العلل في النحو

أبو الحسن محمد بن عبد الله [ الوراق ]

العلل في النحو

المؤلف:

أبو الحسن محمد بن عبد الله [ الوراق ]


المحقق: مها مازن المبارك
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
الطبعة: ٢
ISBN: 1-57547-843-9
الصفحات: ٤١٦

معناه إلا بتقدمهما جميعا وليس أحدهما بمنفك من الآخر ، فصار حكمها كالنار والحطب في باب تأثير (١) الماء بهما وهذا المذهب مذهب أبي العباس (٢).

واعلم أن الأصل في باب الشرط والجزاء أن يكونا مضارعين كقولك : إن تضرب أضرب لأن / حقيقة الشرط بالاستقبال فوجب أن يكون اللفظ على ذلك ، ويجوز أن يقعا ماضيين لأن الماضي أخف من المضارع فاستعملوه لخفته وأمنوا اللبس إذ كانت حروف الشرط تدل على الاستقبال ، ويجوز أن يكون الأول ماضيا والجواب مضارعا وليس كحسن الأولين ، لأنك خالفت بين الشرط والجواب وهما مستويان في الحكم ، وأما إن جعلت الشرط مضارعا والجواب ماضيا فهو قبيح ، والفصل بينهما أن الشرط إذا كان مضارعا وقد عملت فيه أن فقبيح أن يأتي لفظ الجواب مخالفا (ما) أوجبته الحرف العامل ، وأما إذا كان الأول ماضيا فقد حصل لفظ الأول غير معمول فيه والأصل أن يعمل فيه فإذا جاء الجواب مخالفا له في اللفظ فقد جاء مستعملا على الأصل استعمال المضارع ، فصار استعمال الأصل معلوما للخلاف فلذلك افترقا.

واعلم أن جواب الشرط قد يقع مبتدأ وخبرا إلا أنه متى وقع على هذا الوجه فلا بد من إلغاء قولك : إن يأتني زيد فأنا أكرمه ، فإن حذفت المبتدأ بقي الفعل مرفوعا لأنه في موضع خبر المبتدأ كقولك : إن يأتني زيد فأكرمه والمعنى فأنا أكرمه ، وإنما وجب إدخال الفاء لأن المبتدأ والخبر جملة تقوم بنفسها وليس ل (إن) فيها تأثير ، لأنها ليست من عوامل الأسماء فلو جاز أن يلي المبتدأ والخبر الشرط لم يعلم أنه متعلق به وجاز أن يعتقد انقطاعه مما قبله ، فأدخلوا الفاء ليتصل ما بعدها بما قبلها ، وإنما كانت أولى من سائر حروف العطف لأنها توجب أن

__________________

(١) في الأصل كلمة على صورة (استحقاق) ولم أتبينها وقد وضعت ما يناسب السياق.

(٢) قال المبرد : " فإذا قلت إن تأتني آتك. ف (تأتني) مجزومة بإن ، و (آتك) مجزومة بإن وتأتني ـ ونظير ذلك من الأسماء قولك : زيد منطلق ، فزيد مرفوع بالابتداء ، والخبر رفع بالابتداء والمبتدأ." المقتضب ٢ / ٤٩.

٢٨١

يكون ما بعدها عقيب ما قبلها وليس (الواو) ، كذلك لأنها توجب الجمع بين شيئين ولا يكون لفظها دلالة على أن الجواب يستحق وقوع الشرط ، ولم يجز استعمال (ثم) لأنها للتراخي فإذا اعتقد المشروط له تراخي الجزاء عن وقوع فعله لم يحرص على الفعل ، فلذلك لم يجز استعمال (ثم) ، واستعملت (الفاء) لما ذكرناه ، وقد يجوز حذفها في الشعر. قال الشاعر (١) :

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشر بالشر عند الله مثلان

أراد (فالله يشكرها).

