العلل في النحو

أبو الحسن محمد بن عبد الله [ الوراق ]

العلل في النحو

المؤلف:

أبو الحسن محمد بن عبد الله [ الوراق ]


المحقق: مها مازن المبارك
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
الطبعة: ٢
ISBN: 1-57547-843-9
الصفحات: ٤١٦

هنا بالإسقاط. واعلم أن ما ينصرف من الأسماء المقصورة فعلامة انصرافه ثبات التنوين فيه في الوصل ، فإذا أثبت التنوين وهو ساكن والألف في آخر المقصور ساكنة التقى ساكنان فلم يكن بد من حذف أحدهما وكان حذف الأول أولى لأن التنوين علامة والألف ليست بعلامة فكان تبقية العلامة أولى فإن وقعت سقط التنوين ورجعت الألف المحذوفة ، وإنما قلنا إن هذه الألف الثانية في الوقف هي الألف الأصلية وليست بدلا من التنوين لوجوه ، أحدها : جواز الإمالة فيها وحسنها ، ولو كانت بدلا من التنوين لقبح إمالتها.

ووجه آخر : أن التنوين أصله أن يسقط / في الوقف على ما ذكرناه فإذا سقط ردت الألف الذاهبة.

فإن قيل : كيف خالف المقصور باب قاض ، وقد زعمت أن التنوين إذا سقط في الوقف لم ترجع الياء فهلّا وجب ذلك في المقصور ، متى سقط التنوين ألا ترجع الألف؟

قيل له : الفرق بينهما من وجهين أحدهما : أن باب قاض قد ثبتت الياء في حال النصب فلم يكن إسقاطها في حال الرفع والجر إخلالا بها شديدا ، ولو أسقطنا الألف من المقصور في الوقف لم يكن لها حال رجوع ، فكان ذلك يؤدي إلى الإخلال بها فوجب أن يردّوها (١) [و](٢) إذا وجب ، ردّها في موضع من الإعراب وجب أن يرجع في جميع الأحوال لأن لفظها (٣) واحد وحكم إعراب المقصور واحد.

والوجه الثاني : أن الألف خفيفة والياء ثقيلة فمن حيث جاز أن يبدل من

__________________

(١) في الأصل : يروها.

(٢) زيادة ليست في الأصل.

(٣) في الأصل : لفظا.

٦١

التنوين ألفا في حال النصب ، وقبح البدل من التنوين ياء في حال الجر ، لثقل الياء وخفّة الألف ، فكذلك ها هنا قبح رد الياء في قاض لثقلها ، وحسن ردّ الألف في المقصور لخفتها.

فإن قال قائل : ما الدليل على أن الأزمان ثلاثة حتى رتبتم الأفعال؟

قيل له : الدليل على ذلك أن الشيء قد تقع العدة به فيكون متوقعا وهذا لزمان الاستقبال ، فإذا وجد فهذا الزمان هو زمان الحال ، فإذا مضى عليه وقتان أو أكثر (١) صار ماضيا ، فقد حصلت لنا بما ذكرناه أزمان ثلاثة (٢)

فإن قال قائل : فأي هذه الأزمنة أسبق (٣)

ففيه جوابات : أحدها : أن يكون زمان الحال هو السابق ، لأن الشيء أقوى أحواله حال وجوده ، فيجب أن يكون وجوده أولى ، ثم تقع العدة به فيكون متوقعا ، ثم يوجد الموعود ويقضى فيصير ماضيا. وذلك أن الأزمنة إنما احتجنا إليها لأمر الموجودات ، والأمر فيما بيناه ، فلهذا (٤) وجب ترتيبها على ما ذكرناه.

والجواب الثاني : أن المستقبل قبل الحال والماضي ، لأنه بعد أن يقع بما ليس بموجود (٥) ثم يصير موجودا ثم يمضي ، فقد بان بما ذكرناه أن الماضي من الزمان بعد المستقبل والحال ، والمستقبل يجوز أن يكون بعد الحال ويجوز أن يكون الحال بعد المستقبل.

والوجه الثالث : وهو أقوى عندنا ، فإنما من جهة اللفظ فالماضي قبل المستقبل

__________________

(١) في الأصل : وكثر.

(٢) قال في ذلك سيبويه : " وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء ، وبنيت لما مضى ، ولما يكون ولم يقع ، وما هو كائن لم ينقطع". الكتاب ١ / ١٢ (هارون).

(٣) ذكر لك الزجّاجي في الإيضاح ٨٥ وأيّد الوجه الثاني.

(٤) في الأصل : فهذا ، وهي لا تناسب سياق التعليل.

(٥) يعني أنه يقع بعد أن لم يكن موجودا ، وفي تعبير الأصل اضطراب.

٦٢

لأن قولك : ضرب ثلاثة أحرف ، فإذا قلت : يضرب فقد زدت عليه حرفا ، فما لا زيادة فيه قبل ما فيه الزيادة.

فإن قال قائل : فلم جعلتم للمستقبل والحال عبارة واحدة تدل عليهما ولم تشركوا بين الماضي والحال بعبارة واحدة (١)؟

ففي ذلك جوابان :

أحدهما : أن المستقبل قد حصل مضارعا للأسماء دون الماضي ، ووجدنا الأسماء قد تستعمل اللفظة الواحدة منها لأشياء مختلفة ، ألا ترى أنهم قالوا : العين ، لعين الإنسان ، ولعين الماء ، ولعين الميزان ، ولحقيقة الشيء ، وللطليعة ، وغير ذلك ، فكذلك أيضا جعلوا عبارة واحدة تدل على معنيين في الأفعال المضارعة كما جعلوا ذلك في الأسماء. وأما الماضي فإنه لم يجب له هذا الحكم.

