الإسلام ، وتقويض أركانه.

وفد همدان :

وفي سنة تسع ، وبعد مرجع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من تبوك جاء وفد همدان إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مع وفود وملوك حمير.

قالوا : «وكان الوافدون من كل بطن سيدهم ، فكتب لهم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كتابا ، وجعل لهم بعض الأراضي «ما أقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة» ، فأسلموا ، واستعمل مالك بن نمط على من أسلم من قومه ، وأمره بقتال ثقيف ، فكان لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه» (١).

__________________

(١) الإستيعاب (مطبوع بهامش الإصابة) ج ٣ ص ٣٧٩ و (ط دار الجيل) ج ٣ ص ١٣٦٠ والإصابة ج ٣ ص ٣٥٦ و (ط دار الكتب العلمية) ج ٥ ص ٥٥٩ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٩٥ شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٤ ص ٣٤ وأسد الغابة ج ٤ ص ٢٩٤ وزاد المعاد ج ٣ ص ٣٤ وعن السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٥٩ وراجع : السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٢٤٤ ـ ٢٤٥ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٣٩١ وتاريخ مدينة دمشق ج ٥٦ ص ٤٨٢.

٢٣٦

وذكروا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال حين قدوم وفد همدان : «نعم الحي همدان ، ما أسرعها إلى النصر ، وما أصبرها على الجهد ، وفيهم أبدال ، وفيهم أوتاد الإسلام» (١).

ونقول :

إن لنا ملاحظات على ما سبق هي التالية :

١ ـ قالوا : «لم تكن همدان تقاتل ثقيفا ، ولا تغير على سرحهم ، فإن همدان باليمن ، وثقيف بالطائف» (٢).

ولذلك رجحوا بل صححوا الحديث المتقدم ، عن أن إسلام همدان كان على يد علي «عليه‌السلام» في اليمن نفسها ، لا أنهم وفدوا إلى المدينة وأسلموا فيها (٣).

٢ ـ استدل الزرقاني على بطلان حديث وفود همدان وإسلامها بنفس حديث إرسال خالد ثم علي «عليه‌السلام» إلى اليمن ، إذ لو كانوا وفدوا إلى المدينة وأسلموا لم يرسل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خالدا ولا عليا «عليه

__________________

(١) أسد الغابة ج ٢ ص ٥١ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٣٧٧ و ٣٨٧ وكنز العمال ج ١٢ ص ٦٨ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ٣٤١ وتاريخ مدينة دمشق ج ١٥ ص ١٨٦ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٢٤٣ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٤٢٧ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٢٦٥.

(٢) تاريخ الخميس ج ٢ ص ١٩٥ عن هدى العباد لابن القيم ، وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٤ ص ٣٤ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٣٠ و (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٢٦٥ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٤٢٧ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٣٩١.

(٣) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٤ ص ٣٤ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٣٠.

٢٣٧

السلام» إليهم.

وهناك مفارقة أخرى ، وهي : أن في حديث البراء : أن بعث خالد وعلي «عليه‌السلام» قد كان في السنة الثامنة بعد قسمة غنائم حنين في الجعرانة ، والوفد إلى المدينة إنما كان في التاسعة بعد تبوك.

فكيف يقال : إنهم أسلموا حين وفدوا إلى المدينة؟.

ثم جمع بين القولين : بأنه قد يكون الذين أسلموا طائفة من همدان ، والوفد إلى المدينة كان من طائفة أخرى منها ، وإن اتحدا في الاسم (١).

ونقول :

إن هذا الجمع لا يصح ، لأن النص المتقدم يقول : «فأسلمت همدان جميعا».

إلا أن يقال : لعل المقصود : أن جميع من حضر منها قد أسلم بدعوة علي «عليه‌السلام».

ولكن هذا الإحتمال خلاف ظاهر النص ، فلا يصار إليه ..

ولعل الأقرب إلى الإعتبار أن يقال : قد تضمن كلام مالك بن نمط في محضر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ما يدل على أنهم كانوا مسلمين قبل وفودهم إليه ، لا أنهم قد وفدوا ، ثم أسلموا عنده ، فقد قال مالك :

«أتوك على قلص نواج ، متصلة بحبال الإسلام ، لا تأخذهم في الله لومة لائم ، من مخلاف خارف ، ويام ، وشاكر ، أهل السّود ، والقود. أجابوا دعوة الرسول ، وفارقوا الآلهات والأنصاب ، الخ ..» (٢).

__________________

(١) راجع : شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٤ ص ٣٤.