واعلم أن جواب الشرط فعلا كان أو مبتدأ وخبرا [لا يجوز أن يتقدم عليه ، وما يتقدم على الشرط لا يجوز أن يكون جوابا له فعلا كان أو مبتدأ وخبرا](٢) لأن الغرض في الجواب استغناء الكلام فاستغنى الكلام به إلا أنه لا يجوز أن تعمل فيه (إن) لأنها حرف والحروف ضعيفة العمل فلا يجوز أن تعمل فيما قبلها كقولك :

__________________

(١) البيت من البسيط ، وقد اختلف في نسبته فمنهم من نسبه إلى حسان بن ثابت ، وقد ورد في ديوانه في الزيادات التي نسبت إليه ١ / ٥١٦ ، ومنهم من نسبه إلى عبد الرحمن بن حسان بن ثابت ، ومنهم من نسبه إلى كعب بن مالك ، وهو في الكتاب ٣ / ٦٥ ، ومعاني القرآن ١ / ٤٧٦ ، وفي المقتضب ٢ / ٧٢ ، وفي شرح أبيات سيبويه للنحاس ٢٨٦ ، وفي الخصائص ٢ / ٢٨١ ، وفي أمالي ابن الشجري ١ / ٢٤ ـ ٢ / ٩ ـ ١٤٤ ، وفي شرح المفصل ٩ / ٣ ، وفي ارتشاف الضرب ٢ / ٥٥٤ ـ ٣ / ٣٠٥ ، وفي أوضح المسالك ٣ / ١٩٣ ، وفي المغني ٦٧١ ، وفي شرح شواهد المغني للسيوطي ١ / ١٧٨ ـ ١ / ٢٨٦ ـ ١ / ٤٦٨ ، وفي الهمع ٤ / ٣٢٨ ، وفي شواهد التوضيح والتصحيح ١٣٥ ، وفي الخزانة ٩ / ٤٩.

وروي : من يفعل الخير فالرحمن يشكره. ولا شاهد في هذه الرواية.

(٢) زيادة ليست في الأصل يقتضيها السياق. وقال سيبويه : " فإن قلت لئن تفعل لأفعلنّ قبح لأن لأفعلنّ على أول الكلام ، وقبح في الكلام أن تعمل إن أو شيء من حروف الجزاء في الأفعال حتى تجزمه في اللفظ ثم لا يكون لها جواب ينجزم بما قبله ، ألا ترى أنك تقول : آتيك إن أتيتني ، ولا تقول : آتيك إن تأتني إلا في الشعر ، لأنك أخرت إن وما عملت فيه ولم تجعل لإن جوابا ينجزم بما قبله فهكذا جرى هذا في كلامهم ... لمّا كانت إن العاملة لم يحسن إلا أن يكون لها جواب ينجزم بما قبله فهذا الذي يشاكلها في كلامهم إذا عملت ..." ١ / ٤٣٦ (بولاق).

وانظر مسألة تقديم الجواب في كتاب : الجملة الشرطية عند النحاة العرب ٣٠٤.

٢٨٢

أكرمك إن تأتني ، والأحسن إذا قدمت الجواب (١) أن يكون ما بعد (إن) فعلا ماضيا ليكون ما بعدها غير معمول فيه كجوابها ، ويحسن أن يكون مضارعا لأن الجواب قد تقدم وجاءت على أصلها ، وليس ذلك كتأخير الجواب لما ذكرناه من مخالفة الأصل.

واعلم أن الفعل ليس له من الأحكام في باب التبعيض ما للأسماء فلذلك لم يدخل فيه بدل التبعيض من الكل ولم يجز أن تبدل الفعل من الفعل إلا أن يكون في معناه لأن البدل تبيين فلا يجوز أن يبين الشيء بما لا تعلق بينه وبين المبين له ، ولا يجوز أن تبدل الفعل من الفعل إذا لم يكن في معناه إلا على طريق الغلط / كما يقع ذلك في الأسماء.

واعلم أن الفعل المضارع إنما يرتفع إذا وقع موقع الحال لأنه قد وقع موقع الاسم ، ومع ذلك فعوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال ولذلك استحقت الرفع وقد بينا هذا فيما مضى.

واعلم أن جواب الأمر والنهي والنفي والاستفهام والتمني والعرض إنما [هو](٢) الجزم ؛ لأن ما تقدمه يتضمن معنى الشرط ألا ترى أن قولك : أين بيتك أزرك؟ معناه : إن تعلمني بيتك أزرك ، وكذلك إذا قلت : ايتني أكرمك ، وكذلك : لا تأتني أضربك ، معناه : إن تأتني أضربك ، وليت زيدا عندنا نكرمه معناه : لو كان زيد عندنا أكرمناه و (لو) تضارع (إن) لأنها تقتضي جوابا كقولك : لو تكون عندنا لأكرمناك ، فصار بمنزلة : إن تكن عندنا أكرمناك ، وكذلك حكم العرض فلما تضمنت هذه الأسماء معنى الشرط قدر معها (إن) فانجزم الجواب بتقدير حرف الشرط ، فإن رفعت الفعل في جوابها فعلى وجهين:

__________________

(١) أي ما يدل على الجواب.