والوجه الثاني : أن الحال لما كان وقته قصيرا لم يستحق لفظا يخص به لقصر مدته فجعل تبعا في العبارة للزمان المستقبل لاشتراكهما في تقدمهما للماضي ، فلهذا وجب أن ترتب الأفعال على الأزمنة / الثلاثة وقد بيّنا حكم الأفعال في الإعراب والبناء فلهذا لم نعده(٢)

فإن قال قائل : فلم خص الفعل المضارع بهذه الزوائد من بين سائر الحروف؟

فالجواب في ذلك أنّا قد بينا أن أول ما تزاد حروف المد ، إلا أن الواو لم يجز

__________________

(١) عقد الزجّاجي بابا عن فعل الحال وحقيقته قال فيه : (... ففعل الحال في الحقيقة مستقبل ، لأنه يكون أولا أولا فكل جزء خرج منه إلى الوجود صار في حيز المضيّ فلهذه العلّة جاء فعل الحال بلفظ المستقبل نحو قولك : زيد يقوم الآن ، ويقوم غدا ... فإن أردت أن تخلصه للاستقبال أدخلت عليه السين أو سوف ...) والوجه الأول الذي ذكره الورّاق إجابة عن السؤال ، هو ما أجاب به الزجّاجي تماما حتى إن الاستشهاد بالعين مثلا ورد عند الاثنين. انظر الإيضاح ٨٧ ـ ٨٨.

وانظر المساعد على تسهيل الفوائد وفيه يبيّن ابن عقيل أن صلاحية الحال للاستقبال هو مذهب الجمهور ١ / ١٢.

(٢) تقدم الحديث عن ذلك في ص ٢٩.

٦٣

أن تزاد لأنها تستثقل وتبدل إذا كانت أصلية نحو قوله تعالى (١) : (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) [المرسلات : ٧٧ / ١١](٢) وأرخ الكتاب والأصل : وقتت وورخ الكتاب ، فإذا كانوا يفرون منها إذا كانت أصلية وجب ألا يزيدوا ما يفرون منه ، فلما بطل أن تزاد الواو في أول المضارع جعلوا في موضعها حرفا تبدل (٣) منه وهي التاء لأنها قد تبدل من الواو في مواضع منها : تجاه وتخمة (٤) ، ولم تجعل الهمزة بدلا من الواو وإن كانت تبدل منها لأنا نحتاج إلى أن نبدلها مكان الألف ، وهي أقرب إلى الألف منها إلى الواو ، والألف لا يجوز أن تزاد أولا لأنها ساكنة ، والابتداء بالساكن لا يجوز ، فجعلت الهمزة بدلا من الألف لقربها منها ، وبقيت الياء على أصلها (٥) واحتجنا إلى حرف رابع فكانت النون أولى من سائر الحروف لما ذكرناه من شبهها بحروف المد.

فإن قال قائل : فلم سكنتم الحرف الذي يلي حرف المضارعة في الأفعال الثلاثية وحركتموه في الرباعية؟ قلتم : هو يضرب فسكّنتم الضاد وكانت متحركة في ضرب ، وقلتم : يدحرج فجئتم بالدال على أصلها؟

فالجواب في ذلك أنهم لو أبقوا الضاد على حركتها لتوالى أربع حركات لوازم وهذا ليس في كلامهم ، إلا أن تكون الكلمة محذوفة نحو : عليبط وهدبد

__________________

(١) في الأصل : تعلى.

(٢) قرأها أبو عمرو بالواو (وقتت) ، انظر كتاب السبعة في القراءات ٦٦٦ وكتاب الحجة للقراء السبعة ٣٦٤ ، والعنوان في القراءات السبع ٢٠٢.

(٣) في الأصل : يبدل.

(٤) جاء في اللسان : " والتخمة بالتحريك الذي يصيبك من الطعام إذا استوخمته ، تاؤه مبدلة من واو ..." (وخم).

(٥) انظر الكافية ٢ / ٢٢٧ حيث يبين ابن الحاجب أن دخول هذه الحروف على المضارع باعتبار معانيها يقول : " ... تبين لمعاني حروف المضارعة ليعلم أنها لا تكون للمضارعة إلا باعتبار معانيها ... فالهمزة للمتكلم وحده مذكرا كان أو مؤنثا ، والنون للمتكلم مع غيره ... ويقول الواحد المعظم أيضا نفعل ، وفعلنا وهو مجاز من الجمع ... ، والتاء للمخاطب مذكرا كان أو مؤنثا ، مفردا كان أو مثنى أو مجموعا ... والياء للغائب غيرهما ، أي غير المؤنث والمؤنثين فيكون للأربعة ...".

٦٤

والأصل : علابط وهدابد ، لأنهم (١) يستعملون الوجهين جميعا بمعنى واحد فعلم أنهم خففوا اللفظة لطولها حتى صارت : علبط ، وهدبد (٢) ، وكذلك ضربني جاز أن يجتمع فيه أربع حركات متواليات لأن المفعول لا يلزم الفعل فلم يعتبروا بتوالي الحركات إذ كانت غير لوازم ، فإذا صح أنه ليس في كلامهم ما ذكرنا لم يجز تبقية الضاد في تضرب على حركتها. فإن قال قائل : لم صارت أولى بالإسكان؟

قيل : لأن الأول لا يجوز إسكانه لأنه ابتداء بساكن ، ولا يجوز إسكان آخر الفعل لأن ذلك يوجب بناءه وقد حصل مستحقا للإعراب بالمضارعة للاسم ، فلم يبق إلا الضاد ، والراء عين الفعل وبها يعرف اختلاط الأفعال مما هو على : فعل ، أو فعل ، أو فعل فلما كان الإسكان في الراء يوجب لبسا لم تسكن ، ولم يبق إلا الضاد ، فلهذا صارت بالإسكان أولى ، فأما يدحرج فلم يعرض فيه توالي أربع حركات وجاء على الأصل.

فإن قال قائل : أليس أكرم على وزن دحرج ، والمضارع بإسكان الثاني من أكرم خلافا لدحرج فما وجه ذلك؟

قيل له : الأصل في يكرم : يؤكرم كما تقول : يدحرج ولكن الهمزة حذفت ، والسبب في حذفها أن المتكلم لو أخبر عن نفسه لزمه أن يقول : أنا أأكرم ، فتلتقي همزتان زائدتان ، وذلك مستثقل ، وقد وجدناهم يحذفون الهمزة الأصلية استثقالا لها كقولك : خذ وكل ، والأصل أخذ وأكل ، لأنه من أخذ وأكل ، فكان حذف الزائد أولى مع ما فيه من الاستثقال فوجب أن تحذف الهمزة.

__________________

(١) مكررة في الأصل.

(٢) في اللسان : عليبط : " رجل علبط وعلابط : ضخم عظيم ، وناقة علبطة عظيمة ، وصدر علبط عريض ، ولبن علبط : رائب ... والعلبط والعلابط القطيع من الغنم ..." (علبط).

