الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ

علي موسى الكعبي

الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-10-2
الصفحات: ٢٠٩

ورد في رواية داود بن الأسود (١).

وبالمقابل كان أصحابه يتفانون لأجل اللقاء به ، فإذا حظي أحدهم بذلك ، لم تطب نفسه ان يفوته حديثه ولو أضناه العطش ، روى ابن شهر آشوب عن أبي العباس محمد بن القاسم ، قال : « عطشت عند أبي محمد عليه‌السلام ، ولم تطب نفسي أن يفوتني حديثه ، وصبرت على العطش وهو يتحدّث ، فقطع الكلام وقال : يا غلام أسق أبا العباس ماءً » (٢).

وكانوا يدقّقون في معرفة خطّه عليه‌السلام لتفادي حالة الوضع والتزوير ، فيطلبون منه عليه‌السلام أن يكتب لهم نموذجاً من خطّه ، ومنهم أحمد بن إسحاق الأشعري القمي ، وكان من خاصته وثقاته ، ومُوفَد القميين إلى الإمام عليه‌السلام ، قال : « دخلت على أبي محمد عليه‌السلام فسألته أن يكتب لأنظر إلى خطّه فأعرفه إذا ورد ، فقال : نعم ، ثم قال : يا أحمد ، إنّ الخطّ سيختلف عليك ما بين القلم الغليظ والقلم الدقيق فلا تشكنّ ، ثمّ دعا بالدواة ... » (٣).

وكانوا يدفعون كتبهم وما يجب عليهم من الأموال إلى الوكلاء الذين يغطّون على عملهم بمختلف الوسائل ، فكان أبوعمرو عثمان بن سعيد العمري يجعلها في جراب السمن وزقاقه ويحملها إلى الإمام العسكري عليه‌السلام تقيةً وخوفاً ، وقد قيل له السمّان لأنه كان يتجر في السمن تغطيه على هذا الأمر (٤).

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٤٦٠.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٤٧٢.

(٣) مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٤٦٦.

(٤) راجع : غيبة الشيخ الطوسي : ٣٥٤.

١٨١

وكان بعضهم يكاتب الإمام عليه‌السلام عن طريق الخدم ، فقد كتب جعفر بن محمد القلانسي كتاباً إلى الإمام العسكري عليه‌السلام يسأله عن مسائل كثيرة ، ودفعه مع محمد بن عبد الجبار الخادم ليوصله إليه عليه‌السلام ... (١).

ومارس الإمام عليه‌السلام دور التربية والتوجيه والاعداد لخاصة أصحابه وقاعدته المؤمنة بمرجعيته الفكرية والروحية ، لتحصينهم من الانحراف العقائدي والفكري ، وتسليحهم بالفقه والمعرفة ، ونظرة واحدة إلى رسائله ووصاياه التي قدمناه بعضها ، تعتبر خير دليل على متابعة الإمام عليه‌السلام لأصحابه وإشرافه على مختلف شؤونهم.

وكان من نتائج ذلك الاشراف والتواصل بين الإمام عليه‌السلام وقاعدته أن اكتملت في عصره عليه‌السلام معالم مدرسة الفقهاء الرواة الذين كانوا يعيشون في أوساط الناس ، وينقلون إليهم الأحكام والسنن والعقائد ، واستوفت تلك المدرسة كلّ متطلبات المدرسة العلمية من حيث المنهج والمصدر والمادة ، ومهّدت بذلك لعهد الغيبة الصغرى حيث انبثقت عنها مدرسة الفقهاء المحدثين (٢).

ولغرض الاطلاع على سعة تلك المدرسة وامتداد مرجعية الإمام العسكري عليه‌السلام ومكانته العلمية ودوره في التشريع ، نذكر بعض أقطاب تلك المدرسة الثقات والمؤلفين وكما يلي :

__________________

(١) كشف الغمة ٣ : ٢٩٦ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٢٩٨.

(٢) راجع : تاريخ التشريع الاسلامي / د. عبد الهادي الفضلي : ١٩٤ وما بعدها ـ الكتاب الاسلامي ـ ١٤١٤ ه‍.

١٨٢

١ ـ الثقات من أصحابه عليه‌السلام

استطاعت شريحة واسعة من عشّاق مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام التواصل مع الإمام العسكري عليه‌السلام بشتى الوسائل ، فتحمّلوا الرواية عنه ، وبلغوا الفتاوى والأحكام الصادرة عنه ، وأسهموا في نشر مبادئ تلك المدرسة.

وبلغ عدد الرواة عن الإمام أبي محمد العسكري عليه‌السلام (١٠٣) كما في رجال الشيخ الطوسي (١) ، وإذا ضممنا إليهم ما ورد في رجال البرقي ومناقب ابن شهر آشوب ومسند الإمام العسكري ، وما وقعوا في إسناد الأخبار والتواقيع والمكاتبات ، يكون العدد (٢١٦) من عير تكرار ، وهو عدد كبير يدلّ على سعة الدور العلمي البارز الذي اضطلع به أصحاب الإمام العسكري مع قسوة الظروف المحيطة بعملهم ، ويدلّ على سموّ المقام المعرفي والمكانة العلمية التي يمثلها الإمام العسكري عليه‌السلام ، لأنّ الرواة كانوا يمثلون أساتذة المجتمع أنذاك وليسوا مجرد أشخاص يسألون ويروون.

