الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٦

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٦

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-198-X
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧٢

الإنسان حبا جما بصورة عفوية ، ومن دون انتقاء كرائمه يسهّل على صاحب ذلك المال بذله ، ويجعله مما تطيب به النفوس ، ولا تجد أي حرج في التنازل وصرف النظر عنه.

أما كرائم الأموال ، التي يكون لأصحابها تعلق خاص بها ، فليس من السهل التنازل عنها ، ولا أن تطيب بها النفوس.

والمطلوب في العبادات ـ والصدقات منها ـ هو : أن يقطع الإنسان رابطته بالمال قربة إلى الله تعالى ، والقربة بهذا المعنى لا تتحقق إذا بقيت القلوب متعلقة بالمال.

على أن بقاء هذه العلقة سيكون من أسباب ظهور الحسد بين الناس. وحدوث درجة من التنافر فيما بينهم ، ثم تنامي مشاعر الكراهية ، وأن تتجه العلاقة نحو التوتر ، والمزيد من الحساسية ، لتصبح ثقيلة ومرهقة ، وربما مؤذية أيضا.

فالإخلاص في العبادة ، المتمثل بإعطاء الناس صدقات أموالهم بطيب نفس ، وقربة إلى الله تعالى ، ورعاية سنن العدل ، بإعطاء كل ذي حق حقه ، ومن دون أدنى حيف على الشريك الآخر ، وتحصين النفوس من مساوئ الشح ، وغير ذلك ـ إن ذلك كله ـ يحتّم أخذ العفو ، وهو ما فضل ، وتوقي كرائم الأموال ، في استيفاء حقوق الفقراء والمساكين من أموال الناس ..

تعهد عيينة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وقد تعهد عيينة بن حصن لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تتبع آثار

١٦١

«الذين فعلوا ما فعلوا» ، ولو بلغوا يبرين (١) ، حتى آتيك بهم إن شاء الله ، فترى فيهم رأيك ، أو يسلموا» (٢).

ونقول :

إن هذا التعهد قد تضمن الأمور التالية :

١ ـ إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين انتدب المسلمين لهؤلاء المعتدين قد حصر هدف المواجهة بخصوص «الذين فعلوا ما فعلوا» دون سواهم ، فلا يحق لأحد توسعة نطاق عمليات المواجهة لتشمل غير هؤلاء حتى لو كانوا من بني تميم ، فضلا عن غيرها.

٢ ـ إن عيينة قد تعهد لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بملاحقة الفاعلين ، لا بهدف قتلهم ، بل ليأتي بهم إليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ليرى فيهم رأيه ..

٣ ـ إنه ليس لرأي عيينة ، ولا لرأي غيره فيهم أي قيمة أو أثر.

أعرابي أمير على أعراب :

وقد رأينا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يؤمّر عيينة على مهاجري ، ولا على أنصاري. بل أمّره على خمسين رجلا من الأعراب.

ويبدو أنصاري. بل أمّره على خمسين رجلا من الأعراب. ويبدو أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يريد أن يجعل لعيينة الذي كان أعرابيا جافيا ، لم يستقر الإيمان في قلبه ، سبيلا على أحد من أهل الإيمان ، أو من ذوي السابقة فيه. فإنه كان يعلم : أن أمثال عيينة لا يراعون الآداب ،

__________________

(١) يبرين : رمل معروف في ديار بني سعد بن تميم. راجع : معجم ما استعجم ص ٨٤٩.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ج ٤٠ ص ٢٦٠ و ٢٦١ والمغازي للواقدي ج ٣ ص ٩٧٤.

١٦٢

ولا يقيمون وزنا لمراتب الفضل في تعاملهم مع الآخرين ..

أما حين يكون الذين تحت يد عيينة من أقرانه ، وأشباهه في أعرابيته ، فإن تصرفاته تجاههم تأتي منسجمة مع توقعاتهم ، ولا تسبب لهم تلك المرتبة من الأذى والإساءة ، التي ستنشأ عنها لو كان المعني بها من هم أكثر وعيا ، وأسمى أنفسا ، وأنبل أخلاقا ..

هذا كله عدا أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يريد أن يعطي عيينة أي سبب من اسباب الإستطالة على الآخرين بما ربما يخلعه على نفسه من مظاهر النبل والعظمة ، وبما يمنحها من امتيازات ، بالإستناد إلى تولية النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» له على فريق من أهل النصرة والهجرة.

