العلل في النحو

أبو الحسن محمد بن عبد الله [ الوراق ]

العلل في النحو

المؤلف:

أبو الحسن محمد بن عبد الله [ الوراق ]


المحقق: مها مازن المبارك
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
الطبعة: ٢
ISBN: 1-57547-843-9
الصفحات: ٤١٦

الزيدين قبل الياء كسرة ، والنون بعدها كما هي بعد الياء في الجمع ، فلما شابه لفظ الجمع أجري بمجراه لهذه العلّة ، وفتحت النون تشبيها بنون الجمع في اللفظ ، فأما كسر النون في تضربان وفتحها في تضربين فالعلّة فيها كالعلّة في تثنية الأسماء وجمعها.

واعلم أن الأفعال لا تثنى ولا تجمع وإنما يلحقها (١) علامة التثنية والجمع على وجهين:

أحدهما : أن تكون الألف والواو ضمير الأسماء إذا تقدمت نحو قوله : الزيدان يقومان ، والزيدون يقومون.

والوجه الثاني : أن تكون الأسماء الظاهرة بعد الفعل فتصير الألف والياء لاحقتين للفعل علامة للتثنية والجمع وليست بضمير (٢) ، وإنما زادوها ليدلوا [على](٣) أن الفعل لاثنين وجماعة كما يلحقون الفعل علامة التأنيث كقولك قامت هند ليدلوا [على](٤) أن الفعل لمؤنث فتقول على هذا : قاما الزيدان وقاموا الزيدون وليس ذلك بالكثير في كلام العرب (٥).

__________________

(١) في الأصل : يحلقها.

(٢) قال ابن مالك في ألفيته :

وجرّد الفعل إذا ما أسندا

لاثنين أو جمع ك" فاز الشهدا"

وقد يقال : سعدا ، وسعدوا

والفعل للظّاهر ـ بعد ـ مسند

وقال ابن عقيل : " مذهب جمهور العرب أنه إذا أسند الفعل إلى ظاهر ـ مثنى ، أو مجموع ـ وجب تجريده من علامة تدل على التثنية أو الجمع ، فيكون كحاله إذا أسند إلى مفرد ..."

وقال : " ومذهب طائفة من العرب ـ وهم بنو الحارث بن كعب ، ... أن الفعل إذا أسند إلى ظاهر ... أتي فيه بعلامة تدل على التثنية والجمع ؛ فتقول : قاما الزيدان ، وقاموا الزيدون ، ... كما كانت التاء في (قامت هند) حرفا تدل على التأنيث عند جميع العرب ..."

شرح ابن عقيل ٢ / ٧٩ ـ ٨٠ (دار الفكر).

(٣) زيادة ليست في الأصل ، فقد جاء في القاموس (دلل) : دلّه عليه دلالة ، باستخدام حرف الجر (على).

(٤) أيضا زيادة ليست في الأصل.

(٥) وهذا ما يعبر عنه النحويون بلغة (أكلوني البراغيث) انظر التعليقة على كتاب سيبويه ١ / ٣٧ ـ ٣٨ ، وشرح أبيات سيبويه للسيرافي ١ / ٤٩١ (دار المأمون) ، وشرح ابن عقيل ٢ / ٨٥.

٨١

فإن قال قائل : فلم لم يلزموا الفعل علامة للتثنية والجمع كما ألزموا الفاعل علامة التأنيث؟.

قيل له : الفصل بينهما (١) أن التثنية ليست بلازمة في جميع الأحوال فلم تلزم / علامتها كما تلزم هي في نفسها.

فأما التأنيث فلازم في الاسم لا يفارقه فلهذا ألزمت علامة التأنيث الفعل.

فإن قال قائل : فلم زعمتم أن الفعل لا يثنى ولا يجمع؟.

قيل له : في ذلك وجوه : أحدها : أن لو جازت تثنيته مع الاسمين لجاز تثينته مع الواحد ، لأن الواحد يفعل من الجنس الواحد من الأفعال ما يفعله الاثنان والثلاثة ، ولو كان ذلك شائعا لوجد في كلامهم جمع الفعل مع الاسم الواحد فكان يقال : زيد قاموا ، فلما خلا ذلك من كلامهم علمنا [أنه](٢) لا يثنى ولا يجمع وما لحقه من علامة التثنية والجمع إنما هو على ما شرحناه.

ووجه آخر : أن الفعل يدل على مصدر وليس هو في نفسه بذات يقصد إليها حتى يضم إليها مثلها ، كما يجب ذلك في الأسماء ، فلذلك لم يثن ولا يجمع.

ووجه ثالث وهو أن الفعل [يدل](٣) على مصدره ، والمصدر لا يثنى ولا يجمع ؛ لأنه اسم للجنس يقع على الواحد فما فوقه كقولك : ضرب ، وأكل ، وشرب.

إلا أن يختلف فحينئذ يجوز جمعه كقولك : ضربت ضروبا ، إذا كان ضربا مختلفا ، فلما كان الفعل إنما دلّ على مصدر واحد ، والواحد من المصادر جنس واحد بينا أنه لا يثنى على هذا الوجه فكذلك لا يثنى ما يدل عليه.

__________________

(١) انظر شرح ابن عقيل ٢ / ٨٠ الحاشية رقم (٢) ، حيث فرق المحقق بين العلامتين.

(٢) زيادة ليست في الأصل يقتضيها السياق.

(٣) زيادة ليست في الأصل يقتضيها السياق.

٨٢

ووجه آخر : وهو أن الفعل لما كان دالا على الزمان والمصدر علم في المعنى أنه اثنان فاستغني عن تثنيته.

واعلم أن الفعل لجماعة المؤنث تلحقه النون على وجهين كما لحقت الواو في المذكر على وجهين :

أحدهما : أن يكون اسما مضمرا يرجع إلى ما قبله كقولك : الهندات يضربن.

والثاني : أن يكون علامة الجمع فيكون على هذا الوجه حرفا كقولك : يضربن الهندات.