ومن الطبيعي أن هذا العدد من الرواة ، لم يكونوا على نمط واحد في العلم والمعرفة والثقة ، بل هم درجات متفاوتة ، وفما يلي نقتصر على ذكر الثقات منهم ، وهم : إبراهيم بن أبي حفص الكاتب ، إبراهيم بن عبدة النيسابوري ، أحمد بن إدريس القمي ، أحمد بن إسحاق بن عبد الله الأشعري ، أحمد بن الحسن ابن علي بن فضال ، إسحاق بن إسماعيل النيسابوري ، إسحاق بن الربيع الكوفي ، الحسن بن ظريف ، الحسن بن علي بن النعمان ، الحسين بن اشكيب المروزي ، الحسين بن مالك القمي ، حمدان بن سليمان النيسابوري ، داود بن أبي زيد

__________________

(١) راجع : رجال الشيخ : ٣٩٥ ـ ٤٠٣.

١٨٣

النيسابوري ، داود بن القاسم الجعفري ، الريان بن الصلت ، السندي بن الربيع ، علي بن جعفر وكيله عليه‌السلام ، عبد الله بن جعفر الحميري ، عبد الله بن محمد بن خالد الطيالسي ، عثمان بن سعيد العمري وكيله عليه‌السلام ، علي بن بلال ، الفضل بن شاذان النيسابوري ، محمد بن أحمد بن جعفر القمي ، محمد بن بلال ، محمد بن الحسن الصفار ، محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، محمد بن الريان بن الصلت ، محمد بن أبي الصهبان ، محمد بن عثمان العمري ، محمد بن علي بن بلال ، محمد بن علي بن محبوب الأشعري القمي ، محمد بن عيسىٰ بن عبيد اليقطيني ، هارون بن مسلم ابن سعدان ...

هؤلاء هم الذين ورد فيهم التوثيق من علماء الرجال ، ولو أردنا أن نذكر كلّ من ورد فيه مدح من أصحاب الإمام العسكري عليه‌السلام لطال بنا المقام.

٢ ـ المؤلفون من أصحابه عليه‌السلام

ومن بين الرواة من أصحابه عليه‌السلام من اشتغل بالتصنيف في مجال الأحكام والسنن والعقائد وغيرها ، وقد صارت كتبهم منذ ذلك الوقت مصادر يُستقى منها العلم ، ومناهل تؤخذ منها المعرفة ، واُصولاً لمجاميع الحديث التالية لها ، ولا يزال بعضها متداولاً إلى اليوم كبصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار.

وفيما يلي نذكر أسماء المؤلفين من أصحاب الإمام العسكري ، ومن أراد التوسّع في معرفة مؤلفاتهم فليرجع إلى كتب الرجال ، وهم : أبو إسحاق إبراهيم ابن أبي حفص الكاتب ، إبراهم بن مهزيار الأهوازي ، أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الكاتب النديم ، أحمد بن إدريس القمي ، أحمد بن إسحاق بن عبد الله الأشعري ، أحمد بن الحسن بن علي بن فضال ، أحمد بن محمد بن سيار السياري ،

١٨٤

أيوب بن نوح بن دراج النخعي ، الحسن بن ظريف ، الحسن بن علي بن النعمان ، الحسن بن موسى الخشاب ، الحسين بن اشكيب المروزي ، داود بن أبي زيد النيسابوري ، داود بن القاسم الجعفري ، رجاء بن يحيى بن سامان العبرتائي ، سعد بن عبد الله الأشعري القمي ، أبو سعيد سهل بن زياد الآدمي ، أبو يحيى سهيل بن زياد الواسطي ، صالح بن أبي حماد الرازي ، عبد الله بن جعفر الحميري ، عبد الله بن محمد بن خالد الطيالسي الكوفي ، عبد العظيم بن عبد الله الحسني ، علي بن بلال ، علي بن الحسن بن فضال الكوفي ، علي بن الريان بن الصلت الأشعري القمي ، الفضل بن شاذان ، محمد بن الحسن بن شمّون ، محمد بن الحسن بن فروخ الصفار ، محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، محمد بن عبد الحميد ابن سالم العطار ، محمد بن علي بن عيسىٰ الأشعري القمي ، محمد بن علي بن محبوب ، محمد بن عيسىٰ بن عبيد اليقطيني ، موسى بن جعفر البغدادي ، هارون ابن مسلم بن سعدان الكاتب.

رابعاً : تصحيح اُصول الحديث

وقف الإمام العسكري عليه‌السلام على بعض الأصول الحديثية التي عرضت عليه ، فنظر فيها وتصفّحها ، أو قرئت عليه ، فقال فيها كلمته ، ومنها كتاب يوم وليلة ليونس بن عبد الرحمن ، وكتاب الفضل بن شاذان.

روى النجاشي بالاسناد عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري ، قال : « عرضت على أبي محمد صاحب العسكر عليه‌السلام كتاب يوم وليلة ليونس ، فقال لي : تصنيف من هذا ؟ فقلت : تصنيف يونس مولى آل يقطين. فقال : أعطاه الله

١٨٥

بكل حرف نوراً يوم القيامة » (١). وفي هذا الكلام ما لا يخفى من الحثّ على سلامة التصنيف في الحديث.

