الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ

علي موسى الكعبي

الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-10-2
الصفحات: ٢٠٩

فتهلكوا » (١).

وحذّر الإمام العسكري عليه‌السلام في أكثر من مناسبة أصحابه من أن تميل بهم الأهواء أو تعصف بقلوبهم الفتن لطول الغيبة وشدّة الريبة ، وأكد على ضرورة التمسك بالإمام من بعده وطاعته ، كما ورد في حديث موسى بن جعفر بن وهب البغدادي ، قال : « سمعت أبا محمد الحسن بن علي عليه‌السلام يقول : كأني بكم وقد اختلفتم بعدي في الخلف منّي ، أما إن المقرّ بالأئمة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المنكر لولدي ، كمن أقرّ بجميع أنبياء الله ورسله ثمّ أنكر نبوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمنكر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كمن أنكر جميع أنبياء الله ؛ لأن طاعة آخرنا كطاعة أولنا ، والمنكر لآخرنا كالمنكر لأولنا ، أما إنّ لولدي غيبة يرتاب فيها الناس إلا من عصمه الله عزوجل » (٢).

ورغم هذا فقد اختلف ذوي الريب بعد شهادة الإمام العسكري عليه‌السلام كما ورد في أول الحديث ، ولم يثبت على الحقّ إلا ثلّة مؤيدة برحمة الله ولطفه وعنايته ، كان لها الأثر في حفظ الدين وسلامة المنهج ، وتوقّع الإمام العسكري عليه‌السلام ذلك حتى أنه حدد تاريخه بالضبط ، كما في حديث أبي غانم ، قال : « سمعت أبا محمد الحسن بن علي عليه‌السلام يقول : في سنة مائتين وستين تفترق شيعتي. قال : ففيها قبض أبو محمد عليه‌السلام وتفرقت الشيعة وأنصاره ، فمنهم من انتمى إلى جعفر ، ومنهم من تاه ، ومنهم من شكّ ، ومنهم من وقف على تحيّره ،

__________________

(١) إكمال الدين : ٤٣٥ / ٢ باب ٤٣ ذكر من شاهد القائم عليه‌السلام ورآه وكلمه.

(٢) إكمال الدين : ٤٠٩ / ٨ باب ٣٨ ما روي عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليه‌السلام من وقوع الغيبة بابنه القائم.

١٦١

ومنهم من ثبت على دينه بتوفيق الله عزوجل » (١) فكان لتحذير الإمام عليه‌السلام من الفرقة وتأكيده على التمسك بولاية الحجة عليه‌السلام ، دور فاعل في حفظ الدين وسلامة العقيدة من الزيغ.

ج) التأكيد على الصبر وانتظار الفرج في أيام الغيبة لربط الأمة بقائدها المنتظر حتى يأذن الله بظهور دولته وانطلاق دعوته ، ومن ذلك ما كتبه الإمام العسكري عليه‌السلام إلى أبي الحسن علي بن الحسين بن بابويه القمي « عليك بالصبر وانتظار الفرج ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أفضل أعمال اُمتي انتظار الفرج ، ولا تزال شيعتنا في حزن حتى يظهر ولدي الذي بشّر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ، فاصبر يا شيخي يا أبا الحسن عليّ ، وأمر جميع شيعتي بالصبر ، فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ... » (٢).

رابعاً : ردّ الشبهات وملاحقة الأفكار المنحرفة

هناك الكثير من الأخبار التي تدلّ على أن الإمام العسكري عليه‌السلام كان يتابع بدقة ما يجري على الساحة الفكرية ، فيلاحق الأفكار المنحرفة والشبهات التي تطرح هنا وهناك في مواجهة الفكر الاسلامي الأصيل ، خصوصاً تلك التي تعمد إلى تهديم الاسس الاسلامية على المستوى العقائدي أو الفقهي ، فكان يواجهها بالحجة والاسلوب العلمى والجدل الموضوعي.

__________________

(١) إكمال الدين : ٤٠٨ / ٦ باب ٣٨ ما روي عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليه‌السلام من وقوع الغيبة بابنه القائم.

(٢) المناقب / لابن شهر آشوب ٤ : ٤٥٩ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٣١٧ / ١٤.

١٦٢

أ ـ من ذلك ما نقله ابن شهر آشوب عن أبي القاسم الكوفي في كتاب التبديل : أن إسحاق الكندي (١) ، كان فيلسوف العراق في زمانه ، أخذ في تأليف تناقض القرآن ، وشغل نفسه بذلك ، وتفرّد به في منزله ، فسلّط الإمام عليه‌السلام عليه أحد طلابه بكلامٍ قاله له ، مما جعله يتوب ويحرق أوراقه.

وملخص الفكرة التي أبداها الإمام عليه‌السلام للتلميذ ، هي احتمال أن يكون المراد بالآيات القرآنية غير المعاني التي فهمها وذهب إليها ، باعتبار أن اللغة العربية مرنة متحركة ، فقد يفهم بعض الناس الكلام على أنه الحقيقة وهو من المجاز ، وقد يفهم أن المراد هو المعني اللغوي والمقصود هو المعني الكنائي.

وطلب الإمام عليه‌السلام من تلميذ الكندي أن يتلطّف في مؤانسة استاذه قبل إلقاء الاحتمال ، ووصفه عليه‌السلام بقوله : « إنّه رجل يفهم إذا سمع ». فصار التلميذ إلى الكندي ، وألقى إليه ذلك الاحتمال ، فتفكر في نفسه ، ورأى أن ذلك محتمل في اللغة ، وسائغ في النظر.