مدى وفاء عيينة بتعهداته :

وإذا نظرنا إلى النتائج التي انتهت إليها مهمة عيينة ، فسنرى أنها قد جاءت قاصرة عن بلوغ المدى الذي تعهد هو لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بإبلاغها إياه ، فقد تعهد أن يأتي بالذين اقترفوا ذلك الجرم ولو بلغوا ببرين .. ولكنه لم يأت إلا ببضع نساء ، ونفير (تصغير نفر) من رجال كانوا قد تخلفوا في البيوت ، فلما رأوا الجمع ولوا ، فكان عدد الذين أخذوا منهم هو أحد عشر رجلا ، وإحد عشرة امرأة ، وثلاثون صبيا ..

أما سائر القوم فكانوا غائبين ، ولم يأت بأحد منهم.

ولعل أولئك النفر الذين أخذوا من الرجال كانوا من المسنين والعجزة أيضا ، ولعلهم لم يشاركوا في منع رسول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من أخذ صدقات خزاعة.

١٦٣

حبس الأسرى :

وعن مصير الأسرى والسبايا نقول :

إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يبادر إلى اتخاذ أي إجراء في حقهم ، فهو لم يقسمهم بين المسلمين ، ولا أطلق سراحهم ، بل احتفظ بهم ، بانتظار مجيء قومهم في طلبهم.

كما أنه حبسهم في دار امرأة ، وهذا من شأنه أن يمنع من تطفل المتطفلين عليهم ، وتعرّض الناس لهم بما يوجب لهم أي أذى ، أو مهانة ، أو أي شيء يوجب التهمة.

وهذا يدل على : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يريد أن يسهل عليهم قبول الحق ، والخروج من المأزق الذي أوقعوا أنفسهم فيه ، بطريقة التوجيه نحو أفضل الخيارات ، التي تفتح لهم أبواب الهداية ، وتدفع بهم نحو سبيل الصلاح والخير في الدنيا وفي الآخرة. وهذا ما حصل بالفعل ، كما تقدم.

سوء أدب الرؤساء :

وقد أظهرت النصوص المتقدمة : أن رؤساء تلك القبيلة التي ارتكبت تلك الإساءة قد تصرفوا مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بصورة غير لائقة ، ولا مقبولة ، فصاروا ينادونه من وراء الحجرات : أن يا محمد ، أخرج إلينا.

وقد خلّد الله تعالى سبحانه تصرفهم هذا في آية قرآنية إلى يوم القيامة ، وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (١).

__________________

(١) الآية ٤ من سورة الحجرات.

١٦٤

والذي تحسن ملاحظته هنا هو مايلي :

١ ـ إنهم إنما جاؤوا في حاجة لهم ، فالمفروض هو : أن يتبعوا سبيل التلطف ، والرفق في التماسها ، مع علمهم بأنهم لا قدرة لهم على مواجهة المسلمين ، ولن يتمكنوا من أخذ حاجتهم عنوة.

٢ ـ إنهم إنما جاؤوا وافدين وضيوفا ، فالمفروض فيهم : أن يراعوا جانب مضيفهم ، ولا يضايقوه ، وأن يفسحوا له المجال ليفرغ لهم ، وليتمكن من النظر فيما جاؤوا له.

٣ ـ إن مراعاة الأدب في الخطاب ، وفي السلوك ، وعدم اللجاج ، من شأنه أن يهيّيء النفوس للإستجابة للمطالب التي تضعف دوافع الإستجابة لها ، بل الدواعي متوفرة لرفض الإستجابة .. إلا على سبيل التكرم ، والتفضل في أجواء مفعمة بالرضا وبالأريحية.

ومن الواضح : أن هؤلاء القوم قد سبقت منهم إساءة قبيحة لمقام رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، تمثلت بالتعدي الوقح ، والفضول السمج ، والتدخل في أمر لا يعنيهم ، ولا يرتبط بهم .. حيث انتهى الأمر بإشهار السيوف لمنع مبعوث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من استلام صدقة قبيلة خزاعة ، لإيصالها إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حسبما تقدم.

٤ ـ ويلاحظ : أن الله تعالى قد ذكر سوء أدبهم هذا ليتعظ بهم غيرهم ، وليقف الناس على مدى معاناة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ودرجة صبره وتحمله ، وجليل عفوه ، وكريم أخلاقه ، وجميل صفاته ، ليكون للناس أسوة وقدوة في ذلك كله.

٥ ـ وقد وصف الله تعالى الذين ينادون رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»

١٦٥

من وراء الحجرات بأنهم : (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ..

