الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٦

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٦

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-198-X
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧٢

وما إلى ذلك ، وقبلنا جدلا أنهم يتحرون الدقة والأمانة والصدق فيما يقولون ، فإن الكل يعلم أنهم حين يمدحون أو يذمون ، إنما يذكرون ما ظهر لهم .. ونحن نعلم علم اليقين أنهم لا يملكون القدرة على كشف الحقائق ، واستكناه بواطن الأمور ، بل إن الله وحده هو العالم بالسرائر ، والمطلع على ما في الضمائر وقد يطلع على ذلك أنبياءه .. فكل مدح أو ذم من سواه يبقى في دائرة احتمالات الصدق والكذب ، أو الخطأ والصواب ، أو التمام والنقص .. فلا يمكن أن يكون زينا ، ولا شينا.

أما حين يأتي المدح أو الذم من علام الغيوب ، والواقف على ما في الضمائر والقلوب ، والخالق والمدبر والمهيمن والمسيطر ، فلا ريب في أنه هو الحق ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ولا بد أن يكون مدحه زينا ، وذمه شينا.

٢ ـ أما قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «وأكرم منكم يوسف بن يعقوب» إن صح أنه قوله .. فلربما يكون مقصوده إلزامهم بما يلزمون به أنفسهم ، والإحتجاج عليهم بمن لا سبيل لهم إلى إنكاره ، مما أخذوه عن أهل الكتاب الذين كانوا يمثلون المرجعية لهم ، وعن يوسف «عليه‌السلام» ، فإنه أكرم منهم ، على الرغم مما ينسبه إليه أهل الكتاب من ترهات وأباطيل ، فيما يرتبط بعفته ، ووفائه ، وحفظه للعزيز في عرضه ، إلى غير ذلك مما قد يتظاهر بنو تميم بالتنزه عنه .. مع اعترافهم بنبوته.

وتسقط بذلك دعواهم الفضل والكرامة على سائر العرب. وهم يرون أن العرب أكرم الأمم.

١٨١

بنو تميم ، والأعور الدجال :

قال ابن إسحاق عن وفد بني تميم : وفيهم نزل من القرآن : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (١).

وسئل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : «هم جفاة بني تميم ، لو لا انهم من أشد الناس قتالا للأعور الدجال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم» (٢).

ونقول :

إن هذه الرواية لم ترد في أي مصدر يتكفل برواية حديث أهل بيت العصمة ، وإذا راجعنا تاريخ بني تميم ، فسنجد أنهم كانوا بعد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ في الأكثر ـ أعداء لعلي «عليه‌السلام» ، حتى إن غالبية الخوارج كانوا من بني تميم (٣).

ويستظهر الجاحظ : أن بني صريم ـ وهم من بني تميم ـ كانوا من الخوارج أيضا (٤).

وكل ذلك يجعلنا نظن ـ أو نحتمل ـ : أن هذه الرواية قد وضعت مكافأة لبني تميم على بغضهم لعلي «عليه‌السلام» ، وشكرا لهم على محاربتهم إياه. فليلاحظ ذلك.

__________________

(١) الآية ٤ من سورة الحجرات.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٩١.

(٣) فجر الإسلام ص ٢٥٦ وقضايا في التاريخ الإسلامي ص ٣٧ و ٦٨ و ٧١ عن تاريخ الأمم والملوك ج ٥ ص ٥١٦ وعن العبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٣ ص ١٤٥ وضحى الإسلام ج ٣ ص ٣٣٢ والخوارج والشيعة ص ٧٤ وتاريخ الإسلام السياسي ج ١ ص ٣٩٧ ودائرة المعارف الإسلامية ج ٨ ص ٤٧٠.

(٤) البيان والتبيين ج ١ ص ٢٠٦.

١٨٢

الفصل السادس :

ترقيع الدلاء بكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

١٨٣
١٨٤

ترقيع الدلاء بكتاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وقد ذكرت عدة سرايا إرسلت إلى جماعات ، أو أشخاص ، كتب إليهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كتبا يدعوهم فيها إلى الإسلام ، فرقعوا دلاءهم بكتاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» استهانة منهم به ، وسوء خلق وأدب لا مبرر له ..