فقال : « أقسمت عليك إلا اخبرتني من أين لك هذا ؟ فقال : إنه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك. فقال : كلا ، ما مثلك من اهتدى إلى هذا ، ولا من بلغ هذه المنزلة ، فعرفني من أين لك هذا ؟ فقال : أمرني به أبو محمد. فقال : الآن جئت به ، وما كان ليخرج مثل هذا إلا من ذلك البيت. ثم إنّه دعا بالنار وأحرق

__________________

(١) كذا ، واسم الكندي إذا أريد به فيلسوف العراق فهو يعقوب بن إسحاق ، وكان معاصراً للإمام عليه‌السلام حيث توفي سنة ٢٦٠ ه‍ ، وقيل : إنّه همّ بأن يعمل شيئاً مثل القرآن : ثم أذعن بالعجز ... راجع : سير أعلام النبلاء ١٢ : ٣٣٧ / ١٣٤ ، الاعلام للزركلي ٨ : ١٩٥.

١٦٣

جميع ما كان ألفه » (١).

وفي هذا الخبر دلالات مهمة جديرة بالذكر :

١ ـ إن الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام كان يتابع حركة الثقافة في زمانه ، وكان يتحرك على كلّ الاتجاهات المضادة التي تنطلق في مواجهة الاسلام ، فلم يكن خارج نطاق الواقع الثقافي ، وهذا ينطلق من مسؤولية الإمام عن تصحيح المسار الاسلامي في كلّ ما يمكن أن يعرض عليه من الانحرافات.

٢ ـ يُستوحى من هذه القصة أنك عندما تريد أن تحاور إنساناً وتجادله ، فلا يكن العنف سبيلك إلى ذلك ، ولا يكن القلب القاسي وسيلتك إلى الانفتاح عليه ، بل حاول أن تتلطف به أولاً وان تؤانسه ثانياً ، حاول أن تربح قلبه قبل أن تخاطب عقله ، لأن أقرب طريق إلى عقل الانسان هو قلبه.

٣ ـ الأسلوب الذي اتبعه الإمام عليه‌السلام في مخاطبة هذا العالم هو الانفتاح على علمه وتفكيره ، حيث ألقى إليه الفكرة على سبيل الاحتمال ليدفعه إلى التأمّل.

٤ ـ إن قول الكندي « لقد علمت انه لا يخرج هذا إلا من أهل هذا البيت » يدلّ على الثقة العلمية العالية التي كان يحملها الفلاسفة والمثقفون في علم أهل البيت عليهم‌السلام ، مما يوحي أنهم كانوا قد بلغوا القمة في العلم حتى خضع الآخرون لعلمهم ، وانحنوا لهذا المستوى الكبير من الثقافة.

ب ـ وهناك حديث آخر يحال الإمام العسكري عليه‌السلام أن يرد فيه بعض الشبهات ، رواه ثقة الاسلام الكليني باسناده عن إسحاق بن محمد النخعي ، قال : « سأل الفهفكي أبا محمد عليه‌السلام : ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهماً

__________________

(١) المناقب / لابن شهر آشوب ٤ : ٤٥٧.

١٦٤

واحداً ويأخذ الرجل سهمين ؟ فقال : أبو محمد عليه‌السلام : إنّ المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا عليها معقلة ، إنّما ذلك على الرجال ، فقلت في نفسي : قد كان قيل لي : إنّ ابن أبي العوجاء سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن هذه المسألة ، فأجابه بهذا الجواب ، فأقبل أبو محمد عليه‌السلام عليّ. فقال : نعم ، هذه المسألة مسألة ابن أبي العوجاء ، والجواب منّا واحد إذا كان معنى المسألة واحداً ، جرى لآخرنا ما جرى لأوّلنا ، وأوّلنا وآخرنا في العلم سواء ، ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام فضلهما » (١).

ج ـ لقد أثيرت مسألة خلق القرآن منذ زمان المأمون ، وانقسم العلماء فيها إلى قسمين ، فمنهم من قال بقدم كلام الله سبحانه ، ومنهم من قال بحدوثه ، مما أدّى إلى خلق فتنة ومحنة راح ضحيتها الكثير من الأعلام ، وكان جواب الأئمة عليهم‌السلام المعاصرين لتلك المحنة واضحاً ، يقوم على أساس التفريق بين كلام الله تعالى وبين علمه ، فكلامه تعالى محدث وليس بقديم ، قال تعالى : ( مَا يَأْتِيهِم مِن ذِكْرٍ مِن رَبِّهِم مُحْدَثٍ ) (٢) ، وأما علمه فقديم قدم ذاته المقدسة ، وهو من الصفات التي هي عين ذاته.

ونرى بعض امتدادات هذه المسالة في زمان الإمام العسكري عليه‌السلام ، فقد روي عن أبي هاشم الجعفري أنه قال : « فكّرت في نفسي ، فقلت : أشتهي أن أعلم ما يقول أبو محمد عليه‌السلام في القرآن ؟ فبدأني وقال : الله خالق كلّ شيء ، وما

__________________

(١) الكافي ٧ : ٨٥ / ٢ ـ باب علة كيف صار للذكر سهمان وللانثىٰ سهم ، من كتاب المواريث.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٢.

١٦٥

سواه وفهو مخلوق » (١).