(هدد) ، الهدبد : كعلبط : اللبن الخاثر جدا ، كالهدابد ، والحفش ، وضعف العين ، وصمغ أسود ، والضعيف البصر والعشاء لا العمش. القاموس (هدد).

٦٥

/ ثم أتبعوا سائر حروف المضارعة الحذف لئلا يختلف طريق الفعل ، والهمزة المحذوفة هي الثابتة لأن الأولى دخلت لمعنى فكان حذف التي لا معنى لها أولى ، وأيضا فإن الثانية هي الموجبة لثقل الكلمة إذ كانت الأولى لا تثقل بها الكلمة فكان الموجب للثقل (١) أولى بالحذف.

فإن قال قائل : فلم اختلف أول أفعال المضارعة ، وكان الرباعي منها مضموم الأول وما عداه مفتوح الأول؟

فالجواب في ذلك أن الأصل الفتح في جميع ذلك ، وإنما وجب الفتح لأنه أخف الحركات ، ونحن نتوصل به إلى الابتداء كما نتوصل بالضم والكسر فكان استعمال (الفتح أخف) (٢) وأولى (٣) إلا أن المضارع من الفعل الرباعي إذا كان أول الماضي همزة وقد بيّنا أنه يجب إسقاطها فيصير لفظ المضارع على أربعة أحرف في الرباعي فيصير كمضارع الفعل الثلاثي ، فلو بقيناه مفتوحا التبس بالثلاثي فضم أول مضارع الرباعي ليفصل بينه وبين مضارع الثلاثي ثم أتبع سائر مضارع الرباعي لهذا القسم (٤) لئلا يختلف طريقه ويجري الفعل على طريق واحد.

فإن قيل : فلم كان الفصل بالضم أولى؟

قيل له : لأن الضم هو الأصل والكسر مستثقل (٥) ، إذ كان الجر قد منع من الفعل فلم يبق إلا الضم.

__________________

(١) في الأصل : للثقيل.

(٢) كتب في الأصل على الهامش.

(٣) كتبت الجملة دون ترتيب. فكان خف استعمال الفتح وأولى ، وقد أثبت ما يناسب المعنى.

(٤) قال ابن الحاجب في كافيته : " ... وأصل الأفعال ثلاثي ورباعي ، فتحت حروف المضارعة في الثلاثي لأن الفتح لخفته هو الأصل ، فكان بالثلاثي الأصل أولى ، أو لأن الرباعي أقل فاحتمل الأثقل الذي هو الضم .." ٢ / ٢٢٧ ـ ٢٢٨.

(٥) جاء في الكافية أيضا : " ... وتركوا الكسر لأن الياء من حروف المضارعة يستثقل عليها ، وكسر حروف المضارعة إلا الياء لغة غير الحجازيين إذا كان الماضي مكسور العين ... فلما ضموا في الرباعي الأصلي حروفه ، حمل عليه الرباعي المزيد فيه ، كيفاعل ، ويفعّل ، وبقي غير الرباعي على أصل الفتح لخفته ..." ٢ / ٢٢٨.

٦٦

ووجه آخر : أن الضم أقوى الحركات فأدخل على أول مضارع الرباعي ليكون عوضا من الحرف المحذوف.

فإن قيل : فلم صار الرباعي أولى من ضم الثلاثي؟

قيل : لأن الرباعي أقل في الكلام من الثلاثي وكرهوا ضم الثلاثي لئلا يكثر في كلامهم ما يستثقلون ، ووجه آخر : وهو أن الضم أقوى من الفتح ، وكان الرباعي قد حذف منه حرف ، فوجب أن يعطى الرباعي الحركة القوية ليكون فيه مع الفصل عوضا من المحذوف.

فإن سئل : لم ضممتم أول يدحرج وهو خمسة أحرف وليس يلتبس بالثلاثي؟

قيل : لئلا يختلف طريق الفعل الرباعي ، فلما لزم الضم في بعضه لعلّة أجري سائر تصاريفها عليها لئلا يختلف.

فإن قال قائل : فلم استوى لفظ المتكلم مؤنثا كان أو مذكرا وفصل ما بين المخاطب والغائب (١).

قيل : لأن المتكلم لا يختلط بغيره ، فلما لم يقع فيه التباس لم يحتج إلى فصل ، فتقول : أنا أقوم وإن كان مؤنثا ، وكذلك : نحن نقوم للمذكر والمؤنث ، وسنبين لم استوى لفظ التثنية والجمع للمتكلم في باب الضمير إن شاء الله.

فأما المخاطب فيفصل بينه وبين المذكر والمؤنث فقيل : أنت تقوم للمذكر ، وأنت تقومين للمؤنث ، لأن المخاطب قد يشترك فيه المذكر والمؤنث فلا يعلم المراد منهما إلا بالفصل والتمييز فاحتيج إلى الفصل والتبيين ، فزيد على لفظه المؤنث ياء ونون فأما الياء فهي إظهار الفاعل وفيها علامة التأنيث ، وإنما اختص المؤنث بالعلامة لأنه فرع على المذكر فاحتاج إلى زيادة لفظ على لفظ المذكر

__________________

(١) بيّن ذلك ابن الحاجب أيضا في كافيته وقد أشرت إليه في الصفحة ٦٤. الحاشية رقم (٦).

٦٧

كما تقول : قائم وقائمة ، ولم يجعل العلامة بالنقص في اللفظ الذي هو الأصل لئلا يزول معناه ، وإنما خص المؤنث بالياء علامة ، لأن علامة التأنيث قد تكون بالكسر وبالياء في نحو : هذي أمة الله ، ورأيتك ذاهبة.

فإن قال قائل / من أين زعمتم أن الياء في تضربين ضمير الفاعل دون أن تكون علامة محضة؟.

قيل إذا (١) ثنّينا أسقطنا الياء فقلنا : أنتما تضربان ، فلو كانت الياء علامة محضة لم يجز إسقاطها ، ألا ترى أنك تقول : قامتا ، وذهبتا ، فثبتت التاء مع إدخال الضمير ، فلما سقطت الياء علمنا أنها ضمير الفاعل لأن الألف تكفي (٢) منها وليست بعلامة محضة ولكنها علامة وضمير ، وإنما زيدت عليها النون لأن الفعل لما ظهر فاعله ، والفعل والفاعل بمنزلة شيء واحد ، لم يخرج الفعل بإظهار الفاعل عما يوجب له (٣) الإعراب ، إذ كانت المضارعة ثانية له وقد بطل أن يكون آخر الفعل حرف الإعراب لأنه قد لزمه اللين من أجل الياء ، فوجب أن تجعل فيه علامة الإعراب ، وقد بينا أن النون تشبه حروف المد وهي أولى بالزيادة بعدها فزيدت النون ، وجعلت علامة للرفع بمنزلة الضمة فلهذا زيدت النون.

