الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٦

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٦

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-198-X
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧٢

ونضيف إلى ما تقدم :

ألف : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يقل لهما : إني أزيل ملككما ، بل قال :

إن ملكهما زائل عنهما ، ولم يحدد لهما من الذي سيزيله ، أو هل سيزول بسبب مرور الزمان ، وبسنّة الموت والحياة؟! أو أنه سيزول على يد من يسلبهما إياه!!

ب : ولكنه أشار إلى أن استكبارهما سوف يسقط حرمتهما ، ويجعلهما في معرض التحدي ، ولا بد أن يواجها الحرب لإسقاط ذلك الإستكبار ، وإزالة ما يمارسونه من الظلم والقهر ، والتسلط على الآخرين بما يملكونه من قوة ..

ج : إنه لم يقل لهما : إنه هو سيظهر عليهما ، بل تجاوز الحديث عن شخصه ، وعنهما كأشخاص ، ليتحدث عن مقام النبوة المرتبط بالله ، الذي يريدان أن يستبدلاه بموقع الملك والسلطان ، وانه إذا كان التحدي بين هذين ، فإن الغلبة لا بد أن تكون للنبوة ، لأنها هي التي ترتبط بالله تعالى ، وتستمد قوتها منه.

د : ويلاحظ : أنه تحدث عن مقام النبوة ، لا عن الرسولية ، في إثارة وجدانية ، وإيقاظ للشعور الفطري الصافي والصادق ، النابع من أعماق النفس الإنسانية بعيدا عن المؤثرات الخارجية ، والصوارف المادية والأهوائية ..

بعث المصدقّين :

روى الواقدي ، عن الزّهري ، وعبد الله بن يزيد ، عن سعيد بن عمرو ، قالا : لما رجع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من الجعرّانة قدم المدينة يوم

١٤١

الجمعة لثلاث ليال بقين من ذي القعدة ، فأقام بقية ذي القعدة وذي الحجة ، فلما رأى هلال المحرّم بعث المصدّقين.

فبعث بريدة بن الحصيب إلى سليم ومزينة.

وبعث رافع بن مكيث إلى جهينة.

وبعث عمرو بن العاص إلى فزارة.

وبعث الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب.

وبعث بسر بن سفيان الكعبي إلى بني كعب.

وبعث ابن اللّتبيّة الأزدي إلى بني ذبيان.

وبعث رجلا من بني سعد إلى هذيم على صدقاتهم (١).

سرية إلى بني العنبر :

وفي سنة ثمان بعث عيينة بن حصن الفزاري إلى بني العنبر ، من تميم ، فأغار عليهم ، وسبى منهم نساء (٢).

سرية الضحاك بن سفيان الكلابي إلى القرطاء :

ومن السرايا التي تذكر هنا سرية الضحاك بن سفيان الكلابي إلى القرطاء ، وحيث إننا ذكرناها حين ترقيع الدلاء بكتب رسول الله «صلى الله

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٣ ص ٩٧٣ وراجع : تاريخ مدينة دمشق (ط دار الكتب العلمية) ج ٢٠ ص ١٤ و (ط دار الفكر) ج ١٨ ص ٢٣.

(٢) البحار ج ٢١ ص ١٨٤ عن الكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٨٢ ومستدرك سفينة البحار ج ٥ ص ٣٦ وراجع : الكامل في التاريخ (ط دار صادر) ج ٢ ص ٢٧٣.

١٤٢

عليه وآله ، فإننا نكتفي بما ذكرناه هناك ، فنرجوا من القارئ الرجوع إلى ذلك الموضع للوقوف على ما جرى.

سرية عكاشة بن محصن إلى الجباب (الجناب):

ويقولون : إنه في شهر ربيع الآخر من سنة تسع كانت سرية عكاشة بن محصن إلى الجباب (وهي أرض عذرة وبلي) (١) وهما قبيلتان من قضاعة.

وقيل : إلى أرض فزارة وكلب ، ولعذرة فيها شركة (٢).

