الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ

علي موسى الكعبي

الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-10-2
الصفحات: ٢٠٩

وطالمـا عمّروا دوراً لتـحصنهم



ففارقوا الـدور والأهلين وانتقلوا

وطالما كنزوا الأموال وادّخروا



فخلّفوها على الأعداء وارتحـلوا

أضحـت منازلـهم قفراً معطّلـة



وساكنوها إلى الأجداث قد نزلـوا

قال : فأشفق كلّ من حضر على عليّ ، وظن أن بادرة تبدر منه إليه ، قال : والله لقد بكى المتوكل بكاءً طويلاً حتى بلّت دموعه لحيته ، وبكي من حضره ، ثمّ أمر برفع الشراب ، ثم قال له : يا أبا الحسن ، أعليك دين ؟ قال : نعم ، أربعة آلاف دينار ، فأمر بدفعها إليه وردهّ إلى منزله من ساعته مكرماً » (١).

٢ ـ هدم قبر الإمام الحسين عليه‌السلام :

والاجراء التعسفي الآخر الذي أقدم عليه المتوكل ، فسوّد به وجه التاريخ الانساني ، هو أنه أمر في سنة ٢٣٦ ه‍ بهدم قبر الإمام السبط الشهيد الحسين عليه‌السلام ، وقد بعث رجلاً من أصحابه يقال له الديزج ، وكان يهودياً فأسلم ، إلى قبر الحسين عليه‌السلام ، وأمره بكرب القبر ومحوه وإخراب كلّ ما حوله ، فمضى لذلك وخرّب ما حوله ، وهدم البناء ، وكرب ما حوله نحو مائتي جريب ،

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٣٦٧ ـ ٣٦٨ ، وراجع أيضاً : تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي ٣٢٢ ـ مؤسسة أهل البيت ـ بيروت ـ ١٤٠١ ه‍ ، البداية والنهاية ١١ : ١٥ ، وفيات الأعيان / لابن خلكان ٣ : ٢٧٢ ـ منشورات الرضي ـ قم ، الأئمة الاثنا عشر عليهم‌السلام لابن طولون : ١٠٧ ـ منشورات الرضي ـ قم.

٦١

ثم أمر أن يبذر ويزرع ، ووكلّ به مسالح بين كلّ مسلحتين ميل ، فلا يزوره زائر إلا أخذوه ووجّهوا به إليه ، فقُتِل عدد كبير من زواره أو اُنهكوا عقوبة ، ونودي بالناس في تلك الناحية : من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة أيام حبسناه في المطبق (١).

وجاء في بعض الأخبار : « أنه لما صار الماء فوق مكان القبر وقف وافترق فرقتين ، يميناً وشمالاً ، ودار حتى التقى تحت المكان ، وبقي الوسط خالياً من الماء ، والماء مستدير حوله ، فسمّي من ذلك اليوم بالحائر » (٢).

وتألم المسلمون من ذلك وكتب أهل بغداد شتم المتوكل على الحيطان والمساجد ، وهجاه الشعراء ، ومنهم دعبل بن علي الخزاعي ( ت ٢٤٦ ) والبسّامي (٣) الذي يقول :

تالله إن كان اُمية قد أتت

قتل ابن بنت نبيها مظلوما

فلقد أتى بنو أبيه بمثله

هذا لعمري قبرة مهدوما

__________________

(١) راجع : مقاتل الطالبيين : ٣٩٥ ، الكامل في التاريخ ٦ : ١٠٨ ، تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٦ ـ المطبعة الحيدرية ـ النجف ، البداية والنهاية ١٠ : ٣١٥ ، تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٦٨.

(٢) بحار الأنوار ٤٥ : ٤٠٣ ، التتمة في التواريخ الأئمة عليهم‌السلام / للسيد تاج الدين العاملي : ١٣٧.

(٣) هو أبو الحسن ، علي بن محمد بن نصر بن منصور ابن بسّام ، المعروف بالبساّمي ، أو ابن بسّام ، الشاعر المشهور في زمن المقتدر العباسي ، وقد هجا الخلفاء والوزراء ، توفي سنة ٣٠٢ ه‍. سير أعلام النبلاء ١٤ : ١١٢ / ٥٦.

٦٢

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا

في قتله فتتبعوه رميمـا (١)

ولم يكتف المتوكل بالاعتداء على المكان المقدس الذي شهد ملحمة البطولة بين معسكر الحق بقيادة سيد الشهداء عليه‌السلام ومعسكر الباطل بقيادة يزيد ابن معاوية ، بل اعتدى على الزمان الذي بقي رمزاً يختزن الشجاعة والتحدّي للظلم والطغيان على مرّ الدهور ، فجعل المتوكل العاشر من المحرم الحرام سنة ٢٥٦ ه‍ يوماً لافتتاح مدينته التي بناها بالماحوزة ، ونزوله في قصر الخلافة فيها الذي سماه اللؤلؤة ، وكان يوماً مشهوداً يعجّ بأصحاب الملاهي والمطربين ، فاعطى فيه وأطلق ، وقيل : إنّه وهب فيه أكثر من ألفي ألف درهم (٢).