واعلم أن هذه النون إذا دخلت على الفعل أوجبت بناءه على السكون ، وإنما وجب ذلك لأنه اسم ، ومن شرط الأسماء المضمرات أن تبنى على حركة لأنها على حرف واحد ، وكرهوا أن يبنوها على السكون فيكون إجحافا بها فإذا أدخلناها على الفعل الماضي نحو قولك : الهندات ضربن ، وجب إسكان حرف من الفعل كراهية أن يجتمع في كلمة واحدة أربع متحركات متواليات لوازم ، لأن الفعل والفاعل كالشيء الواحد ، إذ كان لا يستغني أحدهما عن الآخر ، وليس في كلامهم نظير هذا ، وقد بيناه قبل هذا ، فلم يكن بد من إسقاط حرف من جملة هذه الكلمة ، وإنما كانت الباء بالسكون أولى من وجهين :

أحدهما : أن الأول لا يجوز إسكانه لأنه لا يبتدأ بساكن ، ولا يجوز إسكان الثاني لأنه به يعرف اختلاف الأبنية ، ولا يجوز إسكان النون لما ذكرناه من الإجحاف ، فلم يبق غير الباء فوجب إسكانها.

والوجه الثاني : أن أصل الفعل السكون ، فلما احتجنا إلى تسكين حرف كان ما أصله السكون أولى ؛ لأن ذلك ردّ إلى أصله ، فلهذا وجب إسكان الباء.

وأما تضربن فحمل على ضربن وإن لم تكن فيه علّة ضربن إلا من وجه النسبة

٨٣

أن يضربن من جنس ضربن ، والباء التي سكنت في يضربن هي الباء التي سكنت في ضربن فحملوا المستقبل على الماضي من الوجه الذي ذكرناه لئلا يختلف طريق الفعل فإذا ثبت أن الفعل / المضارع إذا لحقته نون جماعة النساء بني على السكون ، وجب أن يلزم طريقة واحدة في حال الرفع والنصب والجزم لأن ذلك شرط المبنيات ، وما ذكرناه في الشرح من أن النون لو حذفت لالتبس بفعل المذكر ، وأيضا فإن حذف النون لا يجوز بحال فإنها اسم مضمر ولا يجوز حذف الاسم للجزم كما لا يجوز الياء من قولك : لم تضربي ، إذا خاطبت مؤنثا لأنها اسم وعلامة تأنيث.

واعلم أن الفعل المعتل إنما خالف ما آخره واو أو ياء لما آخره الألف لأن الألف قد بينا في علّة المقصور أنها لا تحرك في حال الإعراب فذاك يغني عن الاعتلال هاهنا لأن حكمها سواء.

فإن قال قائل : للاسم أن يخفض اسما مثله ومن شرط العامل ألّا يكون من نوع المعمول فيه لأنه لو كان من نوعه لم [يكن](١) أحدهما بأن يعمل في الآخر أولى من الآخر أن يعمل فيه؟.

قيل له أصل الجر إنما هو بالحروف دون الأسماء ، والإضافة في الأسماء على معنيين ؛ أحدهما : بمعنى اللام ، والآخر بمعنى من ، فإذا قال القائل : جاءني غلام زيد فالأصل غلام لزيد ، فزيد جر باللام ، وإذا حذفت اللام قام الغلام مقامها فيبقى جر زيد على ما كان عليه ، إذ قد قام مقام ما يخفضه شيء وهو الغلام ، وكذلك إذا قلت : ثوب خزّ فالأصل : ثوب من خز ، فلما حذفت (من) قام الثوب مقامها.

فإن قال قائل : ما الفائدة في حذف اللام ومن؟.

__________________

(١) زيادة ليست في الأصل ، يقتضيها السياق.

٨٤

قيل له : الفائدة في ذلك أنك إذا قلت جاءني غلام لزيد ، فإنما تخبر أن واحدا من غلمان زيد جاءك ، وليس بمعروف بعينه ، فإذا أرادوا غلاما بعينه حذفوا اللام ، ووصلوا بين الغلام وزيد ، وجعلوا هذا الاتصال من جهة اللفظ دلالة على اختصاصه من سائر غلمانه ، فإذا قلت : جاءني غلام زيد ، فمعناه : جاءني الغلام المعروف لزيد.

وأما قولهم : ثوب خز ، فإنما حذفت (من) تخفيفا.

باب حروف الخفض

فإن قال قائل : لم صارت هذه (اللام) و (من) وسائر ما يجر من الحروف يعمل الجر دون النصب والرفع؟.

فالجواب في ذلك أن حروف الجر تكون موصلة (١) للأفعال إلى ما بعدها فتدخل مرة على الفاعل ومرة على المفعول به كقولك في الفاعل : ما جاءني من أحد ، والأصل : ما جاءني أحد ، وتدخل على المفعول كقولك : ما رأيت من أحد ، ومعناه ما رأيت أحدا ، فلما كانت هذه الحروف تدخل على الفاعل والمفعول جعل حركتها بين حركة الفاعل والمفعول متوسطا وهو الكسر لأنه وسط اللسان ، والضم من الشفة ، والفتح من أقصى الحلق ، فلهذا خص بالجر.

واعلم أن (عن) تكون اسما وحرفا ، إذا كانت اسما دخل عليها حرف الجر وصارت بمنزلة الناحية كقولك : زيد من عن يمين عمرو. قال الشاعر (٢) :

فقلت اجعلي ضوء الفراقد كلها

يمينا ومهوى النجم من عن شمالك

__________________

(١) في الأصل : موصولة. وقد أثبت ما يناسب المعنى.

(٢) البيت من البحر الطويل استشهد به ابن الأنباري في أسرار العربية ٢٥٤ ورواية الشطر الثاني : يمينا وضوء النجم من عن شمالك ، وابن يعيش في شرح المفصل ٨ / ٤٠.

٨٥

وإذا كانت حرفا لم يحسن دخول حرف الجر عليها كقولك : رميت عن القوس وما (١) أشبه ذلك.

