الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ

علي موسى الكعبي

الإمام الحسن العسكري عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-10-2
الصفحات: ٢٠٩

١
٢

٣
٤

مقدمة المركز

إن دراسة سيرة الأئمة المعصومين عليهم‌السلام تعتبر من الاسس القويمة للبناء الفكري والمنهج السلوكي لديننا الحنيف ، لأنهم الامتداد الحقيقي لنهج النبوة وسيرتها المعطاء ، والحُماة الاُمناء لمفاهيم الرسالة وعقائدها من حالة التردي والتحريف والضلال.

إننا في رحاب سيرتهم نتواصل مع القدوة الحسنة بكلّ تجلياتها الروحيه والفكرية والعلمية ، وامتداداتها التي تستغرق كلّ مفردات الحياة وتسير نحو سُلّم الكمال المطلوب على صعيد الفرد والمجتمع.

من هنا فاننا بحاجة إلى دراسة متأملة وقراءة متأنية تلمّ بأطراف تلك السيرة المشرقة بالعطاء ، لنجعلها نصب أعيننا فنستجلي مواطن العبرة فيها ، ونستلهم دروس العظمة منها ، ونتعاطى مع دلالتها المتناغمة مع مسيرة الحياة بما تحمله من متطلبات ومستجدات على كافة مستويات الفكر والمنهج والسلوك.

ولعل في تنوع ادوار تلك السيرة بحسب طبيعة المرحلة والظروف السياسية المحيطة بقادتنا المعصومين عليه‌السلام ما يزيل الرتابة منها ويجعلها تتواصل مع مختلف المواقف والظروف نحو هدفٍ اسمى وهمّ مشترك ، وذلك هو حفظ الكتاب الكريم وسنة النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وطلب الاصلاح والهداية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهذا كتاب قراءة في سيرة أحد عظماء أهل البيت عليهم‌السلام ، ذلك هو إمامنا الحادي عشر أبو محمد الحسن العسكري عليه‌السلام الذي قال فيه أبوه الهادي عليه‌السلام : « أبو

٥

محمد ابني أنصح آل محمد غريزة وأوثقهم حجة ».

ويبدو أن أهم ما يستوقف الباحث في حياة الإمام العسكري عليه‌السلام هو كونه آخر إمامٍ ختمت به الإمامة الظاهرة ، ليبدأ بعده عصر الغيبة الذي بدأت تباشيره وأوشك زمانه ، لذلك وقع على الإمام العسكري عليه‌السلام العبء الأكبر في ترسيخ مبدأ الغيبة وتأصيله في نفوس شيعته للحفاظ على خطهم الرسالي من الضياع والانهيار. وقد استطاع إمامنا العسكري عليه‌السلام أن ينجز هذه المهمة الخطيرة بكلّ جدارة وقوة ، وأن يحافظ على حياة ولده المهدي عليه‌السلام من ملاحقة السلطة وأدوات قمعها ، في وقت عصيب عُزل فيه الإمام عن أصحابه وشدّدت الرقابة عليه.

وفي هذا الاتجاه استطاع أن يهيء ذهنية شيعته لتقبل عصر الغيبة باتباع عين الأسلوب الذي سيتّخذه ولده المهدي عليه‌السلام في عصرالغيبة ، وهو الاحتجاب عن الناس واتخاذ الوكلاء الذين يختارهم من خاصته ، والاتصال بأصحابه عن طريق المكاتبات والتواقيع التي صارت سمة بارزة في حياة الإمامين العسكريين عليهما‌السلام.

وهناك صفحات اُخرى مشرقة تستوقف الباحث في سيرة هذا الإمام العظيم الملأى بالعطاء ، نتركها للقارئ الكريم وهو يتحرّاها في فصول هذا الكتاب الذي استطاع مؤلفه أن يوقفنا عند المحطات الرئيسية في سيرة هذا الإمام العظيم ، ضمن دراسة جادة موثقة بالمصادر المعتبرة.

ومنه تعالى نستمد العون والتوفيق

مركز الرسالة

٦

المُقدَّمةُ

الحمدلله رب العالمين ، وسلامه على عباده المصطفين محمد وآله الميامين.