وعن بورق البوشنجاني ، وكان معروفاً بالصدق والصلاح والورع والخير ، قال : « خرجت إلى سرّ من رأى ، ومعي كتاب يوم وليلة ، فدخلت على أبي محمد عليه‌السلام وأريته ذلك الكتاب ، فقلت له : جعلت فداك ، إن رأيت أن تنظر فيه ، فلما نظر فيه وتصفحه ورقة ورقة ، قال : هذا صحيح ينبغي أن يُعمَل به » (٢).

وذكر الكشي أن الفضل بن شاذان عرض كتابه على الإمام العسكري عليه‌السلام ، فتناوله منه ونظر فيه ، فترحّم عليه وقال : « أغبط أهل خراسان لمكان الفضل ابن شاذان ، وكونه بين أظهرهم » (٣).

وعن الحسين بن روح رضي‌الله‌عنه : أن أبا محمد الحسن بن علي صلوات الله عليهما ، قد سئل عن كتب بني فضّال : فقالوا : كيف نعمل بكتبهم وبيوتنا منها ملأىٰ ؟ فقال صلوات الله عليه : « خذوا بما رووا ، وذروا ما رأوا » (٤).

المبحث الثالث : هداية الخلق إلى الخالق

وهذا عطاء فكري آخر ، لكنّه يدخل في إطار التأثّر بالسيرة العملية للإمام العسكري عليه‌السلام ، المتمثلة بسموّ الاخلاق وحسن السمت والهدي والصلاح ، ممّا له الأثر في هداية واستبصار المترددين والمخالفين ، وإخراجهم من ظلمات الجهل

__________________

(١) رجال النجاشي : ٤٤٧ / ١٢٠٨ ترجمة يونس بن عبد الرحمن.

(٢) رجال الكشي ٢ : ٨١٧ / ١٠٢٣ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٠ / ٣٣٣٢١.

(٣) رجال الكشي ٢ : ٨٢٠ / ١٠٢٧ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠١ / ٣٣٣٢٢.

(٤) غيبة الشيخ الطوسي : ٣٩٠ / ٣٥٥.

١٨٦

والضلال إلى نور العلم وصراط الهداية. فقد جاء في الأخبار أن أبا العلاء صاعد ابن مَخْلَد النصراني (١) ، وزير المعتمد ، أسلم على يد الإمام العسكري عليه‌السلام بعد أن رأى دلالاته وهديه ومكارمه (٢).

كما أسلم على يده راهب دير العاقول ، فقد ورد أنّ الإمام العسكري عليه‌السلام أراد مرةً أن يفتصد ، فبعث إلى بختيشوع الطبيب طالباً أن يرسل إليه أخصّ أصحابه عنده ليفصده ، فبعث إليه أعلم تلامذته ، وقال له : « قد طلب مني ابن الرضا من يفصده ، فصر إليه وهو أعلم في يومنا هذا بمن هو تحت السماء ، فاحذر أن لا تعترض عليه فيما يأمرك به » فوصف له الإمام عليه‌السلام طريقة في الفصد لم يألفها في الطب ، ففصده وقدّم له تخت ثياب وخمسين ديناراً ، وقال عليه‌السلام : « خذ هذا واعذرنا وانصرف » فتحيّر الطالب واستاذه بختيشوع في معرفة ما وصفه الإمام عليه‌السلام في الفصد ، فبعث بخيتشوع تلميذه ومعه كتاب إلى راهب دير العاقول ، وكان أعلم النصارى في الطب ، في ذلك الوقت ، فلما قرأ الكتاب طلب منه أن يوافي معه إلى سامراء ، فوصلوا إلى دار الإمام عليه‌السلام وقد بقي من اليل ثلثه ، ومكث عنده عليه‌السلام إلى الصباح ، ثم خرج الراهب وقد رمى بثياب الرهبانية ، ولبس ثياباً بيضاً وقد أسلم ، فقال : « خذ بي الآن إلى دار اُستاذك ، قال : فصرنا إلى دار بختيشوع ، فلما رآه بادر يعدو إليه ، ثم قال : ما الذي أزالك عن دينك ؟

__________________

(١) قال الذهبي في ترجمته : الوزير الكبير ، أبو العلاء الكاتب ، أسلم ، وكتب للموفق ، ثم وزر للمعتمد ، وهو من نصارى كسكر ، وله صدقات وبرّ وقيام ليل ، توفي سنة ٢٧٦ ه‍. سير أعلام النبلاء ١٣ : ٣٢٦ / ١٤٩.

(٢) بحار الأنوار ٥٠ : ٢٨١ / ٥٧ عن فرج المهموم لابن طاوس.

١٨٧

قال : وجدت المسيح فاسلمت على يده. قال : وجدت المسيح ؟! قال : أو نظيره ، فإنّ هذه الفصدة لم يفعلها في العالم إلا المسيح ، وهذا نظيره في آياته وبراهينه ، ثم انصرف إليه ولزم خدمته إلى أن مات » (١).