٣ ـ حصار آل أبي طالب وملاحقتهم :

ذكرنا في الفصل الأول أن المتوكل فرض حصاراً ظالماً على آل أبي طالب حتى أن الوالي الذي استعمله على مكة والمدينة ـ وهو عمر بن الفرج الرخّجي ـ قد منعهم من الإتّصال والارتباط بالناس ومنع الناس من البرّ بهم ، وبلغ في هذا الاتجاه مبلغاً لم يبلغه أحد ممن سبقه (٣).

قال أبو الفرج الأصفهاني : كان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب ، غليظاً على جماعتهم ، مهتمّاً بأمورهم ، شديد الغيظ والحقد عليهم وسوء الظن والتهمة لهم ، واتّفق له أن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيره كان يسيء الرأي فيهم ، فحسّن له القبيح في معاملتهم ، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحدٌ من خلفاء بني

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٣٥ ، تاريخ الخلفاء / للسيوطي : ٢٦٩.

(٢) راجع : البداية والنهاية ١٠ : ٣٤٧ ، الكامل في التاريخ ٦ : ١٣٠.

(٣) راجع : مقاتل الطابيين : ٣٦٩.

٦٣

العباس القبله (١).

وتعرض آل أبي طالب بشكل عام والعلويون بشكل خاص لصنوف الأذى والقسوة في زمان المتوكل ، فتفرق رجالهم في النواحي ، واختفى بعض كبارهم ، وتعرض بعضهم للمطاردة والابعاد أو الاعتقال ، أو التصفية الجسدية بدسّ السمّ وهم سجناء ، وأُجْبِرَ آخرون على ارتداء السواد الذي يمثّل شعار الدولة العباسية.

وممن قُتِل في زمان المتوكل القاسم بن عبد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي ، وكان رجلاً فاضلاً ، وقد حمله عمر بن الفرج الرخّجي إلى سرّ من رأى ، فأمروه بلبس السواد فامتنع ، فلم يزالوا به حتى لبس شيئاً يشبه السواد فرضي منه بذلك.

وروى أبو الفرج الأصفهاني عن أحمد بن سعيد ، عن يحيى بن الحسن عن ذوب مولاة زينب بنت عبد الله بن الحسين قالت : « اعتلّ مولاي القاسم بن عبد الله ، فوجّه إليه بطبيب يسأله عن خبره ، وجهه إليه السلطان ، فجسّ يده ، فحين وضع الطبيب يده عليها يبست من غير علّة ، وجعل وجعها يزيد عليه حتّى قتله ، قالت : سمعت أهله يقولون : أنه دسّ إليه السمّ مع الطبيب » (٢).

وتوارى أحمد بن عيسىٰ بن زيد بن علي بن الحسين عليه‌السلام مدةً طويلة حتى توفي سنة ٢٤٧ ه‍ ، وكان فاضلاً عالماً مقدماً في أهله ، معروفاً فضله ، وقد كَتَب الحديث وعمّر ، وكُتِب عنه ، وروى عنه الحسين بن علوان روايات كثيرة ،

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٤٠٦.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤٠٧.

٦٤

وروى عنه محمد بن المنصور الراوي ونظراؤه.

وتوارى أيضاً عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي عليه‌السلام منذُ أيام المأمون ومات في أيام المتوكل (١).

وروى أبو الفرج الاصفهاني بالأسناد عن محمد بن سليمان الزينبي قال : « نُعي عبد الله بن موسى إلى المتوكل صبح أربع عشرة ليلة من يوم مات ، ونُعي له أحمد ابن عيسىٰ فاغتبط بوفاتهما وسُرّ ، وكان يخافهما خوفاً شديداً ، ويحذر حركتهما لما يعلم من فضلهما واستنصار الشيعة الزيدية بهما وطاعتهما لهما لو أرادوا الخروج عليه ، فلما ماتا أمن واطمأنّ ، فما لبث بعدهما إلا اُسبوعاً حتّى قُتِل » (٢).

٤ ـ ملاحقة الشيعة وقتلهم :

أمنعت أجهزة المتوكل بمراقبة شيعة الإمام ومواليه ، فسامهم قتلاً واعتقالاً وافقاراً ، فأمروا ببعضهم أن يُلقى من جبل عالٍ بتهمة موالاة الإمام عليه‌السلام (٣) ، وقطع المتوكل ارزاق بعضهم لملازمة الإمام أبي الحسن الهادي عليه‌السلام (٤) ، وحبس علي بن جعفر ـ وَكيل الإمام الهادي عليه‌السلام وهو من أهل همينيا ـ لمدة طويلة وتحت ظروف قاسية (٥).

وفي كلّ ذلك يتوجه الأصحاب إلى إمامهم عليه‌السلام فيعينهم بالدعاء. عن

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٤٠٨.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤١٧.

(٣) الثاقب في المناقب : ٥٤٣ ، المناقب لابن شهر آشوب ٤ : ٤٤٨.

(٤) المناقب لابن شهر آشوب ٤ : ٤٤٢ ، بحار الأنوار ٥٠ : ١٢٧ / ٥.

(٥) رجال الكشي : ٢ : ٨٦٦ / ١١٢٩ ، بحار الأنوار ٥٠ : ١٨٣ / ٥٨.

٦٥

عبدالله بن سليمان الخلال ، قال : « كتبت إليه عليه‌السلام أسأله الدعاء أن يفرّج الله عنّا في أسباب من قبل السلطان ... إلى أن قال : فرجع الجواب بالدعاء ... » (١).

