الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٥

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٥

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-198-X
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٥

وعن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «ليتعمقن أقوام من هذه الأمة حتى يقول أحدهم : هذا الله خلقني ، فمن خلقه»؟! (١).

فالتعمق هو التكلف الحاصل بما لم يكلّف به الإنسان ، والمبالغة في ذلك من غير برهان ، سواء أكان الأمر عباديا أم عقيديا.

إن ذالك غير دقيق ، فقد وصفتهم الروايات عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأوصاف لا تتلاءم مع التعمق في الدين ، فهم : أحداث الأسنان ، سفهاء ، الأحلام (٢).

__________________

(١) المعجم الأوسط ج ٩ ص ٧٨ وراجع : مسند أحمد ج ٢ ص ٢٨٢ و ٥٣٩ وصحيح مسلم ج ١ ص ٨٥ والديباج على مسلم ج ١ ص ١٤٩ والمصنف للصنعائي ج ١١ ص ٢٤٤ ومسند ابن راهويه ج ١ ص ٣٣٠ وكتاب السنة ص ٢٩٢ وكنز العمال ج ١ ص ٢٤٨.

(٢) راجع من المصادر المتقدمة : مسند أحمد ، والمعجم الصغير ج ٢ ص ١٠٠ وكشف الأستار ج ٢ ٣٦٤ وكنز العمال ج ١١ ص ١٢٨ و ١٢٩ و ١٧٩ و ١٨١ و ٢٩٩ و ٢٠٤ و ٢٠٦ ورمز له بما يلي : (ق ، خ ، د ، ن ، ج ، ت ، ه ، ط ، حم ، أبو عوانة ، ع ، حب. عن علي ، والخطيب ، وابن عساكر ، والحكيم. وابن جرير) ، والتنبيه والرد ص ١٨٢.

وراجع : تيسير الوصول ج ٤ ص ٣٢ عن الخمسة ما عدا الترمذي. والمغني لابن قدامة ج ١٠ ص ٥٠ والشرح الكبير ج ١٠ ص ٥٠ والمحلى ج ١١ ص ٩٧ ونيل الأوطار ج ٧ ص ٣٣٨ والإيضاح ص ٤٩ ومناقب أمير المؤمنين للكوفي ص ٣٣٠ والعمدة لابن البطريق ص ٤٥٨ و ٤٦٠ والبحار ج ٣٣ ص ٣٣١ و ٣٤٠ والغدير ج ١٠ ص ٥٤ ومسند أحمد ج ١ ص ٨١ و ١١٣ وصحيح البخارى ج ٤ ص ١٧٩ وج ٦ ص ١١٥ وج ٨ ص ٥٢ وصحيح مسلم (كتاب ـ

٣٠١

وعن علي «عليه‌السلام» : أنهم أخفاء الهام ، سفهاء الأحلام (١).

وأنهم : يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم (٢).

__________________

ـ الزكاة) ج ٣ ص ١١٤ وسنن ابن ماجة ج ١ ص ٥٩ وسنن أبي داود ج ٢ ص ٤٢٩ وسنن النسائي ج ٧ ص ١١٩ والسنن الكبرى البيهقي ج ٨ ص ١٧٠ و ١٨٨ وشرح مسلم للنووي ج ٧ ص ١٦٩ وشرح سنن النسائي ج ٧ ص ١١٩ وعون المعبود ج ١٣ ص ٨٠ ومسند أبي داود ص ٢٤ والمصنف للصنعاني ج ١٠ ص ١٥٧ ومسند ابن الجعد ص ٣٨٠ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٧ ص ١٩٣ وج ٨ ص ٧٢٩ وكتاب السنة لعمرو بن أبي عاصم ص ٤٢٩ والسنن الكبرى للنسائي ج ٢ ص ٣١٢ وخصائص أمير المؤمنين للنسائي ص ١٤٠ ومسند أبي يعلى ج ١ ص ٢٢٦ و ٢٧٣ وج ٩ ص ٢٧٧ وصحيح ابن حبان ج ١٥ ص ١٣٦ والمعجم الصغير ج ٢ ص ١٠٠ والمعجم الأوسط ج ٦ ص ١٨٦ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٢٦٧ وأحكام القرآن للجصاص ج ٣ ص ٥٣٢ وعلل الدارقطني ج ٣ ص ٢٢٨ وسير أعلام النبلاء ج ١٨ ص ٢٥٩ والبداية والنهاية ج ٦ ص ٢٤٢ وج ٧ ص ٣٢٢ وكشف الغمة ج ١ ص ١٢٧ ودفع الشبه عن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للحصني الدمشقي ص ٨١ وسبل الهدى والرشاد ج ١٠ ص ١٣١.