(٢) زيادة ليست في الأصل.

٢٨٣

أحدهما : أن يكون الفعل في موضع الحال كقولك : ائتني أكرمك.

وأما الوجه الثاني : فعلى تقدير خبر ابتداء كأنك قلت : ائتني فأنا أكرمك.

وأما جواز حذف (أن) ونصب الفعل بإضمارها فهو قبيح عند البصريين وذلك مثل قول طرفة (١) :

ألا أيها ذا الزاجري أحضر الوغى

وأن أشهد اللّذات هل أنت مخلدي؟

فالوجه الرفع في أحضر لأن (أن) موصولة بالفعل ولا يجوز حذف الموصول وتبقية الصلة ومع ذلك فهي عامل ضعيف ، لأنه حرف من الحروف ، ولا يجوز أن تعمل الحروف مضمرة ، وقد أجازوا النصب فيه ووجه جوازه إظهار (أن) في آخر البيت وهو قوله : وأن أشهد اللّذات ، فصارت (أن) في هذا الموضع كالعوض من المحذوف.

وأما إذا لم يكن في الكلام (أن) تنعطف على المضمرة فهو غير جائز ، والكوفيون يجيزون مثل هذا ويجعلون هذا مثل (أن) بعد الفاء في الجواب إن شاء الله.

باب إضافة أسماء الزمان إلى الفعل والفاعل والمبتدأ والخبر

اعلم أنه لا يضاف من الأسماء إلى الجمل إلا ظروف الزمان ، و (حيث) من ظروف المكان ، وإنما خصت ظروف الزمان بذلك لوجوه :

__________________

(١) البيت من الطويل وهو من معلقة طرفة الديوان ١٣٢ ، وفي الكتاب ٣ / ٩٩ ، وفي المقتضب ٢ / ٨٥ ـ ٢ / ١٣٦ ، وشرح أبيات سيبويه للنحاس ٢٩٥ ، شرح أبيات سيبويه لابن السيرافي ٢ / ٩ ، الإنصاف في مسائل الخلاف ٢ / ٥٦٠ ، أمالي ابن الشجري ١ / ١٢٤ ، شرح المفضل ٧ / ٥٢ ـ ٢ / ٧ ـ ٤ / ٢٨ ، المساعد على تسهيل الفوائد ١ / ١٧٩ ـ ٢ / ٥٠٤ ، شواهد التوضيح والتصحيح ١٨٠ ، واللسان (أنن) ، شرح شذور الذهب ١٥٣ ، المغني ٥٠٢ ـ ٨٤٠ ، شرح ابن عقيل ٤ / ٣٥٩ ، شرح شواهد المغني للسيوطي ٢ / ٨٠٠ ، الهمع ١ / ١٢ ـ ٣ / ٥١ ـ ٤ / ١٤٢ ، وفي الخزانة ١ / ١١٩ ، وطرفة هو : طرفة بن العبد من سفيان ، وقيل طرفة لقب غلب عليه واسمه : عمرو ، وقيل اسمه : عبيد ، شاعر جاهلي ولد في البحرين ، قتل وهو ابن عشرين عاما. كتاب الأدب الجاهلي ٣٥٣ ، والشعر والشعراء ٤٩.

٢٨٤

أحدها : أن الفعل يدل على مصدر وزمان ، والزمان أحد الشيئين اللذين يدل عليهما الفعل ، فإذا أضيفت الظروف من الزمان إلى الأفعال صارت بمنزلة إضافة البعض إلى الكل مثل : خاتم حديد.

وآخر : يحكى عن الأخفش (١) أنه قال : لما كانت ظروف الزمان بأجمعها خاصها وعامها لا يمتنع أن يكون ظرفا يتعدى الفعل إليها بغير واسطة وظروف المكان ما كان منها خاصا لا يتعدى الفعل إليه نحو قمت في الدار ، ولا يجوز : قمت الدار ، كما تقول : يوم الجمعة ، أضيف ظروف الزمان إلى الجمل عوضا من اختصاص ظروف المكان بما ذكرناه ، ولما جاز أن تضاف ظروف الزمان إلى الفعل والفاعل جاز أن تضاف إلى المبتدأ والخبر ؛ لأن الفعل والفاعل جملة كالمبتدأ والخبر وظروف الزمان تقضى (٢) كتقضي الفعل فصارت كشيء واحد من هذا الوجه وكان الفعل أيضا يدل على مصدره فقولنا / هذا يوم قيام زيد كقولنا : هذا يوم يقوم زيد ، فقد تضمن يوم القيام فاعرفه.