وأما (على) فتكون / اسما وحرفا وفعلا ، فالفعل نحو قولك : علا ، يعلو (٢) ، والاسم نحو قولك : جاء النظر من عليه كما قال الشاعر (٣) :

أتت من عليه تنفض الطلّ بعد ما

رأت حاجب الشمس استوى وترفعا

من عليه : أي من فوقه ، وإذا كانت حرفا لم يحسن شيء (٤) مما ذكرناه فيها نحو قولك : على زيد مال.

وأما حاشا (٥) فلا تكون إلا حرفا عند سيبويه (٦) وتكون حرفا وفعلا عند المبرد (٧) ، وسنستقصي الحجج في ذلك إذا انتهينا إليه إن شاء الله.

وأما خلا فتكون حرفا وفعلا بلا اختلاف (٨) ، وإذا قدرتها حرفا خفضت ما بعدها ، وإذا قدرتها فعلا نصبت ما بعدها.

__________________

(١) في الأصل : وأما.

(٢) كتبت في الأصل : على ، يعلوا ؛ وللتفصيل انظر : الأزهية ٢٠٢ ، ورصف المباني ٣٧١.

(٣) نسب البيت ليزيد بن الطثرية في الكامل ٢ / ١٠٠١ ، وهو في المقتضب ٢ / ٣٢٠ ـ ٣ / ٥٣ ، والأزهية ٢٠٣ ، وأمالي ابن الشجري ٢ / ٥٣٧ ، وأسرار العربية ٢٥٦ ، وشرح المفصل ٨ / ٣٨ ، المساعد ٢ / ٢٥٢ وجاء فيه نسبة للفراء أن (عن) و (على) مع (من) ، على ما كانا عليه من الحرفية.

وكانت بعض روايات البيت : غدت من عليه ...

(٤) في الأصل : شيئا ، بالنصب.

(٥) في الأصل : حاشى.

(٦) قال سيبويه : " وأما حاشا فليس باسم ولكنه حرف يجرّ ما بعده كما تجر حتى ما بعدها ، وفيه معنى الاستثناء" الكتاب ٢ / ٣٤٩ (هارون).

(٧) انظر المقتضب ١ / ٣٩١. ففيه رأي المبرد في ذلك.

(٨) في الأصل : ختلاف. قال سيبويه : " وبعض العرب يقول : ما أتاني القوم خلا عبد الله ، فيجعل خلا بمنزلة حاشا فإذا قلت : ما خلا ، فليس فيه إلا النصب ؛ لأن (ما) اسم ولا تكون صلتها إلا الفعل هاهنا" الكتاب ٢ / ٣٤٩ ـ ٣٥٠ (هارون).

٨٦

وأما الكاف التي للتشبيه فتكون حرفا واسما ، فإذا كانت اسما قدرتها تقدير (مثل) وجاز أن يدخل عليها حرف الجر كقول الشاعر (١) :

وصاليات ككما يؤثفين

 ...

فالكاف الأولى حرف الجر ، والثانية اسم.

واعلم أن كل حرف من حروف الجر له معنى.

فأما (من) فتقع في أربعة مواضع (٢) : أحدها : أن تكون لابتداء الغاية كقولك : مررت من الكوفة إلى البصرة ، أي ابتداء سيري كان من الكوفة.

والثاني : أن تكون للتبيين كقوله عزوجل : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ)(٣) [الحج : ٢٢ / ٣٠] ، لأن سائر الأرجاس يجب أن يجتنب فدخلت من لتبيين المقصود بالاجتناب من الأرجاس.

والثالث : أن تدخل مع النكرات لنفي الجنس كقولك : ما جاءني من رجل ، وفائدة دخولها أنك إذا قلت : ما جاءني رجل ، احتمل أن يكون معناه رجل

__________________

(١) وهو لخطام المجاشعي وجاء في الكتاب ١ / ٣٢ ، ١ / ٤٠٨ ، ٤ / ٢٧٩ ، والمقتضب ٢ / ٩٧ و ٤ / ١٤٠ ، ٤ / ٣٥٠ ، وفي شرح أبيات إصلاح المنطق ٤٤٦ ، وفي شرح أبيات سيبويه للسيرافي ١ / ١٣٨ وورد عنده برواية أخرى : وغير سفع ككما يؤثفين.

والخصائص ٢ / ٣٦٨ ، وأسرار العربية ٢٥٧ ، وشرح شواهد إيضاح الفارسي ، لعبد الله بن برّي ٦١١ ، وجاء في حاشيته نسبة لبعض المصادر أن البيت لهميان بن قحافة ، وشرح المفصل ٨ / ٤٢ ، وشرح الكافية لابن جماعة ٤٦١ والكاف عنده زائدة للتشبيه ، وفي مغني اللبيب ٢٣٩ ، والارتشاف ١ / ١١٨ ، وشرح شواهد المغني للسيوطي ١ / ٥٠٤ شاهدا على يؤثفين ـ وجاء أخيرا في الخزانة ٢ / ٣١٣ وأضاف البغدادي أن الكاف الثانية يمكن أن تكون مؤكدة للأولى ، وخطّأ من عدّ البيت من الرجز ونسبه إلى عدم معرفة العروض ، والبيت عنده من السريع.

(٢) فصّل ابن هشام القول في ذلك ، انظر المغني ٣٥٣ ـ ٣٥٨. (دار الفكر ط ١).

(٣) في الأصل : واجتنبوا. والآية : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ. فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ).

٨٧

واحد ، ويجوز أن يكون قد أتاك أكثر منه ، فإذا قلت : ما جاءني من رجل ، نفيت جميع جنسه ، وإذا قلت : ما جاءني من أحد ، ف (من) أيضا مفيدة وإن كان (أحد) لا يستعمل إلا في النفي ، فإنه قد استعمل في بعض المواضع بمنزلة الواحد ، فلو قلت : ما جاءني أحد ، جاز أن يتوهم : ما جاءني واحد ، فإذا قلت من أحد زال (١) هذا التوهم.