وأما الغائب فجعل لفظ المذكر المخاطب للمؤنث الغائب كقولهم : هي تقوم ، وإنما وجب ذلك لأن صيغة الفعل يكتفى بها في العلامة من غير زيادة لفظ آخر وجعلوا للمذكر الغائب الياء فوقع الفصل بينهما بالياء والنون كقولك : يضربن لجماعة المؤنث ، وهم يضربون لجماعة المذكر.

__________________

(١) في الأصل : إذ ، وهي لا تناسب السياق.

(٢) في الأصل : تكتفي.

(٣) في الأصل : لها. وقد أثبت المناسب.

٦٨

باب ارتفاع الفعل المضارع

واعلم أن الفعل المضارع إنما يرتفع عند أهل البصرة بوقوعه موقع الاسم (١) ، وسواء كان الاسم مرفوعا أو منصوبا أو مجرورا كقولك في المرفوع : زيد يقوم ، وهو في موضع زيد قائم ، فأما المنصوب فنحو قولك : كان زيد يقوم في موضع : كان زيد قائما ، وأما المجرور فنحو قولك : مررت برجل يقوم ، فهو في موضع مررت برجل قائم.

وإنما استحق الرفع لوقوعه موقع الاسم لوجهين :

أحدهما : بأن وقوعه موقع الاسم معنى وليس بلفظ (٢) ، وهو مع ذلك متجرد من العوامل اللفظية فمن حيث استحق المبتدأ الرفع أعطي الفعل في هذا الموضع الرفع.

والوجه الثاني : هو أن الفعل له ثلاثة أحوال :

أحدها : أنه يقع موقع الاسم وحده كقولك : زيد يقوم ، وهو في موضع قائم.

والثاني : أنه يقع موقع الاسم مع غيره كقولك : أريد أن تذهب ، فهو بمنزلة أريد ذهابك.

والحالة الثالثة : ألا يقع موقع الاسم بنفسه ولا مع غيره كقولك : إن تأتني

__________________

(١) قال سيبويه : " وحروف الإعراب للأسماء المتمكنة ، وللأفعال المضارعة لأسماء الفاعلين التي في أوائلها الزوائد الأربع" الكتاب ١ / ١٣ ، ٣ / ٩ ـ ١٠ (هارون).

وقال الزجّاجي : " وعرض لبعض الأفعال ما أوجب لها الإعراب فأعربت ، وتلك العلّة مضارعة الأسماء" الإيضاح ٧٧.

(٢) بيّن ذلك سيبويه فقال : " ويبيّن لك أنها ليست بأسماء أنك لو وضعتها مواضع الأسماء لم يجز ذلك. ألا ترى أنك لو قلت : إنّ يضرب يأيتنا ، وأشباه هذا ، لم يكن كلاما؟! إلا أنها ضارعت الفاعل لاجتماعهما في المعنى" الكتاب ١ / ١٤ (هارون).

٦٩

آتك ، وكذلك : لم يقم زيد ، لا يصح أن يقع الاسم موقع ما ذكرناه ويكون بمعناه ، فلما كان الفعل قد حصل على هذه الأشياء الثلاثة ، وكان الاسم هو الأصل في الإعراب ، كان وقوع الفعل في موضعه أقوى أحواله ، فوجب أن يعطى أقوى الحركات وهو الرفع ، ولما كان وقوعه مع غيره موقع الاسم دون ذلك في الرتبة جعل له النصب ، ولما كان وقوعه في موضع لا يصح وقوع الاسم فيه فبعد بذلك من شبه الاسم بعدا شديدا أعطي من الإعراب ما لا يصح دخوله على الاسم لبعد شبهه منه وهو الجزم.

والفراء (١) يقول : إن الفعل المضارع يرتفع بسلامته من النواصب والجوازم (٢) ، وعند الكسائي / (٣) أنه يرتفع بما في أوله من الزوائد ، فأما قول الكسائي فظاهر الفساد (٤) ؛ لأن (٥) هذه الزوائد لو كانت عاملة رفعا لم يجز أن يقع الفعل منصوبا ولا مجزوما وهي موجودة فيه لأن عوامل النصب لا يجوز أن تدخل على عوامل الرفع لأنه لو دخل عليه لكان يجب أن تبقى في حكمها فيؤدي ذلك إلى أن

__________________

(١) هو أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله الفراء ، (ت ٢٠٧) ، انظر طبقات الزبيدي ١٤٣ ، الإنباه ٤ / ١ ، البلغة ٢٨٠ ، البغية ٤١١ ، وكتاب (أبو زكريا الفراء ومذهبه في النحو واللغة).

(٢) جاء في الكافية : " ويرتفع إذا تجرد عن الناصب والجازم نحو : يقوم زيد ، هذا وإن لم يصرح بأن عامل الرفع هو التجرد عن العوامل كما هو مذهب الفراء ... ولعل اختيار الفراء لهذا حتى يسلم من الاعتراضات الواردة على مذهب البصريين ... وتلك الاعتراضات مثل أنه يرتفع في مواضع لا يقع فيه موقع الاسم كما في الصلة نحو : الذي يضرب ، وفي نحو : سيقوم ، وسوف يقوم ، وفي خبر كاد نحو : كاد زيد يقوم ، وفي نحو : يقوم الزيدان ..." ٢ / ٢٣١.

(٣) هو أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي إمام الكوفيين ، وأحد القراء السبعة المشهورين (ت ١٨٩ ه‍) انظر مراتب النحويين ٧٤ ، الطبقات للزبيدي ١٣٨ ، الإنباه ٢ / ٢٥٦ ، ومعرفة القراء الكبار ١ / ١٢٠ ، والبغية : ٣٣٦.