وقد ذكرها ابن سعد ، وتبعه اليعمري وغيره ، ولم يبينوا سببها ، ولا عدد من ذهب فيها ، ولا ما جرى (٣).

فهل كان فيها ما يوجب الطعن على بعض من يتّهم الرواة بالتستر عليه ، وإبعاد الشبهات عنه؟ أم أنه لم يكن في تلك السرية حدث يستحق الذكر ، أو نشاط يحسن التنويه به؟! أو يفيد في إعلاء شأن من يهمهم إعلاء شأنه؟! إلى غير ذلك من أسباب تدعو إلى الإهمال والكتمان!!

كل ذلك محتمل والله العالم بحقائق الأمور ..

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٢٠ عن ابن سعد وعن العيون ، والمورد. وراجع : الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٦٤ وعيون الأثر ج ٢ ص ٢٤٠ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٦٢٤

(٢) معجم ما استعجم للبكري الأندلسي ج ٢ ص ٣٩٥.

(٣) راجع : شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٤ ص ٥٠.

١٤٣
١٤٤

الفصل الخامس :

عيينة وبنو تميم

١٤٥
١٤٦

سرية عيينة إلى بني تميم :

وفي سنة ثمان كانت سرية عيينة بن حصن إلى بني العنبر (أو العتير) ، من بني تميم ، فأغار عليهم ، وسبى منهم نساء (١).

وقيل : إن ذلك كان سنة تسع (٢).

وسبب ذلك : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعث رجلا من بني سعد ـ هذيم ـ على صدقاتهم ، وأمره رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أن يأخذ العفو ، ويتوقى كرائم أموالهم.

فخرج بشر بن سفيان الكعبي إلى بني كعب ، فأمر بجمع مواشي خزاعة ، ليأخذ منها الصدقة ، فحشرت عليهم خزاعة الصدقة في كل ناحية ، فاسكثرت ذلك بنو تميم (لكونهم لئاما) ، فقالوا : ما هذا؟! أتؤخذ أموالكم منكم بالباطل؟ فشهروا السيوف.

__________________

(١) راجع : البحار ج ٢١ ص ١٨٤ عن الكامل لابن الأثير ج ٢ ص ١٨٢ ومستدرك سفينة البحار ج ٥ ص ٣٦ وراجع : الكامل في التاريخ (ط دار صادر) ج ٢ ص ٢٧٣.

(٢) راجع : فتح الباري ج ٥ ص ١٢٥ وج ٨ ص ٦٦ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٦٠ وعيون الأثر ج ٢ ص ٢٣٤ وعمدة القاري ج ١٨ ص ١٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢١٢.

١٤٧

فقال الخزاعيون : نحن قوم ندين بدين الإسلام ، وهذا أمر ديننا.

فقال التميميون : لا يصل إلى بعير منها أبدا.

(وفي رواية : أن خزاعة وبني العنبر أعانوا بني تميم) (١).

فهرب المصدق ، وقدم على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأخبره الخبر.

فوثبت خزاعة على التميميين ، فأخرجوهم من محالهم ، وقالوا : لو لا قرابتكم ما وصلتم إلى بلادكم ، ليدخلن علينا بلاء من محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حيث تعرضتم لرسوله ، تردونه عن صدقات أموالنا ، فخرجوا راجعين إلى بلادهم.

فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «من لهؤلاء القوم (الذين فعلوا ما فعلوا)»؟

فانتدب أول الناس عيينة بن حصن الفزاري ، فبعثه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في خمسين فارسا من العرب ، ليس فيهم مهاجري ، ولا أنصاري. فكان يسير الليل ويكمن النهار ، فهجم عليهم في صحراء قد حلوا [بها] ، وسرحوا مواشيهم.

فلما رأوا الجمع ولّوا. فأخذ منهم أحد عشر رجلا ، ووجد في المحلة إحدى وعشرين امرأة. كذا في العيون.

وقال محمد بن عمر وابن سعد ، وتبعهما في الإشارة والمورد : إحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيا.

فجلبهم إلى المدينة ، فأمر بهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فحبسوا

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ١١٩.