قتل إمام العربية يعقوب بن السكّيت

روى المؤرخون أنه في سنة ٢٤٤ ه‍ قتل المتوكل يعقوب بن السكيت الإمام في العربية ، فإنّه ندبه إلى تعليم أولاده ، فنظر المتوكل يوماً إلى ولديه المعتز والمؤيد ، فقال لابن السكيت : من أحبّ إليك : هما أو الحسن والحسين ؟ فقال : قنبر خادم علي خير منك ومن ابنيك ، فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتى مات رحمه‌الله وقيل : أمر بسلّ لسانه من قفاه فمات ، وارسل إلى ابنه بديته (٢).

دعاء المظلوم علي الظالم

بقي المتوكل يتوجّس خيفة من نشاط الإمام عليه‌السلام الذي لم تتضح له كامل أبعاده ، ففرض عليه ملازمة داره ومنعه من الركوب إلى أي مكان (٣) ، ومن ثمّ أمر باعتقاله ، فبقي رهن الاعتقال عند علي بن كركر (٤) ، وقبل مقتل المتوكل بأيام أمره أن يترجّل ويمشي بين يديه يوم الفطر ، وكان يوماً قائظاً شديد الحرّ ، فمشى عليه‌السلام مع بني هاشم حتى تفصّد عرقاً ، وكان عليه‌السلام لا يستطيع السير إلا متكأً لمرض ألمّ به ، فما كان من الإمام عليه‌السلام إلا أن يتوجه إلى الله سبحانه بدعاءٍ طويل

__________________

(١) الكامل في المناقب : ٥٤٨ / ٤٩٠.

(٢) الكامل في التاريخ ٦ : ١٣٣ ، تاريخ الخلفاء : ٢٦٩ ، تاريخ ابن الوردي ١ : ٣١٣.

(٣) راجع : الخرائج والجرائح ١ : ٣٩٦ / ٣ ، بحار الأنوار ٥٠ : ١٤٤ / ٢٨.

(٤) راجع : المناقب لابن شهر آشوب ٤ : ٤٣٩ ، الثاقب في المناقب : ٥٣٦ ، إعلام الورى ٢ : ١٢٣.

٦٦

يكشف عمّا يعانيه عليه‌السلام وشيعته من ظلم المتوكل وعدوانه وطغيانه ، وعن إحساسه عليه‌السلام العميق بمعاناة الأمة من الحيرة والضياع والحدود المعطلة والأحكام المهملة وغيرها من مظاهر التردّي.

روى المسعودي « أنه لما كان يوم الفطر في السنة التي قُتل فيها المتوكل ، أمر بني هاشم بالترجّل والمشي بين يديه ، وإنّما أراد بذلك أن يترجّل له أبو الحسن عليه‌السلام ، فترجّل بنو هاشم وترجّل فاتكأ على رجلٍ من مواليه ، فاقبل عليه الهاشميون ، فقالوا له : يا سيدنا ، ما في هذا العالم أحد يستجاب دعاؤه فيكفينا الله ! فقال لهم أبو الحسن عليه‌السلام : في هذا العالم من قلامة ظفره أكرم على الله من ناقة ثمود ، لما عقرت وضج الفصيل إلى الله ، فقال الله : ( تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) (١) ، فقتل المتوكل في اليوم الثالث. وروى أنه عليه‌السلام قال وقد أجهده المشي : أما إنه قد قطع رحمي ، قطع الله أجله » (٢) ، وهذا يوافق ما جاء في التاريخ ، فقد قتل المتوكل في الرابع من شوال سنة ٢٤٧ ه‍.

وجاء الخبر الذي رواه المسعودي مفصلاً في رواية قطب الدين الراوندي ، والسيد ابن طاوس الذي رواه في أكثر من طريق ، وتضمّن الدعاء الطويل الذي سمّاه الإمام عليه‌السلام ( دعاء المظلوم على الظالم ) قال عليه‌السلام : « لمّا بلغ مني الجهد رجعت إلى كنوزٍ نتوارثها من آبائنا ، وهي أعزّ من الحصون والسلاح والجنن ، وهو دعاء المظلوم على الظالم ، فدعوت به عليه فأهلكه الله ».

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ٦٥.

(٢) إثبات الوصية : ٢٤٠.

٦٧

وفيما يلي مقطع منه يعكس لك شدة معاناة الإمام عليه‌السلام : « اللّهم إنّه قد كان في سابق علمك وقضائك ، وماضي حكمك ونافذ مشيئتك في خلقك أجمعين ، سعيدهم وشقيهم ، وفاجرهم وبرّهم ، أن جعلت لفلان بن فلان عليَّ قدرة فظلمني بها ، وبغى عليَّ لمكانها ، وتعزّز عليّ بسلطانه .. ، وتجبّر عليّ بعلوّ حاله .. ، وغرّه إملاؤك له ، وأطغاه حلمك عنه ، فقصدني بمكروهٍ عجزتُ عن الصبر عليه ، وتعمدني بشرّ ضعفت على احتماله ، ولم أقدر على الانتصار لضعفي ، والانتصاف منه لذلّي ، فوكلته إليك ، وتوكّلت في أمره عليك ، وتواعدته بعقوبتك ، وحذرته سطوتك ، وخوفته نقمتك ، فظنّ أن حلمك عنه من ضعف ، وحسب أن إملاءك له من عجز ، ولم تنهه واحدة عن اُخرى ، ولا انزجر عن ثانية باُولى ، ولكنه تمادى في غيّة ، وتتابع في ظلمه ، ولجّ في عدوانه ، واستشرى في طغيانه ، جرأةً عليك يا سيدي ، وتعرضاً لسخطك الذي لا تردّه عن القوم الظالمين ، وقلّة اكتراث ببأسك الذي لا تحبسه عن الباغين.