وذكرنا في الفصل الثاني أن الإمام العسكري عليه‌السلام حبس أكثر من مرّة ، ونقلت لنا الأخبار كيف كان تأثيره في محيط السجن بحيث انقلب المتصدّون لسجنه من بغضه والحقد عليه إلى حبّه والإخلاص له ، ذلك لأن الانسان في السجن يعيش حالة نفسية صعبة ، لكنهم وجدوه عليه‌السلام في أعلى درجات الارتباط بالله سبحانه وفي أعمق مواقع الاخلاص له تعالى.

روى ثقة الاسلام الكليني بالاسناد عن محمد بن إسماعيل العلوي ، قال : « حُبس أبو محمد عليه‌السلام عند علي بن نارمش ، وهو أنصب الناس ، وأشدّهم على آل أبي طالب ، وقيل له : افعل به وفعل ، فما أقام عنده الا يوماً حتى وضع خدّيه له ، وكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً وإعظاماً ، فخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرةً وأحسنهم فيه قولاً » (٢).

وهكذا يستسلم السجّان للسجين الذي لا يملك حولاً ولا قوة غير تأثيره الروحي ، فيضع خديه له متذللاً خاضعاً ، ولا يرفع بصره إجلالاً وهيبة ، لأنّه استطاع أن يقلب تفكيره ووجدانه وسلوكه ، فتحول من عدو شديد العداوة إلى صديق شديد الصداقة ، بل تحول إلى داعية إلى الإمام عليه‌السلام.

__________________

(١) الخرائج والجرائح ١ : ٤٢٢ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٢٦٠ / ٢١.

(٢) أصول الكافي ١ : ٥٠٨ / ٨ ـ باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليه‌السلام من كتاب الحجة.

١٨٨

وفي رواية بهذا الاتجاه عن علي بن عبد الغفّار ، قال : « دخل العباسيون على صالح بن وصيف ، عندما حبس أبا محمد عليه‌السلام ، فقالوا له : ضيّق عليه ولا توسّع. فقال لهم صالح : وما أصنع به ؟! قد وكلت به رجلين من شرّ من قدرت عليه ، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم ، ثمّ أمر باحضار الموكلين فقال لهما : ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل ؟ فقالا له : ما نقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كله ، لا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة ، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا ، وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا ، فلمّا سمع العباسيون ذلك انصرفوا خاسئين » (١).

إذن فالإمام عليه‌السلام استطاع أن يؤثر فيهما بقوة شخصيته الرحبة ، وبالجو الروحاني الذي لم يجدا مثله ، الأمر الذي جعل صالح بن وصيف المتولي لسجن الإمام قد أعيته الحيل والوسائل كلّها في التأثير على الإمام عليه‌السلام.

وامتدت آثار الإمام الروحية إلى قاعدة واسعة من الناس ، بما فيهم عوائل المتولين للسجن ، فقد روي الشيخ الكليني بالاسناد عن علي بن محمد ، عن بعض أصحابنا ، قال : « سُلّم أبو محمد عليه‌السلام إلى نحرير ، فكان يضيق عليه ويؤذيه ، قال : فقالت له امرأته ، ويلك اتق الله ، لا تدري من في منزلك ؟ وعرّفته صلاحه وقالت : إني أخاف عليك منه ... » (٢).

هذه هي بعض آثار الإمام العسكري عليه‌السلام في مخالفيه ، فعلينا أن ننفتح عليها لنزداد هدياً من هديه ، وعلماً من علمه ، ووعياً ممّا يعطينا من عناصر الوعي.

__________________

(١) أصول الكافي ١ : ٥١٢ / ٢٣ ـ من نفس الباب المتقدم ، الإرشاد ٢ : ٣٣٤.

(٢) أصول الكافي ١ : ٥١٣ / ٢٦ ـ من نفس باب المتقدم.

١٨٩
١٩٠

الفصل السابع

شهادة الإمام العسكري عليه‌السلام

الإمام العسكري عليه‌السلام ينعى نفسه

ذكرنا أن الإمام العسكري عليه‌السلام كان بصدد تهيئة شيعته لعصر الغيبة ، وكان من جملة أفعاله في هذا الاتجاه أنه نعى نفسه المقدسة لأصحابه في أكثر من مناسبة ، وكتب كتباً لهم قبل ليلة من وفاته ، كي لايفجأهم الأمر ولا يهولهم الاختلاف الحاصل بسبب الانتقال من الإمامة الظاهرة إلى عصر الإمامة الغائبة.

فقد ورد عن المسعودي : « أنه أمر أبو محمد عليه‌السلام والدته بالحج في سنة ٢٥٩ ، وعرّفها ما يناله في سنة (٢٦٠) ، وأحضر الصاحب عليه‌السلام فأوصى إليه ، وسلّم الاسم الأعظم والمواريث والسلاح إليه ، وخرجت اُمّ أبي محمد مع الصاحب عليه‌السلام جميعاً إلى مكة ، وقبض عليه‌السلام في شهر ربيع الآخر سنة ٢٦٠ ه‍ » (١).