وبعد : إن البحث في سيرة الأئمة المعصومين عليهم‌السلام باعتبارهم قادةً رساليين وقدوة حسنة تتمثل بهم خصائص العظمة والاستقامة ، يعكس دورهم الايجابي في تحريك طاقات الأمة باتجاه الوعي الرسالي للشريعة ، وتعميق حركة الإسلام الأصيل في وجدانها ، وحماية الرسالة من حالة التردي بالوقوف في وجه التيارات الفكرية المنحرفة.

ويقابل ذلك البحث في سيرة الزماعات المعاصرة لهم عليهم‌السلام التي نقرأ فيها الوجه المشوّه للرسالة على المستوى النظري والتطبيقي ، على الرغم من تماهي أصحاب السلطة والصولجان في كتابه تاريخهم وإغداقهم أسخي الهبات على كتّابهم وشعرائهم.

من هنا كان نصيب السيرة الأولى الخلود والسمو والمجد رغم إقصاء رموزها المعصومين عليهم‌السلام عن مركزهم في زعامة الأمة ، ورغم كونهم ملاحقين ومعزولين عن قواعدهم وشهداء في نهاية المطاف ، وكان نصيبهم أيضاً أن تمسكت بهم غالبية الأمة ومنحتهم كلّ مظاهر التبجيل والثناء والود والثقة ، لا لأنهم من أبناء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لأن المنتسبين إليه كثيرون ، بل لما تستشعره الأمة من سيرتهم الغنية بالعطاء ودورهم المشرق في كلّ اتجاه ذلك لأن الأمة لا تمنح ثقتها وحبها اعتباطاً ، يقول الإمام الكاظم عليه‌السلام لهارون الرشيد : « أنا إمام

٧

القلوب وأنت إمام الجسوم » (١).

ونحن مع إمامنا الحادي عشر عليه‌السلام نستشعر تمسك الأمة بالإمام وعظم محبته في قلوبهم وهيبته في نفوسهم في عدة مواقف لعلّ أبرزها حينما اُشخص العسكري مع أبيه عليهما‌السلام من مدينة صلى‌الله‌عليه‌وآله جدهم إلى عاصمة الملك سامراء بأمر المتوكل ، فقد روى المؤرخون والمحدثون عن يحيى بن هرثمة وهو المكلف بإشخاص الإمام عليه‌السلام أنه قال : « فذهبت إلى المدينة ، فلما دخلتها ضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله ... وقامت الدنيا على ساق ... » (٢) وحينما نعاه الناعي إبّان شهادته « صارت سامراء ضجّة واحدة : مات ابن الرضا ... وعطّلت الأسواق ، وركب سائر الناس إلى جنازته ، فكانت سامراء يومئذٍ شبيها بالقيامة » (٣) ولم يكن ذلك إلا لشعور الأمة بعطاء الإمام عليه‌السلام ودوره الفعال في حماية الرسالة ، الأمر الذي جعل حتى أعداءَه من رجال البلاط يذعنون بفضله وهديه ، ومنهم وزير المعتمد عبيد الله بن خاقان الذي قال لابنه أحمد عامل الخراج والضياع في قم في إشارة إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : « يا بني لو زالت الإمامة عن خلفائنا بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غيره لفضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه » (٤).

ولا ريب أن عطاءات الإمام العسكري عليه‌السلام والأدوار التي قام بها على

__________________

(١) ينابيع المودة / القندوزي ٣ : ١٢٠.

(٢) تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٣٢٢ ـ مؤسسة أهل البيت عليهم‌السلام ـ بيروت.

(٣) إكمال الدين / الشيخ الصدوق : ٤٣ ـ المقدمه ـ جماعة المدرسين ـ قم.

(٤) إكمال الدين : ٤١ ـ المقدمه.