وهذا معناه : أن من يملك العقل منهم ، لا يملك القرار ما دام أن الأكثر لا يعقل ، والذي يملك القرار ، فإنه لا يعقل .. وتلك هي المصيبة العظمى التي كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يواجهها. فإنه مبتلى بقوم هذا واقعهم ، وتلك هي حالهم .. فهم كالسلة التي ليس لها قعر ، وهي مصنوعة من القصب أو من الشعر ، ويراد لها أن تحمل الماء ليشربه العطاشى المجاهدون من أهل الثغر.

فإن من لا يملك عقلا لا يملك أحد له خطابا ، ولا يعرف ما يلقى إليه إن كان خطأ أو صوابا ..

ومن معجزات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أنه قد صنع من نفس هؤلاء أمة هي أهدى الأمم ، وحضارة هي من أرقى الحضارات. وظهر منهم بفضل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الكثير من العلماء ، والحكماء ، والعظماء.

٦ ـ وآخر كلمة نقولها هنا : إنه إذا كان الرؤساء لا يملكون العقل ولا الأدب ، ولا الخلق الرضي ، فما بالك بالأذناب والأتباع ، والأكثر بعدا عن ممارسة الأمور ، والأكثر استغراقا في الجزئيات والصغائر ، الذين يستضعفهم الرؤساء والأكابر ..

بدلّا من الإعتذار :

وقد كنا نتوقع أن يأتي هؤلاء الرؤساء الوافدون بالإعتذارات التي تعيد لهم الإعتبار ، وتخفف من قبح ما صدر منهم ، وإذ بنا نراهم يبادرون

١٦٦

رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بإساءة الأدب معه ، ثم يطلبون منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يناظرهم ، ويفاخرهم!! وأن يتبارى خطيبه وخطيبهم ، وشاعره وشاعرهم!!

وكيف وبماذا يفاخر هؤلاء الأعراب الجفاة ، والجهلاء القساة ، وهم الذين اعتدوا بدون مبرر وتدخلوا فيما لا يعنيهم بكل صلف ورعونة على على أمر يعود لمضيفهم على النحو المخزي الذي سبق بيانه ..

وبماذا يفخر هؤلاء الذين جاؤوا ليطالبوا بنسائهم ورجالهم ، الذين أسروا بسبب رعونتهم وسوء فعلهم ، فصاروا ينادون رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من وراء الحجرات ، وهو أمر لا يصدر إلا عن أعرابي جاهل ، لا يعرف شيئا عن قواعد الأدب واللياقة ..

وقد كان الأجدر بهم أن يخجلوا من أنفسهم ، وأن يظهروا لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الندم والتوبة ، ثم يوسطون أهل الخير والكرم ، والشهامة والشمم ، عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليرضى عنهم ، ويقبل منهم.

ولو لا أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان أصبر الصابرين ، وأحلم وأكرم العالمين ، لطردهم من حضرته ، وأعادهم أذلاء مقبوحين .. أو كان قبض عليهم ، وقدمهم للعقاب على ما بدر منهم من سوء أدب ، ومن تعد خسيس على رسوله إلى بني خزاعة من افتئات مضيفهم!!

ولكنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تحمل كل هذا الأذى ، وصبر عليهم ، وعاملهم بالرفق واللين ، وعفا عنهم ، وأعاد إليهم رجالهم ونساءهم ، وحفظ لهم ما فرطوا فيه ، وأقالهم عثراتهم المتلاحقة ، لأنه لا ينطلق في حركته ومواقفه

١٦٧

من ردات الفعل ، ومن الإنفعالات النفسية ، ولا من المصالح الشخصية ، ولا من منطلق الرغبة في مواجهة المعتدي بما يستحقه من القصاص والعقوبة ، وإنما من واجبه الإلهي ، وفي دائرة مهمته كنبي ورسول.

والأهم من ذلك كله ، من خلقه الرضي ، وإحساسه ، وميزاته وخصائصه التي جعلت نفسه تذهب حسرات على الناس ، حتى وهم يحاربونه ، ويسعون في سفك دمه ، ودم أهل بيته وأصحابه .. فإن كل همه كان منصبا على إنقاذهم من حمأة الجهالة ، ومن التيه والضلالة ، وأن يغمر أرواحهم ، وكل وجودهم نور الإسلام ، ويعيشوا روحانيته ، وقيمه ، ويتخلقوا بأخلاق أهل الإيمان ..

وهذا هو ما يرضيه ، ويسعد به «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

الأخلاق تعطي للعقل دوره :

ولعل هناك من يتساءل عن السبب الذي يكمن وراء اقتصار الآيات الكريمة في ملامتها لهؤلاء الناس على خصوص ندائهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من وراء الحجرات ، مع انه امر يرتبط بشكليات السلوك ، والآداب العامة ، التي لا ترقى إلى رجة استباحة سمعة من يتخلف عنها ، أو تسجيل ما يوجب له العار إلى يوم القيامة ، مع أن جرمهم لا يقتصر على هذا فقد منعوا تحت طائلة التهديد بالقتل من إيصال الحق لأهله كما تقدم ، بل يكفيهم سوءا وشرا أنهم لا يزالون يتخذون سبيل الشرك والضلال ..