والوجه الرابع من وجوه (من) أن تكون للتبعيض كقولك : أخذت درهما من مال زيد ، وبعض الناس يعتقد في الوجه الثالث : أن (من) فيه زائدة في نحو قولك : ما جاءني من أحد ، وقد بينا أن له فائدة (٢)

واعلم أن (من) مع هذه الأوجه الأربعة يجوز أن تجعل كلها للتبعيض وإن شئت جعلتها لابتداء الغاية إلا الموضع الذي (٣) تدخل فيه على الأجناس ، ولأجل تقديرها زائدة لم يثبت حكمها كالأوجه الثلاثة فاعرفه.

وأما (إلى) فمعناها الغاية كقولك : سرت إلى البصرة ، أي انتهيت إليها.

وأما (اللام) فمعناها الملك والاستحقاق كقولك : المال لزيد ، أي هو يملكه ويستحقه (٤)

وأما (الباء) فمعناها الإلصاق ، وقد تكون باستعانة وغير استعانة كقولك : مررت بزيد أي ألصقت مروري به ، والاستعانة : كتبت بالقلم ، أي ألصقت كتابي به وفيه استعانة مع ذلك.

__________________

(١) في الأصل : جاز.

(٢) قولهم إنها زائدة يعني أنها زائدة في الإعراب ، والزائد في الإعراب ليس زائدا في المعنى ولا خاليا من الفائدة.

(٣) في الأصل : التي.

(٤) فرّق بعضهم بين لام الملك ولام الاستحقاق ، فجعل الثانية هي التي تقع بين معنى وذات مثل : الحمد لله. انظر المغني ٢٧٥.

٨٨

وأما (الكاف) فتكون للتشبيه نحو قولك : زيد كعمرو ، أي شبهه.

وأما (عن) فلما عدا الشيء كقولك : أخذت عنه حديثا ، أي عدا إليّ منه حديث.

وأما (على) فمعناها الاستعلاء كقولك : زيد على الجبل ، أي قد علا ، وكذلك على زيد دين ، أي قد علاه.

/ وهذا التمثيل بالأول (١).

وأما (حاشا وخلا) فنفسرهما في باب الاستثناء إن شاء الله.

باب حروف القسم

إن سأل سائل فقال : لم زعمتم أن أصل حروف القسم الباء (٢)؟

قيل له : في ذلك جوابان :

أحدهما : أن المقسم به معلق بفعل محذوف وذلك أن قولك : بالله لأفعلن ، معناه أحلف بالله ، وهذا الفعل إذا ظهر لا يجوز أن يستعمل معه إلا الباء ، فدلّ ذلك على أن الأصل الباء.

فإن قال قائل : لم لا يجوز أحلف والله؟. قيل له لأنه يلتبس أنك قد حلفت يمينين وذلك أن القائل قد يكتفي بقوله : أحلف ، وتجري مجرى القسم فيقول : أحلف لأفعلن ، فلو قال : أحلف والله ، لجاز أن يتوهم أنه يمينان ، فلذلك لم يستعمل.

__________________

(١) فصّل المتأخرون الحديث عن معاني الأدوات ، كما فعل الزجّاجي في حروف المعاني ؛ واللامات ، والهروي في الأزهية ، والمالقي في رصف المباني ، وابن هشام في المغني.

(٢) جاء في المغني في معاني حرف الباء أنها تأتي للقسم قال : " الثاني عشر : القسم ، وهو أصل حروفه ؛ ولذلك خصت بجواز ذكر الفعل معها نحو : أقسم بالله لتفعلنّ" ..." ١ / ١١٢ (دار الفكر)

٨٩

وأما إذا قلت : أحلف بالله لم يتوهم في ذلك إلا يمين واحدة (١) لأن من شأن الباء أن يلصق ما بعدها بحكم ما قبلها ولا يصح الابتداء بها.

فإن قيل : أيضا : فالواو لا يبتدأ بها؟

قيل له : لو كانت الواو غير مبدلة من الباء لصارت في القسم قائمة بنفسها لأنها ليست من الحروف التي تكون موصلة الأفعال إلى ما بعدها كحروف الجر ، فلهذا وجب أن يقع اللبس بالواو ولا يقع مثله في الباء ، وهذا الفصل الذي ذكرناه يجوز أن يجعل دلالة على أن الباء هي الأصل للواو.

فإن قال قائل : فلم لا يجوز أحلف والله ، وإذا ثبت أن الواو بدل من الباء ، وقد علم أنها إذا اتصلت بالفعل الذي قبلها أنها ليست بمبتدأة؟.

قيل إنما ذكرنا ذلك على الوجه الذي قدرناها فيه أنها أصل في نفسها ، فأما الذي منع من استعمالها مع الفعل على هذا الوجه أيضا فلأجل أنها فرع فكرهوا أن يستعملوها مع إظهار الفعل ، فيصير بمنزلة الأصل ولا يكون على إبدالها دليل فأسقطوها مع إظهار الفعل ليدلوا على أنها فرع.

فإن قيل : فلم صار إبدالها مع حذف الفعل أولى من إبدالها مع إظهاره؟.

قيل له : يجوز أن يكونوا خصوا البدل عند إضمار الفعل ، لأن حروف الجر لا يبدأ بها وقد تقع الواو في الابتداء في بعض المواضع كقولك : ضربت زيدا وأبوه قائم ، فهذه الواو تسمى واو الحال وما بعدها مبتدأ (٢) ، فلما كانت الواو تقع للمبتدأ حسن إبدالها عند حذف الفعل لما ذكرناه ، دلالة أخرى في أصل المسألة وهو مأخوذ من استقراء كلام العرب ، وهو أنّا وجدنا العرب تستعمل الاسم

__________________

(١) وهذا هو الجواب الثاني.

(٢) للتفصيل انظر المغني ١ / ٣٩٨.