١٤٨

في دار رملة بنت الحارث. فقدم فيهم عدة من رؤسائهم (١).

فقدم منهم عشرة من رؤسائهم : العطارد بن حاجب بن زرارة ، والزبزقان بن بدر ، وقيس بن عاصم ، وقيس بن الحارث ، ونعيم بن سعد ، وعمرو بن الأهتم ، والأقرع بن حابس ، ورياح بن الحارث بن مجاشع ، فدخلوا المسجد قبل الظهر ، وسألوا عن سبيهم ، فأخبروهم ، فجاؤوهم ، فبكى الذراري والنساء.

فرجعوا إلى المسجد ، ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يومئذ في بيت عائشة ، وقد أذّن بلال بالظهر ، والناس ينتظرون خروجه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فعجلوا خروجه ، فنادوا : يا محمد ، أخرج إلينا.

فقام إليهم بلال ، فقال : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يخرج الآن.

فاشتهر أهل المسجد أصواتهم ، فجعلوا يخفقون بأيديهم.

فخرج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأقام بلال الصلاة ، وتعلقوا به يكلمونه ، فوقف رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» معهم بعد إقامة بلال الصلاة مليّا ، وهم يقولون : أتيناك بخطيبنا وشاعرنا ، فاستمع منا.

فتبسم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ثم مضى فصلّى بالناس الظهر ، ثم

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢١٢ عن العيون ، والواقدي ، وابن سعد ، والإشارة والمورد ، والإصابة ج ١ ص ٢٤٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٠ ص ٣٦٠ و ٣٦١ والمغازي للواقدي ج ٣ ص ٩٧٣ ـ ٩٧٥ وراجع : السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٢٠٨ وعن البداية والنهاية ج ٥ ص ٥١. وراجع : والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٦٠ و ١٦١ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٣٧ و ٣٨ وعيون الأثر ج ٢ ص ٢٣٤ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٢١٦.

١٤٩

انصرف إلى بيته ، فركع ركعتين ، ثم خرج فجلس في صحن المسجد.

وقدّموا عطارد بن حاجب التميمي ، فخطب ، فقال : الحمد لله الذي له الفضل علينا ، والذي جعلنا ملوكا ، وأعطانا الأموال ، (أو : ووهب لنا أموالا عظاما) نفعل فيها المعروف ، وجعلنا أعزّ أهل المشرق ، وأكثرهم مالا ، وأكثرهم عددا ، فمن مثلنا في الناس؟

ألسنا رؤوس الناس وذوي فضلهم؟ فمن يفاخر فليعدد مثل ما عددنا ، ولو شئنا لأكثرنا من الكلام ، ولكنا نستحي من الإكثار فيما أعطانا الله ، أقول هذا لأن يؤتى بقول هو أفضل من قولنا.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لثابت بن قيس : «قم فأجب خطيبهم».

فقام ثابت ، وما كان درى من ذلك بشيء ، وما هيأ قبل ذلك ما يقول ، فقال :

الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه ، قضى فيهما أمره ، ووسع كل شيء علمه ، فلم يك شيء إلّا من فضله ، ثم كان ممّا قدّر الله أن جعلنا ملوكا ، اصطفى لنا من خلقه رسولا ، أكرمهم نسبا ، وأحسنهم زيا ، وأصدقهم حديثا ، أنزل عليه كتابه ، وائتمنه على خلقه ، وكان خيرته من عباده ، فدعا إلى الإيمان ، فآمن المهاجرون من قومه ، وذوي رحمه ، أصبح الناس وجها ، وأفضل الناس فعالا ، ثم كنا أول الناس إجابة حين دعا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فنحن أنصار الله ورسوله ، نقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله ، فمن آمن بالله ورسوله منع منّا ماله ودمه ، ومن كفر بالله ورسوله جاهدناه في ذلك ، وكان قتله علينا يسيرا ، أقول قولي هذا وأستغفر الله

١٥٠

للمؤمنين والمؤمنات».

ثم جلس.

فقالوا : يا رسول الله ائذن لشاعرنا.