وأما (حيث) فجاز إضافتها إلى الجمل لأنها ضارعت (إذ) بسبب أنها مبهمة في المكان كإبهام (إذ) في الزمان الماضي فكما وجب أن تضاف (إذ) إلى الجمل أوجبوا إضافة (حيث) إليها للشبه الذي بينهما والمضارعة.

واعلم أن ظرف الزمان إذا أضفته إلى الفعل الماضي جاز لك فيه وجهان : الإعراب ، والبناء كقولك : أعجبني يوم قمت ، فترفع اليوم بفعله ويجوز أن تفتحه ويكون موضعه رفعا ، وإنما جاز بناؤه لأنه أضيف إلى فعل مبني فأجري مجراه ، واختير فتحه لأن الكسر والضم بعد الواو مستثقلان فعدلوا بهما (٣) إلى الفتح ومن

__________________

(١) سبق الحديث عن رأي الأخفش في إضافة أسماء الزمان إلى الفعل ص ٢٢٤.

(٢) في الأصل : تقتضي.

(٣) في الأصل : به.

٢٨٥

ذلك قول الشاعر (١) :

على حين عاتبت المشيب على الصبا

وقلت ألّما تصح والشيب وازع

وأما من أعرب فلأن الظرف متمكن في نفسه وهذه الإضافة استحقها لما ذكرناه فوجب أن يبقى على حال تمكنه لأن ما استحقه من الإضافة لعلّة أوجبت له ذلك ، وقد يجوز أن يبنى مع المضارع ايضا كقولك : أعجبني يوم تقوم ، إلا أن الإعراب مع المضارع أحسن لما ذكرناه ، وأما جواز البناء ، فلأن ظروف الزمان قد خالفت جميع الأسماء بإضافتها إلى الجمل ، وخروج الشيء عن نظائره نقص له فوجب لهذا النقص أن يبنى والله أعلم.

باب إنّ وأنّ

إن قال قائل : لم وجب أن تكسر إن في الابتداء؟

قيل : للفصل بينهما أعني بين إن وأن.

فإن قال قائل : فما الحاجة إلى الفصل بينهما؟

قيل له : لأن أن المفتوحة وما بعدها في تقدير اسم والمكسورة لا تكون مع ما بعدها اسما (٢) فلما اختلف حكمها وجب الفصل بينهما.

فإن قيل : فلم خصت بالكسر وخصت الأخرى بالفتح؟

قيل له : لأن الكسر أثقل من الفتح وأن المفتوحة قد قلنا إنها وما بعدها اسم ،

__________________

(١) البيت للنابغة الذبياني من قصيدة يعتذر فيها إلى النعمان بن المنذر الديوان ٤٤ ، وهو في الكتاب ٢ / ٣٣٠ ، ومعاني القرآن للفراء ١ / ٣٢٧ ـ ٣ / ٢٤٥ ، والكامل ١ / ٢٤٠ ، وشرح أبيات سيبويه للنحاس ٢٤٧ ـ ٣١٦ وشرح أبيات سيبويه لابن السيرافي ٢ / ٥٣ ، والإنصاف ١ / ٢٩٢ ، وشرح المفصل واستشهد به في مواضع عدة منها ٨ / ١٣٦ ـ ٩ / ١٣٥ ، وأمالي ابن الشجري ١ / ٦٨ ، والمساعد : ١ / ٤٠٥ ـ ٢ / ٣٥٤ ، الارتشاف ٢ / ٥٢٠ ـ ٥٢٢ ، شرح الشذور ٧٨ ، المغني ٦٧٢ ، وفي الهمع ٣ / ٢٣٠ ، وفي الخزانة ٦ / ٥٥٠.

(٢) في الأصل : اسم.

٢٨٦

فقد طالت بصلتها ، والمكسورة مفردة الحكم ، فهي أخف منها فوجب أن يفتح الأثقل ويكسر الأخف ليعتدلا.

فإن قيل : فلم كسرت بعد القول وإذا كان في خبرها اللام؟

قيل : لأنها في هذين الموضعين مبتدأة في الحكم ، وإنما وجب ذلك لأن القول إنما وضع في الكلام ليحكى به ، والحكاية من شأنها ألا تغير لفظ المحكي.