وعن محمد بن أبي الزعفران ، عن اُمّ أبي محمد عليه‌السلام قالت : « قال لي أبو محمد يوماً من الأيام : تصيبني في سنة ستين حزازة أخاف أن أنكب فيها نكبة ،

__________________

(١) إثبات الوصية : ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٣٣٦ / ١٣ عن عيون المعجزات مسنداً عن أحمد بن إسحاق بن مصقلة.

١٩١

فإنّ سلمت فالى سنة سبعين ، قالت : فأظهرت الجزع وبكيت ، فقال : لابد لي من وقوع أمر الله فلا تجزعي » (١).

وعن أبي غانم ، قال : « سمعت أبا محمد الحسن بن علي عليه‌السلام يقول : في سنة مائتين وستين تفترق شيعتي. فيها قبض أبو محمد وتفرقت الشيعة وأنصاره ... » (٢).

وقال الشيخ الصدوق : « وجدت مثبتاً في بعض الكتب المصنفة في التواريخ ولم أسمعه إلا عن محمد بن الحسين بن عباد أنه قال : مات أبو محمد الحسن بن علي عليه‌السلام يوم جمعة مع صلاة الغداة ، وكان في تلك الليلة قد كتب بيده كتباً كثيرة إلى المدينة ، وذلك في شهر ربيع الأول لثمان خلون منه سنة ستين ومائتين من الهجرة ، ولم يحضره في ذلك الوقت إلا صقيل الجارية ، وعقيد الخادم ومن علم الله عزوجل غيرهما ... » (٣).

تاريخ شهادته عليه‌السلام

قال الشيخ المفيد : مرض أبو محمد الحسن عليه‌السلام في أول شهر ربيع الأول سنة ٢٦٠ ه‍ ، ومات يوم الجمعة لثمان خلون من هذا الشهر في السنة المذكورة (٤). وقد اتفق المؤرخون على أنّ شهادة الإمام العسكري عليه‌السلام كانت في سنة ٢٦٠ ه‍ (٥) ،

__________________

(١) بحار الأنوار ٥٠ : ٣٣٠ ، عن بصائر الدرجات : ٤٨٢.

(٢) إكمال الدين : ٤٠٨ / ٦ باب ٣٨.

(٣) إكمال الدين : ٤٧٣ / ٢٥ ـ باب ٤٣ ذكر من شاهد القائم عليه‌السلام ورآه وكلمه.

(٤) الإرشاد ٢ : ٣٣٦.

(٥) راجع : مروج الذهب ٤ : ٤٤٢ ، الكامل في التاريخ ٦ : ٢٤٩ ، تذكرة الخواص :

١٩٢

وذلك بعد مضي نحو أربع سنوات من خلافة المعتمد ، وأنه دفن إلى جنب أبيه عليه‌السلام في داره بسرّ من رأى ، غير أنّهم اختلفوا في اليوم والشهر الذي استشهد فيه على عدة أقوال :

١ ـ يوم الجمعة الثامن من ربيع الأول ، وهو القول المشهور (١).

٢ ـ يوم الأحد الثامن من ربيع الأول (٢).

٣ ـ اليوم الأول من ربيع الأول (٣).

__________________

٣٢٤ ، مرآة الجنان / اليافعي ٢ : ١٧٢ مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ، شذرات الذهب / ابن العماد ٢ : ١٤١ ، المنتظم / ابن الجوزي ١٢ : ١٥٨ ـ دار الكتب العلمية ، الانساب / السمعاني ٤ : ١٩٤.

(١) راجع : أصول الكافي ١ : ٥٠٣ باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليه‌السلام الإرشاد ٢ : ٣١٣ و ٣٣٦ ، التهذيب٦ : ٩٢ ـ كتاب المزار ـ باب ٤٢ ، دلائل الإمامة : ٤٢٤ ، مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٤٥٥ ، روضة الواعظين : ٢٥١ ، تاريخ بغداد ٧ : ٢٦٦ وزاد : وقيل يوم الاربعاء ، الفصول المهمة ٢ : ١٠٨٩ ، مرآة الجنان ٢ : ١٧٢ على أحد قوليه ، مصباح الكفعمي : ٥١٠ على أحد قوليه ، التتمة في تواريخ الأئمة عليهم‌السلام : ١٤٤ ، إعلام الورى ٢ : ١٣١ و ١٥١ ، الأئمة الاثنا عشر لابن طولون : ١١٣ وزاد : أو يوم الاربعاء ، بحار الأنوار ٥٠ : ٣٣٥ / ٨ و ١٠ ، ٣٣٦ / ٧ عن كشف الغمة ٣ : ٢٧٢.

(٢) الدروس / للشهيد الأول : ١٥٤ ـ نشر صادقي ـ قم ، بحار الأنوار ٥٠ : ٣٣٥ / ٩ عنه.

(٣) مصباح المجتهد / الشيخ الطوسي : ٧٩١ ، توضيح المقاصد / بهاء الدين العاملي : ٥١٩ ضمن مجموعة نفيسة ـ بصيرتي ـ قم ، مصباح الكفعمي : ٥١٠ على أحد قوليه ، بحار الأنوار ٥٠ : ٣٣٥ / ١٢ عنه.

١٩٣

٤ ـ يوم الجمعة السادس من ربيع الأول (١).

٥ ـ في ربيع الآخر (٢).