فأذن له.

فأقاموا الزبرقان بن بدر فقال (أو أن الزبرقان اقام رجلا ، فقام فقال) :

نحن الملوك فلاحي يقاربنا

فينا الملوك وفينا تنصب البيع

وكم قسرنا من الأحياء كلهم

عند النهاب وفضل الخير يتّبع

ونحن نطعم عند القحط ما أكلوا

من السّديف إذا لم يؤنس القزع

وننحر الكوم عبطا في أرومتنا

للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا

وذكر بعضهم أبياتا أخرى معها.

قال ابن هشام : وأكثر أهل العلم ينكرها للزبرقان.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أجبهم يا حسان بن ثابت» ، فقام ، فقال :

إن الذوائب من فهر وإخوتهم

قد شرعوا سنة للناس تتبع

يرضى بها كل من كانت سريرته

تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا

قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم

أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا

سجية تلك منهم غير محدثة

إن الخلائق فاعلم شرها البدع

لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم

عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا

ولا يضنون عن جار بفضلهم

ولا ينالهم في مطمع طبع

(إن سابقوا الناس يوما فاز سبقهم

أو وازنوا أهل مجد بالندى متعوا)

١٥١

إن كان في الناس سباقون بعدهم

فكل سبق لأدنى سبقهم تبع

أكرم بقوم رسول الله شيعتهم

إذا تفرقت الأهواء والشيع

أعفة ذكرت في الوحي عفتهم

لا يطمعون ولا يرديهم طمع

كأنهم في الوغى والموت مكتنع

أسد ببيشة في أرساغها فدع

لا فرّح إن أصابوا في عدوهم

وإن أصيبوا فلا خور ولا جزع

وإن أصبنا لحي لم ندبّ لهم

كما يدبّ إلى الوحشية الذرع

نسموا إلى الحرب نالتنا مخالبها

إذا الزعانف من أطرافها خشعوا

خذ منهم ما أبوا عفوا إذا غضبوا

ولا يكن همك الأمر الذي منعوا

فإن [في] حربهم فاترك عداوتهم

سمّا غريضا عليه الصاب والسّلع

أهدى لهم مدحا قلب يؤازره

فيما أحب لسان حائك صنع

وأنهم أفضل الأحياء كلّهم

إن جدّ بالناس جدّ القول أو شمعوا

(وفي نص آخر : فقام شاعرهم الأقرع بن حابس ، فقال :

أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا

إذا خالفونا عند ذكر المكارم

وأن رؤوس الناس في كل معشر

وأن ليس في أرض الحجاز كوارم

فأمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حسانا أن يجيبه ، فقام ، فقال :

بني دارم لا تفخروا إن فخركم

يعود وبالا عند ذكر المكارم

هبلتم علينا تفخرون وأنتم

لنا خول ما بين قن وخادم

فكان أول من أسلم شاعرهم (١).

__________________

(١) تاريخ الإسلام ج ٢ ص ١١٩.

١٥٢

وكان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أمر بمنبر ، فوضع في المسجد ينشد عليه حسان ، وقال : «إنّ الله ليؤيد حسان» (بروح القدس ما دافع عن نبيه).

وخلا الوفد بعضهم إلى بعض ، فقال قائلهم (وهو الأقرع بن حابس) : تعلمنّ والله أن هذا الرجل مؤيد مصنوع له. والله ، لخطيبه أخطب من خطيبنا ، ولشاعرهم أشعر من شاعرنا ، ولهم أحلم منا.

وأنزل الله على نبيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في رفع أصوات التميميين. ويذكر أنهم نادوا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من وراء الحجرات ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) إلى قوله : (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (١) ، فردّ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الأسرى والسبي.

(فلما فرغ القوم أسلموا ، جوّزهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» [أي أعطاهم الجوائز] ، فأحسن جوائزهم).

وقام عمرو بن الأهتم يومئذ ، فهجا قيس بن عاصم ، وكانا جميعا في الوفد.