٨

مستوى الرسالة ، تمتاز بالخصوصية والاستثناء نظراً للمقطع الزماني الخطير الذي عاشه عليه‌السلام والذي يمتثل في شدة السلطان وإمعانه في عزل الإمام ومراقبة حركاته وسكناته ، بل ولجوئه إلى شتى وسائل القمع لانهائه والاجهاز عليه والحاقه بمن سبقه من سلالة هذا البيت الكرام عليهم‌السلام ، وذلك لكونه والد الإمام الحجة عليهما‌السلام الذي عرفوا بما أثر عندهم من الأحاديث والآثار انه يقيم دولة الحق ويقوّض اُسس الباطل ، ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعدما ملئت جوراً وظلماً.

قال الإمام العسكري عليه‌السلام : « زعموا انهم يريدون قتلي ليقطعوا هذا النسل ، وقد كذّب اللهُ قولَهم ، والحمد لله » (١) لقد ظنوا أنهم يستطيعون النيل من حجة الله المودع بعين الله وحفظه ، فخيب الله ظنّهم.

ورغم الظروف السياسية الحالكة استطاع إمامنا العسكري عليه‌السلام أن يقدّم للامة عطاءً واسعاً ، ويمثل دوراً فاعلاً في إيصال سنن جدّه المصطفي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآبائه المعصومين عليهم‌السلام أن يعدّ جيشاً عقائدياً وطليعة واعية تؤمن بالغيبة كمبدأ عقائدي أصيل يعيش في وجدانها ، وتمكن بالاشراف على شيعته عن طريق التواقيع والمراسلات الوكلاء أن يخطط لسلوكها ويحمي وجودها وينمي وعيها ويمدها بكلّ الأساليب التي تساعد على صمودها وارتقائها إلى مستوى الحاجة الاسلامية.

وتمكن الإمام العسكري عليه‌السلام من إنقاذ الأمة من حالة التعثّر في مهاوي الضلال والتيه ، عن طريق مقاومة التيارات الفكرية المنحرفة عن الجادة وجسّ مواقع تأثيرها وتشخيصها وهي في بدايتها تقديراً لشدّة مضاعفاتها وتخطيطاً

__________________

(١) إكمال الدين : ٤٠٧ ـ باب ٣٨.

٩

للقضاء عليها ، ولعلّ خير مصاديق ذلك هو اهتمام الإمام العسكري عليه‌السلام بمشروع كتاب يصنفه الكندي حول متناقضات ادّعاها في القرآن الكريم ، إذا إتصل به عن طريق بعض المنتسبين إلى مدرسته ، فاحبط المحاولة وأقنع مدرسة الكندي بأنها على خطأ. (١)

وسنعيش مع فصول هذا الكتاب السبعة أدواراً اُخرى وعطاءات كثيرة امتدت منذ نشأة الإمام عليه‌السلام حتى وفاته في سامراء شهيداً وشاهداً على الأمة بعد سنين من المحنة وفصولٍ من الجهاد.

ولسنا ندّعي هنا بأنّنا قد أحطنا بكلّ جوانب حياة هذا الإمام الهمام وسيرته المعطاء ، ولكنّا قدّمنا جهداً متواضعاً نرجو أن يفي بعض الحق الذي في أعناقنا لأئمتنا الهداة الميامين ، سائلين المولى العزيز أن يسدد خطانا ، ويلهمنا الصواب في القول والعمل ، ومنه تعالى نستمد العون والتوفيق ، وهو من وراء القصد.

__________________

(١) راجع : المناقب / ابن شهر آشوب ٤ : ٤٥٧ ـ دار الأضواء ـ بيروت ـ ١٤٢١ ه‍.