(١) الموفقيات ص ٣٢٧ ونهج البلاغة (تحقيق عبده) ج ١ ص ٨٧ والبحار ج ٣٣ ص ٣٥٧ ونهج السعادة ج ٢ ص ٣٩٣ وميزان الحكمة ج ١ ص ٧٣٤ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٢٦٥ وتاريخ الأمم والملوك ج ٤ ص ٦٣ ومصباح البلاغة للميرجهاني ج ١ ص ١٠٨ والكامل في التاريخ ج ٣ ص ٣٤٤ وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» في الكتاب والسنة والتاريخ ج ٦ ص ٢٧٢ و ٣٦٦ و ٣٧٠ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٣٢ ص ٥٣٤.

(٢) راجع : مسند أحمد ج ٥ ص ٤٤ و ٣٦ والمعيار والموازنة ص ١٧٠ وكنز العمال ـ

٣٠٢

أو أنهم : يقرأون القرآن ، ويحسبون أنه لهم وهو عليهم (١).

__________________

ـ ج ١١ ص ١٨٠ و ٢٩٤ ورمز له ب (حم. ق. ط. وابن جرير) ومجمع الزوائد ج ٦ ص ٢٣٠ عن أحمد ، والطبراني ، والبزار ، وتاريخ بغداد ج ١ ص ١٦٠ وج ٣ ص ٣٠٥ وفرائد السمطين ج ١ ص ٢٧٧ والبداية والنهاية ج ٧ ص ٢٩١ ونظم درر السمطين ص ١١٦ والإيضاح لابن شاذان ص ٤٩ ومناقب أمير المؤمنين للكوفي ج ٢ ص ٣٢٦ وشرح الأخبار ج ١ ص ٣١٨ وج ٢ ص ٤٣ و ٦١ والعمدة لابن البطريق ص ٤٤٤ و ٤٤٥ و ٤٦٤ والبحار ج ١٨ ص ١٢٤ وج ٢١ ص ١٧٣ وج ٣٣ ص ٣٢٩ و ٣٣٤ و ٣٣٥ و ٣٣٩ والغدير ج ١٠ ص ٥٤ ومسند أبي داود ص ٢٤ و ١٢٤ و ٣٠٣ و ٣٥٠ والمصنف للصنعاني ج ١١ ص ٣٧٧ ومسند الحميدي ج ٢ ص ٥٣٥ ومسند ابن الجعد ص ٣٨٠ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٧ ص ١٩٢ و ١٩٣ وج ٨ ص ٧٢٩ و ٧٣٠ و ٧٣٨ و ٧٣٩ والأدب المفرد للبخاري ص ١٦٨ والآحاد والمثاني ج ٢ ص ٢٦٤ وكتاب السنة لعمرو بن أبي عاصم ص ٤٢٩ و ٤٣٤ و ٤٤١ و ٤٤٤ والسنن الكبرى للنسائي ج ٢ ص ٣١٢ وج ٥ ص ٣٢ و ١٥٩ و ١٦١ وخصائص أمير المؤمنين للنسائي ص ١٣٧ و ١٤٠ و ١٤١ و ١٤٢ ومسند أبي يعلى ج ١ ص ٢٩٦ و ٣٧٥ وج ٢ ص ٢٩٨ و ٤٠٩ وج ٥ ص ٣٣٧ و ٤٢٦ والمعجم الأوسط ج ٣ ص ٥٨ وج ٦ ص ١٨٧ وج ٩ ص ٣٥ والمعجم الكبير ج ٦ ص ٩١ وج ٨ ص ٣٣٨ ومسند الشاميين ج ٤ ص ١٥ و ٤٩ و ٧٤ ودلائل النبوة للأصبهاني ص ١١٦ والفايق في غريب الحديث ج ٢ ص ٢٧١ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٢٦٦ وفيض القدير ج ٣ ص ٤٢٥.

(١) راجع : نيل الأوطار ج ٧ ص ٣٤٥ و ٣٤٧ والغدير ج ١٠ ص ٢٧٥ وصحيح البخارى ج ٤ ص ١٧٩ وج ٧ ص ١١١ وج ٨ ص ٥٣ وصحيح مسلم ج ٣ ص ١١٣ وشرح مسلم للنووي ج ٧ ص ١٦٦ والديباج على مسلم ج ٣ ص ١٦٠ وصحيح ـ

٣٠٣

يخرجون على حين فرقة من الناس :

وقد صرحت الروايات المتقدمة : بأنهم يخرجون على حين فرقة من الناس (١).

وواضح : أن وجود الفرقة بين الناس يكون من دلائل عدم نضجها فكريا ، أو دليل كثرة الطامحين والطامعين في المواقع والمناصب ، أو في الأموال والمكاسب ..

ولعل هذين العاملين معا قد أثرا في خروج الخوارج أيضا ، فهم كانوا

__________________

ـ ابن حبان ج ١٥ ص ١٤١ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٢٦٦ وكنز العمال ج ١١ ص ٢٠٣ وتفسير الميزان ج ٩ ص ٣١٩ والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج ١٦ ص ٣١٨ والدر المنثور ج ٣ ص ٢٥٠ وفتح القدير ج ٥ ص ٦٤ وأسد الغابة ج ٢ ص ١٤٠ وتهذيب الكمال ج ١٣ ص ٢٦٤ والجوهرة في نسب الإمام علي وآله ص ١١٠ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٤١٧ وج ٦ ص ٢٤١ وج ٧ ص ٣٠٩ و ٣٣٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦٨٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٠٥.