(٤) انظر أسرار العربية ٢٨ ـ ٢٩ ، وانظر الكافية في النحو ٢ / ٢٣١ حيث جاء فيها : " وقال الكسائي عامل الرفع فيه حروف المضارعة لأنها دخلت في أول الكلمة فحدث الرفع بحدوثها إذ أصل المضارع : إمّا الماضي ، وإمّا المصدر ولم يكن فيهما هذا الرفع بل حدث مع حدوث الحروف ؛ فإحالته عليها أولى من إحالته على المعنوي الخفي كما هو مذهب البصريين والفراء ...".

(٥) في الأصل : ولأن.

٧٠

يكون الشيء مرفوعا منصوبا في حال وهذا محال ، فلما وجدنا هذا الفعل ينصب ويجزم والحروف في أوله موجودة علمنا أنها ليست علّة في رفعه.

وأما الفراء فقوله أقرب إلى الصواب وفساده مع ذلك هو (١) أنه جعل النصب والجزم قبل الرفع لأنه يرتفع بسلامته من النواصب والجوازم ، وأول أحوال الإعراب الرفع ، وقوله : فوجب أن يكون الرفع بعد النصب والجزم ، فلهذا فسد فاعلمه.

باب حروف النصب

واعلم أن حروف النصب على ما ذكرنا تنقسم قسمين : قسم بنفسه (٢) ، وقسم يعمل بإضمار (أن).

وإنما وجب النصب ب (أن) وأخواتها لأن (أن) الخفيفة مشابهة ل (أنّ) الثقيلة في الصورة والمعنى فمن حيث وجب أن تنصب تلك الاسم نصبت هذه الفعل ، وما ذكرناه من أخواتها محمول عليها ، ووجه هذا الحمل أن هذه الحروف أعني : لن ، وكي ، وإذن ، تقع للمستقبل كوقوع (أن) له فلما كانت مشابهة ل (أن) في إيجابها لكون الفعل للمستقبل نصبت لا غير كنصب (أن) وقد ذكرنا في الفصل المتقدم (٣) علّة أخرى في نصب (أن) فأغنى عن إعادته (٤).

واعلم أن ل (إذن) ثلاثة أحوال :

أحدها أن تنصب لا غير.

والثانية : أن يجوز إلغاؤها وإعمالها.

__________________

(١) في الأصل : وهو.

(٢) أي ينصب بنفسه.

(٣) في الأصل : المقدم.

(٤) سبقت في ص ٦٩.

٧١

والثالثة أن لا يجوز إعمالها.

الحال الأولى : أن تقع مبتدأة كقولك : إذن أكرمك.

والحال الثانية : أن تقع وقبلها الواو أو الفاء (١) ، كقولك : أنا أحبك وإذن أكرمك ، وإن شئت رفعت وإن شئت نصبت ، فمن نصب قدر الواو عاطفة جملة على جملة فصارت (إذن) (٢) في الحكم كالمبتدأ فلهذا نصب ، ومن رفع جعل الواو عاطفة على الفعل الذي قبله وألغى (إذن) وإنما ساغ إلغاؤها لشبهها بظننت إذ توسطت بين الاسم والخبر (٣) ، وهذا التشبيه إنما ساغ لأن العرب قد ألغت (إذن) في العمل كقوله تعالى : (وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ)(٤) إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء : ١٧ / ٧٦](٥) ويجوز إنما حملهم (٦) على إلغائها ليكون في الحروف التي هي أضعف من الأفعال ما يجوز فيه الإعمال والإلغاء ، كما جاز في الأفعال التي هي أقوى ، فلهذا جاز إلغاؤها وإعمالها.

والحال الثالثة : لا يجوز أن تعمل فيها وهي أن تقع بين كلامين لا بد لأحدهما

__________________

(١) في الأصل : الواو والفاء. جاء في المقتضب : " واعلم أنها إذا وقعت بعد واو أو فاء ، صلح الإعمال فيها والإلغاء ..." ٢ / ١١ (لجنة إحياء التراث الإسلامي).

(٢) في الأصل : إذا ، ولم ترد بالألف إلا في هذا الموضع.

(٣) قال المبرد : " اعلم أن (إذن) في عوامل الأفعال كظننت في عوامل الأسماء ، لأنها تعمل وتلغى كظنت ؛ ألا ترى أنك تقول : ظننت زيدا قائما ؛ وزيد ظننت قائم. إذا أردت : زيد قائم في ظني ، وكذلك (إذن) إذا اعتمد الكلام عليها نصب بها. وإذا كانت بين كلامين أحدهما في الآخر عامل ألغيت ولا يجوز أن تعمل في هذا الموضع ، كما تعمل (ظننت) ..." ٢ / ١٠ باب إذن وللتفصيل عن هذه الأداة انظر : التبصرة والتذكرة ، للصّيمري ، ١ / ٣٩٦ ، وهو لم يكتف بالحديث عنها بل فصل الحديث عن نواصب المضارع ، ورصف المباني في شرح حروف المعاني ٦٢ ـ باب إذن ، والمغني ١ / ١٥.

(٤) في الأصل : خلفك ، وهي قراءة لنافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر ، انظر : حجة القراءات ٤٠٨.

(٥) وتمامها : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) وانظر مناقشة الخلاف حول عمل إذن هنا في : نحو القراء الكوفيين ، ٤٩ ـ ٥٠.

(٦) تعبير غير مألوف وهو يريد : ويجوز أن يكون ما حملهم ...

٧٢

من الآخر كالمبتدأ والخبر والشرط والجزاء كقولك : زيد إذن يكرمك ، وإن تأتني إذن آتك وأكرمك ، وكذلك إن وقعت بين القسم والمقسم به كقولك : [والله](١) إذن لأقوم ، وإنما ألغيت في هذه المواضع لاحتياج ما قبلها إلى ما بعدها فجاز أن يطرح حكمها لاعتماد ما قبلها على ما بعدها.

وأما (كي) فللعرب فيها مذهبان :

أحدهما : أن يعملوها في الفعل كعمل (أن) لما ذكرناه من التشبيه.

والمذهب الثاني : أن يجروها مجرى لام الجر فيكون النصب بعدها بإضمار (أن) ، وذلك (٢) / أن بعض العرب يقولون : كيمه ، كما يقولون : لمه ، فلما أجريت مجرى لام الجر لم يجز أن تعمل في الفعل فوجب أن تضمر (أن) بعدها (٣).