واللافت هنا : أن هذه الأحداث المتشابهة في هذا الأمر ـ أعني ترقيع الدلاء ـ قد جاءت متقاربة من حيث الزمان ، فهل هذا يشير إلى أن بعض الرواة قد وهموا في تحديد من فعل ذلك؟! أو أنهم تعمدوا أن يلقوا التهمة على هذا أو ذاك ، ليجنبوا الفاعل الحقيقي هذا العار؟! .. أو أن هناك من فعل هذا الأمر أولا ، ثم تناقله الناس ، فراق لبعض الفئات أن تقتدي بمن سبقها إلى هذا الأمر الشنيع؟! ..

إن ذلك كله ممكن ، ولا مجال لاستبعاده بصورة قاطعة ، فإن له نظائر في التاريخ.

وحيث إننا غير قادرين على الحسم في هذا الأمر ، فلا بد لنا من اعتماد الإحتمال الأخير ، الذي يدعونا للأخذ بهذه الروايات حتى يظهر لنا ما يردعنا عنها ، أو يقوي الشبهة في صحة بعض أطرافها ..

١٨٥

وقد جمعنا ما ظهر لنا منها في صعيد واحد ، لأن للتفريق آفاته ومتاعبه ، ومشكلاته ، التي ربما يؤثر بعضها على ذهنية القارئ الكريم ..

فإلى ما يلي من مطالب .. وعلى الله نتوكل ، ومنه نستمد القوة والعون ، والسداد والرشاد ..

بعث الضحاك الكلابي إلى القرطاء :

قال محمد بن عمر ، وابن سعد : سنة تسع (١).

وقال الحاكم : في آخر سنة ثمان (٢).

وقال محمد بن عمر الأسلمي : في صفر (٣).

وقال ابن سعد : في ربيع الأول وجرى عليه في المورد والإشارة (٤).

قالوا : بعث رسول الله صلى «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جيشا إلى القرطاء ، (وهم بطن من بكر) (٥) ، عليهم الضحاك بن سفيان الكلابي ، ومعه الأصيد بن سلمة بن قرط ، فلقوهم بالزّج ، زج لاوة بنجد ، (موضع بناحية

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢١٥ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٦٢ وعيون الأثر ج ٢ ص ٢٣٩ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٦٢٣.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢١٥ و ٢١٦.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢١٥ و ٢١٦.

(٤) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢١٥ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٦٢ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٤٣ وعيون الأثر ج ٢ ص ٢٣٩ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٦٢٣ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٢٠ عن المواهب اللدنية ، والإصابة ج ١ ص ٥٣.

(٥) شرح المواهب اللدنية ج ٣ ص ٥٧.

١٨٦

ضرية) (١) ، فدعوهم إلى الإسلام ، فأبوا ، فقاتلوهم ، فهزموهم.

فلحق الأصيد أباه سلمة ، وسلمة على فرس له في غدير بالزّج ، فدعا أباه إلى الإسلام وأعطاه الأمان ، فسبه وسب دينه ، فضرب الأصيد عرقوبي فرس أبيه ، فلما وقع الفرس على عرقوبيه ارتكز سلمة على رمحه في الماء ، ثم استمسك به حتى جاءه أحدهم ، فقتل سلمة ولم يقتله ولده (٢).

وقد ذكر ابن حبان : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كتب إلى القرطاء ، فرقعوا دلوهم بكتابه (٣).

وفي شواهد النبوة : بعث النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سرية إلى بني كلاب ، وكتب إليهم في رق ، فلم ينقادوا ، وغسلوا الخط عن الرق ، وخاطوه تحت دلوهم.

فلما بلغ النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الخبر قال : ما لهم! أذهب الله عقولهم!!

فلذا لا يوجد من بني كلاب إلا مختل العقل ، ومختلط الكلام ، وبعضهم بحيث لا يفهم كلامه (٤).

وعند البلاذري : أنه أرسل الضحاك بن سفيان الكلابي في شهر ربيع الأول سنة تسع إلى قوم من بني كلاب ، كتب إليهم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ،

__________________

(١) وفاء الوفاء ج ٢ ص ٣١٧.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢١٥ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٦٣ و ٣٥٦ وعيون الأثر ج ٢ ص ٢٣٩ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٦٢٣.