وكان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أمر لهم بجوائز ، وكان يجيز الوفد إذ قدموا عليه ، ويفضّل بينهم من العطية على قدر ما يرى ، فلمّا أجازهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : «هل بقي منكم من لم نجزه».

فقالوا : غلام في الرحل ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أرسلوه نجزه».

__________________

(١) الآيات ٢ ـ ٤ من سورة الحجرات.

١٥٣

فقال قيس بن عاصم : إنه لا شرف له.

قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «وإن كان ، فإنه وافد وله حقّ».

فقال عمرو بن الأهتم شعرا يريد قيس بن عاصم :

ظللت مفترشا هلباك تشتمني

عند الرسول فلم تصدف ولم تصب

إنا وسؤددنا عود وسؤددكم

مخلّف بمكان العجب والذنب

إن تبغضونا فإن الروم أصلكم

والروم لا تملك البغضاء للعرب

وكانت الجائزة لكل واحد منهم اثنا عشر أو قية ونشا (أي نصفا) (١).

صورة أخرى لما حدث :

قال العسقلاني : عن ابن عباس ، قال : أصابت بنو العنبر دماء في قومهم ، فارتحلوا ، فنزلوا بأخوالهم من خزاعة ، فبعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مصدقا إلى خزاعة ، فصدقهم ، ثم صدق بني العنبر ، فلما رأت بنو العنبر الصدقة قد أحرزها وثبوا فانتزعوها ، فقدم على رسول الله «صلى الله عليه

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ج ٤٠ ص ٣٦٠ ـ ٣٦٤ والمغازي للواقدي ج ٣ ص ٩٧٣ ـ ٩٨٠ وراجع : السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٢٠٨ والإصابة ج ١ ص ٢٤٦ و ٢٤٧ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ٢٩٤ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٨٧ ـ ٢٩١ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١١٩ وراجع : البداية والنهاية ج ٥ ص ٥٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٨٦ الطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٦١ و ١٦٢ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٣٨ و ٣٩ وعيون الأثر ج ٢ ص ٢٣٤ ـ ٢٣٦.

والقصيدة في ديوان حسان بن ثابت ص ١٤٤ و ١٤٥.

١٥٤

وآله» ، فقال : يا رسول الله ، إن بني العنبر منعوا الصدقة.

فبعث إليهم عيينة بن حصن في سبعين ومائة ، فوجد القوم خلوفا ، فاستاق تسعة رجال ، وإحدى عشرة امرأة ، وصبيانا.

فبلغ ذلك بني العنبر ، فركب إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» منهم سبعون رجلا ، منهم الأقرع بن حابس ، ومنهم الأعور بن بشامة العنبري ، وهو أحدثهم سنا ، فلما قدموا المدينة بهش إليهم النساء والصبيان ، فوثبوا على حجر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو في قائلته ، فصاحوا به : يا محمد ، علام تسبى نساؤنا ، ولم ننزع يدا من طاعتك؟

فخرج إليهم ، فقال : اجعلوا بيني وبينكم حكما.

فقالوا : يا رسول الله ، الأعور بن بشامة.

فقال : بل سيدكم بن عمرو.

قالوا : يا رسول الله ، الأعور بن بشامة.

فحكمه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فحكم أن يفدى شطر ، وأن يعتق شطر (١).

ونقول :

إن لنا مع ما تقدم وقفات هي التالية :

خزاعة لا تعين بني تميم :

إنه لا ريب في بطلان الرواية التي ذكرها الديار بكري ، من أن خزاعة

__________________

(١) الإصابة ج ١ ص ٢٤٦ و (ط دار الكتب العلمية) ج ١ ص ٢٤٦.

١٥٥

قد أعانت بني تميم على ما أرادوه من منع الصدقة التي جمعت ، وأرادت أن ترسلها ، وقد غضبت من بني تميم ، وأخرجتهم عنها حينما فعلوا ما فعلوا.

إختلاف الروايات :

إن الصورة التي ذكرها العسقلاني تختلف عن تلك التي ذكرناها آنفا ، إذ هي تدّعي :

١ ـ أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أخذ الصدقة من خزاعة ثم من بني العنبر ، بينما تذكر الرواية الأخرى : أنه لم يأخذ صدقته من بني العنبر.