٦ ـ في الثامن من جمادي الاولى (٣).

مقدار عمره عليه‌السلام

استشهد الإمام العسكري عليه‌السلام وهو في شرخ الشباب ، حيث كان له من العمر يوم شهادته ٢٨ عاماً (٤) ، وقيل : ٢٩ عاماً (٥) ، بحسب الاختلاف الذي مضى في تاريخ ولادته عليه‌السلام.

سبب شهادته عليه‌السلام

إن دراسة الأخبار الواصلة إلينا عن المدّة القصيرة من إمامة الإمام العسكري عليه‌السلام ( ٢٥٤ ـ ٢٦٠ ه‍ ) تقودنا إلى الاعتقاد بأن السلطة العباسية كانت منذ زمن المعتز ( ٢٥٢ ـ ٢٥٥ ه‍ ) بصدد الفتك بالإمام قبل أن يُولَد له ، ذلك لأنّها تعتقد أن المولود له هو المهدي الموعود خاتم أئمة الحق الاثني عشر الذي يقصم

__________________

(١) مرآة الجنان ٢ : ١٧٢على أحد قوليه.

(٢) إثبات الوصية / المسعودي : ٢٥٦ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٣٣٦ / ١٣ عن عيون المعجزات ، المنتظم ١٢ : ١٥٨.

(٣) وفيات الأعيان ٢ : ٩٤ ، الأئمة الاثنا عشر لابن طولون : ١١٣.

(٤) أصول الكافي ١ : ٥٠٣ ـ باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليه‌السلام الإرشاد ٢ : ٣١٣ ، روضة الواعظين : ٢٥١ ، الصواعق المحرقة : ٢٠٦ ـ القاهرة ، الفصول المهمة ٢ : ١٠٩٠ ، إعلام الورى ٢ : ١٣١.

(٥) مروج الذهب ٤ : ٤٤٢ ، دلائل الإمامة : ٤٢٣ ، إثبات الوصية : ٢٥٦ ، تذكرة الخواص : ٣٢٤ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٢٣٦ / ٧ عن كشف الغمة ٣ : ٢٧٢.

١٩٤

الجبارين ، ويبدد دول الظالمين ، ويرسي دعائم دولة الحق ، وينشر العدل والقسط ، وقد حاول المعتز تنفيذ تلك السياسة ، حيث أمر سعيد بن صالح الحاجب أن يحمل الإمام العسكري عليه‌السلام إلى الكوفة ويضرب عنقه في الطريق ، فاجتهد الإمام عليه‌السلام بالدعاء عليه ، فقتل قبل أن ينفذ عزمه (١).

وروى ثقة الاسلام الكليني بالاسناد عن أحمد بن محمد بن عبد الله ، قال : « خرج عن أبي محمد عليه‌السلام حين قتل الزبيري : هذا جزاء من اجترأ على الله في أوليائه ، يزعم أنه يقتلني وليس لي عقب ، فكيف رأى قدرة الله فيه ؟ وولد له ولد سماه محمداً » (٢).

وحاول المهتدي العباسي ( ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ه‍ ) تنفيذ هذه السياسة ، فهدّد الإمام عليه‌السلام بالقتل قائلاً : « والله لأجلينهم عن جديد الأرض » غير أنه قتل قبل تنفيذ هذا الغرض (٣).

ولم يخرج المعتمد ( ٢٥٦ ـ ٢٧٩ ه‍ ) عن هذا الإطار ، فتعرض الإمام العسكري عليه‌السلام في زمانه لشتّىٰ أنواع التحديات والضغوط ، وحاول قتل الإمام عليه‌السلام لنفس السبب الذي قدّمناه ، وهو الاطمئنان لانقطاع الإمامة دون

__________________

(١) راجع : المناقب لابن شهر آشوب ٤ : ٤٦٤ ، غيبة الطوسي : ٢٠٨ / ١٧٧ ، الخرائج والجرائح ١ : ٤٥١ / ٣٦ ، دلائل الإمامة : ٤٢٧ / ٣٩١.

(٢) أصول الكافي ١ : ٣٢٩ / ٥ باب الاشارة والنص إلى صاحب الدار ، إكمال الدين : ٤٣٠ / ٣ باب ٤٢.

(٣) أصول الكافي ١ : ٥١٠ / ١٦ باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليه‌السلام ، الإرشاد ٢ : ٣٣٣ ، وراجع : إثبات الوصية : ٢٤٥ ، مهج الدعوات : ٣٤٣ ، المناقب لابن شهر آشوب ٤ : ٤٦٣ ، غيبة الطوسي : ١٧٣ / ٢٠٥ و ٢٣٣ / ١٨٧.

١٩٥

نسل ، على الرغم من حدوث الولادة في زمان المعتمد ، لأن الدولة على المستوى الرسمي لم تكن مطلعة عليها ، بسبب اجراءات الإمام عليه‌السلام القائمة على أساس الكتمان والسرية في هذا الأمر ، وأبى الله سبحانه إلا أن يتمّ نوره ، فأخفى وليه الذي ينتظره العالم كلّه ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

روى الشيخ الصدوق بالاسناد عن سعد بن عبد الله ، قال : حدثني موسى ابن جعفر بن وهب البغدادي ، أنه خرج من أبي محمد عليه‌السلام توقيع : « زعموا أنّهم يريدون قتلي ليقطعوا هذا النسل ، وقد كذب الله عزوجل قولهم والحمدلله » (١) وتكذيب قولهم كان بحدوث الولادة المباركة وحفظه مع أبيه عليهما‌السلام من تحديات السلطة.