(٣) الثقات ج ٢ ص ٩١.

(٤) تاريخ الخميس ج ٢ ص ١٢٠ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٢٢٢.

١٨٧

فرقعوا بكتابه دلوهم ، فأوقع بهم (١).

وقال ابن حجر في ترجمة سمعان بن عمرو الكلابي : «ذكر أبو الحسن المدائني في كتاب رسل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأسانيده ، قالوا :

وبعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى سمعان بن عمرو مع عبد الله بن عوسجة ، فرقع بكتابه دلوه.

فقيل لهم : بنو المرقع. ثم أسلم سمعان ، وقد قدم على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأنشده :

أقلني كما أمنت وردا ولم أكن

بأسوأ ذنبا إذ أتيتك من ورد

يشير بذلك إلى ورد بن مرداس (٢).

جفينة يرقع دلوه أيضا :

ورووا أيضا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كتب إلى جفينة النهدي ، أو الجهني ، أو الغساني كتابا فرقع به دلوه ، فقالت له ابنته : عمدت إلى كتاب سيد العرب ، فرقعت به دلوك؟!

فهرب فأخذ كل قليل وكثير هو له ، ثم جاء بعد مسلما (٣).

__________________

(١) أنساب الأشراف ج ١ ص ٣٨٢.

(٢) الإصابة ج ٢ ص ٨٠ و (ط دار الكتب العلمية) ج ٣ ص ١٥٣ والطبقات الكبرى لابن سعد (ط ليدن) ج ١ ق ١ ص ٣١ و (ط دار صادر) ج ١ ص ٢٨٠ ورسالات نبوية ص ٢٢ ومجموعة الوثائق السياسية ص ٢٧٦ ومكاتيب الرسول ج ١ ص ١٩٥. وسبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ٣٦٤.

(٣) مكاتيب الرسول ج ١ ص ٢٠٣ وقال في هامشه : راجع : البحار ١٩ ص ١٦٦ ـ

١٨٨

سرية إلى رعية السحيمي :

وروي أيضا بسند جيد : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كتب إلى رعية السحيمي كتابا في أديم أحمر ، فأخذ كتاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فرقع به دلوه.

فبعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سرية ، فلم يدعوا له سارحة ولا رائحة ، ولا أهلا ولا مالا إلا أخذوه ، وانفلت عريانا على فرس له ، ليس عليه سترة حتى انتهى إلى ابنته ، وهي متزوجة في بني هلال ، وقد أسلمت وأسلم أهلها. وكان مجلس القوم بفناء بيتها ، فدار حتى دخل عليها من وراء البيت.

فلما رأته ألقت عليه ثوبا وقالت : مالك؟

قال : «كل الشر نزل بأبيك ، ما ترك له رائحة ولا سارحة ولا أهل ولا مال.

قالت : دعيت إلى الإسلام؟

قال : أين بعلك؟

قالت : في الإبل.

فأتاه. قال : ما لك؟

قال : كل الشر نزل بي ، ما تركت لي رائحة ولا سارحة ، ولا أهل ولا

__________________

ـ والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج ١ ص ٢٦١ والإصابة ج ١ ص ٢٤١ / ١١٧٥ وأسد الغابة ج ١ ص ٢٩١ وكنز العمال ج ١٥ ص ٢٩٥ عن أبي نعيم ، ورسالات نبوية ص ١٥ والأمالي للشيخ الطوسي ج ١ ص ٣٩٧ ومجموعة الوثائق السياسية ١٧٤ / ٩٢ عن قسم من المصادر المتقدمة ، وقال : قابل الجرح والتعديل لأبي حاتم الرازي ج ١ ص ٢١ الرقم (٢٢٦٣) وراجع : المعجم الكبير للطبراني ج ٢ ص ٣٢٥ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ٢٠٨ والكامل لابن عدي ج ٤ ص ١٤٥٧.

١٨٩

مال ، وأنا أريد محمدا قبل أن يقسم أهلي ومالي.