واعلم أنه قد حكى الخليل (٤) رحمه‌الله أن أصل (لن) لا أن ولكنها حذفت فبقيت لن تخفيفا (٥) فردوا ذلك عليه بأن قالوا : إن ما بعد (لن) لا يعمل فيما قبلها ، ولو كانت (لن) على ما زعم الخليل لم يجز زيدا لن أضرب ، فتقدم ما بعد (لن) عليها وللخليل أن ينفصل من هذا بأن يقول : وجدت الحروف متى ركبت خرجت عما كانت عليه ، فمن ذلك (هل) أصلها الاستفهام ولا يجوز أن يعمل ما بعدها فيما قبلها لو قلت : زيدا هل ضربت؟ لم يجز ، فإذا زيد على هل (لا) ودخلها معنى التحضيض جاز أن يتقدم ما بعدها عليها قولك : زيدا هلّا ضربت ،

__________________

(١) كتبت في الأصل على الهامش.

(٢) جاء في الإنصاف : " ذهب الكوفيون إلى أنّ (كي) لا تكون إلا حرف نصب ولا يجوز أن تكون حرف خفض وذهب البصريون إلى أنها يجوز أن تكون حرف جر ..." مسألة ٧٨ صفحة ٢٣٥ (ليدن).

(٣) قال سيبويه : (فمن قال كيمه فإنه يضمر أن بعدها ، وأمّا من أدخل عليها اللام ولم يكن من كلامه كيمه فإنها عنده بمنزلة أن ، وتدخل عليها اللام كما تدخل على أن. ومن قال كيمه جعلها بمنزلة اللام) الكتاب ٣ / ٦ (هارون).

(٤) هو أبو عبد الرحمن بن أحمد الفراهيدي ت ١٧٥ ، انظر : الطبقات ٤٣ ، الإنباه ١ / ٣٤١ ، والبغية ٢٤٣ ، وشذرات الذهب ١ / ٢٧٥.

(٥) وإلى ذلك ذهب الكسائي أيضا. انظر المغني : ٣١٤ وانظر الكتاب ٣ / ٥ (هارون).

٧٣

فإذا كان تركيب الحروف يخرجها عن حكم ما كانت عليه قبل التركيب لم يلزم الخليل في لا أن الذي ذكرناه ، إلا أن قول الخليل في الجملة ضعيف من وجه آخر وهو أن اللفظ متى جاءنا على صفة ما وأمكن استعمال معناه لم يجز أن يعدل عن ظاهره إلى غيره من غير ضرورة تدعو (١) إلى ذلك ، فلما وجدنا أن معناها مفهوم بنفس لفظها لم يجز أن ندعي أن أصلها شيء آخر من غير حجة قاطعة ولا ضرورة ، ويدل أيضا على ضعف قول الخليل أنه (٢) يجوز أن يليها الماضي و (أن) (٣) لا يليها إلا المستقبل ، فعلمنا أن حكم (أن) ساقط وأن (لن) حرف قائم بنفسه وضع للفعل المستقبل.

فإن قال قائل : من أين زعمتم أنّ (أن) تضمر بعد (حتى) واللام و (الفاء) و (الواو) ، ولم تجعلها مقدرة بعد (إذن) و (كي) و (إن)؟

فالجواب في ذلك أن (لن) و (إذن) و (كي) تلزم الأفعال وتحدث فيها معنى وإن كان بعض العوامل قد يوقع عمله بالتشبيه باللفظ دون المعنى فإذا كان كذلك وجب أن يكون حكم هذه الحروف في أنها عاملة فيما بعدها كحكم (أن) و (لن) لاشتراكهما في لزوم الفعل ، وأما (حتى) و (الفاء) و (الواو) فالدلالة قد دلت على أنّ (أن) مضمرة بعدها وذلك أنّ (حتى) قد ثبت حكمها أن تخفض الأسماء ولا يجوز لعامل الاسم أن يعمل في الفعل ، فلما وجدنا الفعل بعد (حتى) منصوبا وقد استقر لها الخفض وأمكن أن تجعل في هذا الموضع على بابها بأن تقدر بعدها (أن) لأنّ (أن) والفعل بمنزلة المصدر فتصير (حتى) في المعنى خافضة ل (أن) وما تعلق بها ، وجب أن تقدر (أن) بعدها لئلا يخرجها عن أصلها وعن أحكام العوامل.

__________________

(١) في الأصل : تدعوا.

(٢) في الأصل : أن.

(٣) مكررة في الأصل.

٧٤

فإن قال قائل : فهلا جعلتم أصلها النصب للفعل إذا كان إظهار (أن) لا يجوز إذ صار أصلها النصب للفعل احتجتم إلى إضمار حرف يخفض الاسم إذا وليها كما فعلتم في إضمار ما ينصب الفعل؟

فالجواب في ذلك أن حروف الجر من شأنها أن تقوم بنفسها ومن شرط المحذوف ألا يحذف حتى تقوم دلالة على حذفه ، فلما وجدناهم يقولون : ضربت القوم حتى زيد ، ويخفضون علمنا أنها خافض.

فإن قال : أليس / يحسن أن تقول : ضربت القوم حتى انتهيت إلى زيد؟

قيل له هذا لا يجوز لأنا نكون قد أضمرنا فعلا وحرفا ، والأفعال التي تصل بحرف الجر لا يجوز إضمارها ، فلهذا سقط أن تقدر الخفض بعد (حتى) بحرف سواها.

وأما إضمار (أن) فله نظير لأنه تخفيف بعض الاسم ، وبعض الاسم موجود في كلامهم فلهذا كان جعل (حتى) خافضة للاسم أولى من جعلها ناصبة للفعل.

ووجه آخر أن (حتى) معناها ومعنى (إلى) متقارب ، وقد ثبت أن (إلى) خافضة فيجب أن تكون [حتى](١) خافضة لقربها من (إلى) في المعنى.

وأما اللام فوجب إضمار (أن) بعدها لأنها خافضة ، وقد بينا أن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال ويمنع هذا أنّ إضمار (أن) بعدها حسن كقولك : جئت لأن تقوم ، يدل على أنّ النصب بإضمار (أن) لا باللام.

واعلم أن هذه اللام إذا كان قبلها نفي لا يحسن إظهار (أن) بعدها (٢) كقولك : ما كان زيد ليقوم ، ولا يحسن ما كان زيد لأن يقوم ، وإنما لم يحسن

__________________

(١) زيادة ليست في الأصل يقتضيها السياق.