فإذا قال القائل : إن زيدا منطلق ، فأردت أن تحكي كلامه وجب أن نقول : قال عمرو : إن زيدا منطلق ، كما تقول : قال عمرو زيد منطلق ، فصار ما بعد القول يجري مجراه في حال الابتداء ، فلذلك كسرت بعد القول ، وأما كسرها إذا كانت اللام في خبرها فإن هذه اللام هي لام الابتداء كقولك : لزيد أفضل من عمرو ، فإذا أدخلت وجب أن تكسر (إن) قبلها ، لأن (إن) من عوامل الأسماء فلا يجوز أن تدخل على اللام وإنما تدخل على الاسم ، فإذا كان الأمر على ما ذكرناه صار الأصل : إن زيدا منطلق ، فإذا أدخلت اللام لم يجز أن تغير (إن) عن حاله كما لا تغير اللام المبتدأة عن حاله فيصير اللفظ لان زيدا منطلق إلا أن اللام / وإنّ معناهما واحد لأنهما للتوكيد ويقعان جوابا للقسم فلما اتفق معناهما كرهوا الجمع بينهما فأخروا اللام ، وإنما كانت أولى بالتأخير لأن (إن) عاملة ، والعامل أقوى مما ليس بعامل ، فوجب تأخير الأضعف وهو اللام ، فإذا أخرتها جاز أن تدخلها على الاسم إذا فصلت بينه وبين (أن) بظرف أو حرف جر كقولك : إن في الدار لزيدا ، وإن شئت أدخلتها على الخبر إذا كان متأخرا كقولك : إن زيدا لفي الدار.

واعلم أنك إذا خففت هذه المكسورة جاز أن تعملها وتنوي التشديد ، لأنك لم تحذف التشديد حذفا لازما ، فصار حكمها مراعى (١) فلذلك جاز أن تحذفها

__________________

(١) في الأصل : مراعا.

٢٨٧

ويبقى حكم (إن) على العمل كقولك : لم يكن زيد منطلقا ، ومن أبطل عملها (١) فإنه شبهها بالفعل من جهة اللفظ دون المعنى ، فلما زال لفظها سقط شبهها بالفعل فوجب أن يبطل عملها ، وحكم المفتوحة المشددة في التخفيف والتثقيل وجواز العمل إلا في خصلة واحدة وهي (٢) أن (إن) المكسورة إذا خففت ارتفع ما بعدها بالابتداء والخبر ، و (أنّ) المفتوحة المشددة إذا خففت أضمر فيها اسمها كقولك : قد علمت أن زيد قائم ، تقديره : أنه زيد قائم ، فالهاء المضمرة اسم (أن) ، وإنما وجب ذلك في (أن) المفتوحة ولم يجب ذلك في المكسورة ؛ لأن المفتوحة قد قلنا : إنها وما بعدها اسم فلا تخلو من عامل يعمل فيها فلم يجز إلغاء حكمها ، فلذلك وجب أن يضمر اسمها لثبات حكمها في الكلام ، وأما المكسورة فهي تقع في صدر الكلام فإذا ارتفع ما بعدها لم يكن بنا ضرورة إلى تقدير اسم فيها ؛ لأنه يمكن أن تقدرها حرفا غير عامل من الحروف غير العوامل نحو (هل) و (بل) وما أشبهه.

واعلم أن أفعال القلوب تنقسم ثلاثة أقسام أحدها : يقين ، نحو : عرفت وعلمت ، والثاني : شك ورجاء نحو : رجوت وخفت ، والثالث (٣) متوسط بين اليقين والشك وهو الظن والحسبان.

وأما علمت ونحوها فلا يجوز أن تقع بعدها (إن) المخففة من الثقلية ويجوز أن تقع بعدها (أن) المفتوحة الخفيفة من الثقيلة مشددة وغير مشددة نحو : قد علمت أنك تقوم فإذا خففتها وبعدها الفعل أضمرت الاسم على ما ذكرنا وعوضت من التخفيف إذا كان بعدها الفعل أحد أربعة أشياء : أحدها السين ،

__________________

(١) قال ابن هشام في حديثه عن أوجه (إن) :

" الثالث : أن تكون مخففة من الثقيلة ، فتدخل على الجملتين ، فإن دخلت على الاسمية جاز إعمالها خلافا للكوفيين ...". المغني ١ / ٢٠ (ط ٢ دار الفكر).

(٢) في الأصل : وهو.

(٣) في الأصل : والثاني.