قال : فخذ راحلتي برحلها.

قال : لا حاجة لي فيها.

قال : فخذ قعود الراعي. وزوده إداوة من ماء.

قال : وعليه ثوب إذا غطى به وجهه خرجت استه ، وإذا غطى استه خرج وجهه ، وهو يكره أن يعرف ، حتى انتهى إلى المدينة ، فعقل راحلته. ثم أتى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فكان بحذائه حيث يقبل. فلما صلّى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الصبح قال : يا رسول الله ، ابسط يدك أبايعك ، فبسطها. فلما أراد أن يضرب عليها قبضها إليه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

قال : ففعل ذلك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ثلاثا ويفعله.

فلما كانت الثالثة قال : «من أنت»؟

قال : أنا رعية السحيمي.

قال : فتناول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عضده ، ثم رفعه ، ثم قال : «يا معشر المسلمين ، هذا رعية السحيمي الذي بعثت إليه كتابي فرقع به دلوه».

فأخذ يتضرع إليه.

قلت : يا رسول الله ، أهلي ومالي.

قال : «أما ما لك فقد قسم ، وأما أهلك فمن قدرت عليه منهم».

فخرج ، فإذا ابنه قد عرف الراحلة وهو قائم عندها ، فرجع إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : يا رسول الله ، هذا ابني.

قال : «يا بلال ، أخرج معه فسله أبوك هو؟ فإذا قال : نعم ، فادفعه إليه».

فخرج إليه ، فقال : أبوك هذا؟

١٩٠

قال : نعم.

فرجع إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : يا رسول الله ، ما رأيت أحدا منهما استعبر لصاحبه.

قال : «ذاك جفاء الأعراب» (١).

سرية إلى بني حارثة بن عمرو :

وفي مستهل شهر ربيع الأول سنة تسع بعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عبد الله بن عوسجة [إلى بني حارثة بن عمرو] يدعوهم إلى الإسلام. فأخذوا الصحيفة ، فغسلوها ورقعوا بها أسفل دلوهم ، وأبوا أن يجيبوا ، فرفع ذلك إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : «ما لهم ذهب الله بعقولهم»؟

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٤١ و ٢٤٢ عن أحمد ، وابن أبي شيبة ، ومسند أحمد ج ٥ ص ٢٨٥ و ٢٨٦ وراجع : مكاتيب الرسول ج ١ ص ٢١٠ عن الإصابة ج ١ ص ٥١٦ / ٢٦٥٩ في رعية وص ٢٤١ في جفينة الجهني ، وأسد الغابة ج ٢ ص ١٧٦ و ١٧٧ والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج ١ ص ٥٣٦ وكنز العمال ج ٤ ص ٣٤٠ عن أحمد ، وعبد الرزاق بأسانيد وص ٣٤١ عن ابن أبي شيبة ، وص ٣٤٢ عن الطبراني ، وأعلام السائلين ص ٣١ ورسالات نبوية ص ١٨ والمصنف لابن أبي شيبة ج ١٤ ص ٣٤٤ وراجع : مجموعة الوثائق السياسية ص ٢٧٥ و (في ط أخرى) ص ٣٢٣ / ٢٣٥ عن جمع ممن تقدم وعن : إمتاع الأسماع للمقريزي ج ١ ص ٤٤ وتعجيل المنفعة لابن حجر ص ٣٢١ وأنساب الأشراف للبلاذري ج ١ ص ٣٨٢. وراجع : الطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ق ٢ ص ٣١ والكامل لابن عدي ج ٤ ص ١٤٥٧ والمعجم الكبير للطبراني ج ٥ ص ٧٧ / ٤٦٣٥ وص ٧٨ / ٤٦٣٦ ومجمع الزوائد ص ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

١٩١

فهم إلى اليوم أهل رعدة ، وعجلة ، وكلام مختلط وأهل سفه.

قال محمد بن عمر : قد رأيت بعضهم عييا لا يحسن يبين الكلام.