(٢) قال سيبويه : " واعلم أن اللام قد تجيء في موضع لا يجوز فيه الإظهار وذلك : ما كان ليفعل ..." ٣ / ٧ (هارون).

٧٥

ذلك لأنه جواب لقولك ، كان زيد سيقوم فتقول : ما كان زيد ليقوم ، فلما كانت جوابا لشيئين و (ما) حرف لا يعمل أرادوا أن يكون الجواب أيضا بحرف لا يعمل في الفعل ليشاكل الجواب ما هو جواب له ، فلهذا لم يحسن إظهار (أن).

فأما (الفاء) و (الواو) و (أو) فحروف عطف ، وحروف العطف لا تعمل شيئا لأنها لا تختص بالدخول على الفعل دون الاسم ولا بالدخول على الاسم دون الفعل ، وكل حرف كان على هذا السبيل لم يعمل شيئا ، فلما وجدنا الفعل بعد هذه الحروف منصوبا علمنا أنه انتصب بغيرها وهو (أن).

فإن قال قائل : فلم صارت (أن) بالإضمار أولى من أخواتها؟

ففي ذلك وجهان :

أحدهما : أنّ (أن) هي الأصل لهذه الحروف في العمل لما ذكرناه فوجب أن يكون المضمر (أن) لقوتها في بابها ، وأن يكون ما حمل عليها يلزم موضعا ولا يتصرف.

والوجه الثاني : أنّ (أن) يليها الماضي والمستقبل فصارت أشد تصرفا من أخواتها لأنه لا يليها إلا المستقبل فلما حصلت لها مزية على أخواتها في الإظهار كانت أولى بالإضمار ، وأيضا فإنّ (أن) ليس لها معنى في نفسها كمعنى : (لن) و (إذن) و (كي) ، ولأجل نقصها في معناها جاز أن تحذف ولم يجز إضمار أخواتها لكثرة فائدتها.

فإن قال قائل : فهلّا يجوز القياس على هذا حتى يجوز إضمار (أن) في كل موضع؟

قيل له : لا ، فإن قال : فلم خصت هذه المواضع بهذا؟

قيل له : إنما لم يجز إضمار (أن) في كل موضع لأنه عامل ضعيف ، وليس من شرط العامل الضعيف أن يعمل مضمرا ، وإنما جاز إضماره في هذه المواضع لأن

٧٦

هذه الحروف العوامل أعني (اللام) و (حتى) وأخواتها صارت عوضا منها ، فجرت في العوض مجرى (الواو) التي تقع عوضا من (رب) كقوله (١) :

وبلد (٢) عامية أعماؤه

وبلدة ليس بها أنيس

إلا اليعافير وإلا العيس (٣)

وكقوله (٤) : وبلدة قطعت (٥) أي رب بلدة قطعت ، فلما صارت عوضا من أن حسن حذفها.

باب حروف الجزم

فإن قال قائل : لم / صارت (لم) وأخواتها وحروف الشرط تختص بالجزم دون غيره (٦) من الإعراب؟

قيل له : قد بيّنا أن الجزم لا بد من دخوله على الفعل ليكون بإزاء الجر في الأسماء ، ووجب أن تكون هذه العوامل عاملة لأنها قد لزمت الفعل وأحدثت فيه معنى وإنما خصت بالجزم لأن الشرط والجزاء يقتضي جملتين كقولك : إن تضرب أضرب ، فلطول ما يقتضيه الشرط والجزاء اختير له الجزم لأنه حذف وتخفيف.

__________________

(١) البيت لرؤية في مجموع أشعار العرب ص ١ ، وفي كتاب الشعر للفارسي ١ / ٢٣٨ وفي أمالي ابن الشحري ٢ / ٢٣٤ ، وفي الإنصاف ٣٧٧ مسألة (٥٥) ، وفي اللسان (عمي) ، وفي شرح الشذور ٣٢٠ وروايته :

وبلد مغبرة أرجاؤه

كأن لون أرضه سماؤه

وفي العيني ٤ / ٥٥٧ وفيه : ومهمه مغبرة أرجاؤه.

(٢) في الأصل : وبلدة ، وأثبت ما جاء في الروايات ودليل ذلك قوله : أعماؤه وليس أعماؤها.

(٣) استشهد به في : الكتاب ١ / ٢٦٣ ـ ٢ / ٣٢٢ ، معاني القرآن : ٢٨٨ ـ ١ / ٤٧٩ ، المقتضب ٢ / ٣١٩ ـ ٢ / ٣٤٧ ـ ٤ / ٤١٤ ، شرح أبيات سيبويه للنحاس ٢٤٢ وأورده شاهدا على رفع اليعافير والعيس على لغة أهل الحجاز لأن اليعافير ليست من الأنيس ، شرح أبيات سيبويه للسيرافي ٢ / ١٤٠ ، الإنصاف ونسبه ابن الأنباري لجران العود ١ / ٢٧١ ، شرح المفصل ٧ / ٢١ ـ ٨ / ٥٢ ـ ٢ / ١١٧ ، أوضح المسالك ٢ / ٦٣ ، الهمع ٣ / ٢٥٦ ، الخزانة ١٠ / ١٥ ـ ١٦.

(٤) لم أعثر عليه.

(٥) في الأصل : قطت.

(٦) في الأصل : غيرها. وقد أثبت المناسب.

٧٧

وأما لم اختير الجزم لها [ف](١) لأنها ضارعت حروف الجزاء من أجل أن الفعل المضارع يقع بعدها بمعنى الماضي كما يقع الماضي بعد حروف الجزاء بمعنى الاستقبال فلما تشابها من هذا الوجه جعل عملهما الجزم ، وأما (لا) في النهي فإنما اختصت بالجزم لأن النهي نقيض الأمر والأمر مبني على السكون إذ لم يكن في أوله اللام فجعل النهي نظيرا له في اللفظ ، فلهذا خص بالجزم ، وأما (لام) الأمر فجعلت لازمة للجزم لاشتراك الأمر باللام وغير اللام في المعنى ، وخصت اللام بذلك لأنها تدخل على الغائب فشابهتلام التعريف لأنها تستعمل (٢) للعهد ولمن هو غائب ؛ فأدخلت اللام من بين سائر الحروف لهذا المعنى. وأما قولنا في الكتاب (٣) : أفلم ، وأفلما ، فالأصل : لم ، وتدخل عليها فاء العطف وواو العطف وألف الاستفهام ، والجزم : إنما هو بلم إذ كان ما دخل عليها لا تأثير له.