ومما تقدم يتبين أن واقع الحال يشير إلى أن المعتمد متّهم بقتل الإمام عليه‌السلام ، فضلاً عن أنه ورد التصريح بموت الإمام عليه‌السلام مسموماً عن كثير من محدثي الشيعة وغيرهم.

قال أمين الاسلام الطبرسي : « ذهب كثير من أصحابنا إلى أنه عليه‌السلام مضى مسموماً ، وكذلك أبوه وجده وجميع الأئمة عليهم‌السلام خرجوا من الدنيا بالشهادة ، واستدلوا على ذلك بما روي عن الصادق عليه‌السلام من قوله : ما منا إلا مقتول شهيد. والله أعلم بحقيقة ذلك » (٢).

__________________

(١) إكمال الدين : ٤٠٧ / ٣ باب ٣٨.

(٢) إعلام الورى ٢ : ١٣١ ، وورد التصريح بموت الإمام العسكري عليه‌السلام مسموماً في عدة مصادر اُخرى ، منها : الفصول المهمة ٢ : ١٠٩٣ ، مصباح الكفعمي : ٥١٠ وقال : سمه المعتمد ، دلائل الإمامة : ٤٢٤ ، الصواعق المحرقة : ٢٠٦ ، بحار

١٩٦

بناءً على ذلك فإنّ جميع الأئمة عليهم‌السلام خرجوا من الدنيا بالقتل ، وليس فيهم من يموت حتف أنفه ، وقاتلهم دائماً هو الحاكم الذي يحذر نشاطهم ويتوجس منهم خيفة ، لأنهم يمثلون جبهة المعارضة ضد الانحراف الذي يمثله الحاكم (١).

وصرّح بعض أعلام الشيعة في أرجازهم بموت الإمام عليه‌السلام مسموماً من قبل المعتمد ، مؤكدين على ما يقوّي هذا الاحتمال وهو كون الإمام عليه‌السلام في سن الشباب ، وأوج الصحة والقوة والعنفوان.

قال الحرّ العاملي في ارجوزته :

قتله بسمّه المعتمد

بقوّة يرقّ منها الجلمد

وعمره تسع وعشرون وقد

قيل ثمان بعد عشرين فُقِد

وعاش من بعد أبيه خمسا

وقيل ستاً ثمّ حلّ الرمسا (٢)

وقال الشيخ محمد حسين الاصفهاني :

حتى قضىٰ العمر بما يقاسي

فسمّه المعتمد العباسي

قضى على شبابه مسموما

مضطهداً محتسباً مظلوما

فناحت الحور على شبابه

وصبّت الدموع في مصابه

__________________

الأنوار ٥٠ : ٣٣٥ / ١٢ ، إحقاق الحق ١٢ : ٤٧٤ عن ينابيع المودة ٣ : ١١٣ ، و ١٢ : ٤٧٥ عن أئمة الهدى ص ١٣٨ تأليف : محمد عبد الغفار الهاشمي الحنفي ، وقال فيه : دسّ له المعتمد العباسي سماً ، فتوفّي منه.

(١) راجع بحثاً مفصلاً حول هذا الموضوع في تاريخ الغيبة الصغرى / للسيد محمد صادق الصدر : ٢٢٩.

(٢) إحقاق الحق ١٢ : ٤٦٢ ، عن نزهة الجليس للسيد عباس المكي ٢ : ١٢١.

١٩٧

وانصدت لرزئه الجبال

كأنه الساعة والأهوال (١)

تصرف السلطة

ورد في حديث طويل عن أحد أقطاب السلطة ما يبين موقف السلطة قبل شهادة الإمام عليه‌السلام وبعدها ، ويستعرض موقف جعفر بن علي أخي الإمام عليه‌السلام الذي كان يتربّص الفرصة لاحتلال موقع الإمامة كذباً وبهتاناً على الله سبحانه ، والحديث بمجموعه يشير إلى تأكيد تهمة السلطة بدم الإمام عليه‌السلام.

قال أحمد بن عبيد الله بن خاقان في مجلس له بتاريخ شعبان سنة ٢٧٨ ، يصف موقف جعفر بعد وفاة أخيه الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام ، قال : « والله لقد ورد على السلطان وأصحابه في وقت وفاة الحسن بن علي عليه‌السلام ما تعجبت منه ، وما ظننت أنه يكون ، وذلك أنه لما اعتل بعث إلى أبي أن ابن الرضا قد اعتلّ ، فركب من ساعته مبادراً إلى دار الخلافة ، ثم رجع مستعجلاً ومعه خمسة نفر من خدّام أمير المؤمنين كلهم من ثقاته وخاصته ، فمنهم نحرير ، وأمرهم بلزوم دار الحسن بن علي عليه‌السلام وتعرّف خبره وحاله ، وبعث إلى نفر من المتطببين فأمرهم بالاختلاف إليه وتعاهده صباحاً ومساءً ، فلما كان بعد ذلك بيومين جاءه من أخبره أنه قد ضعف ، فركب حتى بكّر إليه ، ثم أمر المتطببين بلزومه ، وبعث إلى القضاء فأحضره مجلسه ، وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممن يوثق به في دينه وأمانته وورعه ، فأحضرهم فبعث بهم إلى دار الحسن عليه‌السلام وأمرهم بلزوم داره ليلاً ونهاراً ، فلم يزالوا هناك حتى توفي عليه‌السلام لأيام مضت من شهر ربيع