فها أنا يا سيدي مستضعف في يديه ، مستضام تحت سلطانه ، مستذلّ بعقابه ، مغلوب مبغيّ عليّ ، مقصود وجلٌ خائف مروّع مقهور ، قد قلّ صبري ، وضاقت حيلتي ، وانغلقت عليّ المذاهب إلا إليك ، وانسدّت عليّ الجهات الا جهتك ، والتبست علي اُموري في رفع مكروهه عني ، واشتبهت عليّ الآراء في إزالة ظلمه ، وخذلني من استنصرته من عبادك ، وأسلمني من تعلّقت به من خلقك طرّاً ، واستشرت نصيحي فأشار عليّ بالرغبة إليك ،

٦٨

واسترشدت دليلي فلم يدلّني الا عليك ... » (١).

مقتل المتوكل

لم يلبث المتوكل بعد هذا الدعاء سوى ثلاثة أيام حتى أهلكه الله تعالى وجعله عبرةً لكلّ من طغى وتجبّر ، على يد ابنه المنتصر وخمسة من القادة الترك.

فقد كان المتوكل بايع بولاية العهد لابنه المنتصر ثم المعتز ثم المؤيد ، ثمّ انه أراد تقديم المعتز لمحبته لاُمه قبيحة ، فسأل المنتصر أن ينزل عن العهد فأبى فكان يحضره مجلس العامة ويحطّ من منزلته ويهدده ويشتمه ويتوعده ، واتفق أن انحرف الترك عن المتوكل لاُمور ، فاتفق الأتراك مع المنتصر على قتل أبيه ، فدخل عليه خمسة في جوف الليل وهو سكران ثمل في مجلس لهوه ، فقتلوه هو ووزيره الفتح بن خاقان ، وذلك لاربع خلون من شوال سنة ٢٤٧ ه‍.

وذكر المحدثون والمؤرخون أسباباً أخرى دفعت المنتصر إلى قتل أبيه تدلّ على انتصاره لأهل البيت عليهم‌السلام ، ومنها ما رواه الشيخ الطوسي عن ابن خشيش عن أبي الفضل ، قال : « إن المنتصر سمع أباه يشتم فاطمة عليها‌السلام فسأل رجلاً من الناس عن ذلك ، فقال له : قد وجب عليه القتل ، إلا أنه من قتل أباه لم يطل له عمر. فقال : ما إذا أطعت الله بقتله أن لا يطول لي عمر ، فقتله وعاش بعده سبعة أشهر » (٢).

__________________

(١) مهج الدعوات : ٣٣٠ ـ ٣٣٧ ، بحار الأنوار ٩٥ : ٢٣٤ ـ ٢٤٠ / ٣٠.

(٢) الأمالي : ٣٢٨ / ٦٥٥.

٦٩

وعن ابن الأثير : « أن عبادة المخنّث الذي كان يرقص بين يدي المتوكل والمغنون يغنون : قد أقبل الأصلع البطين ... يحكي بذلك علياً عليه‌السلام ، قد فعل ذلك يوماً والمنتصر حاضر ، فأومأ إلى عبادة يتهدده فسكت خوفاً منه. فقال المتوكل : ما حالك ؟ فقام وأخبره. فقال المنتصر : يا أمير المؤمنين ، إن الذي يحكيه هذا الكلب ويضحك منه الناس هو ابن عمك وشيخ أهل بيتك وبه فخرك ، فكُل أنت لحمه إذا شئت ، ولا تطعم هذا الكلب وأمثاله منه ـ وتلك كلمة حق أمام سلطان جائر ... لكن المتوكل تمادي في طغيانه ـ فقال للمغنين : غنوا جميعاً :

غار الفتى لابن عمه

رأس الفتى في حِرّ أمّه

قال ابن الأثير : فكان هذا من الأسباب التي استحلّ بها المنتصر قتل المتوكل » (١).

وجاء في رواية ابن الأثير : « أن المتوكل شرب في الليلة التي قتل فيها أربعة عشر رطلاً ، وهومستمر في لهوه وسروره إلى الليل بين الندماء والمغنين والجواري » (٢).

وانتهت بمقتل المتوكل صفحة سوادء من تاريخ الظلم والجور ، وكان قتله خزياً في الدنيا ( وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِنَ اللهِ مِن وَاقٍ ) (٣).

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٦ : ١٠٩.

(٢) الكامل في التاريخ ٦ : ١٣٦ ـ ١٤١ ، تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٧١ ، البداية والنهاية ١٠ : ٣٤٩.

(٣) سورة الرعد ١٣ / ٣٤.