(١) راجع : نيل الأوطار ج ٧ ص ٣٣٨ والمجازات النبوية للشريف الرضي ص ٣٥٥ ومسند أحمد ج ١ ص ٩٢ وصحيح مسلم ج ٣ ص ١١٥ وسنن أبي داود ج ٢ ص ٤٢٩ والبداية والنهاية ج ٧ ص ٣٢١ وكشف الغمة ج ١ ص ١٢٦ وسبل الهدى والرشاد ج ١٠ ص ١٣٢ والعمدة لابن البطريق ص ٤٦٣ والبحار ج ٣٣ ص ٣٢٩ ونهج السعادة ج ٢ ص ٣٧٣ والمصنف للصنعاني ج ١٠ ص ١٤٧ والسنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ١٦٤ وخصائص أمير المؤمنين للنسائي ص ١٤٤ ونظم درر السمطين ص ١١٦ وكنز العمال ج ١١ ص ١٤٢ و ٢٩٤ ، ونزل الأبرار ص ٦٠ وتيسير الوصول ج ٤ ص ٣٠ والغدير ج ١٠ ص ٥٤ ، وعن السنن الكبرى للبيهقي ج ٨ ص ١٧٠.

٣٠٤

طامحين وطامعين ، كما أن الناس الذين يتعاملون معهم ، كانوا على درجة كبيرة من الجهل ، والفقر من الناحية الإيمانية ، والفكرية والثقافية ، فيسهل خداعهم بإظهار الصلاح والعبادة ، والدين والزهادة ، وتزيين الباطل لهم ، واستفزاز مشاعرهم الساذجة بالشعارات الطنانة والعبارات الرنانة .. حتى لو كانت مخالفة لحقائق الدين ، ومناقضة لاعتقادات ، ولمنطلقات أهل الإيمان واليقين ..

هل الخارجي كان من الأنصار؟! :

إن البعض ، يريد أن يعتبر : أن هناك أكثر من حادثة جرت لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، مع الذي كان يحمل فكرة الخوارج وهو يقول : إن رواية ابن مسعود تتحدث عن رجل أنصاري ، اسمه معتب بن بشير ، والروايات الأخرى تتحدث عن رجل تميمي ، هو المخدج وذو الثدية ، ولم يكن أنصاريا ..

فيرد عليه :

أن هذا يؤيد ما نذهب إليه من أن الصحابة فيهم الأخيار وغيرهم كما صرح به القرآن الكريم .. لكن أتباع المذاهب الأخرى ينكرون ذلك ، ويدّعون لهم العدالة التامة ، والإيمان الصحيح .. خصوصا البدريين منهم.

كما أنهم يقولون : إن معتب بن قشير ، قد شهد بدرا وأحد والعقبة (١) ،

__________________

(١) الإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ٣ ص ٤٦٢ وراجع : الإصابة ج ٣ ص ٤٤٣ و (ط دار الكتب العلمية) ج ٦ ص ١٣٨ عن ابن إسحاق وأسد الغابة ج ٤ ص ٣٩٤ وراجع : الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ ص ٤٦٣ وقاموس الرجال ـ

٣٠٥

فكيف يصح نسبة هذا الأمر الموجب للحكم بنفاقة إليه ، وهم ينزهون أهل بدر عن نسبة النفاق إليهم؟!

وأما احتمال أن يكون تميميا (١) أنصاريا ، فهو أبعد ، وأبعد. فإن الأنصار هم أهل المدينة الذين عاشوا مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولم يكن بنو تميم من أهلها ..

الإغترار بالظواهر :

وقد أشار النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في بيانه لحال ذي الخويصرة وأصحابه إلى : أن الناس يحقرون صلاتهم ، مع صلاتهم ، وصيامهم مع صيامهم ..

ولكن واقع هؤلاء هو : أنهم ليسوا من الدين في شيء ، بل هم قد خرجوا منه خروج السهم في الرمية.

وهذا يؤكد حقيقة هامة ، وهي أن على الناس أن لا يغتروا بالمظاهر ، وأن يبحثوا عن واقع وحقيقة الإيمان لدى الأشخاص ..

كما أنه يعطي : أن على الإنسان المسلم أن يمتلك المعايير الصحيحة ، ويعتمدها في التقييم ، واتخاذ المواقف ، وإصدار الأحكام.

__________________

ـ للتستري ج ١٠ ص ١٤٦ ومستدركات علم رجال الحديث ج ٧ ص ٤٥٢ وإكمال الكمال ج ٧ ص ٢٨٠ ومجمع الزوائد ج ١ ص ١١١ والمعجم الكبير للطبراني ج ٣ ص ١٦٦ وتفسير البحر المحيط ج ٣ ص ٩٦ وتهذيب الكمال ج ٥ ص ٥٠٣ وعيون الأثر ج ٢ ص ٣٨٠.