د ـ تقدمت الاشارة إلى أن الإمام العسكري عليه‌السلام تصدى لكشف واحدٍ من أهم وسائل التموية والتلبيس على أذهان العامة ، حين حاول أحد الرهبان تضليل العقول الضعيفة وتشكيكهم في دينهم ، فكشف الإمام عليه‌السلام زيف ذلك الراهب وكذبه وبيّن وسائل تمويهه ، وذلك في حادثة الاستسقاء الشهيرة التي تواطأت على نقلها الكثر من المصادر (٢).

ه‍ ـ تصدّىٰ الإمام العسكري عليه‌السلام لبعض الاتجاهات العقائدية المنحرفة والفرق الضالة ومنهم الغلاة الذين كانوا في زمانه ، وهم الذين خرجوا عن الجادة ووصفوا الأئمة عليهم‌السلام بصفات الالوهية ، فتبرأ أهل البيت عليهم‌السلام منهم ولعنوهم وحاربوا مقالاتهم الباطلة. ومن هؤلاء إدريس بن زياد الكفرتوثائي ، قال : « كنت أقول فيهم قولاً عظيماً ، فخرجت إلى العسكر للقاء أبي محمد عليه‌السلام ، فقدمت وعليّ أثر السفر ووعثاؤه ، فألقيت نفسي على دكان حمام فذهب بي النوم ، فما انتبهت إلا بمقرعة أبي محمد عليه‌السلام قد قرعني بها حتى استيقظت ، فعرفته فقمت قائماً اُقبّل قدميه وفخذه وهو راكب والغلمان من حوله ، فكان أول ما تلقاني به أن قال : يا إدريس ( بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (٣). فقلت : حسبي يا مولاي ، وإنّما جئت أسألك عن هذا. قال :

__________________

(١) الثاقب في المناقب : ٥٦٨ / ٥١١ ، الخرائج والجرائح ٢ : ٦٨٦ / ٦.

(٢) راجع آخر الفصل الثاني من هذا الكتاب.

(٣) سورة الأنبياء : ٢١ / ٢٦ ـ ٢٧.

١٦٦

فتركني ومضى » (١).

ويبدو من بعض الأخبار أن الإمام العسكري عليه‌السلام كان لا يترحّم على الغلاة ولو كانوا من الوالدين ، وذلك لكي يؤدّب أصحابه للوقوف بشدة ضدّ هذه النزعة الهدامة ، فقد نقل الحميري في الدلائل عن أبي سهل البلخي ، قال : « كتب رجل إلى أبي محمد يسأله الدعاء لوالديه ، وكانت الاُمّ غالية ، والأب مؤمناً ، فوقّع عليه‌السلام : رحم الله والدك » (٢).

ومن هؤلاء أيضاً الواقفة ، وهم الذين وقفوا على الإمام الكاظم عليه‌السلام بسبب بعض النوازع المادية ، حيث تجمعت لديهم أموال طائلة من الحقوق المالية في وقتٍ كان فيه الإمام عليه‌السلام في سجن الرشيد ، فطمعوا فيها وادعوا بعد شهادة الإمام عليه‌السلام أنه حيّ لم يمت ، واصبح الوقف تياراً فكرياً يتبناه بعض من لم تترسخ لديه مبادئ العقيدة الحقة ، فيقف عند بعض الأئمة عليهم‌السلام. وقد صرح الإمام العسكري عليه‌السلام بالبراءة منهم ، ودعا أصحابه إلى أن لا يعودوا مرضاهم ولا يشهدوا جنائزهم ولا يصلوا عليهم.

ومنه ما رواه الإربلي والقطب الراوندي بالاسناد عن أحمد بن محمد بن مطهر ، قال : « كتب بعض أصحابنا إلى أبي محمد عليه‌السلام من أهل الجبل ، يسأله عمّن وقف على أبي الحسن موسى عليه‌السلام أتولاهم أم أتبرا منهم ؟ فكتب عليه‌السلام : أتترحّم على عمّك ؟ لا رحم الله عمك. وتبرّأ منه ، أنا إلى الله منهم بريء ، فلا تتولاهم ، ولا تعد مرضاهم ، ولا تشهد جنائزهم ، ولا تصلّ على أحدٍ منهم

__________________

(١) المناقب / لابن شهر آشوب ٤ : ٤٦١.

(٢) كشف الغمة ٣ : ٣٠٦ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٢٩٤ / ٦٩.

١٦٧

مات أبدأ.

من جحد إماماً من الله ، أو زاد إماماً ليست إمامته من الله ، كان كمن قال إنّ الله ثالث ثلاثة ، إن الجاحد أمر آخرنا جاحدٌ أمر أولنا ، والزائد فينا كالناقص الجاحد أمرنا ... » (١).

وروى الكشي بالاسناد عن إبراهيم بن عقبة ، قال : « كتبت إلى العسكري عليه‌السلام : جعلت فداك ، قد عرفت هؤلاء الممطورة ، فأقنت عليهم في الصلاة ؟ قال عليه‌السلام : نعم ، اقنت عليهم في صلاتك » (٢).

وتصدّى الإمام عليه‌السلام لمقالات الثنوية ، فقد روى ثقة الاسلام الكليني بالاسناد عن محمد بن الربيع الشائي ، قال : « ناظرت رجلاً من الثنوية بالأهواز ، ثم قدمت سرّ من رأى وقد علق بقلبي شيء من مقالته ، فإنّي لجالس على باب أحمد بن الخضيب إذ أقبل أبو محمد عليه‌السلام من دار العامة يوم الموكب ، فنظر إليّ وأشار بسبّابته : أحد أحد فرد ، فسقطت مغشياًعليّ » (٣).