ويمكن ان يجاب : بأن مسألة الأخلاق والآداب في غاية الأهمية ، وهي حساسة جدا وأساسية في حياة البشر ، وفي تعاطيهم مع القضايا ، وفي وعيهم لأسبابها ، ولآثارها ، وتلمّس ما يرتبط بها ، أو ينشأ عنها ..

١٦٨

بل إن لها دورا في اختيارات الإنسان ، وفي حصوله على السكينة والرضا بقضايا الإيمان ، وفي تفاعله معها ، والتأثر بها.

كما أنها تؤثر بشكل قوي في بعث العقول وإيقاظها من سباتها ، لتتولى هي هداية الإنسان في حركته في الحياة ، على أساس من الإدراك والوعي ، المعتمد على التدبر والتأمل ..

ولأجل ذلك ربط تعالى بين ندائهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من وراء الحجرات ، وبين العقل ، الذي به يزن الإنسان المتوازن أموره ، ويأخذ بمشورته وبأحكامه في الإقدام والإحجام ..

كما ويلاحظ : أن التعبير في الآية قد جاء بصيغة «يعقلون» ، التي تشير إلى الصدور والفعل. ولم يقل : إنهم لا عقول لهم ، أي أنهم لا يستعملون عقولهم.

بل إن الإبتلاء بواحدة من العاهات الأخلاقية قد يؤدي بالإنسان إلى إخراجه عن مقتضيات الفطرة وأحكام العقل ، ثم إلى الإمعان في الإبتعاد والإنحراف عنها ، حيث قد يستمر به هذا الإنحراف إلى ان يورده المهالك ، وينتهي به إلى أن يصبح فرعونيا أو إبليسيا في فكره ، ونظرته ، وفي فهمه للقضايا ، وفي سلوكياته ومواقفه ..

وهذا ما يجعلنا نفهم بعمق سر اهتمام القرآن بالآداب والأخلاق المستندة إلى المفاهيم الحقة ، وإلى القيم والمثل العليا ..

وخلاصة القول : إن الإلتزام بالأدب إنما يكون انطلاقا من مثل وقيم تفرضها وتقتضيها ، وهذا الإلتزام يحتاج إلى الوقوف على حقائق تلك القيم ودقائقها ومعرفة حدودها وقيودها. وهو إنما يكون بتحريك العقل وإعطائه

١٦٩

دوره وموقعه ، والإلتزام بأحكامه .. فإذا بلغ الإنسان هذه المرتبة ، فإن أبواب الخير والفلاح ستفتح أمامه على مصاريعها في كل مجالات وشؤون الحياة ، في الدين والدنيا. وتكون له السعادة الأبدية والخلود في النعيم.

مفاخر بني تميم :

ولسنا بحاجة إلى المقارنة ، ولا إلى شرح ما فخر به التميميون ، وما أجابهم به ثابت بن قيس .. فإن ما فخر به خطيبهم هو كثرة المال ، وكثرة العدد ، والزعامة.

أما خطيب الأنصار ، الذي انتدبه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقد اثنى على الله بما هو أهله ، وحمده على أن اصطفى لهم رسولا ، متصفا بأحمد الأوصاف وأسناها ، وأفضلها ، وأعلاها.

ثم اعتز بإيمانه وتصديقه وإجابته دعوته ، وبنصرته له ..

ولم يذكر كثرة في الأموال ولا في العدد ، ولا افتخر بزعامة ولا رئاسة ، ثم تعهد بمجاهدة أهل الكفر والطغيان ، وختم حديثه بالإستغفار لنفسه وللمؤمنين ..

لما ذا ثابت بن قيس؟! :

ويلاحظ : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يطلب من رجل مهاجري أن يجيب خطيب بني تميم ، ليس لأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يريد أن يرفع من شأن بني تميم حين يرون أنفسهم ، ويراهم الناس مقابل رجالات قريش ، فإنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يتعامل بهذه الطريقة ، حتى لو كان وفد بني تميم يرغب في أن يرى نفسه ويراه الناس مقابل أعظم رجل خلقه الله

١٧٠

تعالى ، وهو واسطة العقد في جميع مخلوقاته ، فضلا عن قريش وبني هاشم ، وبني عبد المطلب. وهو الرجل الذي بهر الدنيا والعرب بالإنتصارات الإعجازية التي حققها على العرب وتجاوزتهم إلى الروم ، وهو النبي الذي ظهرت معجزاته ، وسطعت آياته ، وأعجزت العقول دلائله وبيناته.