٩٠

المضمر والمظهر بعد الباء كقولك : بالله (١) وبه ، ولا يستعمل المضمر بعد الواو (٢) ، فلو لا أن الواو فرع لما منعت ما يستعمل في غيرها ، فلمّا منعت ذلك دلّ على أنها فرع.

فإن قال قائل : فمن أي وجه جاز أن تبدل الواو من الباء دون غيرها؟.

فالجواب في ذلك أن الواو من مخرج الباء وهي مع ذلك كثيرة الدور في الكلام وتزاد في مواضع كثيرة فلقربها من الباء وما فيها مما ذكرناه كانت أولى من غيرها.

فإن قال : أليس عندكم أنه لا يجوز حذف الفعل / إذا كان يتعدى بحرف جر فكيف جاز في القسم أن تقول : بالله ، وأنت تقدر فعلا يتعدى بالباء ولا يجوز أن تقول : بزيد ، وأنت تريد مررت بزيد؟.

قيل له : إنما ساغ ذلك في القسم لأنه كثير الدور في كلامهم ، ومع هذا فإنه يحتاج إلى جواب فصار افتقاره إلى الجواب كالعوض من حذف الفعل مع كثرة الاستعمال.

فإن قال قائل : فهل (الواو) التي هي بدل من الباء في القسم تجري مجرى [الواو التي](٣) هي عوض من (رب) هي واو العطف ، فالخفض بعدها [بإضمار](٤) رب؟.

قيل له : أما الواو في القسم فهي بدل من الباء ، والخفض يقع بالواو دون الباء والدليل على ذلك أنه يحسن أن تدخل على واو القسم واو العطف كما تدخل على الباء فتقول : وو الله لأفعلن ، كما تقول وبالله ، فدل على أنها بمنزلة الباء :

__________________

(١) قال ابن هشام في حديثه عن الباء في المغني ١ / ١١٢ : " ودخولها على الضمير نحو : بك لأفعلنّ ..." (دار الفكر).

(٢) وقال ابن هشام أيضا عن واو القسم : " واو القسم ، ولا تدخل إلا على مظهر ، ولا تتعلق إلا بمحذوف" ١ / ٤٠٠.

(٣) في الأصل كتبت على الهامش.

(٤) كتبت في الأصل على الهامش.

٩١

فأمّا الواو التي هي عوض من رب فلا يصح دخول واو العطف عليها فدلّ ذلك على أنها واو العطف ، وأنها عوض وليست ببدل ، وأما التاء فهي بدل من الواو ، والدليل على ذلك أن الحرف لا يجوز أن يبدل من الحرف إلا أن تكون بينهما مناسبة ، ولا مناسبة بينها وبين الباء ، لأنها ليست من مخرجها ولا قريبة منها فلا يشتركان في شيء فلم تجعل بدلا منها ، وأما الواو فهي تشابه التاء لأنها من حروف الزوائد ، والباء (١) والتاء أقرب حروف البدل إلى الواو ، فلهذا كانت بدلا من الواو دون الباء : وكانت أولى من سائر الحروف أيضا ، والذي يدل على أنها ليست بأصل ، ما ذكرناه في الواو وإنما خصت باسم واحد [لأنها لو استعملت في اسمين لم يكن بينهما وبين ما سواهما حرف فوجب أن يلزم اسما واحدا](٢) ليدل بذلك على أنها بدل من بدل ، وأنها أضعف حكما من الواو ومع هذا فالتاء أنقص حكما منها ؛ لأنها تدخل على اسم الله تعالى فقط ، فدل على أنها ليست بأصل وقد بينا في الشرح لم صار اختصاصها باسم الله تعالى أولى من سائر الأسماء ، ولم منعت الدخول على غيره بما يغني عن إعادته.

وأما (أيمن الله) فاشتقاقها من أحد أمرين : إمّا أن يكون من اليمين ، لأن العرب قد تحلف بلفظ اليمين فتقول : يمين الله لأفعلن ، ثمّ غيّر إلى لفظ أيمن وقد بينا حكمه.

فإن قيل : كيف جاز أن يقال أم الله (٣) لأفعلن فتدخل ألف الوصل على الميم وهي متحركة؟.

__________________

(١) في الأصل : والبدل.

(٢) كتبت في الأصل على الهامش.

(٣) في الأصل (أيم) والذي أثبته هو المناسب لقوله : تدخل ألف الوصل على الميم وهي متحركة. وقوله بعد : داخلة على الياء وهي ساكنة فلما حذفت ...

انظر المسألة التاسعة والخمسين من مسائل الخلاف ، الإنصاف ٢ / ٤٠٤ ـ ٤٠٩.

٩٢

قيل في ذلك جوابان :

أحدهما : أن الأصل في الكلمة : أيمن الله ، فالألف داخلة على الياء وهي ساكنة فلما حذفت ولم يكن حذفها لازما بقي حكمها ، ولم تحذف ألف الوصل لتحرك ما بعدها إذ لم يكن لازما.

والوجه الثاني : أن حركة الميم حركة العرض تسقط في الوقف (١) فلم تصر الحركة لازمة فلذلك بقيت ألف الوصل ، والدليل على ذلك أن العرب تقول في الأحمر إذا حذفوا همزة أحمر : (لاحمر) فلا يحذفون الألف لأن حركة اللام ليست بلازمة وبعضهم يقول : (لحمر) فيحذف ألف الوصل لتحرك ما قبلها ولم يجر ذلك في أيمن الله كراهية الإجحاف ، وصار ثبات ألف الوصل في أيمن الله عوضا مما حذف ، وأما قولهم (ها) في قولك : لاها الله ، فهي بدل من الباء وليس طريق بدلها من الباء كطريق بدل الواو منها ولكنها (ها) التي للتنبيه تضارع الباء. /

من جهة أنها يتوصل بها في التثنية إلى المنبّه ، والباء موصلة أيضا بالإلصاق فلما تضارعا من هذا الوجه أبدلت منه فاعرفه.