وأدّب أصحابه على عدم الترحّم عليهم ولو كانوا ذوي قربى ، فقد نقل الإربلي عن دلائل الحميري بالاسناد عن أبي سهل البلخي ، قال : « كتب رجل يسأل الدعاء لوالديه ، وكانت الأمّ مؤمنة ، والأب ثنوياً ، فوقّع : رحم الله والدتك ، والتاء منقوطة » (٤).

__________________

(١) رجال الغمة ٣ : ٣١٢ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٢٧٤ / ٤٦ عن الخرائج والجرائح.

(٢) رجال الكشي ٢ : ٧٦٢ / ٨٧٥.

(٣ و ٤) أصول الكافي ١ : ٥١١ / ٢٠ باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليه‌السلام من كتاب الحجة.

١٦٨

ووقف الإمام العسكري عليه‌السلام بوجه بعض الوضّاعين والصوفية المتصنعين ، وعرّف أصحابه بسوء نواياهم ، وأمرهم بالبراءة منهم لئلا يفسدوا عقائدهم ، ومنهم عروة بن يحيى الدهقان الذي كان يكذب على الإمام عليه‌السلام وعلى أبيه من قبله ، ويختلس الأموال التي ترد على الإمام عليه‌السلام.

روى الكشي بالاسناد عن محمد بن موسى الهمداني ، قال : « إن عروة بن يحيى البغدادي المعروف بالدهقان ( لعنه الله ) كان يكذب على أبي الحسن علي بن محمد ابن الرضا عليه‌السلام وعلى أبي محمد الحسن بن علي عليه‌السلام بعده ، وكان يقتطع أمواله لنفسه دونه ، ويكذب عليه حتى لعنه أبو محمد عليه‌السلام وأمر شيعته بلعنه ، ودعا عليه بقطع الأموال لعنه الله » (١).

وفي المناقب لابن شهر آشوب : « كان عروة الدهقان كذب على علي بن محمد ابن الرضا ، وعلى أبي محمد الحسن بن علي العسكري بعده ، ثمّ أنه أخذ بعض أمواله فلعنه أبو محمد عليه‌السلام ، فما أمهل يومه ذلك وليلته حتى قبض إلى النار » (٢).

ومنهم أحمد بن هلال العبرتائي ، الذي عدّه الشيخ الطوسي من الوكلاء المذمومين (٣) ، وكان يتظاهر بالتدين والورع والزهد ، ويخفي الانحراف في العقيدة والعمل وسوء الطوية ، فأطلق عليه الإمام عليه‌السلام لفظ ( الصوفي المتصنّع ) وكتب إلى أصحابه يحذرهم إياه ويبيّن سوء سيرته وفساد مذهبه في أكثر من توقيع.

قال الشيخ الطوسي : « روى محمد بن يعقوب ، قال : خرج إلى العمري في

__________________

(١) رجال الكشي ٢ : ٨٤٢ / ١٠٨٦.

(٢) المناقب ٤ : ٤٦٧.

(٣) راجع : الغيبة : ٣٥٣ / ٣١٣.

١٦٩

توقيع طويل اختصرناه : ونحن نبرأ إلى الله تعالى من ابن هلال لا رحمه الله ، وممن لا يبرأ منه ، فأعلم الاسحاقي وأهل بلده مما أعلمناك من حال هذا الفاجر ، وجميع من كان سألك ويسألك عنه » (١).

وروى الكشي بالاسناد عن أبي حامد أحمد بن إبراهيم المراغي ، قال : « ورد على القاسم بن العلاء نسخة ماكان خرج من لعن ابن هلال ، وكان ابتداء ذلك أن كتب عليه‌السلام إلى قوّامه بالعراق : احذروا الصوفي المتصنع.

قال : وكان من شأن أحمد بن هلال أنه قد كان حجّ أربعاً وخمسين حجة ، عشرون منها على قدميه ، قال : وكان رواة أصحابنا بالعراق لقوه وكتبوا منه ، فأنكروا ما ورد في مذمّته ، فحملوا القاسم بن العلاء على أن يراجع في أمره ، فخرج إليه : قد كان أمرنا نفذ إليك في المتصنّع ابن هلال لا رحمه الله بما قد علمت ، لم يزل ـ لا غفر الله له ذنبه ولا أقاله عثرته ـ يداخل في أمرنا بلا إذن منا ولا رضىً ، يستبد برأيه ، فيتحامىٰ من ديوننا ، لا يمضي من أمرنا إياه إلا بما يهواه ويريد ، أرداه الله في نار جهنم ، فصبرنا عليه حتى بتر الله عمره بدعوتنا ، وكنا قد عرّفنا خبره قوماً من موالينا ، في أيامه ، لا رحمه الله ، وأمرناهم بالقاء ذلك إلى الخاص من موالينا ونحن نبرأ إلى الله من ابن هلال لا رحمه الله وممن لا يبرأ منه ... الى أن يقول عليه‌السلام : فإنّه لا عذر لأحدٍ من موالينا في التشكيك فيما يؤديه عنا ثقاتنا ، قد عرفوا بأنّنا نفاوضهم سرنا ونحمله إياه إليهم ... » إلى آخر التوقيع (٢).