وإنما الذي دعا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى انتداب ذلك الأنصاري للإجابة على ترهات بني تميم ، هو أنه أراد أن يظهر لهم بالفعل قبل القول : أنه لا يريد أن يفاخرهم بقومه وعشيرته ، على الرغم من أن أحدا لا يتوهم أن لبني تميم شأنا يذكر معهم ، وما قياس بني تميم بهم ، إلا كقياس حبة من خردل بالنسبة للطود العظيم!!

إنه يريد أن يجعل من استجابته هذه سبيل هداية لهم ، وباب سداد ورشاد ، ينقذهم مما هم فيه من جهالات وضلالات ، ويعرفهم : أن العزة إنما هي لله ، ومن الله ، وأن الفخر إنما هو بالإيمان به ، وبالإلتزام بطاعته ، واجتناب معصيته ، وبالجهاد في سبيله.

ولذلك اختار رجلا من الأنصار ليجيب خطيبهم.

ومن جهة أخرى ، فإنهم إذا كانوا يسيؤن إلى من يضيفهم ، وهم خزاعة ، ويتسببون بكل هذا الذي يجري ، حتى تضطر خزاعة إلى طردهم ، فإن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الذي كان ينزل على الأنصار ، قد رفع من شأن مضيفيه حتى جعلهم ملوكا على الناس كما أعلنه خطيبه الأنصاري ، وأصبح الأنصار يدافعون عنه ، ويضحون بأنفسهم وبأبنائهم من أجله وفي سبيله ، ثم هؤلاء هم يفاخرون عنه ، ويكون جل بل كل فخرهم به ومنه ..

فهل أدرك التميميون هذه الحقيقة؟! أم أن أكثرهم كانت لهم قلوب لا

١٧١

يعقلون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها؟!

وهل يستطيع بنو تميم أن يجدوا حتى في حلفائهم وذوي رحمهم ، من خزاعة أو غيرها من يدافع ويدفع عنهم ، بمستوى دفاع ودفع الأنصار عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟! .. أم أن ذوي رحمهم قد نبذوهم ، وطردوهم وأخرجوهم ، من أجل نفس هذا الذي جاء إليه وفد بني تميم ، ليناظره ويفاخره؟!

ابن الأهتم ، وابن عاصم :

وقد ظهر مصداق ما ذكرناه آنفا في نفس مجلس المفاخرة الذي أرادواه في محضر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. فيما جرى بين عمرو بن الأهتم ، وقيس بن عاصم .. حينما أراد قيس أن يصرف النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن إشراك ابن الأهتم في الجائزة التي أعطاها «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لوفد بني تميم ، بدعوى : أن ابن الأهتم صغير السن لا شرف له .. فأصر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على إجازته وقال : «فإنه وافد ، وله الحق» ، وأعطاه مثل ما أعطى القوم اثنتي عشرة أوقية ونصفا.

لكن الواقدي قال : إنه أعطاه خمس آواق فقط ، لحداثة سنه (١).

وروى البيهقي عن ابن عباس ما جرى بين الرجلين ، فقال : «جلس إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قيس بن عاصم ، والزبرقان بن بدر ، وعمرو بن الأهتم التميميون. ففخر الزبرقان وقال : يا رسول الله ، أنا سيد تميم ،

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٩١ وراجع : البداية والنهاية ج ٥ ص ٥٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٨٦.

١٧٢

والمطاع فيهم ، والمجاب منهم ، آخذ لهم بحقوقهم ، وأمنعهم من الظلم ، وهذا يعلم ذلك. وأشار إلى عمرو بن الأهتم.

فقال عمرو بن الأهتم : إنه لشديد العارضة ، مانع لجانبه ، مطاع في أدانيه.

فقال الزبرقان : والله يا رسول الله ، لقد علم مني غير ما قال ، وما منعه أن يتكلم إلا الحسد.

فقال عمرو بن الأهتم : «أنا أحسدك؟! فو الله إنك للئيم الخال ، حديث المال ، أحمق الولد ، مبغض في العشيرة.

والله يا رسول الله ، لقد صدقت فيما قلت أولا وما كذبت فيما قلت آخرا ، ولكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما علمت ، وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت ، ولقد صدقت في الأولى والأخرى جميعا».

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «إن من البيان لسحرا» (١).