٢٨٨

والآخر سوف ، والثالث قد ، والرابع لا ، كقولك : قد علمت أن ستقوم كما قال الله عزوجل : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) [المزمل : ٧٣ / ٢٠] ، وكذلك علمت أن سوف تقوم ، وعلمت أن قد قمت ، وهذه الأعراض الثلاثة متى دخلت بعد (أن) لم تكن إلا مخففة من الثقيلة وأما (لا) فقد تقع عوضا وغير عوض ، فإذا كانت عوضا ارتفع الفعل بعدها لأنها في موضع خبر (أن) وإذا لم تكن عوضا وكانت (ان) خفيفة انتصب الفعل بعدها كقوله عزوجل : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) [المائدة : ٥ / ٧١](١) ، وقرئ بالرفع ، فمن رفع جعل (أن) مخففة من الثقيلة وأضمر اسمها وجعل لا عوضا فارتفع الفعل لأنه في موضع خبر (أن). ومن نصب جعل (ان) خفيفة نفسها ولم يجعل لا عوضا فعملت (أن) في الفعل فنصب بها.

وهذا القسم الثاني / من الأفعال يجوز أن يقع بعده المشددة والمخففة ، وإنما جاز فيه وجهان لأنه متوسط بين العلم والخوف ، فإذا غلب أحد طرفيه وهو العلم صار بمنزلة لو شددت (أن) بعده وإذا غلب الطرف الثاني وهو الرجاء أو الخوف لم يجز أن يقع بعده إلا (أن) الخفيفة نفسها الناصبة للأفعال لأن باب الرجاء والخوف ليس بأمر مستو ، والمشددة إنما تدخل لتحقيق الكلام فجاز أن تدخل بعد العلم وما جرى مجراه لأنه شيء ثابت فتحققه ب (أن) وأما الرجاء والخوف ، فلما لم يكن شيئا ثابتا استحال تحقيقه ، فلذلك لم يجز أن تدخل بعده المشددة إلا على ضرب من التأويل وحمله على باب الظن إذ كان قد أجري مجرى العلم لما ذكرناه وكذلك يجوز أن نجري الحروف مجرى الظن لما بينهما من المشابهة.

__________________

(١) وقد قرأها أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف (ألا تكون) بالرفع ، المبسوط في القراءات العشر ١٨٧ ، وتقديرهم لذلك أي أنه لا تكون فتنة ، وقرأ الباقون : (ألا تكون) بالنصب ، حجة القراءات ٢٣٣.

٢٨٩

فإن قال قائل : فلم زعمتم أن (أن) ليست باسم وأنها مع ما بعدها اسم وخالفت حكم (الذي) بالفصل بينهما؟

قيل له : إن (أن) لو كانت في نفسها اسما لم يجز أن تخلو صلتها من ضمير يرجع إليها كما أن الذي لما كان اسما في نفسه لم يجز أن يوصل بجملة إلا وفيها ذكر يرجع إليه ألا ترى أنك تقول : قد علمت أنك تقوم ، ولا يجوز علمت الذي أنت تقوم ، حتى تقول إليه فلذلك افترقا.

واعلم أن (إن) التي تزاد بعد (ما) إنما زيدت بعد (ما) لتلغي معها (ما) فلا تعمل أعني (ما) في لغة أهل الحجاز وإنما وجب إبطال عملها عند دخول (إن) عليها كما وجب إبطال عمل (إن) إذا دخلت (ما) عليها وقد بينا ذلك فيما مضى (١) ويجوز أن يكون زادوها بعد (ما) لتوكيد معنى النفي إذ كانت (إن) قد تستعمل للنفي.

واعلم أن (إن) التي بمعنى (ما) مختلف فيها فبعض النحويين يعملها عمل (ما) في لغة أهل الحجاز كقوله : إن زيد قائما ، وبعضهم لا يعملها فمن أعملها فلمشاركتها (ما) في المعنى ، وإنما عملت عمل (ليس) من جهة النفي لا من جهة اللفظ فلما شاركت (إن) ل (ما) في المعنى وجب أن يستوي حكمها ولم يجز ذلك فحجته أن القياس في (ما) لا تعمل شيئا فإذا خالفت العرب جهة القياس فليس لنا أن نتعدى ذلك لأن القياس لا يوجبه الأصل ، والأصل أن يكون ما بعدها مبتدأ وخبرا ، فلذلك لم تعمل.