__________________

(١) الغيبة : ٣٥٣ / ٣١٣.

(٢) رجال الكشي ٢ : ٨١٦ / ١٠٢٠.

١٧٠

المبحث الثاني : دوره عليه‌السلام في التصنيف والتشريع

أولاً : الكتب والرسائل والوصيا

نسبت إلى الإمام العسكري عليه‌السلام عدّة كتب ونسخ ومسائل في مجال الأحكام والشرائع والتفسير وغيرها ، كما وصلتنا العديد من كتبه ورسائله ومواعظه ووصاياه مدونة في مصادر الحديث والرجال المعتبرة ، نذكرها كما يلي :

أ ـ المصنفات المنسوبة إليه عليه‌السلام

١ ـ كتاب عمل ، ولعلّه يشبه الرسائل العملية في أحكام العبادات والمعاملات. روى النجاشي في ترجمة محمد بن أحمد بن عبد الله بن مهران بن خانبه الكرخي ، بالاسناد عن الصفواني ، قال : « حدّثنا الحسن بن محمد بن الوجناء ، أبو محمد النصيبي ، قال : كتبنا إلى أبي محمد عليه‌السلام ، نسأله أن يكتب أو يخرج إلينا كتاباً نعمل به ( يعمل به ) فأخرج إلينا كتاب عمل. قال الصفواني : نَسَخْتُهُ ، فقابل به كتاب ابن خانبه زيادة حروف أو نقصان حروف يسيرة » (١).

٢ ـ كتاب المقنعة ، قال ابن شهر آشوب : « خرج من عند أبي محمد عليه‌السلام في سنة خمس وخمسين ومائتين كتاب ترجمة في جهة (٢) رسالة المقنعة ، يشتمل على أكثر علم الحلال والحرام ، وأوله : أخبرني علي بن محمد بن موسى. وذكر الحميري في كتاب سماه ( المكاتبات الرجال عن العسكريين عليهما‌السلام ) من قطعه ومن

__________________

(١) رجال النجاشي : ٣٤٦ / ٩٣٥.

(٢) كذا.

١٧١

أحكام الدين » (١).

وسماه الشيخ آقا بزرك كتاب المنقبة ، قال : « كتاب المنقبة ، المشتمل على أكثر الأحكام ومسائل الحلال والحرام ، عن مناقب ابن شهر آشوب ، والصراط المستقيم للبياضي أنه تصنيف الإمام أبي محمد العسكري عليه‌السلام ، حكاه الميرزا محمد هاشم في آخر رسالته في ( فقه الرضا عليه‌السلام ) وجعل الاحتمال الخامس اتحاده مع هذا الكتاب » (٢).

وفي ( إقبال الأعمال ) للسيد ابن طاووس عليه‌السلام عند ذكره إسناد أكثر الأدعية اختصاراً ، وهو دعاء وجده يُدعى به بين كلّ ركعتين من نوافل شهر رمضان ، قال : « علي بن عبد الواحد باسناده إلى رجاء بن يحيى بن سامان ، قال : خرج إلينا من دار سيدنا أبي محمد الحسن بن علي صاحب العسكري سنة خمس وخمسين ومائتين ، فذكر الرسالة المقنعة بأسرها ... » (٣).

وذكرها النجاشي بنفس العنوان في ترجمة رجاء بن يحيى غير أنه يوحي أنّها للإمام الهادي عليه‌السلام ، قال : « رجاء بن يحيى بن سامان ، أبو الحسين العبرتائي الكاتب ، وروى عن أبي الحسن علي بن محمد صاحب العسكر عليه‌السلام ، وقيل : إنّ سبب وصلته كانت به : أن يحيى بن سامان وكلّ برفع خبر أبي الحسن عليه‌السلام ، وكان إمامياً فحظيت منزلته ، وروى رجاء رسالة تسمّىٰ المقنعة في أبواب

__________________

(١) كذا ، والظاهر : منه قطعة في أحكام الدين. راجع المناقب ٤ : ٤٥٧.

(٢) الذريعة / آقا بزرك ٢٣ : ١٤٩ / ٨٤٥٠.

(٣) إقبال الأعمال : ٢٨٢ ـ الباب التاسع ـ ادعية عقيب كلّ نافلة من شهر رمضان ـ مؤسسة الأعلمي ـ لبنان.

١٧٢

الشريعة ، رواها عنه عليه‌السلام أبو المفضّل الشيباني » (١).

٣ ـ مسائل وجوابات ، رواها عنه عليه‌السلام محمد بن سليمان بن الحسن بن الجهم بن بُكير بن أعين الزراري ، المولود سنة ٢٣٧ ه‍ ، والمتوفّى سنة ٣٠١ ه‍ (٢).

٤ ـ مسائل رواها عنه عليه‌السلام محمد بن علي بن عيسىٰ القمي (٣).

٥ ـ نسخة رواها عنه عليه‌السلام عبدان بن محمد الجُويني ، أبو مُعاذ (٤).

٦ ـ مسائل له عليه‌السلام على يد محمد بن عثمان العمري ، جمعها عبد الله بن جعفر الحميري (٥).

٧ ـ مسائل وتوقيعات له عليه‌السلام ، جمعها أيضاً عبد الله بن جعفر الحميري (٦).

٨ ـ مسائل كتب بها إليه عليه‌السلام محمد بن الحسن الصفار القمي (٧).