وأما (لمّا) فالجزم يقع بها ، وبينها وبين (لم) فروق (٤) ذلك أن (لم) نفي لقولك : قام زيد ثم تقول : لم يقم زيد فإذا قلت : قد قام ، فنفيه : لما يقم ، وذلك أن (قد) فيها معنى التوقع فزيدت (ما) على (لم) بإزاء قد الداخلة على الفعل في أول الكلام ، والدليل على أن (لمّا) مخالفة في الحكم ل (لم) أنه يجوز السكوت عليها فيقال في الجواب : لما ولا يذكر بعدها شيء ، ولا يجوز ذلك في لم فعلم الفرق بينهما.

فإن قال قائل : فما الذي أحوج إلى إبانة لفظ الماضي بعد (لم) إلى لفظ المستقبل؟

__________________

(١) زيادة ليست في الأصل.

(٢) في الأصل : لا تستعمل ، ووجود (لا) هنا ينافي المراد.

(٣) لعله يريد في الكتابة والاستعمال ، وإلّا فقوله (وأما قولنا) صوابه : وأما قوله يعني كتاب الله تعالى أو كتاب سيبويه وقد ترددت (أفلم وأفلما) فيهما غير مرّة.

(٤) فصّل ذلك ابن هشام في المغني ٣٦٧ ـ ٣٦٩.

٧٨

قيل له : لما وجب ل (لم) عمل للفعل بما ذكرناه ، فلو ألزموه الماضي لما بان عمله (١) ، فوجب أن ينقل لفظ الماضي إلى لفظ المستقبل حتى يتبين الجزم.

فإن قيل : أليس أصل حروف الشرط أن يليها المستقبل كقولك : إن تضرب أضرب ، ثم جوزوا أن يليها الماضي فهلّا استقام مثل هذا في (لم) وأوقعتم من بعدها الماضي والمستقبل جميعا؟.

قيل له : الفصل بينهما أن أصل حروف الجزاء أن يليها المستقبل لأن الجزاء إنما يكون في المستقبل ، والفعل المضارع أثقل من الماضي إذ كان [الماضي](٢) أخف منه.

وأما (لم) فالأصل أن يليها الماضي ، وقد أوجبت العلّة إسقاط الأصل واستعمال الثقيل أعني المضارع فلم يجز أن يرجع إليه ؛ لأنهم لو استعملوا الأصل الذي هو الخفيف وقع الجازم على غير ما بني له ، والمعنى لا يشاكل (٣) المضارع فوجب إسقاط الأصل وأساؤوا (٤) استعمال المضارع في موضعه فلذلك افترقا فاعرفه.

واعلم أن الأمثلة التي تعلم (٥) نحو : يفعلان ، وتفعلان ، ويفعلون ، وتفعلون ، وأنت تفعلين ، فإنما وجب أن يكون إعرابها بالنون (٦) ، لأن هذه الأفعال لما لحقتها ضمائر الفاعلين / وكان الفعل والفاعل كالشيء الواحد وجب أن يظهر الضمير معها كبعض حروفها.

__________________

(١) في الأصل : شيئا.

(٢) زيادة ليست في الأصل ؛ يقتضيها السياق

(٣) في الأصل : بشكل.

(٤) في الأصل : أساوا

(٥) يعني الأفعال الخمسة

(٦) قال ابن مالك :

واجعل لنحو (يفعلان) النّونا

رفعا ، وتدعين وتسألونا

وحذفها للجزم والنّصب سمه

كلم تكوني لترومي مظلمه

شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك ١ / ٧٨ ـ ٧٩ (دار الفكر).

٧٩

وهذه الضمائر أعني الألف ، والواو ، والياء ، في تضربين إنها لا يكون ما قبلها من حروف الإعراب لأنه لو جعل ما قبلها من حروف الإعراب لجاز أن يسكن في الجزم فيلتقي ساكنان فكان يؤدي ذلك إلى حذف الضمير لالتقاء الساكنين ، وكان أيضا يجب أن تنقلب الألف واوا إذا انضم ما قبلها وكذلك الياء فتختلط العلامات ، فلما كان يؤدي إعراب ما قبل هذه المضمرات إلى ما ذكرنا بطل أن يكون ما قبلها حرف الإعراب ، ولم يكن لحاق هذه الضمائر بمزيل للفعل عن استحقاق الإعراب لأن مضارعته لم تزل ولا بد من إعراب ، وقد فات حرف إعرابه أن يعرب فجعلوا النون بمنزلة الضمة ، وجعلت بعد هذه الضمائر ، ولم يجز أن تجعل هذه الضمائر حروف الإعراب كما جعلت (الألف) و (الواو) و (الياء) في تثنية الأسماء وجمعها ، لأن هذه الضمائر ليست بجزء من الفعل في الحقيقة وإنما هي أسماء في أنفسها ، ولم يجز أن يكون إعراب الفعل في غيره لأنها من جهة اللفظ قد جعلت كجزء من الفعل فوجب أن يكون الإعراب بعدها ، وكانت النون من سائر الحروف (١) لما ذكرناه من شبهها بحرف المد ، وجعل تثبيتها علامة للرفع بمنزلة الضمة وأسقط في الجزم كما تسقط الضمة ، وحمل النصب على الجزم إذ كان لفظ هذه الأفعال قد صار كلغة تثنية الأسماء وجمعها ، وحمل النصب على الجزم في هذه الأفعال لأن الجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء(٢).

فإن قال قائل : أنت تذهبين إنما هو خطاب للواحدة فلم استوى نصبه وجزمه وليس في الأسماء المفردة ما حمل نصبه على جزمه؟

قيل له : إن قلنا : أنت تضربين ، وإن كان خطابا للواحدة فهو مشبه للفظ الجمع ، ألا ترى أن الجمع في حال النصب والجر يكون آخره ياء قبلها كسرة كما أن في

__________________

(١) أي وكانت النون هي حرف الإعراب من بين سائر الحروف.

(٢) انظر شرح ذلك في الكتاب ١ / ١٨ ـ ١٩ (هارون).

٨٠