٧٠

ثانياً ـ المنتصر ( ٢٤٧ ـ ٢٤٨ ه‍ ) :

هو محمد بن المتوكل بن المعتصم ، بويع له بعد قتل أبيه في شوال سنة ٢٤٧ ه‍ ، واعدّ كتاباً قرأه أحمد بن الخطيب أن الفتح بن خاقان قد قتل المتوكل فقتله به ، فبايعه الناس ، واستمرت خلافته ستة أشهر ويومين ، ولم تشر هذه الفترة القليلة إلى أي بادرة سوء من المنتصر تجاه الإمام عليه‌السلام وشيعته.

على أنه كان المنتصر أولاً لا يخرج عن إطار السياسة العامة التي انتهجها أبوه المتوكل في مواجهة أهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم ، فقد مرّ بك أنه خلع على أبي السمط الشاعر الناصبي لشعر قاله يناوئ فيه أهل البيت عليهم‌السلام ، وربما يكون هذا تقية من أبيه ، وإلا فقد ثبتت توبته ، إذا خالف أباه المتوكل في كلّ شيء فقد خلع أخويه المعتز والمؤيد من ولاية العهد الذي عقده لهما المتوكل بعده (١) ، كما أحسن إلى الطالبيين بشكل عام والعلويين بشكل خاص.

قال ابو الفرج : « كان المنتصر يظهر الميل إلى أهل هذا البيت ، ويخالف أباه في أفعاله ، فلم يجرِ منه على أحد منهم قتل أو حبس ولا مكروه فيما بلغنا ، والله أعلم » (٢).

وقال في موضع آخر ذكر فيه حصار المتوكل للطالبيين ، ثم قال : « إلى أن قُتل المتوكل ، فعطف المنتصر على العلويين ووجه بمال فرّقه فيهم ، وكان يؤثر

__________________

(١) راجع : الكامل في التاريخ ٦ : ١٤٦حوادث سنة ٢٤٨ ، تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٧٧.

(٢) مقاتل الطابيين ٤١٩.

٧١

مخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادة مذهبه طعناً عليه ، ونصرة لفعله » (١).

وذكر المؤرخون كثيراً من إجراءاته المخالفة لأبيه في الموقف من الطالبيين والعلويين : قال ابن الأثير : « أمر الناس بزيارة قبر علي والحسين عليهما‌السلام ، وآمن العلويين وكانوا خائفين أيام أبيه ، وأطلق وقوفهم ، وأمر بردّ فداك إلى ولد الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

وذكر أن المنتصر لمّا ولي الخلافة كان أول ما أحدث أن عزل صالح بن علي عن المدينة ، واستعمل عليها علي بن الحسن (٢) بن إسماعيل بن العباس بن محمد ، قال علي : فلما دخلت أودّعه قال لي : يا علي ، إنّي اُوجّهك إلى لحمي ودمي ، ومدّ ساعده وقال : إلى هذا اُوجّهك ، فانظر كيف تكون للقوم ، وكيف تعاملهم ـ يعني آل أبي طالب ـ فقال : أرجو أن أمتثل أمر أمير المؤمنين إن شاء الله ، فقال : إذن تسعد عندي » (٣).

ومات المنتصر في ربيع الآخر سنة ٢٤٨ لعلّة لم تمهله طويلاً ، وقيل : بل فصده الطبيب بمبضع مسموم فمات منه (٤).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٩٦.

(٢) في تاريخ الطبري ٩ : ٢٥٤ ( الحسين ).

(٣) الكامل في التاريخ ٦ : ١٤٩ حوادث سنة ٢٤٨ ، وراجع أيضاً : تاريخ ابن الوردي ١ : ٣١٥ ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤٢ ـ ٤٤ ، تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٧٦.

(٤) الكامل في التاريخ ٦ : ١٤٨.

٧٢

ثالثاً ـ المستعين ( ٢٤٨ ـ ٢٥٢ ه‍ ) :

وهو أحمد بن المعتصم ، أخو الواثق والمتوكل ، بويع سنة ٢٤٨ ه‍ ، وقتل سنة ٢٥٢ ه‍ ، وكان مستضعفاً في رأيه وعقله وتدبيره ، وكانت أيامه كثيرة الفتن ، ودولته شديده الاضطراب حتى خلع ثمّ قتل (١).

ونتيجة تردي الأحوال الاقتصادية والاجتماعية وضعف سلطة الخلافة في زمان المستعين ، ثار الكثير من العلويين مطالبين برفع الظلم عن كاهل أبناء الاُمة وداعين إلى الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، منهم الشهيد يحيى بن عمر ، والحسن ابن زيد العلوي ، والحسين بن محمد بن حمزة ، ومحمد بن جعفر بن الحسن ، ولم تحدثنا كتب التاريخ والرواية عن أي شيء من الوقائع بين المستعين والإمام الهادي عليه‌السلام لتدنّي سلطة الخلافة في عصره واستلام مقاليد الأمور بيد القادة الأتراك ، غير أنه لا يخرج عن نهج الخلفاء العباسيين في حصار الإمام عليه‌السلام والاساءة إلى شيعته بشكل عام والطالبيين بوجه خاص ، فقد ذكر المسعودي أن محمد بن أحمد بن عيسىٰ بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، حمله سعيد الحاجب من البصرة ، فحبس حتى مات ، وكان معه ابنه علي ، فلمات مات الأب خلي عنه ، وذلك في أيام المستعين ، وجعفر بن إسماعيل بن موسى بن جعفر عليه‌السلام ، قتله ابن الأغلب بأرض المغرب ، والحسن بن يوسف بن إبراهيم بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، قتله العباس بمكة (٢).