وقالت أم حبيب بنت عامر منكرة عليهم :

إذا ما أتتهم آية من محمد

محوها بماء البئر فهو عصير (١)

ونقول :

لا بأس بملاحظة ما يلي :

سرايا دعوة :

قد صرحت النصوص المتقدمة بما لم نزل نشير إليه ، ونذكر القارئ به ، وهو : أن سرايا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كانت إما استباقية ، حينما كان يبلغه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن جماعة قد جمعوا وتهيأوا لمباغتة المسلمين بالحرب ، وإما لأجل الدعوة إلى الإسلام ، فإذا واجهوا الدعاة بالعنف ،

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢١٣ عن أبي سعيد النيسابوري في الشرف ، وعن دلائل النبوة ، وأنساب الأشراف ج ١ ص ٣٨٢ والإصابة ج ٢ ص ٣٥٥ وج ٤ ص ٤٤٦ و (ط دار الكتب العلمية) ج ٨ ص ٣٨٤ وأسد الغابة ج ٣ ص ٢٣٩ والمغازي للواقدي ج ٣ ص ٩٨٢ و ٩٨٣ والإمتاع ص ٤٤١ والبحار ج ١٨ ص ١٦ والمناقب لابن شهرآشوب ج ١ ص ٨١ والثقات لابن حبان ج ٢ ص ٩١ ومعجم قبائل العرب ص ٨٣ عن المواهب اللدنية ، ومجموعة الوثائق السياسية ص ٢٧٥ ورسالات نبوية ص ١٢ وعن السيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٣٦٥ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٢٠ عن سيرة مغلطاي ، وعن شرف المصطفى للنيسابوري ، وعن المواهب اللدنية.

١٩٢

دافعوا عن أنفسهم ، وهو حق مشروع لهم.

دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يناسب منطقهم :

وقد لاحظنا : أن رد بني حارثة بن عمرو ، وسائر من تقدم ذكرهم ، على كتاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليهم قد اتسم بالاستهتار والخفة ، وبالصلف ، وبالسفه والوقاحة ، حيث كانوا يأخذون الصحيفة ، وبعد أن يغسلوها ، يرقعون بها أسفل دلائهم .. فدعا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليهم بأن يبتليهم الله بما يتناسب مع نفس فعلهم ، وهو خفة العقل ، وظهور الإختلاط والسفه.

وقد أظهر الله كرامة نبيه باستجابة دعائه فيهم .. ليكون ذلك عبرة لهم ، ولغيرهم ممن يسير في طريق الإستكبار ، والعنجهية ، والإستهتار بالحق ، والإستخفاف بأهله.

نعم ، لقد جاءت هذه الدعوة النبوية ، واستجابتها منسجمة مع طبيعة المنطق الذي واجهوا به النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فإنه كان يتسم بالإستخفاف المتمثل بترقيع دلائهم بكتابه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. فإن تصرفهم هذا تجاه دعوة الحق والخير والهدى قد جاء مجانبا للمنطق ، وللإنصاف ، يتسم بالخفة والصبيانية ، وعدم التعقل ، حيث لم يواجهوا الحجة بالحجة ، ولا استجابوا لنداء الضمير والوجدان ، الذي يفرض عليهم الخضوع للحق ، والأخذ بأحكامه ، والإستسلام لقضاء الفطرة ، وحكم الوجدان. فاستحقوا أن يكونوا في نفس هذا الموقع الذي ارتضوه لأنفسهم ، فكانت الدعوة النبوية ، التي أعقبتها الإستجابة الإلهية .. تماما كما كان الحال بالنسبة لقوم ثمود ، الذين قال الله تعالى

١٩٣

عنهم : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ..) (١).

لا يوجد إلا مختل :

وقد صرحت الروايات المتقدمة : بأنه لم يوجد في أولئك القوم ، إلا مختل العقل ، فيه رعدة وسفه ، واختلاط ..

بل قد زعم الواقدي : أنه رأى بعضهم عييا لا يحسن الكلام.

ونحن لا يخالجنا شك في أن الله تعالى قداستجاب لنبيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دعوته فيهم .. غير أننا نقول :

إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إنما يدعو على من أذنب دون سواه .. فما معنى أن يستمر العي والإختلاط و.. و.. الخ .. في أعقابهم؟!