باب الحروف التي ترفع الأسماء والنعوت والأخبار

اعلم أنّا ذكرنا تفسير هذا الباب في الشرح (٢) وتسامح الجرمي فيه ولكنّا نذكر ههنا ما فات منها وعذر أبي عمر الجرمي ، فأما جواز إطلاقه على ما ذكر في الباب من تسمية ذلك بالحروف فلأن الأسماء المذكورة في هذا الباب مبنيّة لمضارعتها الحروف فجاز أن يسميها باسم ما ضارعته. وأما جواز قوله لأنها ترفع فإنه لما رأى أن الأسماء أكثر ما تستعمل مبتدأة بعد هذه الحروف نسب الرفع إليها للمجاورة ، فهذا تخريج قوله فاعرفه.

__________________

(١) في الأصل : في الوصل ، وقد أثبت المناسب.

(٢) يعني شرحه لكتاب سيبويه الذي تكرر ذكره في هذا الكتاب.

٩٣

واعلم أن الحروف تنقسم ثلاثة أقسام : قسم يختص بالاسم ، وقسم يختص بالفعل ، وقسم يدخل عليهما (١) : فأما ما يختص بالاسم ولا يكون كجزء منه ولا بد أن يعمل فيه ، فنحو : إنّ وأخواتها ، وحروف الجر وما أشبه ذلك.

وأما ما يختص بالفعل ولا يكون كجزء منه ولا بد أيضا من عمله فيه فنحو : أن ولن وما أشبه ذلك.

وأما ما يدخل عليهما ولا يعمل شيئا فنحو حروف الاستفهام وحروف العطف وما أشبهها.

فإن قال قائل : فالألف واللام يختص بالاسم ولا يعمل فيه وكذلك (السين وسوف) قد يختص بالفعل ولا يعمل فيه (٢)؟.

قيل له : قد أخبرنا في الأصل بأن قلنا : إن العامل من الحروف ما لزم الاسم ، والفعل ولم يكن كجزء منه ألا ترى أنها تحدث في الاسم النكرة تعريفا ، والتعريف قد يصح في النكرات لمواطأة المخاطبين ، فدلّ أن ليس لها زيادة حكم الاسم لأنها إنما تدخل لتعيينه ، وكذلك (السين وسوف) تعيّن الأفعال التي كان منها [ما](٣) يحتمل الحال والاستقبال ، وإنما عينت بهما ذات الفعل الذي كان يصح أن يفهم تخصيصه بغيرهما ، وكذلك (قد) إنما هي لتوقع ذات الفعل ، فلم تدل على أكثر ما تحتمله نفس الفعل فجرت مجرى بعض حروفه ، فلهذا لم تعمل شيئا وفارقت سائر العوامل ، وإنما وجب أن يكون ما دخل على الاسم مرة وعلى الفعل مرة لا يعمل شيئا لأن الأفعال نوع مخالف لنوع الأسماء فيجب أن يكون عاملها مختلفا ، فإذا اتفق دخول الحرف عليها ولم يختص أحدهما دون الآخر لم يجز أن يعمل فيها ، لأن ذلك يؤدي أن يصير

__________________

(١) للتفصيل انظر الأصول ١ / ٥٤ ـ ٥٥.

(٢) انظر الأصول : ١ / ٥٦ ، فقد أثار ابن السّراج التساؤل نفسه ، وأجاب عنه.

(٣) زيادة ليست في الأصل. يقتضيها السياق.

٩٤

ما يعمل فيها شيئا واحدا ، وقد بينا أن اختلاف نوعيهما يوجب اختلاف عواملهما فلهذا لم يعمل هذا النوع من الحروف.

فإذا قال قائل : لم شرط في (هل) أن يكون بعدها اسمان؟

قيل له : لأن أصل حروف الاستفهام أن يليها الفعل وقبيح أن تليها الأسماء إذا كان بعدها سوى ألف الاستفهام نحو قولك : هل زيد قائم؟ ، فلهذا شرطنا ما ذكرناه وسنفسر أحكام الاستفهام في بابه إن شاء الله (١) ...

فإذا قال قائل : لم صارت (ليت) إذا دخلتها (ما) أكثر في العمل من أخواتها؟.

قيل له : إن (ليت) استعملتها بعض العرب بمنزلة وجدت فعدّاها إلى مفعولين وأجراها مجرى الأفعال كقولك : ليتما زيدا شاخصا ، فلدخول هذا المعنى فيها صارت أقوى من أخواتها (٢) / واعلم أن سيبويه (٣) لم يجز في (أن) و (لكن) العمل إذا دخلتها (ما) ، وأجاز ذلك أبو بكر السراج (٤) في كتاب الأصول (٥) وأظن ذلك سهوا منه على مذهب أصحابنا.

والوجه في إبطالها ومخالفتها لأخواتها أن (أن ولكن) بهما معان في أنفسهما

__________________

(١) ينتهي الكتاب ولا نجد فيه بابا للاستفهام.

(٢) انظر الحديث عن الأداة (ليت) في : رصف المباني ٢٩٨ ـ ٢٩٩.

(٣) قال سيبويه : " اعلم أن كل موضع تقع فيه أنّ تقع فيه أنّما ، وما ابتدئ بعدها صلة لها كما أن الذي ابتدئ بعد الذي صلة له. ولا تكون هي عاملة فيما بعدها كما لا يكون الذي عاملا فيما بعده" الكتاب ٣ / ١٢٩ وقال : " هذا باب الحروف التي يجوز أن يليها بعدها الأسماء ويجوز أن يليها بعدها الأفعال ، وهي لكن ، إنما ، كأنما ، إذ ، ونحو ذلك لأنها حروف لا تعمل شيئا" ٣ / ١١٦ (هارون).

(٤) هو : محمد بن السري أبو بكر السراج (ت ٣١٦). انظر الإنباه ٣ / ١٤٥ ، البغية ٤٤ ، إشارة التعيين ٣١٣.