__________________

(١) الفخري في الآداب السلطانية : ٢٤١.

(٢) مروج الذهب ٤ : ٤٢٩.

٧٣

مقتل المستعين :

في سنة ٢٥١ ه‍ شغب الأتراك على المستعين بعد قتل باغر التركي ، فهرب المستعين إلى بغداد مع وصيف وبغا الصغير ، ونزل دار محمد بن عبد الله بن طاهر ، فعاث الأتراك بغياً وفساداً في سامراء وأخرجوا المعتز من سجن الجوسق وبايعوه بالخلافة ، وصارت بغداد مسرحاً للاقتتال والخراب بين جيش المعتز ومؤيدي المستعين ، حتى انتهى القتال بخلع المستعين لنفسه من الخلافة سنة ٢٥٢ ه‍ ، وكان نتيجة ذلك القتال أن خربت الدور والحوانيت والبساتين ، ونهبت الأسواق والأموال وتردت الأحوال الاقتصادية والاجتماعية بشكل لم يسبق له مثيل على ما بيناه في الفصل الأول.

ثمّ إن المعتز سيّر المستعين إلى واسط ، فاقام بها نحو تسعة أشهر محبوساً موكلاً به أمين ، ثمّ أرسل المعتز إلى أحمد بن طولون أن يذهب إلى المستعين فيقتله فأبى ، فندب له سعيد بن صالح الحاجب فحمله إلى سامراء فذبحه وحمل إليه برأسه ، فأمر لسعيد بخمسين ألف درهم وولاه معونة البصرة (١).

رابعاً ـ المعتز (٢٥٢ ـ ٢٥٥ ه‍ )

وهو الزبير أو محمد بن المتوكل بن المعتصم ، بويع له عند خلع المستعين سنة ٢٥٢ ه‍ ، وله عشرون سنة أو دونها (٢).

__________________

(١) راجع : مروج الذهب ٤ : ٤١٧ ، الكامل في التاريخ ٦ : ١٨٥ ، البداية والنهاية ١١ : ١١ ، تاريخ ابن الوردي ١ : ٣١٦.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٥٣٢.

٧٤

١ ـ مواقفه من الطالبيين :

وتعرض الطالبيون في زمان المعتز إلى القتل والمطاردة والحبس والترحيل ، فقد حُمِل في أيامه من الري علي بن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد ، ومات في حبسه (١).

وفي السنة التي بويع له فيها حمل جماعة من الطالبيين إلى سامراء ، منهم : أبو أحمد محمد بن جعفر بن الحسن بن جعفر بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، وأبو هاشم داود بن القاسم الجعفري (٢).

وفي أيامه أيضاً قتل عبد الرحمن خليفة أبي الساج أحمد بن عبد الله بن موسى بن محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن علي عليه‌السلام.

وتوفي في الحبس عيسىٰ بن إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي ابن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، كان أبو الساج حمله فحبس بالكوفة فمات هناك.

وقتل بالري جعفر بن محمد بن جعفر بن الحسين بن علي بن عمر بن علي بن الحسين ، في وقعة كانت بين أحمد بن عيسىٰ بن علي بن الحسين بن علي بن الحسين عليه‌السلام وبين عبد الله بن عزيز عامل محمد بن طاهر بالري.

وقُتِل إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن عبد الله بن العباس بن علي ، قتله طاهر بن عبد الله في وقعة كانت بينه وبين الكوكبي بقزوين. وحبس أحمد ابن محمد بن يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي في دار مروان ، حبسه

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٤٢٩.

(٢) الكامل في التاريخ ٦ : ١٨٧.

٧٥

الحارث بن أسد عامل أبي الساج في المدينة فمات في محبسه (١).

٢ ـ شهادة الإمام الهادي عليه‌السلام في زمان المعتز :

في يوم الاثنين الثالث من رجب سنة ٢٥٤ ه‍ (٢) توفي الإمام الهادي عليه‌السلام ، واكتظّ الناس في موكب التشييع ، وصلى عليه ابنه الإمام أبو محمد الحسن العسكري عليه‌السلام (٣) ، وروي أنه عليه‌السلام خرج في جنازته مشقوق القميص ، فقيل له في ذلك ، فقال : « قد شقّ موسى على هارون » (٤).

وعن اليعقوبي : أنه تمت الصلاة على جنازته الشريفة في الشارع المعروف بشارع أبي أحمد ، فلما كثر الناس واجتمعوا ، كثر بكاؤهم وضجتهم ، فرُدّ النعش إلى داره فدفن فيها (٥).

ونقل كثير من المؤرخين والمحدثين أنّ الإمام الهادي عليه‌السلام توفي مسموماً ،

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٤٣٣.