ويمكن أن يقال في الجواب : إن ذلك يخضع للسنن الإلهية المودعة في المخلوقات ، ولعل منها : أن تبقى آثار العي في أعقابهم من خلال قانون الوراثة للخصال ، وللأمراض والعاهات ، وانتقال بعض ذلك إلى الذرية بنحو أو بآخر ، فإن العرق دساس ..

وليكن هذا من جملة العقوبات التي يستحقها من يستهينون برسل الله تبارك وتعالى.

جفاء الأعراب :

وقد تعجب بلال من عدم استعبار الولد لأبيه ، والعكس ، فأخبر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بما رآه ، وكأنه يريد أن يعبر للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله»

__________________

(١) الآية ١٧ من سورة فصلت.

١٩٤

عن شكه في أن يكونا أبا وابنا ، متخذا من عدم استعبار أحدهما للآخر ، وهما في محنة دلالة تؤكد شكه هذا ..

ولكن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الذي كان يعرف طبائع الناس وحالاتهم قد أوضح لبلال أن سبب ما رآه ، وهو جفاء الأعراب ، حيث إن طبائعهم تختلف عن طبائع غيرهم ، فإنهم يعيشون قسوة الناس عليهم ، بما يمارسونه ضد بعضهم البعض من سلب ونهب ، وأسر ، وقتل. ويواجهون قسوة الطبيعة عليهم في حرها وبردها ، وفي شحها بالماء والكلأ ، وقسوة الجهل ، وعدم المعرفة بنتائج وآثار كثير من أعمالهم ، وبواقعهم.

نعم ، إنهم يشاهدون ويعانون من ذلك كله ، فيقسمونه على بعضهم البعض ، ويهون على الوالد رؤية ولده في مشقة وتعب وجهل وتخلّف ، وأن يرى الولد أباه على نفس هذه الحال ، ما دام أن الجهد والتعب ، ومواجهة المصائب والبلايا يشمل الجميع ، وهو جزء من حياتهم اليومية .. فلا غرابة في أن نراهم جفاة قساة في حياتهم العادية ، مع القريب والبعيد من دون استثناء.

قتال من يأبى الإسلام :

تقدم : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أرسل الضحاك الكلابي مع جيش إلى القرطاء ، فدعوهم إلى الإسلام ، فأبوا ، فقاتلوهم.

فقد يستظهر من قوله في سرية القرطاء : «فقاتلوهم ، فهزموهم» : أن الإستعداد للقتال كان قائما من كلا الطرفين.

وقد قلنا أكثر من مرة : إن مجرد عدم قبول فئة من الناس الإسلام لا

١٩٥

يدفع الدعاة إلى القتال ، لو لم تكن تلك الفئة قد تصرفت بصورة عدوانية نجاه أولئك الدعاة ، وقد قال الله تعالى لنبيه : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١).

وقال جل وعلا : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (٢).

ومما يدل على أن سرايا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كانت سرايا دعوة أنها كانت قليلة العدد ، ضعيفة العدة ، وكانت تتعرض للتحدي وللقتل في كثير من الأحيان ، وكثيرا ما يكون إرسال سرايا القتال لمعالجة الموقف ، أو للرد على العنف والعدوان الذي تحرضت له سرايا الدعوة.

الأصيد .. لا يقتل أباه :

١ ـ وقد ظهرت المباينة بين سلوك الأصيد من جهة ، وبين سلوك أبيه من جهة أخرى ، حيث إن الأصيد يريد لأبيه النجاة ، فيعطيه الأمان في الدنيا ، ويطلب منه المبادرة لقبول ما ينجيه في الآخرة ، وهو الإسلام ..

ولكن أباه يقابله على ذلك بالشتيمة والسب له ولدينه .. وقد صدق الشاعر حيث يقول :

أريد حباءه ويريد قتلي

عذيرك من خليلك من مراد

__________________

(١) الآية ١٢٥ من سورة النحل.

(٢) الآية ٣٤ من سورة فصلت.