٢ ـ إن هذه الرواية تدّعي : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أرسل إليهم عيينة في مائة وسبعين رجلا ، بينما تقول الرواية الأخرى : إنه بعثه في خمسين رجلا فقط.

٣ ـ هذه الرواية تقول : أخذ منهم تسعة رجال ، وتقول تلك : بل أخذ منهم أحد عشر رجلا.

٤ ـ هذه الرواية زعمت : أن وفدهم إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان مائة وسبعين رجلا ، وتلك تقول : كان وفدهم عشرة رجال ، ولكنها ذكرت أسماء ثمانية منهم فقط.

وفي نص آخر : كانوا في وفد عظيم ، يقال : كانوا سبعين (تسعين) أو ثمانين رجلا (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٨٧ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١١٩ وراجع : الإستيعاب (ط دار الجيل) ج ٣ ص ١١٦٣.

١٥٦

٥ ـ إن هذه الرواية ذكرت طلبهم التحكيم ، واستجابة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهم ..

والرواية الأخرى ذكرت حديث الخطباء والشعراء ولم تشر إلى التحكيم بشيء.

٦ ـ إن هذه الرواية ذكرت : أن الحكم كان هو أن يفدى شطر ، ويعتق شطر ..

والرواية الأخرى ذكرت : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد رد الأسرى والسبي.

تاريخ هذه السرية :

إنه يبدو لنا : أنه لا مشكلة في اختلافهم في تاريخ هذه السرية ، إذ لعل إرسال عيينة إلى بني العنبر قد كان في سنة ثمان .. ثم كان مجيء وفدهم إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في سنة تسع ، فإن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد عاد إلى المدينة من غزوة الفتح وحنين لثلاث ليال بقين من ذي القعدة ..

ومن الواضح : أن أحداث هذه السرية تحتاج إلى وقت طويل لعله امتد حتى كان بعضه في سنة تسع أيضا ، فهو «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أرسل المصدق إلى خزاعة ، ثم جمعوا له الصدقات ، ثم اعترض بنو تميم على تسليمها لمبعوث النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ثم عاد الرسول ، ثم ارسل عيينة بن حصن إليهم على رأس جيش ، فأسر وسبي بعض رجالهم ونسائهم ، ثم عاد إلى المدينة ، ثم جاء وفدهم إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

١٥٧

وذلك كله يستغرق وقتا ، وربما يكون ذلك أو بعضه قد حصل في شهر ذي الحجة ، وبعضه الآخر قد حصل في شهر المحرم كما قلنا ..

فنتج عن ذلك : أن أشار بعض المؤرخين إلى ما جرى في ذي الحجة سنة ثمان ، وأشار بعضهم الآخر إلى ما جرى في المحرم ، سنة تسع ..

البغي الذميم :

ثم إن ما فعله بنو تميم لهو من أقبح وأسوأ البغي ، حيث تعاورت عليه عناوين السوء والخزي من جهات عديدة ، فهو بغي ذوي القربى ، بعد سبق الإحسان من المبغي عليهم ، وهو بغي الضيوف اللئام على مضيفيهم الكرام ، وهو بغي يقصد به مخالفة أحكام الشريعة ، وتوفير مال لغير مستحقيه ، وحرمان أهله الحقيقين منه ، وأهله هم الفقراء والمساكين .. وهو بغي فيه عدوان على نبي بالعدوان على مبعوثه .. فأي بغي ذميم أسوأ وأقبح من هذا؟!.

لا مبرر لخوف خزاعة :

وقد يقال : إذا كان البغاة المعتدون هم بنو تميم ، فلا مبرر لخوف خزاعة من نشوء أية مشكلة لها مع النبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لأنها تعلم أنه لا يأخذ البريء بذنب المجرم.