٩ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام ، وهو يحتوي على تفسير سورتي الحمد والبقرة مع استطرادات كثيرة ، وقد طبع في طهران مستقلاً سنة ١٢٦٨ ه‍ ش ، واُخرى سنة ١٣١٥ ه‍ ش في حواشي تفسير علي بن إبراهيم القمي ، وطبع في قم محققاً سنة ١٤٠٩ ه‍ ، بالاعتماد على نسخ أقدمها المؤرخة سنة ٨٨٦ ه‍.

قيل : إن الرجلين اللذين يرويان التفسير عن الإمام عليه‌السلام مجهولاً الحال ،

__________________

(١) رجال النجاشي : ١٦٦ / ٤٣٩.

(٢) رجال النجاشي : ٣٤٧ / ٩٣٧.

(٣) رجال النجاشي : ٣٧١ / ١٠١٠.

(٤) رجال النجاشي : ٣٠٤ / ٨٣١.

(٥ و ٦) رجال النجاشي : ٢٢٠ / ٥٧٣.

(٧) الفهرست / الطوسي : ٤٠٨ / ٦٢٢.

١٧٣

وأن في سنده اضطراباً ، وفي متنه خلط وتعارض وتهافت لا يصح نسبتها إلى المعصوم عليه‌السلام.

من هنا اختلفت كلمة العلماء في صحّة صدوره واعتباره وحجيته نفياً وإثباتاً ، وقد ألف الشيخ محمد جواد البلاغي ت ١٣٥٢ ه‍ رسالة في نسبة هذا التفسير ، فصّل فيها أوجه الاضطراب والخلط ، وخلص إلى كونه موضوعاً مكذوباً على الإمام عليه‌السلام. وجمع الشيخ رضا استادي أقوال العلماء جميعاً حول هذا الكتاب سنداً ومتناً في مجلة ( نور علم ) (١).

ب ـ رسائله عليه‌السلام ووصاياه ومواعظه

نقل المحدثون مزيداً من الرسائل والوصايا والأدعية والحكم والمواعظ التربوية والبيانات التفصيلية في تفسير القرآن وغيرها ، وقد خاطب بها الإمام العسكري عليه‌السلام أصحابه في مختلف ديار الإسلام ، موجهاً إلى الأخلاق الحميدة والصفات الكريمة ، مبيناً مفاهيم الإسلام وتعاليمه السامية وعقائده الحقّة ، حاثاً على العمل بها ، موضحاً أحكام الشريعة ومسائل الحلال والحرام ، وفيما يلي نذكر نماذج منها ، أو نكتفي بذكرها مع الاشارة إلى مظانها.

١ ـ قصار الحكم والمواعظ ، وهي تجري مجري مواعظ آبائه عليهم‌السلام في جزالة ألفاظها ومتانة اُسلوبها وعمق محتواها ، وقد وصف ابن أبي الحديد باب الحكم والمواعظ من نهج البلاغة بقوله : « اعلم أنّ هذا الباب من كتابنا كالروح من البدن ، والسواد من العين ، وهو الدرّة المكنونة التي سائر الكتاب صدفها » (٢).

__________________

(١) العدد ١ ـ السنة الثانية ص ١١٨ ـ ١٥١.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٨١.

١٧٤

ومن مواعظ الإمام العسكري عليه‌السلام قوله : « لا تمارِ فيذهب بهاؤك ، ولا تمازح فيُجْتَرأ عليك. ليست العبادة كثرة الصيام والصلاة ، وإنّما العبادة كثرة التفكّر في أمر الله. بئس العبد يكون ذا وجهين وذا لسانين ، يطري أخاه شاهداً ، ويأكله غائباً ، إن اُعطي حسده ، وإن ابتُلي خانه. الغضب مفتاح كلّ شرّ. أقلّ الناس راحةً الحقود. الاشراك في الناس أخفى من دبيب النمل على المسح الأسود في الليلة المظلمة. أورع الناس من وقف عند الشبهة. أعبد الناس من أقام على الفرائض. أزهد الناس من ترك الحرام. أشدّ الناس اجتهاداً من ترك الذنوب. إنّكم في آجال منقوصة وأيام معدودة ، والموت يأتي بغتة. قلب الأحمق في فمه ، وفم الحكيم في قلبه. لا يشغلك رزق مضمون عن عمل مفروض. ما ترك الحقّ عزيز إلا ذلّ ، ولا أخذ به ذليل إلا عزّ. جرأة الولد على والده في صغره تدعوا إلى العقوق في كبره. من وعظ أخاه سراً فقد زانه ، ومن وعظه علانية فقد شأنه. ما أقبح بالمؤمن أن تكون له رغبةٌ تذلّة ! أضعف الأعداء كيداً من أظهرعداوته. لا يعرف النعم إلا الشاكر ، ولا يشكر النعمة إلا العارف. حسن الصورة جمال ظاهر ، وحسن العقل جمال باطن. إذا نشطت القلوب فأودعوها ، وإذا نفرت فودّعوها. من ركب ظهر الباطل نزل به دار الندامة. السهر ألذّ للمنام ، والجوع أزيد في طيب الطعام. إن الوصول إلى الله عزوجل سفر لا يدرك إلا بامتطاء الليل. من لم يحسن أن يمنع لم يحسن أن يعطي ... » (١) وغيرها من الحكم البليغة والمواعظ الحكيمة التي تجري على هذا المنوال.