فإذا كان رؤساء الوفد يسعون لمنع من جاؤوا يفاخرونه من إجازة بعض رفقائهم ببعض المال حسدا منهم لهم ، وضنا بمال غيرهم ، أو خشية من أن يعد ذلك امتيازا لذلك البعض ، يرفعه بين الناس بحيث يلحقه بهم ..

فهل بعد هذا يمكن ان يتوقع هؤلاء من إخوانهم الإيثار والفداء ، والتضحية بالنفس والمال لدفع الأسواء عنهم؟! .. أم أن عليهم أن يتوقعوا من نفس رؤسائهم أن يقذفوا بهم في أتون المكاره والأسواء ، لينعموا هم

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٩١ وراجع : الإستيعاب (ط دار الجيل) ج ٣ ص ١١٦٣ والتمهيد لابن عبد البر ج ٥ ص ١٧٢ وأسد الغابة ج ٤ ص ٨٧ والوافي بالوفيات ج ١٤ ص ١١٧ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٢٢٠.

١٧٣

بالجاه والمال وبالراحة ، وليحصلوا على المنافع والمناصب من خلال ذلك.

الله يؤيد حسان ما دافع عن نبيه :

وقد ورد في الرواية : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : «إن الله يؤيد حسان بروح القدس ، ما دافع عن نبيه.

أو قال له : لا تزال ـ يا حسان ـ مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك» (١).

ولسنا بحاجة إلى تذكير القارئ بأن هذا القيد الوارد في دعاء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لحسان ، يشير إلى علمه بأن حسانا سوف ينقطع عن هذا النصر ، ويتحول عن نصرة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى نصرة بني أمية ، وغيرهم ، حين يؤيد غاصبي حق علي «عليه‌السلام» ، ويخالف أوامر الله ورسوله فيه ، ويعرّض نفسه لدعاء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليه بالخذلان ، في قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في حديث الغدير : «وانصر من نصره واخذل من خذله».

وقد نظم ذلك الحديث حسان شعرا ، فقال :

وقال : فمن مولاكم ووليكم

فقالوا : ولم يبدوا هناك التعاديا

إلهك مولانا وأنت ولينا

ولن تجدن منا لك اليوم عاصيا

__________________

(١) راجع : الإرشاد للمفيد ج ١ ص ١٧٧ وخصائص الأئمة للشريف الرضي ص ٤٢ والفصول المختارة للشريف المرتضى ص ٤٩ و ٢٩١ والصوارم المهرقة للتستري ص ٣٣٦ والبحار ج ١٠ ص ٢٩٣ وج ٢١ ص ٣٨٨ وج ٢٩ ص ٦٩ وج ٣٧ ص ١٦٦ والغدير ج ٢ ص ٧ و ٣٤ و ٣٧ ومجمع البيان ج ٨ ص ٢٨٧ والتفسير الصافي ج ٤ ص ٢٦٠ وتفسير نور الثقلين ج ٤ ص ٣٩٣ ومصادر كثيرة أخرى.

١٧٤

فقال له : قم يا علي فإنني

رضيتك من بعدي إماما وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليه

فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللهم وال وليه

وكن للذي عادى عليا معاديا (١)

هذا .. وقد قال الشيخ المفيد «رحمه‌الله» : «وإنما اشترط رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في الدعاء له ، لعلمه بعاقبة أمره في الخلاف ، ولو علم سلامته في مستقبل الأحوال لدعا له على الإطلاق. ومثل ذلك : ما اشترط الله تعالى في مدح أزواج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولم يمدحهن بغير اشتراط ، لعلمه أن منهن من يتغير بعد الحال عن الصلاح الذي يستحق عليه المدح والإكرام ، فقال عز قائلا : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَ) (٢).

ولم يجعلهن في ذلك حسب ما جعل أهل بيت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في محل الإكرام والمدحة ، حيث بذلوا قوتهم للمسكين واليتيم والأسير ، فأنزل سبحانه وتعالى في علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين «عليهم‌السلام» ، وقد آثروا على أنفسهم مع الخصاصة التي كانت بهم ، فقال جل قائلا : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً

__________________

(١) الإرشاد للمفيد ج ١ ص ١٧٧ والاقتصاد للشيخ الطوسي ص ٢٢١ وخصائص الأئمة للشريف الرضي ص ٤٢ والفصول المختارة للشريف المرتضى ص ٢٩١ وكتاب سليم بن قيس (تحقيق محمد باقر الأنصاري) ص ٣٥٦ وأقسام المولى للشيخ المفيد ص ٣٥.

(٢) الآية ٣٢ من سورة الأحزاب.