(٢) وقيل : لثلاث أو أربع أوخميس بقين من جمادي الآخرة سنة ٢٥٤ ، راجع : الكافي ١ : ٤٩٧. باب مولد أبي الحسن علي بن محمد عليه‌السلام من كتاب الحجة ، دلائل الإمامة : ٤٠٩ ، تاج المواليد / الطبرسي : ١٣٢ ـ ضمن مجموعة نفيسة ـ مكتبة السيد المرعشي ـ قم ، المناقب لابن شهر آشوب ٤ : ٤٣٣ ، الكشف الغمة ٣ : ١٦٥ و ١٧٤ ، البداية والنهاية ١١ : ١٤ ـ ١٥ ، الفصول المهمة ٢ : ١٠٧٤ ، إعلام الورى ٢ : ١٠٩ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٣.

(٣) الكافي ١ : ٣٢٦ / ٣ ـ باب الاشارة والنص على أبي محمد عليه‌السلام من كتاب الحجة ، الإرشاد ٢ : ٣١٥ ، إعلام الورى ٢ : ١٣٣.

(٤) رجال الكشي ، بشرح الداماد : ٨٤٢ ـ ٨٤٣ ، المناقب / ابن شهر آشوب ٤ : ٤٦٧ ، وسائل الشيعة ٣ : ٢٧٤ / ٣٦٣٤ ـ ٣٦٣٦.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٣.

٧٦

منهم : المسعودي ، وسبط ابن الجوزي ، والشبلنجي ، وابن الصباغ المالكي ، والشيخ أبو جعفر الطبري (١) ، وصرح الشيخ الكفعمي بأن الذي سمّه هو المعتز (٢) ، ونقل عن ابن بابوية أنّ الذي سمه هو المعتمد العباسي (٣) ، فإمّا أن يكون مصحفاً ، أو أن المعتمد هو الذي دسّ السمّ بايعازٍ من المعتز ، لأن المعتمد بويع بالملك في النصف من رجب سنة ٢٥٦ ه‍ بعد قتل المهتدي.

وليس بعيداً عن مثل المعتز اقتراف مثل هذه الجريمة النكراء ، لأنه كان شاباً متهوّراً لم يتحرج عن القتل ، ففي سنة ٢٥٢ ه‍ خلع أخاه المؤيد من ولاية العهد وعذّبه بضربه أربعين مقرعة ثم حبسه ودبّر قتله في السجن بعد ذلك بخمسة عشر يوماً ، كما حبس أخاه أبا أحمد بن المتوكل سنة ٢٥٣ ه‍ ونفاه إلى واسط ثم إلى البصرة ثم ردّه إلى بغداد (٤) ، ومرّ بك أنه أمر سعيد الحاجب بقتل ابن عمه المستعين فقتله وأتاه برأسه. فهكذا كانت أفعاله مع إخوته وأبناء عمومته ، أما مع الطالبيين ، فكانت أشد وأقسى ، وقد قدّمنا نماذج منها.

٣ ـ ما فعله المعتز بالإمام الحسن العسكري عليه‌السلام :

كانت سيرة المعتز مع الإمام العسكري عليه‌السلام كسيرة أسلافه من ملوك بني العباس مع أهل البيت عليهم‌السلام ، ومما يلحظ على تلك السيرة أن المعتز قد وضع

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٤٢٣ ، تذكرة الخواص : ٣٢٤ ، نور الأبصار / الشبلنجي : ٣٣٧ ـ دار الجيل ـ بيروت ، الفصول المهمة ٢ / ١٠٧٦ ، دلائل الإمامة : ٤٠٩.

(٢) بحار الأنوار ٥٠ : ١١٧ عن مصباح الكفعمي.

(٣) المناقب لابن شهر آشوب ٤ : ٤٣٣ ، عن ابن باوية.

(٤) الكامل في التاريخ ٦ : ١٨٥ و ١٩٢ ، تاريخ الخلفاء / للسيوطي : ٢٧٩ ، البداية والنهاية ١١ : ١١ و ١٢.

٧٧

الإمام العسكري عليه‌السلام تحت الرقابة الشديدة ، ولم يعد بإمكانه الاتصال بأصحابه إلا في ظروف خاصة ، وتعرض الإمام عليه‌السلام للاعتقال في زمانه وضيق عليه في السجن ، وكان عليه‌السلام لا يتكلم ولا يتشاغل بغير العبادة ، فيصوم النهار ويقوم الليل.

وأُودِع عليه‌السلام في سجن صالح بن وصيف (١) ، وكان العباسيون يوصونه بالتضييق عليه ، ويدسّون العيون في داخل السجن مع أصحابه.

عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن موسى ، قال : « دخل العباسيون على صالح بن وصيف عندما حُبِس أبو محمد عليه‌السلام ، فقالوا له : ضيق عليه ولا توسّع ، فقال لهم صالح : ما أصنع به وقد وكلت به رجلين شرّ من قدرت عليه ، فقد صاروا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم ، ثم أمر باحضار الموكلين فقال لهما : ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل ؟ فقالا له : ما نقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كله ، ولا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة ، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا ، فلما سمع ذلك العباسيون انصرفوا خاسئين » (٢).

وعن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري ، قال : « كنت في الحبس المعروف بحبس صالح بن وصيف الأحمر أنا والحسن بن محمد العقيقي ، ومحمد بن إبراهيم.