(١) قد صرح بأنه كان تميميا في : تاريخ الخميس ج ٢ ص ١١٥ وغير ذلك.

٣٠٦

وبذلك يصبح التدقيق في صحة المعايير المعتمدة ضرورة لا بد منها لكل مسلم ، لكي لا يقع في المآزق ، بسبب اعتماده معايير غير واقعية ..

كما أن هذه الحادثة قد أظهرت : أن التسليم المطلق لله ولرسوله ، وحقيقة الإعتقاد في الرسول ، وفي صفاته وميزاته ، وكيفية التعاطي معه ، وطبيعة النظرة إليه ، هي من تلك المعايير الصحيحة التي لا مجال للإغماض عنها في تقييم الآخرين ، ومعرفة مدى انسجامهم مع الأهداف الإلهية ، وسلوكهم طريق السداد والرشاد في حياتهم بصورة عامة.

لا يتحدث الناس : أني أقتل أصحابي :

وقد أظهر قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي .. أحد المرتكزات الهامة في سياسة الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للناس ، حيث إن مصلحة الإسلام العليا تقضي بالرفق بهم ، وغمض العين عن كل هفوة تصدر عنهم ، إذا كان المستهدف بها شخص الرسول الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لأن أكثر الناس ، سواء في ذلك الذين يعيشون في زمنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أو الذين يأتون بعده ، سيكونون في معرض الخطر الشديد والأكيد في اعتقاداتهم ، حين يطرح أهل الأهواء هذه القضايا لهم من زاوية أنها قضايا شخصية ، وأن منطلقات النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيها ودوافعه لا تختلف عن دوافع ومنطلقات سائر الحكام وملوك أهل الدنيا ، الذين ديدنهم البطش بمن يحوم حول أشخاصهم في أية كلمة أو موقف.

وربما يصورون لهم : أن التشريع الذي يحمي شخصية الرسول من أي

٣٠٧

ظن أو تهمة ، قد تضمن قدرا من المحاباة لشخصه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

وبذلك تحدث ثغرة خطيرة في الجدار الإعتقادي الذي يفترض أن يكون هو الأقوى ، والأكثر صلابة وقدرة على مقاومة الشبهات المضعفة للإعتقاد بحقيقة النبوة وميزاتها وخصائصها .. فكان أن أعطى الله لرسوله الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فسحة في هذا المجال ، رفقا منه تبارك وتعالى بالناس ، وصيانة لإيمانهم ، وأوكل أمر وعي التشريع ، وبلورة حقائقه في وجدان الناس إلى حقب لا حقة ، تتلاشى فيها جميع مبررات هذا الفهم الخاطئ.

إقطع لسانه :

قالوا : كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أعطى العباس بن مرداس أربعا (١) (وقيل أربعين (٢)) من الإبل يوم حنين ، فسخطها ، وأنشد يقول :

أتجعل نهبي ونهب العبيد (٣)

بين عيينة والأقرع

فما كان حصن ولا حابس

يفوقان شيخي في المجمع

وما كان (كنت) دون امرئ منهما

ومن تضع اليوم لا يرفع

فبلغ النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذلك ، فاستحضره ، وقال له : أنت القائل :

أتجعل نهبي ونهب العبيد

بين عيينة والأقرع

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ج ٢٦ ص ٤١٤.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٢٠ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٥٣.

(٣) العبيد كزبير : فرس ، قاموس المحيط ج ١ ص ٣١١ وهو اسم فرس عباس بن مرداس بالذات.

٣٠٨

فقال له أبو بكر : بأبي أنت وأمي ، لست بشاعر.

قال : وكيف؟!

قال : قال : بين عيينة والأقرع.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأمير المؤمنين «عليه‌السلام» : «قم ـ يا علي ـ إليه ، فاقطع لسانه».

قال : فقال العباس بن مرداس : فو الله ، لهذه الكلمة كانت أشد علىّ من يوم خثعم ، حين أتونا في ديارنا.

فأخذ بيدي علي بن أبي طالب ، فانطلق بي ، ولو أرى أحدا يخلصني منه لدعوته ، فقلت : يا علي ، إنك لقاطع لساني؟!

قال : إني لممض فيك ما أمرت.

قال : ثم مضى بي ، فقلت : يا علي ، إنك لقاطع لساني.

قال : إني لممض فيك ما أمرت ، فما زال بي حتى أدخلني الحظائر ، فقال لي : اعتد ما بين أربع إلى مائة.

قال : قلت : بأبي أنتم وأمي ، ما أكرمكم ، وأحلمكم ، وأعلمكم!!

قال : فقال : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أعطاك أربعا ، وجعلك مع المهاجرين. فإن شئت فخذ المائة ، وكن مع أهل المائة.

قال : قلت : أشر علي.

قال : فإني آمرك أن تأخذ ما أعطاك ، وترضى.