واعلم أن (أن) المفتوحة تقع بمنزلة (أي) التي تستعمل على طريق العبارة والحكاية ، ويجب أن يكون ما بعدها كلاما تاما والذي بعدها عبارة عنه ، فإن لم

__________________

(١) سبق ذلك ص ١٣٢.

٢٩٠

يكن في معناه لم يجز ، وجعلوا (أي) لهذا المعنى ليكون لهم حرف يعبر عن المعنى ويكون باب القول يحكي به اللفظ بعينه ، فلذلك وضعت (أن) بمنزلة (أي) للعبارة.

وأما (أن) التي بمعنى (نعم) فإما استعملت على هذا الوجه لأن (نعم) إيجاب واعتراف و (إن) تحقيق وإثبات فلتضارعهما في المعنى حملت (إنّ) على (نعم).

فإن قال قائل : فلم زيدت أن المفتوحة بعد (لمّا) ولم تزد المكسورة وزيدت المكسورة بعد (ما) ولم / تزد المفتوحة؟

فالجواب في ذلك أن (ما) لما زيدت على المكسورة وجب أن تزاد هي على (ما) لتشاكلها لفظ المكسورة وفي ذلك أيضا تحقيق للنفي إذا كان أصل النفي (ما وإن) قد استعملت للنفي فصار إدخالها عليها مؤكدا لمعناها فأما (لما) ففيها معنى الشرط كقولك : لما جاء زيد جئت ، و (إن) هي أصل الجزاء فلم تزد (أن) على (لما) لئلا يكون الأصل تابعا للفرع أعني بالفرع (لما) المشبهة لبعض حروف الجزاء لما فيها من معنى الجزاء ، وخصوا لمّا بالمفتوحة أعني (أن) لأن لما كان فيها معنى التوقع (١) أعني في أن وكانت غير محققة للشيء وتدخل بعد أفعال الرجاء والخوف خصت بالزيادة بعد (لما) لتوكيد معناها والله أعلم.

باب أم وأو

إن قال قائل : لم وجب أن يكون الجواب في (أم) بأحد الاسمين ويقع الجواب في (أو) بلا أو نعم (٢)؟

قيل له : لأن ترتيب (أم) أن تقع سؤالا بعد سؤال ب (أو) وذلك أن (أو) معناها

__________________

(١) في الأصل : التفع.

(٢) انظر : الأزهية باب الفرق بين (أو) و (أم) ١٤٣ ، وانظر : رصف المباني ١٣٣.

٢٩١

أحد الشيئين ولا تنقل عن هذا المعنى استفهاما كانت أو خبرا كقولك : جاءني زيد أو عمرو ، فمعنى هذا الكلام جاءني أحدهما ، وإنما تخبر أن أحد الشخصين جاءك ، فإذا استفهمت عن هذا فقلت : أجاءك زيد أو عمرو؟ فإنما تسأل (١) عن أحدهما لأن المعنى أحدهما جاءك ، فلما كانت في الاستفهام سؤالا عن واحد غير معين جرت مجرى السؤال عن واحد معين كقولك : هل زيد عندك؟ فلما كان الجواب ب (لا) إن لم يكن عنده زيد أو ب (نعم) إن كان عنده زيد ، وجب أيضا أن يكون الجواب على هذا السبيل لحصول أحد الشيئين عنه بغير عينه فبيّنا له [بعد](٢) ذلك ب (أم) لتعيين الشخص فيقول أزيد أم عمرو؟ فلما كانت (أم) ترتيبها على ما ذكرناه لم يجز أن يقع الجواب ب (لا) لأن المستفهم قد استقر عنده حصول شخص من الشخصين ولا يبقى هذا الاعتقاد الذي أوجبه حكم اللفظ إلا [أن](٣) يكون عند المسؤول أحدهما ، فلذلك لم يجز أن يقع الجواب في (أم) إلا بأحد الشخصين ، فإن كان المسؤول يعتقد أن السائل قد أخطأ في هذا الاعتقاد أنه ليس عنده واحد من الشخصين أجابه بأن يقول ليس عندي واحد منهما ليبين له فساد اعتقاده.

واعلم أن (أم) التي تكون مع ألف الاستفهام بمنزلة (أي) امتحانها أن يحذف لفظ الألف و (أم) ويجمع ما يلي [الألف](٤) إلى جانب [أي] (٥) ويصح الكلام ، فمتى كانت (أم) مع ألف الاستفهام على هذا السبيل فهي بمنزلة (أي) والجواب يقع فيها بأحد الاسمين كقولك : أزيد عندك أم عمرو؟ ألا ترى أنه يصح أن تقول : أيهما عندك؟. فلو قلت : أزيد عندك أم عمرو؟ ألا ترى أنه يصح أن

__________________

(١) في الأصل : تسل.