__________________

(١) الأنوار القدسية / الشيخ محمد حسين الاصفهاني : ١٠٩ ـ مؤسسة الوفاء ـ بيروت.

١٩٨

الأول من سنة ستين ومائتين ، فصارت سرّ من رأى ضجّة واحدة : مات ابن الرضا.

وبعث السلطان إلى داره من يفتشها ويفتش حجرها ، وختم على جميع ما فيها ، وطلبوا أثر ولده ، وجاءوا بنساء يعرفن بالحبل ، فدخلن على جواريه فنظرن إليهنّ ، فذكر بعضهن أن هناك جارية بها حمل ، فأمر بها فجعلت في حجرة ، ووكّل بها نحرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم ، ثمّ أخذوا بعد ذلك في تهيئته ، وعطّلت الأسواق ، وركب أبي وبنوهاشم والقواد والكتاب وسائر الناس إلى جنازته عليه‌السلام ، فكانت سر من رأى يومئذٍ شبيهاً بالقيامة.

فلمّا وضعت الجنازة للصلاة دنا أبو عيسى منها ، فكشف عن وجهه فعرضه على بني هاشم من العلوية والعباسية والقواد والكتاب والقضاة والفقهاء والمعدّلين ، وقال : هذا الحسن بن علي بن محمد ، ابن الرضا ، مات حتف أنفه على فراشه ، حضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان ، ومن المتطببين فلان وفلان ، ومن القضاة فلان وفلان ، ثمّ غطّى وجهه وقام فصلّى عليه وكبّر عليه خمساً ، وأمر بحمله فحمل من وسط داره ، ودفن في البيت الذي دفن فيه أبوه عليه‌السلام.

فلما دفن وتفرق الناس اضطرب السلطان وأصحابه في طلب ولده ، وكثر التفتيش في المنازل والدور ، وتوقّفوا على قسمة ميراثه ، ولم يزل الذين وكلوا بحفظ الجارية التي توهموا عليها الحبل ملازمين لها سنتين وأكثر حتى تبين بطلان الحبل ، فقسم ميراثه بين اُمه وأخيه جعفر ، وادعت اُمّه وصيته ، وثبت ذلك عند

١٩٩

القاضي والسلطان على ذلك يطلب أثر ولده ... » (١).

فهذا الخبر يدلّ على أن المعتمد لم يكن بريئاً من دم الإمام عليه‌السلام ، لذلك أراد من خلال تلك الاجراءات المذكورة في الخبر أن يدفع التهمة عن نفسه ويبقي ثوبه نقياً منها على المستوى العام الذي يشير إليه باصبع الاتهام ، وذلك بادعاء موته عليه‌السلام حتف أنفه مع الاشهاد على ذلك ، ولو لم يكن ضالعاً في تلك الجريمة النكراء ، لما طلب من أول وفد أرسله إلى دار الإمام بملازمته وتعرف خبره وحاله ، لأنّه في ذلك يجزم بموت الإمام عليه‌السلام ولا يبدي أدنى احتمالٍ في شفائه ، سيما وأنه شاب قوي البنية لا تؤثر في مثله الأمراض عادة ، كما أنه عيّن جماعة يترقّبون موته لكشف السرّ الذي لا زال يحتفظ به الإمام عليه‌السلام منذ خمسة أعوام ، وهو المهدي عليه‌السلام الذي أخفى مولده وستر أمره ، لصعوبة الوقت وشدة طلب السلطان له واجتهاده في البحث عنه ، من هنا فقد أمر السلطان قبل كلّ شيء أن تُفتَشْ داره ويختم على محتوياتها ، وأن يُطلَب أثر الولد ، وحينما تعييهم الوسائل يقبضون على اُمّ الإمام المهدي عليه‌السلام ( صقيل ) ولم تنج من قبضتهم إلا بعد سنتين أو أكثر لجملة أحداث شغلتهم عنها.

روى الشيخ الصدوق والطبري الامامي عن محمد بن الحسين بن عباد ، قال : « قدمت اُم أبي محمد عليه‌السلام من المدينة واسمها ( حديث ) حين اتصل بها الخبر إلى سرّ من رأى ، فكانت لها أقاصيص يطول شرحها مع أخيه جعفر ومطالبته إياها بميراثه وسعايته إلى السلطان وكشفه ما أمر الله عزوجلّ بستره ، فادّعت عند ذلك صقيل أنها حامل ، فحملت إلى دار المعتمد ، فجعل نساء المعتمد وخدمه

__________________

(١) إكمال الدين ـ المقدمة : ٤٢ ـ ٤٣.

٢٠٠