(٥) قال في الأصول : " وتدخل (ما) زائدة على (إن) على ضربين : فمرة تكون ملغاة ، دخولها كخروجها : لا تغير إعرابا ، تقول : إنما زيدا منطلق ، وتدخل على (إن) كافة للعمل فتبنى معها بناء فيبطل شبهها بالفعل ، فتقول : إنما زيد منطلق ، ف (إنما) ها هنا بمنزلة فعل ملغى ..." ١ / ٢٣٢.

٩٥

أكثر (١) من الإيجاب الذي يستحقه المبتدأ وإنما يدخلان لتوكيد الإيجاب وكان حقهما ألا يعملا شيئا ولكن شبّها بالفعل من جهة لفظهما دون معناهما فصار عملهما ضعيفا ، فإذا أدخلت عليهما (ما) حالت بينهما وبين ما يعملان فيه فضعفا عن العمل ، وأما أخواتها ففيها معاني الأفعال نحو التشبيه ، والترجي ، والتمني ، وتزيل أيضا معنى الابتداء فقويت فجاز أن تعمل مع وجود الحائل بينها وبين ما تعمل فيه.

فإن قال قائل : فلم صار عمل هذه الحروف إذا دخلت (ما) بينها وبين ما تعمل فيه أضعف من حروف الجر إذا دخلت بينها وبين ما تعمل فيه؟.

قيل له : إن حروف الجر تعمل على أنها أصل في العمل وليست مشبهة بغيرها ، فأما هذه الحروف فإنها تعمل تشبيها بالفعل ، فما هو أصل في نفسه أقوى مما هو مشبه بغيره.

فإن قال قائل : فلم صارت (ما) بالزيادة أولى من سائر الحروف؟.

قيل له : لأنها تصرف على جهات كثيرة ، وليس مع هذا لها معنى في نفسها إذا كانت زائدة فحسن إلغاؤها من بين سائر الحروف لكثرة تصرفها وزوال معناها ، وقد يمكن أن تجعل (ما) في قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) [النساء : ٤ / ١٥٥](٢) غير زائدة وتكون اسما بنفسها مبهما و (نقضهم) بدل منها ، فعلى هذا الوجه لا تكون قد فصلت بين الباء وما تعمل فيه ، فإذا صح هذا الوجه لم يلزم الانفصال الأول بين (ليت) وأخواتها وبين حروف الجر وإن كانت أصلا في العمل ، فهي وما تعمل فيه كالشيء الواحد ولا يجوز تقديم ما تعمل فيه ولا تأخيره ، فضعف الفصل بينها وبين ما تعمل فيه كما ضعف التقديم والتأخير.

__________________

(١) مكرر في الأصل.

(٢) والآية (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً).

٩٦

وأما حروف النصب وإن كانت مشبهة بالأفعال فيجوز أن يتأخر ما تعمل فيه عنها كقولك : ليت في الدار زيدا ، فلهذا لم يقبح ولم يضر الفصل فيها كما لم يقبح التأخير فيها.

واعلم أن بعض النحويين يعتقد أن (ما) في قولك : إنما زيد قائم ، وما (١) أشبهها من أخواتها اسم (٢) وموضعها نصب ، والجملة التي بعدها في موضع الخبر ، وشبه ذلك بالهاء التي هي ضمير الأمر والشأن نحو قولك : إنه زيد قائم ، وقول هذا الرجل باطل من جهات أنه لو كانت في هذا الموضع اسما وما بعدها خبر لوجب أن يرجع من الجملة ذكر إلى (ما) فلما (٣) لم يرجع إليها ضمير علمنا أنها زائدة وليست باسم.

وجه آخر أن ضمير الأمر والشأن لا يضمر إلا بعد تقدم الذكر وتصير الجملة التي بعدها مفسرة له ، إن هذا الضمير إنما يعتمد على الذكر الذي قد جرى فلهذا احتاجوا إلى تفسير وليس كضمير يختص اسما بعينه. وقولك : إنما زيد قائم ، لا يصح الكلام به من غير تقدمة خبر بوجه من الوجوه على أن (ما) نصب ب (أن) فعلم بذلك أن (ما) لا تشبه ضمير الأمر والشأن لأنه لا يضمر إلا بعد تقدمة الذكر ، وتصير الجملة التي بعده مفسرة له.

/ ووجه ثالث أن (ما) إذا أدخلت على (أن) غيّرت معناها ويدخلها معنى التقليل (٤) كقولك : إنما زيد قائم ، وهذا [يدل على](٥) أن (ما) تستعمل إذا

__________________

(١) في الأصل : وأما.

(٢) قال ابن هشام : " وزعم ابن درستويه وبعض الكوفيين أن (ما) مع هذه الحروف اسم مبهم بمنزلة ضمير الشأن في التفخيم ، والإبهام ، وفي أن الجملة بعده مفسرة له ، ومخبر بها عنه ، ..." المغني ١ / ٣٤٠.

(٣) في الأصل : فلم ، وقد وأثبت المناسب.

(٤) أي قصر الاسم الذي تدخل عليه إنما على صفة واحدة من الصفات الكثيرة التي يمكن أن يوصف بها.

(٥) زيادة ليست في الأصل. يقتضيها السياق.

٩٧

ذكرت لزيد أحوال فتخص أنت بعضها وتقصد بذلك إلى بعض أحواله. فلما كانت (ما) إذا دخلت على (إن) تزيل معناها علمنا أنها ليست باسم لأن شرط الاسم أن تغير معنى عمله عن معناه (١) ، فهذا الوجه يقوي ما ذكرناه عن سيبويه في إبطال عمل (ما) ويضعف قول ابن السرّاج.

فإن قال قائل : قد حصل في هذا الباب أسماء مبنية نحو (متى) و (كيف) و (حيث) وما أشبهها وهي أبنية مختلفة البناء فما الوجه في بنائها واختلافها؟

فالوجه في ذلك أنّا قد بينا أن أصل الأسماء الإعراب وإنما البناء منها فيما أشبه الحرف.