__________________

(١) كان رئيس الامراء الترك في زمان المعتز والمهتدي ، وقتل في خلافة المعتدي سنة ٢٥٦ ه‍ ، راجع الكامل في التاريخ ٦ : ٢١٤.

(٢) الكافي ١ : ٥١٢ / ٢٣ ـ باب مولد أبي محمد الحسن العسكري عليه‌السلام من كتاب الحجة ، الإرشاد ٢ : ٣٣٤.

٧٨

العمري وفلان وفلان ، إذ ورد علينا أبو محمد الحسن عليه‌السلام وأخوه جعفر ، فخففنا له ، وكان المتولي لحبسه صالح بن وصيف ، وكان معنا في الحبس رجل جمحي يقول إنّه علوي ، قال : فالتفت أبو محمد عليه‌السلام وقال : لولا أن فيكم من ليس منكم لأعلمتكم متى يفرّج عنكم ، وأومأ إلى الجمحي أن يخرج فخرج.

فقال أبو محمد عليه‌السلام : هذا الرجل ليس منكم فاحذروه ، فإنّ في ثيابه قصّة قد كتبها إلى السلطان يخبره بما تقولون فيه ، فقام بعضهم ففتش ثيابه ، فوجد فيها القصة ، يذكرنا فيها بكلّ عظيمة ، ويعلمه أنا نريد أن ننقب الحبس ونهرب ... » (١).

وحاول المعتز الفتك بالإمام عليه‌السلام على يد سعيد بن صالح الحاجب الذي قتل المستعين بعد أن حمله إلى سامراء فتناهت أنباء تلك المحاولة إلى أسماع الشيعة ، فكتب بعضهم إلى الإمام عليه‌السلام يتساءل عن ذلك ، فطمأنه بالمصير الذي ينتظر المعتز قبل أن ينفذ عزمه.

عن محمد بن بلبل قال : « تقدم المعتز إلى سعيد الحاجب أن أخرج أبا محمد إلى الكوفة ، ثمّ اضرب عنقه في الطريق ، فجاء توقيعه عليه‌السلام إلينا : الذي سمعتموه تكفونه ، فخلع المعتز بعد ثلاث وقُتِل » (٢).

وعن المعلى بن محمد ، قال : أخبرني محمد بن عبد الله ، قال : « لما اُمر سعيد الحاجب بحمل أبي محمد عليه‌السلام إلى الكوفة ، كتب أبو الهيثم بن سيابة إليه : جعلت

__________________

(١) الثاقب في المناقب : ٥٧٧ / ٥٢٦ ، الخرائج والجرائح ٢ : ٦٨٢ / ١ و ٢ ، نور الأبصار : ١٨٣ ، المناقب لابن شهر آشوب ٤ : ٤٧٠ ، إعلام الورى ٢ : ١٤١.

(٢) المناقب لابن شهرآشوب ٤ : ٤٦٤.

٧٩

فداك ، بلغنا خبر أقلقنا وبلغ منا كلّ مبلغ ؟ فكتب عليه‌السلام : بعد ثلاث يأتيكم الفرج. فقتل الزبير ـ أي المعتز ـ يوم الثالث » (١).

وكان الإمام عليه‌السلام قد توجه إلى الله تعالى بالدعاء عليه ، فقد روي عن محمد ابن علي الصيمري أنه قال : « دخلت على أبي أحمد عبيد الله بن عبد الله وبين يديه رقعة أبي محمد عليه‌السلام فيها : إنّي نازلت الله في هذا الطاغي ـ يعني الزبير ـ وهو آخذه بعد ثلاث. فلما كان في اليوم الثالث فعل به ما فعل » (٢).

خلع المعتز وقتله :

كان خلع المعتز في رجب سنة ٢٥٥ ه‍ ، وكان سبب خلعه أن الجند وعلى رأسهم القادة الترك اجتمعوا فطلبوا منه أرزاقهم ، فلم يكن عنده ما يعطيهم ، فسأل من اُمه أن تقرضه مالاً يدفعهم عنه به ، فلم تعطه واظهرت أنه لا شيء عندها ، فاجتمع الأتراك على خلعه وقتله ، فدخل إليه بعض الأمراء فتناولوه بالدبابيس يضربونه ، وجرّوا برجله وأخرجوه وعليه قميص مخرّق ملطخ بالدم ، فأوقفوه في وسط دار الخلافة في حرّ شديد حتى جعل يراوح بين رجليه من شدّة الحرّ ، وجعل بعضهم يلطمه وهو يبكي ويقول له الضارب : اخلعها والناس مجتمعون. ثمّ ادخلوه حجرة مضيقاً عليه فيها ، وما زالوا عليه بأنواع العذاب حتى خلع نفسه من الخلافة وولي بعده المهتدي بالله ، ثمّ سلموه إلى من يسومه سوء العذاب بأنواع المثلات ، ومنع من الطعام والشراب ثلاثة أيام حتى

__________________

(١) الغيبة للطوسي : ٢٠٨ / ١٧٧ ، الخرائح والجرائح ١ : ٤٥١ / ٣٦ ، مهج الدعوات : ٢٧٤ ، دلائل الإمامة : ٤٢٧ / ٣٩١ ، الثاقب في المناقب : ٥٧٦ / ٥٢٣.

(٢) كشف الغمة ٣ : ٢٩٥ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٢٩٧ / ٧٢.

٨٠