وقد يجاب : بأنها ربما خافت من أن يكون مبعوث الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يميز بني تميم عن خزاعة ، ولا يدري أن الذين فعلوا ذلك هم ضيوف على خزاعة وليسوا منها ، فظن أن الذين فعلوا ذلك هم طائفة من أصحاب الصدقة أنفسهم ..

فيكون قد أخبر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بما رآه فيتغيظ النبي «صلى

١٥٨

الله عليه وآله» عليهم ، ويعلن موقعا سلبيا منهم ، وفق ظواهر الأمور ، التي كان يجب عليه أن يعامل الناس على أساسها ..

فضول يثير القرف ، ويلامس المساس بالشرف :

عن ابن عباس : أن بني العنبر التميميين كانوا قد أصابوا دماء في قومهم ، فارتحلوا ، فنزلوا بأخوالهم من خزاعة (١) .. فما معنى أن يمنعوا مبعوث النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من قبض صدقة الخزاعيين؟!

وما هذه الجرأة على التدخل فيما لا يعنيهم ، وما هذا التعدي على قرار قوم قبلوهم ضيوفا عليهم ، ومكّنوهم من العيش معهم بسلام وأمان؟!.

ألا يعتبر الإعتداء على قرار خزاعة اعتداء على الكرامة؟! وألا يعد هذا التصرف جبرية وتسلطا على الآخرين بدون حق؟ رغم أن أولئك الآخرين متفضلون عليهم!!. ومحسنون إليهم!!.

أم أنهم يتهمون الخزاعيين بسوء الرأي ، أو بقلة العقل ، أو بالجبن والخور والضعف؟!.

وهل الإلتزام بأحكام الشرع والدين يعد ضعفا ، أو جبنا ، أو يمكن اعتباره سوء رأي ، وقلة تدبير؟!.

هذا شحّ! أم لؤم؟! :

إننا قد نتصور : أن يكون أحد من الناس شحيحا ، ولكننا لا نستطيع أن نقبل بأن يكون الشحّ هو الصفة المميزة لجماعة من الناس ، من دون

__________________

(١) الإصابة ج ١ ص ٢٤٦ و (ط دار الكتب العلمية) ج ١ ص ٢٤٦.

١٥٩

استثناء ، مع قبول تلك الجماعة كلها : بأن الشح صفة ذميمة ، تجلب لهم العار ، وتحط من قدرهم في جميع الأعصار والأمصار ، ولا تجد أحدا يرضى بأن تنسب إليه مهما كانت ظاهرة وراسخة فيه.

أما إذا شحّ إنسان بمال غيره ، فذلك مما يستعصي على العقول فهمه ، فكيف إذا ظهر ذلك من جماعة أو من عشيرة بكاملها؟

ولما ذا أقدمت تلك الجماعة أو العشيرة على منع أخذ الصدقات من عشيرة غيرها ، إلى حد أنها رضيت بمباشرة القتال ، وركوب الأهوال من أجل ذلك؟! كما هو الحال بالنسبة لبني تميم حين شحوا بمال قبيلة خزاعة ، الذي لا تريد أن تعطيه ترفا وسرفا ، ولا جودا وكرما ، وإنما انقيادا للحكم الشرعي ، والواجب الإلهي ، والأمر النبوي.

إننا لا نستطيع تفسير هذا الأمر إلا على أساس أن هؤلاء القوم قد بلغوا الغاية وأوفوا على النهاية في النذالة واللؤم .. وقدموا بذلك أوضح الأدلة والبراهين على أنهم أبعد الناس عن الأدب ، وعن الإلتزام بفروض اللياقة ، أو الشعور بالكرامة.

كما أن ما فعلوه يدل دلالة واضحة على إغراقهم في الجهل ، والأعرابية ، إلى حد يثير القرف والإشمئزاز ..

أخذ العفو ، لا كرائم الأموال :

ثم إن أول ما يطالعنا في هذه السرية هو وصية النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لمبعوثه على الصدقات بأن يأخذ عفو المال ، وأن يتوقى كرائمه.

وهذا هو العدل والرفق. فإن أخذ ما فضل من المال ، الذي يحبه

١٦٠