١٠

الفصل الأوّل

الحياة السياسية

في عصر الإمام العسكري عليه‌السلام ( ٢٣٢ ـ ٢٦٠ ه‍ )

لا ريب أنّ الحالة السياسية السائدة في عصرٍ ما تشكّل المفصل الأساسي الذي تتحرك عليه مجمل الأوضاع الفكرية والاجتماعية والاقتصادية لذلك العصر ، وتنعكس عليه سلباً وإيجاباً ، ذلك لأن الحاكم يمتلك ـ بسلطته وسطوته وسيطرته على منابع الثروة ـ مفاتيح التغيير الاجتماعي والفكري ببسط اسباب الحرية أو الاستبداد ، ويمتلك عوامل الرخاء أو الفساد الاقتصادي بعدله أو جوره ، وكلّ ذلك منوط بنوع الجهاز الحاكم وسلوك أجهزتة التنفيذية ، وفيما يتعلق بتاريخ الإمام أبي محمد الحسن العسكري عليه‌السلام الذي عاش في العصر العباسي الثاني سنقدم قراءة تاريخية للحكام الذين عاصروا الإمام عليه‌السلام منذ الولادة حتى الشهادة ، ثمّ نذكر أهمّ السمات التي طبعت ذلك العصر.

الحكام المعاصرون للإمام عليه‌السلام :

ولد الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام في الثامن من الربيع الآخر سنة ٢٣٢ ه‍ على القول المشهور في ولادته عليه‌السلام وذلك في آخر ملك الواثق بالله بن المعتصم ( ٢٢٧ ـ ١٣٢ ه‍ ) وبويع بعده لأخيه جعفربن المعتصم المعروف

١١

بالمتوكل لست بقين من ذي الحجة سنة ٢٣٢ ه‍ ، وكان عمر الإمام العسكري عليه‌السلام نحو ثمانية أشهر ونصف ، وقتل المتوكل سنة ٢٤٧ ه‍ ، وتولى بعده ابنه المنتصر بالله زمام السلطة العباسية لستة أشهر ويومين فقط ، ومات سنة ٢٤٨ ه‍ ، فتولى بعده المستعين بالله أحمد بن محمد المعتصم سنة ٢٤٨ ه‍ ، وخلع نفسه بعد فتنة طويلة وحروب كثيرة سنة ٢٥١ ه‍ ، وتولى بعده المعتز بالله بن المتوكل واسمه محمد وقيل : الزبير ( ٢٥٢ ـ ٢٥٥ ه‍ ) واستشهد حجة الله الإمام أبو الحسن علي الهادي عليه‌السلام بعد مضي نحو سنتين ونصف من أيام حكم المعتز بالله ، وذلك في الثالث من رجب سنة ٢٥٤ ه‍ ، وتولى الإمام العسكري مهام الإمامة الإلهية.

ثم جاء إلى السلطة المهتدي بالله محمد بن الواثق بعد خلع المعتز وقتله سنة ٢٥٥ ه‍ ، وحكم نحو سنة واحدة ، ثمّ قتله الأتراك سنة ٢٥٦ ه‍ ، وتولى بعده أحمد ابن جعفر المتوكل المعروف بالمعتمد نحو ثلاث وعشرين سنة حيث قتل سنة ٢٧٩ ه‍ ، وهكذا استغرقت حياة إمامنا العسكري عليه‌السلام الأيام الأخيرة من حكم الواثق ، ثم تمام حكم المتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي مع أربع سنين من حكم المعتمد ، حيث استشهد إمامنا عليه‌السلام يوم الجمعة الثامن من ربيع الأول سنة ٢٦٠ ه‍ ، على القول المشهور في وفاته عليه‌السلام (١).

__________________

(١) راجع : تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٦٧ ـ ٢٨٢ ـ دار الكتاب العربي ـ ١٤٢٢ ه‍ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٤ ـ ٥٠٧ ـ دار صادر ـ ١٤١٥ ه‍ ، إعلام الورى / الطبرسي ٢ : ١١١ ـ ١٣١ ـ مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ـ ١٤١٧ ه‍ ، الجوهر الثمين / ابن دقماق ١ : ١٤٦ ـ ١٥٧ ـ عالم الكتب ـ ١٤٠٥ ه‍ ، دلائل الإمامة ، الطبري : ٤٠٩ و ٣٢٤ ـ مؤسسة البعثة ـ ١٤١٣ ه‍ ، التتمة في