١٧٥

عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) (١) ، فقطع لهم بالجزاء ، ولم يشترط لهم كما اشترط لغيرهم ، لعلمه باختلاف الأحوال على ما بيناه (٢).

ومما يشير إلى انحراف حسان قول المسعودي : «كان حسان عثمانيا منحرفا عن غيره. وكان إليه محسنا ، وهو المتوعد للأنصار في قوله :

يا ليت شعري ، وليت الطير يخبرني

ما كان شأن علي وابن عفانا

لتسمعن وشيكا في ديارهم

الله أكبر يا ثارات عثمانا» (٣)

وقال ابن الأثير : «بايعت الأنصار عليا «عليه‌السلام» إلا نفيرا يسيرا ، منهم حسان بن ثابت .. وقال رجل لعبد الله بن حسن : كيف أبى هؤلاء بيعة علي وكانوا عثمانية؟!

قال : أما حسان فكان شاعرا لا يبالي ما يصنع؟! (٤)

الشاعران يفتخران :

وقد افتخر شاعر بني تميم ، وهو الزبرقان بن بدر بالإنتهاب عنوة من

__________________

(١) الآيات ٨ ـ ١١ من سورة هل أتى.

(٢) الإرشاد للمفيد ج ١ ص ١٧٧ و ١٧٨ والبحار ج ٢١ ص ٣٨٨ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٤٢٠.

(٣) مروج الذهب ج ٢ ص ٣٤٧.

(٤) تاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٤٢٥ والكامل في التاريخ ج ٣ ص ١٩١ وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» في الكتاب والسنة والتاريخ للريشهري ج ٤ ص ٨٤ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٤٤٤.

١٧٦

الأحياء ، وبنحر الجزور الكوماء ، وبإطعام الطعام والأضياف والنزلاء ..

أما حسان فافتخر برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وبالعفاف الذي ذكره الوحي الإلهي ، وبالقناعة حين يثور الطمع المردي ، وبالتقوى ، وبالشجاعة في ساحات الوغى ، من دون أن يفرحهم النصر ، ومن دون أن يجزعهم أو أن يسقطهم عند المصاب ، وبأنهم لا يدبون إلى المغلوبين كما يدب المفترس إلى فريسته ليمزقها ، ونحو ذلك من معان ، تشير إلى عظمة الإيمان ، وسمو نفوس المؤمنين والصالحين ، وإلى الخصال الحميدة ، التي تجذرت ونمت في تلك النفوس ..

وقد كان لا بد لهم أن يدركوا ، ثم أن يقروا بهذا التفاوت الظاهر بين ما قاله خطيبهم وشاعرهم ، وما قاله خطيب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وشاعره.

وهذا ما حصل بالفعل.

حديث التحكيم :

١ ـ وإن صح حديث التحكيم في السبايا والأسرى ، فإننا نقول : إن من الأمور التي تزيد في وضوح سوء حال هؤلاء القوم : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يريد تحكيم واحد منهم في الأسرى والسبايا .. فيبادرون إلى الرفض ، ويقترحون عليه غيره .. وهذه إساءة أخرى تضاف إلى جملة إساءاتهم.

ولعل سبب رفضهم هذا هو : أنهم لا يريدون الإقرار بزعامة ذلك الذي اقترحه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أو لا يريدون تكريس زعامته عليهم ، رغم أنه منهم!! ورغم أن الأمر يتعلق بمصير أسراهم وسباياهم.

وهل يعلمون أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لو ألغى هذا التحكيم ، غضبا من تصرفهم السيء هذا ، فإن نساءهم سوف تتعرض لخطر

١٧٧

الإسترقاق ، وهو الأمر الذي يدّعون أنهم لا يرضون به لأنفسهم ، وتأباه لهم غيرتهم وكرامتهم ..

فلما ذا لم يقدّروا للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حلمه عنهم ، وتفضله عليهم؟! بوضعه مصير رجالهم ونسائهم في يد رجل منهم ، لا من قبيلة أخرى. بل إن نفس أن يبادر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لإخراج هذا الأمر من يده ويرضى بالتحكيم في هذا الأمر لهو فضيلة عظيمة ، ومنة ، وكرامة لا مثيل لها ، فإن أحدا لا يرضى مهما ألحوا عليه ـ وهو منتصر ـ بأن يجعل القرار في الأسرى والسبايا الذي هم بيده إلى غيره .. ولا سيما إذا كان هو الذي اعتدي عليه من قبل أولئك الأسرى ، وقبائلهم أنفسهم ..

فما بالك بمن يبادر هو إلى ذلك ، بل هو يبادر إلى تحكيم نفس المعتدين عليه؟!