١٩٦

٢ ـ وحين أصر سلمة على موقفه ، لم يبادر ولده إلى إيصال الأذى إليه ، بل اكتفى بعرقبة فرسه ، أمسك عنه تأدبا ، فلحقه المسلمون ، فقتلوه ..

٣ ـ ولا ندري ما المبرر لسب سلمة لولده ، وهو إنما يدعوه إلى ما فيه نجاته ونجاحه ، وفلاحه وصلاحه ، كما أننا لا ندري ما الذي دعاه لأن يسب دينه ، وهو دين الخير والبركات ، والقول السديد ، والرأي الحميد ، وهو دين الحق والهدى ، والرشاد والسداد؟! فهل نظر في هذا الدين فوجد فيه ما يوجب هذا السبب؟!. أم أنه اللجاج والعناد ، والإستكبار والجحود؟!

ترقيع الدلاء :

وقد أظهرت النصوص المتقدمة : أن الذين رقعوا دلاءهم بكتاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد تعددوا ، فهل كان عامة العرب يعانون من أزمة في دلائهم ، فلا يجدون ما يرقعونها به؟! حتى جاءتهم كتب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فاغتنم بعضهم الفرصة ، واجترأ على مقام رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دون أن يفكر بالعواقب. وخاف الآخرون من الإقدام على هذا الأمر؟! ..

إن الحقيقة هي : أن الأمر لم يكن كذلك ، وإنما هو سوء أدب ، وأعرابية وقحة ، ومتجرئة ولا مبالية ، تنقاد للهوى ، ولا تعيش معنى القيمة والكرامة الإنسانية إلا في عناوين تتلاءم مع عقلياتها ، وعصبياتها ، وجهلها ، وحاجاتها الشهوانية والأهوائية.

السحيمي وابنته :

وقد قرأنا في النصوص المتقدمة قصة السحيمي ، وما جرى بينه وبين

١٩٧

ابنته حينما وصل إليها على تلك الحال المزرية ، والمتناهية في السوء والذلة والخزي. حتى إنه لم يجرؤ على دخول بيتها من بابه ، بل دخل من وراء البيت ، كي لا يرى الناس حاله.

وقد أدركت ابنته بمجرد رؤيتها إباه : أنه اتخذ سبيل العناد واللجاج ، وواجه الدعوة إلى الحق بالرد اللئيم والحاقد ، الذي يحتقر حتى أنبياء الله وأصفياؤه ، من دون ذنب أتوه إليه ، سوى الرغبة في إخراجه من الظلمات إلى النور ، ومن النار إلى الجنة ، ومن الضلال إلى الهدى ..

والظاهر : أن ابنته كانت تعرف طبيعة تصرفاته ، وترى أنها بعيدة عن الإتزان ، والسداد. فسألته عن حاله ، فظهر لها من حاله ومقاله : أن ظنها قد أصاب كبد الحقيقة. ولعل ذلك هو السبب في أننا لا نجد ما يظهر لنا أنها اهتمت لما حصل له ..

جفينة أو رعية :

ثم إننا لا ندري إن كان جفينة هو رعية ، والسحيمي هو الجهني. وقد صحف النساخ الكلمات ، والأسماء .. أم أنهما شخصان مختلفان؟!

وفي جميع الأحوال نقول :

إن استغراب بنت جفينة من فعل أبيها بكتاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يشير إلى : أن ما فعله جهينة لم يكن مستساغا حتى عند الأعراب ، البعيدين عن الوعي والثقافة ، والمعروفين بالجفاء وسوء الأدب. بل إن ذلك كان مستهجنا حتى عند النساء منهم ، فلا مجال لا دعاء أن يكون جفينة أو غيره قد فعلوا أمرا مستساغا ومرضيا عندهم ..

١٩٨

ولذلك نلاحظ : أن لحن كلام ابنة جهينة يدل دلالة واضحة على إدراكها قبح هذا الأمر ، حيث قالت له على سبيل الإنكار : «عمدت إلى كتاب سيد العرب ، فرقعت به دلوك»؟!.

وقد أدرك جفينة قبح وخطورة ما صدر منه ، فبادر إلى الهرب ..

حتى جاء بعد ذلك مسلما ..

١٩٩
٢٠٠