١٢

أهم سمات هذا العصر

يعتبر هذا العصر بداية لضعف سلطة الدولة العباسية وسقوط هيبتها وانحلالها ، بسبب استيلاء الأتراك على عاصمة الملك ، وانتقاض أطراف الدولة واستيلاء العمال والولاة عليها ، واعتزال الخلفاء عن شؤون الحكم وانصراف غالبيتهم إلى أسباب اللهو والترف والمجون ، وقد انعكست آثار ذلك على مجمل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بشكل مباشر ، وفيما يلي أهم خصائص هذا العصر :

السمة الأولى ـ نفوذ الأتراك وضعف العباسيين

تميز هذا العصر بغلبة الأتراك والفراغنه والمغاربة وغيرهم من الموالي وتدخّلهم في مقاليد الحكم ، وكان أول ذلك في عصر المعصتم الذي اعتنى منذ توليه الحكم سنة ٢١٨ ه‍ ، باقتناء الترك ، فبعث إلى سمرقند وفرغانة والنواحي في شرائهم ، وبذل فيهم الأموال ، وألبسهم أنواع الديباج ومناطق الذهب ، فكانوا يطردون خيلهم في بغداد ويؤذون الناس ، وضاقت بهم البلد ، فاجتمع إليه أهل بغداد وقالوا : إن لم تخرج عنا بجندك حاربناك ، فكان سبب بنائه سرّ من رأى وتحوّله إليها سنة : ٢٢٠ وقيل : ٢٢١ ه‍ (١).

وبعد ذلك ازداد نفوذ الأتراك في عاصمة العسكر سامراء وتسنّموا

__________________

تواريخ الأئمة عليه‌السلام / تاج الدين العاملي : ١٣٧ و ١٤٢ ـ مؤسسة البعثة ـ ١٤١٢ ه‍.

(١) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٥٩ ، معجم البلدان / ياقوت الحموي ـ المجلد الثالث : ١٠ ـ ١٣ ـ ( مدينة سامراء ) دار احياء التراث العربي ـ بيروت ـ ١٤١٧ ه‍.

١٣

مناصب هامة كولاة وعمال وقادة جيش ، ومنهم بغا الكبير ، وابناه موسى ومحمد ، وبابكيال ، وياركوج ، واذكوتكين ، وبغا الصغير الشرابي ، ووصيف بن باغر وغيرهم. وبعد عصر المتوكل ازدادت سيطرتهم على مقاليد الحكم فأهانوا الخلفاء العباسيين وسلبوا إرادتهم ، وتدخلوا في شؤون الملك ، وتلاعبوا ببيوت الأموال ، وانتكهوا مصالح الاُمة ومقدراتها ؛ فقد قتلوا المتوكل والمهتدي ، وخلعوا المعتز والمؤيد ابني المتوكل من ولاية العهد ، واستخلفوا للمستعين ، واستولوا على الأموال في عهده ، وقاتلوه حين غضب عليهم ، فاعتصم ببغداد وبايعوا للمعتز من بعده.

قال ابن طقطقا : كان الأتراك قد استولوا منذ قتل المتوكل على المملكة ، واستضعفوا الخلفاء ، فكان الخليفة في يدهم كالأسير إن شاءوا أبقوه ، وإن شاءوا خلعوه ، وإن شاءوا قتلوه (١).

وقد وصف بعض الشعراء الحالة التي انتهت إليها الخلافة العباسية في زمن المستعين الذي ليس له حول ولا قوة مع اُمراء الجند الأتراك ومنهم وصيف وبغا بقوله :

خليفة في قفصٍ

بين وصيفٍ وبغا

يقول ما قال لهُ

كما تقول الببغـا (٢)

ومن مظاهر سيطرة اُمراء الأتراك على جميع أفراد الدولة بما فيهم الخليفة في زمان المعتزّ بالله ، ما ذكره اليعقوبي في تاريخه حوادث سنة ٢٥٥ ه‍ ، قال : وثب

__________________

(١) الفخري في الآداب السلطانية / ابن الطقطا : ٢٤٣ ، نشر الشريف الرضي ، قم.

(٢) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٧٨.