والأعظم والأهم من ذلك كله ، أن يكون هذا الذي رضوا به حكما ، قد حكم بأن يفدى شطر وأن يعتق شطر ..

ولا ندري لما ذا حكم على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأن يعتق ذلك الشطر؟! ألا يعد هذا الحكم مجحفا وغير منصف.

ومع غض النظر عن ذلك كله ، فإن هذا الحكم يمثل إقرارا من زعيم وحاكم اختاروه هم أنفسهم ، بأن هؤلاء الناس رق لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. وهو بالتالي إقرار بالعدوان واعتراف بالظلم والطغيان ، فلما ذا يريد هؤلاء الظالمون والمعتدون أن يفاخروا من ظلموه واعتدوا عليه ، وهو يعاملهم بهذا الحلم والكرم والإباء والشمم ، وذلك حين توّج ذلك كله القرار النبوي برد الأسرى والسبي ، والعفو عنهم من دون مقابل كما أوضحته الرواية الأخرى ..

١٧٨

عيينة في وفد بني تميم :

وبعد .. فإن النصوص التاريخية قد صرحت : بأن عيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس كانا في وفد بني تميم إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

مع أن عيينة هو الذي تبرع للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالإتيان بهم أسرى إليه ، وقد قام بذلك فعلا.

فما معنى : أن ينضم إلى وفدهم ، ويأتي معهم؟!

ألا يدل ذلك على : أنه كان لا يزال على شركه ، وعلى قلة وعيه للأمور ، وانتهازيته ، وعلى أعرابيته ، وها قد حن إلى إلفه ، وسعى إليهم بظلفه؟!

غرور بني تميم :

وقد قال بنو تميم لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين خرج إليهم : «إن مدحنا لزين ، وإن ذمنا لشين ، نحن أكرم العرب».

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «كذبتم ، بل مدحة الله عزوجل الزين ، وذمه الشين ، وأكرم منكم يوسف بن يعقوب» (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٨٧ عن ابن مردويه ، وابن إسحاق. وراجع : تاريخ مدينة دمشق ج ١٠ ص ٢٧٢ وتاريخ المدينة لابن شبة ج ٢ ص ٥٢٧ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٧٧ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٥١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٧٩.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٨٧ والدر المنثور ج ٦ ص ٨٧ عن ابن مردويه ، وابن إسحاق. وراجع : تخريج الأحاديث والآثار للزيلعي ج ٣ ص ٣٣١ وتفسير الآلوسي ج ٢٦ ص ١٤١ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢١٧.

١٧٩

ويظهر من رواية أخرى مروية عن الأقرع بن حابس ، والبراء بن عازب : أن الأقرع بن حابس نفسه هو الذي قال ذلك ، فقد رويا : أنه جاء إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : يا محمد ، اخرج إلينا. فلم يجبه.

فقال : يا محمد ، إن حمدي لزين ، وإن ذمي لشين.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «ذاك الله عزوجل».

فقالوا : إنّا أتيناك لنفاخرك ، فأذن لشاعرنا وخطيبنا.

قال : قد أذنت لخطيبكم ، فليقل الخ .. (١).

ونقول :

١ ـ يتجلى غرور هؤلاء القوم بما لا مزيد عليه ، حين يضعون أنفسهم في مقام لا يجرؤ أحد على وضع نفسه فيه. فلو سلمنا ـ وإن كان هذا التسليم لا مبرر له ـ أن دافعهم للمدح أو الذم ليس هو الهوى والعصبية ، والرعونة

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٨٧ و ٢٨٨ عن أحمد عن الأقرع ، عن ابن جرير بسند جيد ، وأبي القاسم البغوي ، والطبراني بسند صحيح ، والترمذي وحسنه ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر عن البراء ابن عازب ، والدر المنثور ج ٦ ص ٨٦ عن أكثر من تقدم. وراجع : مجمع الزوائد ج ٧ ص ١٠٨ وتحفة الأحوذي ج ٩ ص ١٠٩ وكنز العمال ج ٣ ص ٨١٠ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٢٢٣ ولباب النقول للسيوطي (ط دار إحياء العلوم) ص ١٩٦ و (ط دار الكتب العلمية) ص ١٧٩ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ٢٩٤ وتاريخ مدينة دمشق ج ٩ ص ١٨٤ و ١٨٥ وج ١٠ ص ٣٥٨ والإصابة (ط دار الكتب العلمية) ج ١ ص ٢٥٣ والوافي بالوفيات ج ١٠ ص ٢٨٠ والبداية والنهاية لابن كثير ج ٥ ص ٥٥ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٢٤١ وج ٣ ص ٤٧١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٨٦.

١٨٠