__________________

(١) تحف العقول : ٣٦٠ ـ ٣٦٣ ، بحار الأنوار ٧٨ : ٣٧٠ ـ ٣٨٠ ـ باب ٢٩.

١٧٥

٢ ـ كتب إليه عليه‌السلام بعض بني أسباط كتاباً يعرّفه اختلاف الشيعة في إمامته ، فأجابه بكتاب بيّن فيه طبقات الناس في الاعتقاد بإمامته عليه‌السلام ، ودعاه إلى أن يدع من ذهب يميناً وشمالاً من أهل الباطل ، وحذّره من الإذاعة وطلب الرئاسة ، وأمر أصحابه بتقوى الله وأداء الامانة (١).

٣ ـ كتابه عليه‌السلام إلى أهل قم وآبة ، أوصاهم فيه بالسير على هدى أسلافهم في التمسك بمودة أهل البيت عليهم‌السلام ، باعتبارها منهاج الصدق وسبيل الرشاد ومورد الفائزين (٢).

٤ ـ كتابه عليه‌السلام إلى أبي الحسن علي بن الحسين بن بابويه القمي ، أوصاه فيه بالصبر وانتظار الفرج في زمان غيبة ولده الحجة عليه‌السلام (٣) ، وقد تقدّم بعضه في المبحث الأول من هذا الفصل.

٥ ـ كتاب طويل كتبه عليه‌السلام إلى إسحاق بن إسماعيل النيسابوري ، يحتوي على جملة وصايا عقائدية وأخلاقية ، أوصى فيه شيعته بطاعة الله ورسوله واُولي الأمر من عترة النبي المعصومين عليهم‌السلام ، وبين فيه فرائض الدين ، وبعض الأوامر والنواهي إلى وكلائه عليه‌السلام (٤).

٦ ـ كتاب إلى شيعته ، فيه وصايا مهمة ، نذكره بنصّه لما فيه من جوامع الكلم وجملة مبادئ الاسلام ، قال عليه‌السلام : « اُوصيكم بتقوى الله ، والورع في

__________________

(١) تحف العقول : ٣٦٠ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٢٩٦ / ٧٠ عن كشف الغمة ٣ : ٢٩٣.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٤٥٨.

(٣) مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٤٥٨.

(٤) تحف العقول : ٣٥٨ ، رجال الكشي ٢ : ٨٤٤ / ١٠٨٨ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٣١٩ / ١٦.

١٧٦

دينكم ، والاجتهاد لله ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من بَرّ أو فاجر ، وطول السجود ، وحسن الجوار ، فبهذا جاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

صلّوا في عشائرهم ، واشهدوا جنائزهم ، وعودوا مرضاهم ، وأدّوا حقوقهم ، فانّ الرجل منكم إذا ورع في دينه ، وصدق في حديثه ، وأدّى الأمانة ، وحسن خلقه مع الناس ، قيل : هذا شيعي ، فيسّرني ذلك.

اتقوا الله ، وكونوا زيناً ، ولا تكونوا شيناً ، جرّوا إلينا كلّ مودة ، وادفعوا عنا كلّ قبيح ، فإنّه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله ، وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك لنا في كتاب الله ، وقرابة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتطهير من الله لا يدّعيه أحد غيرنا إلا كذاب. أكثروا ذكر الله ، وذكر الموت ، وتلاوة القرآن ، والصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ للصلاة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عشر حسنات ، احفظوا ما وصّيتكم به وأستودعكم الله ، وأقرأ عليكم السلام » (١).

٧ ـ الصلوات على النبي والآل عليهم‌السلام ، وهي طويلة ، رواها الشيخ الطوسي بالاسناد عن أبي محمد عبد الله بن محمد العابد ، قال : « سألت مولاي أبا محمد الحسن بن علي عليه‌السلام في منزله بسرّ من رأى ، سنة خمس وخمسين ومائتين ، أن يملي عليَّ من الصلاة على النبي وأوصيائه عليه وعليهم السلام ، واحضرت معي قرطاساً كثيراً ، فأملى عليَّ لفظاً من غير كتاب ... » (٢).

٨ ـ الأدعية والزيارات ، وهي كثيرة ، منها : دعاؤه عليه‌السلام قبل اصفرار

__________________

(١) تحف العقول : ٣٦١.

(٢) مصباح المتهجد : ٣٩٩ ـ أعمال الجمعة ـ مؤسسة فقه الشيعة ـ بيروت.

١٧٧

الشمس (١) ، ودعاؤه عند الصباح (٢) ، ودعاؤه في القنوت (٣) ، ودعاؤه على موسى بن بغا حينما شكاه أهل قم (٤) ، ودعاؤه عقيب كلّ نافلة من نوافل شهر رمضان (٥) ، ودعاؤه عند دخول المسجد (٦) ، ودعاؤه للحوائج ، رواه عنه عليه‌السلام عبد الله بن جعفر الحميري ، وهو دعاء طويل كتبه إلى أحد أصحابه ، وكان قد أرسل إليه عليه‌السلام رقعة من الحبس يذكر فيها ثقل الحديد وسوء الحال وتحامل السلطان (٧) ، وزيارة أمير المؤمنين عليه‌السلام في يوم الغدير (٨) ، والدعاء في يوم ولادة الإمام الحسين عليه‌السلام ، خرج في توقيع منه عليه‌السلام إلى القاسم بن العلاء الهمداني (٩) ، وغيرها كثير.