١٤

صالح بن وصيف التركي على أحمد بن اسرائيل الكاتب وزير المعتز ، وعلى الحسن بن مخلد صاحب ديوان الضياع ، وعلى عيسىٰ بن إبراهيم بن نوح وعلى ابن نوح ، فحبسهم وأخذ أموالهم وضياعهم وعذّبهم بأنواع العذاب ، وغلب على الأمر ، فهمّ المعتزّ بجمع الأتراك ، ثمّ دخل إليه فأزاله من مجلسه ، وصُيّر في بيت ، وأخذ رقعته بخلع نفسه ، وتوفي بعد يومين ، وصلّى عليه المهتدي (١).

السمة الثانية ـ استئثار رجال السلطة بالأموال العامة

السمة الغالبة في حياة سلاطين هذا العصر ومن سار في ركابهم من القادة والولاة والامراء والقضاء هي الاستئثار ببيت المال وتسخيره لخدمة مصالحهم الخاصه وحرمان الأغلبية الساحقة منه ، ومن مظاهر ذلك الاستئثار ان اُمّ شجاع والدة المتوكل حينما ماتت قبله بسنة خلفت أموالاً لا تُحصر ؛ من ذلك خمسة آلاف ألف دينار من العين وحده (٢). ونقل المؤرخون في أحداث سنة ٢٤٩ أن المستعين أطلق يد والدته ويد أتامش وشاهك الخادم في بيوت الأموال ، وأباحهم فعل ما أرادوا ، فكانت الأموال التي ترد من الآفاق يصير معظمها إلى هؤلاء الثلاثة ... وما يفضل من هؤلاء الثلاثة يأخذه أتامش للعباس بن المستعين فيصرفه في نفقاته (٣).

وذكروا أنه حينما خرج المستعين من سامراء وبويع للمعتز سنة ٢٥٢ ه‍

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي : ٢ : ٥٠٤ ، سير أعلام النبلاء / الذهبي ١٢ : ٥٣٥ ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ ١٤١٩ ه‍.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤١.

(٣) الكامل في التاريخ / ابن الأثير ٦ : ١٥٤ ـ دار الكتاب العلمية ـ ١٤١٥ ه‍ ، البداية والنهاية / ابن كثير ١١ : ٣ ـ مكتبة المعارف ـ ١٤١٤ ه‍.

١٥

خلّف في بيت المال بسامراء نحو خمسائة ألف دينار ، وفي بيت مال أم المستعين ألف ألف دينار ، وفي بيت المال العباس ابنه ستمائة ألف دينار (١).

وفي أحداث سنة ٢٥٥ ه‍ ذكروا أنه ظُفِر لقبيحة اُمّ المعتز وزوجة المتوكل بعد خلع المعتز وقتله ، بخزائن تحت الأرض فيها أموال كثيرة ، ومن جملتها دار تحت الأرض وجدوا فيها ألف ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار ، ووجدوا في سفط قدر مكوك زمرد لم ير الناس مثله ، وفي سفط آخر مقدار مكوك من اللؤلؤ الكبار ، وفي سفط آخر مقداركليجة من الياقوت الأحمر الذي لم يوجد مثله ، فقوّمت الأسفاط بالفي ألف دينار (٢).

أما استعراض تفاصيل أموال وضياع الامراء والولاة والقضاء وكتاب الدواوين والجواري والمغنين والشعراء وغيرهم من المقربين إلى البلاط ، فمما يخرج بنا عن الغرض ، ويكفي مثالاً على ذلك أن بغا الكبير حينما مات سنة ٢٤٨ ه‍ ترك من المتاع والضياع ما قيمته عشرة آلاف ألف دينار ، وترك عشر حبّات جوهر قيمتها ثلاثة آلاف ألف دينار (٣).

وكانت مؤونة أحمد بن طولون ألف دينار في اليوم ... وحينما مات خلّف من العين عشرة ألف دينار ، وأربعة وعشرين ألف مملوك (٤).

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٦ : ١٦٦ ، البلادية والنهاية ١١ : ٧.