(٢) راجع : السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٢٤٤ و (نشر مكتبة علي صبيح بمصر) ـ

٢٣٨

ومما يدل على ذلك دلالة واضحة أيضا : قولهم : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كتب إلى عمير ذي مرّان ومن أسلم من همدان كتابا جاء فيه :

«أما بعد ذلك ، فإنه بلغنا إسلامكم ، مرجعنا من أرض الروم (أي من غزوة تبوك) فأبشروا ، فإن الله قد هداكم بهداه ..».

إلى أن قال : «إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته ، إنما هي زكاة تزكونها عن أموالكم لفقراء المسلمين ..».

إلى أن قال : «وكتب على بن أبي طالب» (١).

__________________

ـ ج ٤ ص ١٠١٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٢ ص ١٠١ وغريب الحديث لابن قتيبة ج ١ ص ٢٣٩ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٣٨٩ والفايق في غريب الحديث ج ٣ ص ٢٩٩ ومعجم ما استعجم ج ٣ ص ٨٤٨ والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير ج ١ ص ٣٣٣.

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٧٠ ونقله في مكاتيب الرسول ج ٣ ص ٣٩٣ عن اليعقوبي ، وعن : المعجم الكبير ج ١٧ ص ٤٧ و ٤٨ وأسد الغابة ج ٤ ص ١٤٧ ورسالات نبوية ص ٢٠٢ وإعلام السائلين ص ٢٤ والإصابة ج ٣ ص ١٢١ في ترجمة عمير وج ٣ ص ٣٥٤ والمصنف لابن أبي شيبة ج ١٤ ص ٣٣٩ و ٣٤٠ / ١٨٤٧٩ ونشأة الدولة الإسلامية ص ٣٤٦. ومجموعة الوثائق السياسية ص ٢٣٠ / ١١١ عن جمع ممن تقدم ، وعن : معجم الصحابة لابن قانع خطية كوپرلو ملخصا ورقة : ١٢١ ـ ألف ، ثم قال : قابل المعارف لابن قتيبة ص ٢٣٤ وراجع ص ٧١٩ عن سبل الهدى والرشاد للشامي خطية باريس / ١٩٩٢ ورقة : ٦٧ ـ ألف. وأوعز إليه في : أسد الغابة ج ٢ ص ١٤٥ في «ذي مران» وج ٣ ص ٨٣ في عامر بن شهر ، والإصابة ج ٢ ص ٢٥١ في عامر بن شهر ، والإستيعاب (مطبوع بهامش الإصابة) ج ٢ ص ٤٩٣ والطبقات الكبرى ج ٦ ص ١٨ و ٤٢ ـ

٢٣٩

فيلاحظ في هذا الكتاب :

١ ـ إنه يذكر : أن إسلام همدان قد بلغه بعد رجوعه من تبوك ، وهو يدل على أنهم قد أسلموا في بلادهم قبل وصول وفدهم إليه ، بل إن هذا الكتاب نفسه يدل على أنهم قد أسلموا أولا ، فبلغ ذلك النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فكتب لهم هذا الكتاب ، ولعلهم قد أرسلوا إليه وفدا بعد وصول هذا الكتاب إليهم ..

٢ ـ إن هذا الكتاب كان بخط علي «عليه‌السلام» ، فلعله كان هو الذي أخبر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بإسلامهم.

ولكن السؤال هنا هو : إذا كان علي «عليه‌السلام» قد ذهب إليهم فور الفراغ من حرب حنين ، فإنه قد عاد قبل غزوة تبوك قطعا ، لأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد خلفه في المدينة في هذه الغزوة قائلا له : «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ..» ، فلما ذا أخر إخبار النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بإسلامهم إلى ما بعد عودته من تبوك؟!

بل إن النصوص المتقدمة قد صرحت : بأنه لما أسلمت همدان كتب «عليه‌السلام» إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بإسلامهم ، فلما قرأ الكتاب خر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ساجدا ، وقال : السلام على همدان الخ ..

ويمكن أن يجاب : بأن ذلك وإن كان صحيحا ، لكن لعله «صلى الله

__________________

ـ والكامل لابن عدي ج ٦ ص ٢٤١٤ والإكليل ج ١٠ ص ٤٩. وفي رسالات نبوية : قال الحافظ وابن الأثير : أخرج الطبراني ـ ثم ساق الكتاب ، فقال ـ قال ابن الأثير : أخرجه ابن مندة ، وأبو نعيم ، وابن عبد البر ، وأخرجه ابن سعد في الطبقات.

٢٤٠