قلت : فإني أفعل (١).

__________________

(١) الإرشاد للمفيد ج ١ ص ١٤٦ ـ ١٤٨ والبحار ج ٢١ ص ١٦٠ و ١٦١ و ١٧٠ ـ

٣٠٩

وذكروا في توضيح ما جرى : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما قال : اقطعوا عني لسانه ، قام عمر بن الخطاب ، فأهوى إلى شفرة كانت في وسطه ليسلها ، فيقطع بها لسانه.

فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأمير المؤمنين «عليه‌السلام» : قم أنت فاقطع لسانه ، أو كما قال (١).

وفي نص آخر : فقال أبو بكر : بأبي أنت وأمي ، لم يقل كذلك ، ولا والله ما أنت بشاعر ، وما ينبغي لك ، وما أنت براوية.

قال : فكيف قال؟

فأنشده أبو بكر.

فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : اقطعوا عني لسانه.

ففزع منها ناس ، وقالوا : أمر بالعباس بن مرداس أن يمثل به ، وإنما أراد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بقوله : اقطعوا عني لسانه ، أي يقطعوه بالعطية من الشاء والغنم (٢).

__________________

ـ و ١٧١ وإعلام الورى ص ١٢٥ و (ط مؤسسة أهل البيت لإحياء التراث) ج ١ ص ٢٣٧ وراجع : سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٩٨ و ٣٩٩ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٢٠ وعن دلائل النبوة للبيهقي ج ٥ ص ١٨١ وكشف الغمة ج ١ ص ٢٢٥ وراجع : الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٤ ص ٢٧٢ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٦ ص ٤١٥ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٢٨١.

(١) الإرشاد للمفيد (هامش) ص ١٤٧.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٩٩ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٢٠ و (ط دار المعرفة) ص ٨٤ وراجع : زاد المسير ج ٦ ص ٢٨٠ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٦ ص ٤١٥.

٣١٠

وقد ذكروا كذلك : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أرسل إليه بحلة (١).

وفي رواية : فأتم له رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ماءة (٢).

والظاهر : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أعطاه ذلك مكافأة له ، لقبوله ما عرضه عليه أمير المؤمنين علي «عليه‌السلام».

ونقول :

إن لنا هنا بيانات عديدة ، نذكر منها :

قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الأولى والأفصح :

ذكر السهيلي : أن تقديم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للأقرع على عيينة بالذكر كان مقصودا ، وهو الأفصح لسببين :

أحدهما : أنه مقدم عليه في الرتبة ، لأنه من خندف ، ثم من تميم ، فهو أقرب إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من عيينة.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٩٩ وتخريج الأحاديث والآثار ج ٢ ص ٢٧٢ وراجع : تاريخ مدينة دمشق ج ٢٦ ص ٤٢٥.

(٢) صحيح مسلم ج ٣ ص ١٠٨ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٧ ص ١٧ ومسند الحميدي ج ١ ص ٢٠٠ ومعرفة السنن والآثار ج ٥ ص ١٩٩ وتخريج الأحاديث والآثار ج ٢ ص ٢٧١ وكنز العمال ج ١٠ ص ٥٤٣ وتفسير البغوي ج ٢ ص ٢٨٠ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٦ ص ٤١٣ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٦٠٢ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٤١٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦٨٠ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٢٠ و (ط دار المعرفة) ص ٨٤ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٩٩ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ٤٨.

٣١١

الثاني : أن الأقرع قد حسن إسلامه. أما عينية ، فلم يزل معدودا في أهل الجفاء ، حتى ارتد وآمن بطلحة ، وأخذ أسيرا ، فجعل الصبيان يقولون له : ويحك يا عدو الله ، ارتددت بعد إيمانك.

فيقول : والله ما كنت آمنت.

ثم أسلم في الظاهر ، ولم يزل جافيا أحمق حتى مات.

وقد سماه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : الأحمق المطاع.

وقد نزل به عمرو بن معد يكرب ضيفا ، فعرض عليه الخمر ، فقال : أليست محرمة في القرآن؟!

فقال عينية : إنما قال : فهل أنتم منتهون؟

فقلنا نحن : لا. فشربا (١).

من المأمور بقطع لسان ابن مرداس؟! :

وزعمت بعض المرويات : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لأبي بكر : «اقطع لسانه عني ، واعطه مائة» (٢).

وهو كلام غير صحيح لأكثر من سبب :

فأولا : إنهم ذكروا : أن العباس بن مرداس توهم : أنه يريد قطع لسانه بالفعل (٣) ،

__________________

(١) الروض الأنف ج ٤ ص ١٦٨.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٢٠ و (ط دار المعرفة) ص ٨٤ عن الكشاف ، وتفسير أبي السعود ج ٥ ص ١٦٩ وتفسير الآلوسي ج ١٥ ص ٦٥.