(٢) تاريخ الطبري ٩ : ٣٩٥ بتحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم ـ بيروت ، الكامل في التاريخ ٦ : ٢٠٢ ، البداية والنهاية ١١ : ١٧ ، تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٨٠.

(٣) البداية والنهاية ١١ : ٢.

(٤) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٩٤ ـ ٩٥.

١٦

وكانت غُريب جارية المعتمد ذات أموال جزيلة (١).

السمة الثالثة ـ ميل العباسيين إلى البذخ والترف واللهو

كان رجال الدولة وعلى رأسهم السلطان ينفقون الأموال الطائلة لشؤونهم الخاصة كاقتناء الجواري والسراري والقيان والمغنين وجميع وسائل اللهو والمجون المتاحة في ذلك العصر ، وكانوا يسرفون في الانفاق على الشعراء وبناء القصور ، بينما تعيش الأكثرية الساحقة من الناس على الكفاف وينهكها الجوع والفقر وتفتك بها الأمراض والأوبئة.

فقد كان المتوكل كثير الانفاق على الشعراء حتى قيل : ما أعطى خليفة شاعراً ما أعطى المتوكل (٢) ، فأجاز مروان بن أبي الجنوب علي قصيدة في مدحه بمائة وعشرين ألف درهم ، وأعطاه حتى أثرى كثيراً فقال :

فأمسك ندى كفيك عني ولا تزد

فقد خفت أن أطغى وأن اتجبرا

فقال : لا أمسك حتى يغرقك جودي (٣).

وقرّب المتوكل أبا شبل عاصم بن وهب البرجمي ، وكان شاعراً ماجناً ، وأنفق عليه حتى أثرى ، قال أبو الفرج : نَفَق عند المتوكل بايثاره العبث وخدمه وخُصّ به فأثرى ، وأمر له بثلاثين ألف درهم على قصيدة من ثلاثين بيتاً (٤).

وأجاز عبيد الله بن يحيى بن خاقان أبا شبل البرجمي أيضاً على قصيدة في

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٥٥٢.

(٢) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٧٠.

(٣) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٧٠.

(٤) الأغاني / ابو الفرج الاصفهاني ١٤ : ١٩٣ ـ دار إحياء التراث العربي.

١٧

مدحه خمسة آلاف درهم ودابة وخلع عليه (١).

وعن أحمد بن المكي ، قال : غنيت المتوكل صوتاً شعره لأبي شبل البرجمي ، فأمر لي بعشرين ألف درهم ، فقلت : يا سيدي أسأل الله أن يبلّغك الهُنيدة. فسأل عنها الفتح ، فقال : يعني مائة سنة ، فأمر لي بعشرة آلاف اُخرى (٢).

وأجاز المتوكل الحسين بن الضحاك الخليع على أربعة أبيات أربعة آلاف دينار (٣).

وكان المتوكل مغرماً بالجواري اللاتي يجلبن من أنحاء البلاد بأموال طائلة ، فقد روي عن المسعودي أنه قال : كان المتوكل منهمكاً في اللذات والشراب ، وكان له أربعة آلاف سُرّية ووطئ الجميع (٤).

كما كان ميالاً إلى التأنّق في تشييد القصورالضخمة التي تعجّ بألوانٍ من مظاهر الترف والبذخ والعبث اللهو والمجون ، قال اليعقوبي : بني المتوكل قصوراً أنفق عليها أموالاً عظاماً منها : الشاه ، والعروس ، والشِّبندار ، والبديع ، والغريب ، والبرج ، وأنفق على البرج ألف ألف وسبعمائة ألف دينار (٥).

وقيل : أنفق على الجوسق والجعفري والهاروني أكثر من مئتي ألف ألف

__________________

(١) الأغاني ١٤ : ١٩٩.

(٢) الأغاني ١٤ : ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٣) مروج الذهب / المسعودي ٤ : ٣٨٨ ـ دار إحياء التراث العربي ـ ١٤٢٢ ه‍ ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤٠.

(٤) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٧١ ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤٠.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩١.

١٨

درهم (١).