فأما (متى) فالذي أوجب لها البناء أنها نائبة عن حرف الاستفهام في الاستفهام ، وعن حرف الجزاء في الجزاء ، وذلك قول القائل : متى تخرج؟ هو نائب عن قولك : أتخرج يوم الخميس أو يوم السبت؟ ونحو ذلك ، فلما تضمنت حرف الاستفهام والجزاء ، والحروف مبينة وجب أن يبنى ما قام مقامه وناب منابه.

فإن قال قائل : فما (٢) الذي أحوج إلى إقامة (متى) مقام حرف الاستفهام وهلّا استغني بحرف عنها؟

قيل له : في استعمال ذلك حكمة ، عظيمة واختصار ، وذلك أن القائل لو قال : أتخرج يوم السبت؟ لجاز ألا يريد المخاطب الخروج إلا في اليوم الثاني فتقول : لا ، فيلزم السائل تكرير السؤال مرارا كثيرة ، ووجدوا (متى) تشتمل على الأوقات فأقاموها مقامها ليلزموا المسؤول الإجابة بوقت خروجه ، وينحذف هذا التطويل فلهذا أدخلت (متى) في الاستفهام وكذلك حكمها في الجزاء إذا قلت : متى

__________________

(١) الاسم يتأثر بالعوامل ولا يتأثر معناه بها.

(٢) في الأصل : فلما وهي لا تناسب صيغة السؤال.

٩٨

تخرج أخرج ، فهذا اللفظ يوجب التعيين عن خروجك للذي تخاطبه. فإن قلت إن تخرج يوم السبت أخرج معك ، فقد يجوز أن يخرج في غيره من الأيام ، ولا يجب عليك الخروج ، فلما صارت (متى) فيها عموم للأوقات استعملت في الجزاء وتضمنت معنى حروف الشرط ، فلهذا بنيت ، والله أعلم.

واعلم أن المبنيات على قسمين أحدهما أن يبنى الاسم على حركة والآخر أن يبنى على السكون ، فالذي يستحق أن يبنى على حركة كل اسم كان معربا قبل استحقاق البناء نحو : قبل وبعد ألا ترى أنهما كانا ينصبان ويخفضان قبل حال البناء نحو جئت قبلك وبعدك.

والذي يستحق أن يبنى على السكون كل اسم لم تكن له حال إعراب ولم يقع إلا مستحقا للبناء.

وإنما وجب ذلك لأن ما كان له حال تمكن أقوى في اللفظ مما لا تمكن له ، والتمكين يستحق الإعراب فيجب أن يكون ما قرب منه وشابهه أقوى في اللفظ مما بعد منه ، والحركة أقوى من السكون فلهذا وجب ما ذكرناه.

وأما (ما) فبنيت على السكون لأنها لم تقع متضمنة للحرف الذي يوجب له البناء فلهذا لم يزد على السكون.

وأما (أين) فسؤال عن المكان بمنزلة (متى) في السؤال عن الزمان ، وهي متضمنة لحرف الاستفهام والجزاء على ما شرحنا في متى ، فاستحقت البناء لأنها لم تقع إلا متضمنة للحرف [و](١) وجب أن تبنى على السكون إلا أنه التقى في آخرها ساكنان وهما الياء / والنون ولا يجوز الجمع بينهما فحركت النون بالفتح ، فكان الفتح أولى وإن كان الكسر الأصل ، لأن الكسر بعد الياء مستثقل فسقط

__________________

(١) زيادة ليست في الأصل.

٩٩

لاستثقاله ، والضم أثقل منه ، فلم يبق إلا الفتح وهو مع ذلك أخف الحركات ، ولم يجر تحريك الياء لأنها لو حركت انقلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وذلك يؤدي إلى الجمع بين ساكنين لأن الألف لا تكون إلا ساكنة ، فلما (١) كان تحريك الياء لا يسلم لها ، سقط حكمه ووجب تحريك ما ذكرناه.

وأما (كيف) فسؤال عن حال ، وهو ينوب عن حرف الاستفهام ، ويتضمن معنى حرف الشرط ، وإن لم تجزم ك (متى) و (أين) لعلّة سنذكرها ، فلما تضمن معنى الحرف وجب أن يبنى على السكون (كأين) وعلّة تحريكه كعلّة (أين).

فإن قال قائل : فلم صارت (متى وأين) تدخل عليهما حروف الجر ولا تدخل على (كيف) ، وقد تشاركت فيما ذكرتم (٢)؟

فالجواب في ذلك أن (كيف) هي الاسم الذي بعدها وذلك أن قول القائل : كيف زيد؟ معناه أصحيح زيد أم سقيم (٣) ، والصحيح والسقيم هو زيد ، فلما كان دخول حرف الجر على ما نابت عنه (كيف) لا يجوز فكذلك لا يجوز دخول حرف الجر على (يف) ، ألا ترى أنك لا تقول أمن صحيح زيد (٤) ، وكذلك لا تقول : من كيف زيد.

فأما (أين ومتى) فإنهما نائبان عن قولك : أفي الدار زيد؟ وفي أي وقت يخرج زيد؟ فلما نابتا عما يدخل عليه [حرف](٥) الجر دخل عليهما.

__________________

(١) في الأصل : فلم.

(٢) استدل ابن هشام على اسمية (كيف) من عدة أمور منها : دخول الجار عليها بلا تأويل في قولهم : " على كيف تبيع الأحمرين". المغني ١ / ٢٢٥. ثم عاد في تنبيهاته وفي حديثه عن قوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) حيث قال : " لا تكون (كيف) بدلا من الإبل ، لأن دخول الجار على (كيف) شاذ ، على أنه لم يسمع في إلى ، بل في على ..." ١ / ٢٢٧.

(٣) انظر أيضا المغني ١ / ٢٢٥.

(٤) الأصل أصحيح زيد ثم دخلت (من) وقدمت الهمزة لأن لها الصدارة.

(٥) كتبت على الهامش في الأصل.

١٠٠