(٣) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٢٠ و (ط دار المعرفة) ص ٨٤ والإرشاد للمفيد ج ١ ص ١٤٦ ـ ١٤٨ وكنز العمال ج ١٠ ص ٥١٧ وإعلام الورى ص ١٢٥ و (ط ـ

٣١٢

وظن ذلك ناس آخرون أيضا (١). فلو كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أمره بأن يعطيه مائة من الإبل ، فلما ذا يتوهم هو ، ويتوهم غيره بأنه قد أمر بقطع لسانه على الحقيقة؟!

ثانيا : إذا كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يرى : أن أبا بكر لم يستطع أن يميز بين ما هو أفصح من القول ، وهو ما اختاره النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في التعبير عن مقاصده ، فهل يأمن عليه أن يخطئ في فهم قوله : «اقطع عني لسانه» ، فيبادر إلى قطع لسانه على الحقيقة؟!

ثالثا : إن وحدة الحال التي كانت قائمة بين أبي بكر وبين عمر بن الخطاب لربما تدعوه إلى أن يفسح المجال لرفيقه وصديقه عمر بن الخطاب لكي يبادر إلى قطع لسان الرجل بشفرته التي أهوى إليها ليسلها من وسطه .. ولسوف لن ينفع الأسف والندم بعد ذلك ..

إخافة الناس حرام :

ولا شك في : أنه لا يجوز لأحد أن يخيف أحدا بلا سبب يرضاه الله تعالى ..

فكيف يمكن تفسير إقدام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وعلي أمير المؤمنين «عليه‌السلام» على إخافة عباس بن مرداس. حتى إن كلمة الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كانت أشد عليه من يوم خثعم حين أتوهم في ديارهم؟!

بل إن عليا «عليه‌السلام» قد أمعن في ذلك حين سأله عباس بن

__________________

ـ مؤسسة آل البيت لإحياء التراث) ج ١ ص ٢٣٧ والبحار ج ٢١ ص ١٦٠ و ١٦١ و ١٧٠ و ١٧١ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٦ ص ٤١٣ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٢٨١.

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٢٠ و (ط دار المعرفة) ص ٨٤ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٩٩.

٣١٣

مرداس مرتين عن هذا الأمر ، فأكده له بقوله : إني ممض فيك ما أمرت!!

ونجيب :

أولا : إن المحرّم هو : المبادرة إلى فعل أمر من شأنه أن يخيف الناس ، أما لو فعل الإنسان ما هو حلال له ، فتوهم متوهم ووقع في الخوف ، بسبب قلة تدبره ، أو لأجل أنه سمع الكلام بصورة خاطئة ، أو فسره بطريقة خاطئة ، فلا يدخل هذا في دائرة الحرام ، بل إن على ذلك المتوهم نفسه ، أن يفهم الأمر بصورة صحيحة أو أن يدقق فيما يسمعه ، ويتدبر فيه.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإن عباس بن مرداس لم يحسن فهم الكلام الذي سمعه .. لا استفادة من الضوابط التي تعينه على فهم المقاصد بصورة صحيحة. فهو الذي أوقع نفسه في هذا الخوف بلا مبرر.

ثانيا : إن المطلوب من المتكلم هو : أن يفهم مقاصده لمن يوجه إليه خطابه بالكلام تارة ، وبالإشارة أخرى ، بالطريقة التي يعرف أنه يفهمها ، ولا يقع في الإشتباه فيها ، وربما تكون هناك لغة ، أو رموز ، ومصطلحات خاصة بهما ، لا يعرفها غيرهما ..

ولا يطلب منه أن يفهم الآخرين شيئا من ذلك ، فقد يفهمون منه شيئا ، وقد يعجزون ..

بل قد يكون عدم إفهام من حوله لمقاصده ، وتعمية الأمور عليهم مقصودا له أيضا .. فإن أخطأوا في الفهم ، فهو لا يتحمل أية مسؤولية تجاههم ، لأنه لم يوجه الخطاب إليهم ..

وهذا هو حال عباس بن مرداس ، فإن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يوجه إليه خطابا ، بل وجه الخطاب لعلي «عليه‌السلام».

٣١٤

ولأجل ذلك نلاحظ : أنه لما سأل عباس بن مرداس عليا «عليه‌السلام» : إن كان سينفذ أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟ أجابه «عليه‌السلام» بالإيجاب ، ولم يزد على ذلك.

وقد كان جوابه دقيقا ، لا يتضمن تخويفا ولا تطمينا أيضا .. لكي تحصل المفاجأة لابن مرداس ، وينقلب الخوف والغم والهم سعادة وفرحا وابتهاجا ، وشعورا بالإمتنان لله ولرسوله ..

مشورة علي عليه‌السلام على ابن مرداس :

وتأتي نصيحة أمير المؤمنين «عليه‌السلام» لابن مرداس لتكون إسهاما في تكامل هذا الرجل روحيا ، وتعميق شعوره بالكرامة وبالقيمة الإنسانية ، وليصبح معيار الربح والخسارة عنده ليس هو الحصول على الأموال ، والمناصب ، بل هو الحصول على الميزات الروحية والإيمانية ، والسابقة في الدين ، والتحلي بالشيم والميزات الإنسانية.