أما الإسراف في مراسم البلاط الخاصه باولاد الخلفاء وغيرهم فمما يطول به الحديث ، ومن شواهد ذلك ما نقله ابن كثير عن مراسم تسليم المعتز على أبيه بالخلافة ، قال : لما جلس [ المعتزّ ] وهو صبي على المنبر وسلم على أبيه بالخلافة ، وخطب الناس ، نثرت الجواهر والذهب والدراهم على الخواص والعوام بدار الخلافة ، وكان قيمة ما نثر من الجواهر يساوي مائة ألف دينار ، ومثلها ذهباً ، وألف وألف درهم غير ما كان من خلع وأسمطة وأقمشة مما يفوت الحصر ... (٢).

أمّا المستعين فقد قالوا عنه : إنه كان متلافاً للمال مبذراً ، فرّق الجواهر وفاخر الثياب ، واختلّت الخلافه بولايته واضطربت الاُمور (٣).

وذكروا أنّ اُم المهتدي محمد بن الواثق ، التي ماتت قبل استخلافه ، أنّها كانت تحت المستعين ، فلمّا قُتل المستعين صيّرها المعتزّ في قصر الرصافة الذي فيه الحرم ، فلمّا ولي المهتدي الخلافة قال يوماً لجماعة من الموالي : أمّا أنا فليس لي اُمّ أحتاج لها إلى غلّة عشرة آلاف ألف في كلّ سنة لجواريها وخدمها والمتّصلين بها ... (٤).

وأمثلة ذلك كثيرة في التاريخ ، وهي تحكي عن حجم التبذير في بيوت

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤٠ ، وراجع : معجم البلدان / ياقوت ٢ : ٦٠ ـ دار إحياء التراث العربي ـ عند ترجمة الجعفري ، وتاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩٢ ، والبداية والنهاية ١٠ : ٣٤٦ ، والكامل في التاريخ ٦ : ١٣٠.

(٢) البداية والنهاية ١١ : ١٧.

(٣) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤٦.

(٤) تاريخ الطبري ٩ : ٣٩٦ ، الكامل في التاريخ ٦ : ٢٠٣ ، البداية والنهاية ١١ : ١٨.

١٩

الأموال والإسراف في النفقات الخاصه على حساب الأغلبية المحرومة ، وكان من نتائج ذلك أن ابتعد الخليفة عن الرعية وأهمل شؤونهم فكرهه غالبية الناس.

قال ابن كثير في حوادث سنة ٢٤٩ ـ خلافة المستعين ـ : قد ضعف جانب الخلافة ، واشتغلوا بالقيان والملاهي ، فعند ذلك غضبت العوام من ذلك (١).

اما المعتمد الذي مات بالقصر الحسني مع الندماء والمطربين ... وكان يكسر ويعربد على الندماء (٢) ، فقد قال السيوطي وغيره : انهمك باللهو واللذات ، واشتغل عن الرعية فكرهه الناس (٣).

ولعلّ ذلك هو أحد الاسباب في تعاطف عامة الناس سيما أهل بغداد مع بعض الطالبيين الثائرين بوجه الظلم والاستئثار ، ومنهم يحيى بن عمر الشهيد سنة ٢٥٠ ه‍ فضلاً عن حسن سيرته ، قال أبو الفرج : كان هوى أهل بغداد مع يحيى ، ولم يُروَ قطّ أنّهم مالوا إلى طالبي خرج غيره (٤).

وقال ابن الأثير : تولاه العامة من أهل بغداد ، ولا يعلم أنّهم تولوا أحداً من [ أهل ] بيته سواه (٥).

كما أنكر أهل بغداد على المتوكل وكتبوا شتمه على الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء ، وحينما أمر بهدم قبر الإمام الحسين عليه‌السلام وهدم ما حوله من الدور

__________________

(١) البداية والنهاية ١١ : ٣.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٥٥٢.

(٣) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٨٢ ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ٥٤٠.

(٤) مقاتل الطالبيين / أبو الفرج الاصفهاني : ٤٢١ ـ المكتبة الحيدرية ـ النجف.

(٥) الكامل في التاريخ ٦ : ١٥٧.

٢٠