ثانياً : دوره عليه‌السلام في التشريع

لا ريب أن دور الأئمة عليهم‌السلام في تبليغ أحكام الشريعة والتحديث والافتاء يختلف بحسب الظروف السياسية المحيطة بهم ، ومقدار الحرية المتاحة لهم ، وقد

__________________

(١) مصباح المجتهد : ٥١٧ ـ أدعية الساعات.

(٢) مهج الدعوات : ٢٧٧.

(٣) مهج الدعوات : ٦٢ ، بحار الأنوار ٨٥ : ٢٢٨.

(٤) مهج الدعوات : ٦٧ ، بحار الأنوار ٨٥ : ٢٢٩ / ١.

(٥) إقبال الأعمال : ٢٨٢ ـ الباب التاسع ـ أدعية عقيب كلّ نافلة من نوافل شهر رمضان.

(٦) بحار الأنوار ٨٤ : ٢٧ / ٢١ عن جمال الاسبوع للسيد ابن طاوس مسنداً عنه عليه‌السلام.

(٧) بحار الأنوار ١٠٢ : ٢٣٨ / ٥.

(٨) بحار الأنوار ١٠٠ : ٣٥٩ / ٦.

(٩) مصباح المتهجد : ٨٢٦ ـ شعبان.

١٧٨

ذكرنا أنّ إمامنا العسكري عليه‌السلام كان رهينة بيد السلطة التي مارست معه أعلى حالات التغييب والاقصاء ، فضلاً عن أنه عليه‌السلام كان محكوماً بحالة الاحتجاب التي يهيء من خلالها شيعته لزمان الغيبة.

ورغم هذا وذاك استطاع إمامنا الممتحن عليه‌السلام أن يقدّم إسهامات جادة على طريق الحفاظ على أصول الشريعة وقيم الرسالة ، وإيصال سنن جده المصطفى وآبائه الكرام ( صلوات الله عليهم ) إلى قطاعات واسعة من الأمة ، وذلك على يد ثلّة من أصحابه ووكلائه وطلاب مدرسته الفقهاء الرواة المنتشرين في طول البلاد وعرضها ، الذين حرصوا علي تبليغ رسالته عليه‌السلام وإيصال كتبه ورسائله ، وهي تحمل أحكام الشريعة وفكرها الأصيل ، إلى قواعده في مختلف ديار الإسلام.

ويمكن أن نتلمس دور الإمام عليه‌السلام في تبليغ أحكام الشريعة من خلال النقاط التالية :

أولاً : الرسائل والمسائل التي رواها عنه عليه‌السلام أصحابه أو أخرجها إليهم ، سيما التي تخصّ أحكام الدين وعلم الحلال والحرام ، وقد ذكرناها في أول هذا المبحث ...

ثانياً : ما روي عنه عليه‌السلام مكاتبة أو مشافهة في مجال الأحكام والسنن ، وقد بلغت أكثر من مئة حديث كما في مسنده عليه‌السلام (١) ، وهي موزّعة على أبواب الفقه وموضوعاته المختلفة.

وروى عنه العامة حديثاً في تحريم الخمر واعتمدوه في بعض مصنّفاتهم ،

__________________

(١) راجع : مسند الإمام العسكري عليه‌السلام / العطاردي : ٢٣٩ ـ ٢٨٠.

١٧٩

قال سبط ابن الجوزي في ترجمة الإمام عليه‌السلام : « كان عالماً ثقة ، روى الحديث عن أبيه عن جده ... ومن جملة مسانيده حديث في الخمر عزيز ، ذكره جدّي أبو الفرج في كتابه المسمى ( تحريم الخمر ) ونقلته من خطه وسمعته يقول » ثمّ أورد الإسناد من جده إلى أحمد بن عبد الله السبيعي ، عن الحسن بن علي العسكري عليه‌السلام ، عن آبائه عليهم‌السلام ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، عن جبرئيل ، عن ميكائيل ، عن إسرافيل ، عن اللوح المحفوظ ، ولفظ الحديث « شارب الخمر كعابد الوثن ».

قال : « ولما روى جدّي هذا الحديث في كتاب ( تحريم الخمر ) قال : قال أبو نعيم الفضل بن دكين : هذا حديث صحيح ثابت روته العترة الطيبة الطاهرة ، ورواه جماعة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم : ابن عباس ، وأبو هريرة ، وأنس ، وعبد الله بن أبي أوفى الأسلمي في آخرين » (١).

ثالثاً : تنشئة جيل من أصحابه الرواة والفقهاء والمؤلفين ، ولا ريب أن دور الإمام عليه‌السلام وملامح عمله تنكشف من خلال عمل أتباعه المعتمدين ، ويتعمق ذلك بمقدار اشتداد الظروف الداعية إلى السرية والاحتجاب.

وقد حرص الإمام العسكري عليه‌السلام على الإتصال بأقطاب مدرسة آبائه عليه‌السلام من خلال ممثلية من القيّمين والوكلاء المنتشرين في البلدان ، باتباع اسلوب المكاتبة والمراسلة ، وكان عليه‌السلام يتبع مختلف الوسائل لإضفاء طابع السرية على الاتصال بهم ، حتى ورد أنه عليه‌السلام كان يضع الكتب في خشبة كأنّها رجل باب مدورة طويلة ملء الكف ، ويدفعها إلى أحد الخدم ليوصلها إلى العمري ، كما

__________________

(١) تذكرة الخواص : ٣٢٤.

١٨٠