وقد رسمت مشورة علي «عليه‌السلام» لابن مرداس حدودا أظهرت له : أن ثمة نوعان من الناس ، هم :

أهل الهجرة والسابقة ، والجهاد ، والتضحية بالمال ، والنفس ، والولد ، والتخلي عن الأوطان ، وعن الأهل والعشيرة من أجل دينهم ، وحفظ إيمانهم.

ويقابلهم : أهل الطمع وطلاب الدنيا ، الذين يقيسون الأمور بالأرقام والأعداد.

وقد جاء رسم هذه الحدود له في نفس اللحظة التي انفتحت فيها بصيرته على معنى القيمة ، حين ساقته تحولات الأمور معه إلى أن يلهج بالقول :

٣١٥

«بأبي أنتم وأمي ، ما أكرمكم ، وأحلمكم ، وأعلمكم ..»!!

فوجد نفسه أمام كرم لا يضاهى ، وتجلى بهذا العطاء الجليل ..

وأمام حلم لا يجارى ، حيث اعترض على من دانت له العرب ، ولم تقصر همته عن مناهضة العجم ، ولم يجد إلا الخلق الرضى ، وإلا السماح ، والسماحة ، والحلم والنبل ، وكمال الرصانة والعقل ، والعفو ، والعدل ..

فقد استدعاه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وسأله سؤالا واحدا ، ولم ينتظر منه جوابا ، بل بادر إلى اتخاذ القرار الحاسم بحقه.

ولكنه لم يكن قرار ملك أو جبار ، بل كان قرار الرحمة والرضا ، والكرم ، والحلم.

ووجد نفسه كذلك أمام علم لا يوصف ، اضطره إلى البخوع والتسليم ، وطلب المشورة من علي «عليه‌السلام» بالذات ، فجاءته مشورته الصادقة ، فلم يجد حرجا من العمل والإلتزام بها ..

شفرة عمر ، وخلافة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

قد رأينا : أن عمر بن الخطاب قد أخطأ في فهم أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في حق عباس بن مرداس ، ولو فسح له المجال لارتكب جريمة كبرى في حق ذلك الرجل المسكين ، مع أن ما نطق به «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يعدو كونه كلاما عربيا فصيحا واضحا ، ولم يتكلم باللغة الهندية ، ولا السنسكريتية.

وقد بادر عمر إلى سلّ شفرته من وسطه ، رغم أن الأمر لم يوجه إليه ، ولا طلب منه شيء مما يهم بالأقدام عليه .. ولو لا أن النبي «صلى الله عليه

٣١٦

وآله» تدارك الأمر ، وخص عليا «عليه‌السلام» بالتكليف بإنجاز المهمة ، لحلت المصيبة بالرجل ..

واللافت : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في كلامه ، لم يعدّل ولم يقدّم لعلي «عليه‌السلام» أية توضيحات ، بل اكتفى بنفس الكلام الصادر عنه أولا ، فذهب علي «عليه‌السلام» بالرجل ، وأنجز المهمة ، ولم يكن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» معهما ، ليأخذ على يد علي «عليه‌السلام» لو أخطأ في فهم ما طلب منه ..

وهذا يدل على : ثقة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بفهم أمير المؤمنين «عليه‌السلام» لمقاصده ، ومراميه .. رغم ظهور خطأ غيره في فهمها ..

إذن .. فمن أولى بخلافة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من بعده؟!

هل هذا العالم بمقاصد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أم غيره؟!

فإن كان «عليه‌السلام» قد عرف بمراد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من خلال فهمه لمقاصد اللغة ، وضوابطها ، فذلك يحتم استخلافه هو ، دون ذلك الذي يخطئ في فهم لغة العرب ، ولا يعرف مراميها ، وأساليبها ، وضوابطها ..

وإن كان قد عرف ذلك من خلال إسرار الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليه بمقاصده ، ولم يسرّ بذلك إلى غيره ، فمن يكون موضع سر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يكون هو الأولى بخلافته من بعده ..

على أن ثمة أمرا آخر يحسن لفت التنبه إليه ، وهو : أنه إذا كان عمر يخطئ في فهم هذا الكلام العربي المبين ، أو يعجز عن فهمه ، فما بالك بدقائق المعاني القرآنية ، والمفاهيم والحقائق العالية التي بينها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله». مما يحتاج إلى المزيد من التأمل والتدقيق ، والبحث والتحقيق؟!

٣١٧

ونفس هذا الكلام ينسحب على أبي بكر ، الذي لم يستطع التمييز بين الأفصح وغيره ، حتى جاء السهيلي أو غيره ليوضح له الفرق بين كلام ابن مرداس ، وكلام الرسول الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله»!!.

طمع حكيم بن حزام :

عن حكيم بن حزام قال : سألت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بحنين مائة من الإبل ، فأعطانيها.

ثم سألته مائة من الإبل فأعطانيها.

ثم قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : يا حكيم ، إن هذا المال حلوة خضرة ، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه ، وكان كالذي يأكل ولا يشبع ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول.

فقال : والذي بعثك بالحق ، لا أرزأ أحدا بعدك شيئا.

فكان عمر بن الخطاب يدعوه إلى عطائه ، فيأبى أن يأخذه ، فيقول عمر : أيها الناس ، أشهدكم على حكيم بن حزام ، أدعوه إلى عطائه فيأبى أن يأخذه (١).

نعم .. هكذا يتأنقون في صياغة الفضائل للمؤلفة قلوبهم ، حتى من هو مثل حكيم بن حزام ، الرجل الذي لم يف بما وعد به رسول الله «صلى الله

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٩٧ عن البخاري ، ومسلم ، والواقدي ، واللفظ له ، وقال في هامشه : أخرجه البخاري (١٤٧٢). وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ١١٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ١٥ ص ١١٠ وإمتاع الأسماع للمقريزي ج ٩ ص ٢٩٨.

٣١٨

عليه وآله» ، من أنه سوف لا يرزأ أحدا بعده شيئا ، فإنه صار يصادر أرزاق الناس ، ويحتكر جميع الطعام الذي يدخل المدينة ، حتى في عهد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

وقد بلغ الأمر إلى حد : «أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يأذن لحكيم بن حزام في تجارته حتى ضمن له إقالة النادم ، وإنظار المعسر ، وأخذ الحق وافيا وغير واف» (٢).

وكل ذلك يدلك على نضوب العاطفة الإنسانية لدى هذا الرجل ، وعلى الجفاف الروحي ، وانعدام الرحمة في قلبه.

ولكن لا بد من منحه الأوسمة الفخمة ، لأنه كان عثمانيا متصلبا ، وقد

__________________

(١) قاموس الرجال ج ٣ ص ٦٣٠ والكافي ج ٥ ص ١٦٥ ونهاية الإحكام ج ٢ ص ٥١٣ والحدائق الناضرة ج ١٨ ص ٦٦ ومستند الشيعة ج ١٤ ص ٤٦ وكتاب المكاسب للشيخ الأنصاري ج ٤ ص ٣٦٤ وجامع المدارك ج ٣ ص ١٤٠ والتوحيد للشيخ الصدوق ص ٣٨٩ ومن لا يحضره الفقيه ج ٣ ص ٢٦٦ والإستبصار للشيخ الطوسي ج ٣ ص ١١٥ وج ٧ ص ١٦٠ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٧ ص ٤٢٨ و (ط دار الإسلامية) ج ١٢ ص ٣١٦.

(٢) الكافي ج ٥ ص ١٥١ وتهذيب الأحكام ج ٧ ص ٥ والوسائل (ط دار الإسلامية) ج ١٢ ص ٢٨٦ و (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٧ ص ٣٨٦ وجامع أحاديث الشيعة ج ١٨ ص ٤٦ و ٣٠٩ وتذكرة الفقهاء (ط. ج) ج ١٢ ص ١٧٩ و (ط. ق) ج ١ ص ٥٨٦ والحدائق الناضرة ج ١٨ ص ٢٩ وجامع المدارك ج ٣ ص ١٣٣ و ٣٩٦ وموسوعة أحاديث أهل البيت «عليهم‌السلام» ج ٢ ص ١١٤ وفقه القرآن للقطب الراوندي ج ٢ ص ٥٧.

٣١٩

تلكأ عن بيعة علي «عليه‌السلام» (١).

وقد جاء كلام رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لحكيم ، بعد أن ظهر لكل أحد مدى اهتمامه بالمال ، من خلال طلباته المتكررة ، الهادفة للإستئثار لنفسه بمال كان يمكن أن يشاركه فيه الكثيرون من الفقراء والمعدمين.

ومهما يكن من أمر ، فإن هذا الرجل كان من المؤلفة قلوبهم ، وقد أسلم عام الفتح ، وكان له قبل ذلك دور ظاهر في تأييد مسيرة الشرك في مكة .. بصورة عامة.

يعطي صفوان بن أمية فيصير محبا :

عن صفوان قال : ما زال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يعطيني من غنائم حنين ، وهو أبغض الخلق إلي ، حتى ما خلق الله تعالى شيئا هو أحب إلي منه (٢).

وفي صحيح مسلم : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أعطاه مائة من الغنم ، ثم مائة ، ثم مائة (٣).

__________________

(١) قاموس الرجال ج ٣ ص ٦٢٩.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٩٨ وج ١٢ ص ١٤ عن البخاري ، والبداية والنهاية ج ٤ ص ٤١٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦٨٣ ومكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا ص ١١٩ وصحيح ابن حبان ج ١١ ص ١٥٩ وراجع : أحكام القرآن لابن العربي ج ٢ ص ٤٦٥ وتفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٣٧٩ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٥ ص ٤٤٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٤ ص ١١٥ و ١١٦.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٩٨ عن صحيح مسلم ج ٢ ص ٧٣٧.

٣٢٠