(٢) في الأصل كتبت على الهامش.

(٣) زيادة ليست في الأصل.

(٤) في الأصل كتبت على الهامش.

٢٩٢

تقول : أيهما عندك؟ فلو قلت : أزيد عندك أم عمرو عندك؟ لكان هذا الكلام سؤالين ، ولم تكن (أم) مع الألف بمنزلة (أي) ، ألا ترى أنك لو جمعت الاسمين إلى جنب (أي) لصار اللفظ : أيهما عندك؟ فيكون الظرفان من غير فائدة وتكريرهما على هذا السبيل فاسد ، فلا يصير بمنزلة (أي) وصار السؤالان (١) مفردين وكذلك / إذا كان قبل الاستفهام ألف فهو سؤال مبتدأ فيها إضراب عما قبلها خبرا كان أو استفهاما فلهذا شبهوها ب (بل) فيها إضرابا (٢) عما قبلها ، وأما (أم) فهي وإن دخلها معنى الإضراب عما قبلها فمعنى الاستفهام حاصل ، وتخالف الألف من جهة أن الألف مبتدأ بها في الاستفهام ، كقولك : أزيد عندك؟ و (أم) (٣) لا يبتدأ بها ؛ لأنها قد أدخلت بعد الألف عاطفة ما بعدها على ما يلي الألف ، فلما أدخل (أم) في حروف العطف وحروف العطف لا يبتدأ بها لم يجز الابتداء بها لما ذكرناه.

واعلم أن (أم) دخلها معنى التسوية بين الشيئين في الجهالة ، نحو قولك : زيد عندك أم عمرو ، فلما ساغ فيها هذا المعنى جاز أن يستعار في كل موضع أردنا فيه التسوية بين الشيئين كقولك : قد علمت أزيد عندك أم عمرو ، فمعنى هذا الكلام خبر ولفظه استفهام ، وإنما دخل الاستفهام هاهنا لما أردنا من معنى التسوية بين الاسمين في العلم والفائدة في ذلك.

إن المتكلم أراد أن يعلم المسؤول أنه قد علم ما كان يسأل عنه ، ولم يخرج في اللفظ معينا على الشخص بعينه ليخرج المسؤول أن يسأله عن ذلك ولضرب من العوض ، فلذلك دخلت (أم) والألف في هذا الموضع إن شاء الله.

__________________

(١) في الأصل : السؤالين.

(٢) في الأصل : إضراب.

(٣) في الأصل : فأم.

٢٩٣

باب ما ينصرف وما لا ينصرف

إن قال قائل : من أين زعمتم أن أصل الأسماء الصرف؟

فالجواب في ذلك أن الأسماء كلها نوع واحد ، وإنما منع الصرف بعضها بشببها في الفعل ، والفعل حادث لأنه مشتق من الاسم ، فإذا استقر التنوين لبعض الأسماء وجب أن يكون لجميعها لاشتراكها في الاسمية ، وصار ما منع التنوين إنما هو من أجل شبهة بالفعل الحادث.

فإن قيل : فما الذي أحوج إلى دخول التنوين؟

قيل له : لأن واضع اللغة لما علم أن بعض الأسماء مشبهة بالفعل وبعضها لا يشبه الفعل ألحق التنوين ما لم يشبه الفعل ليكون لحاق (١) التنوين فصلا بين ما ينصرف وما لا ينصرف (٢) ، فصار للاسم أصلان (٣) ؛ أحدهما أن الأسماء تستحق التنوين لو لم تشبه الفعل لأنه زيادة لا يحتاج إليها ، فلما قدر حدوث الفعل ألحق التنوين لبعض الأسماء فصار هذا الأصل الثاني وهو لحاق التنوين في الاستعمال لأن الأصل المستحق لما قبل حدوث الفعل.

فإن قال قائل : من أين صارت العلل التسع توجب منع الصرف؟

فالجواب في ذلك : أن الفعل لما ثبت أنه فرع على الاسم وكانت هذه العلل فروعا (٤) إذ (٥) التنكير داخل على التعريف وذلك أصل في الأسماء وتلك الأسماء الأجناس وهي نكرات حتى يدخل عليها ما يعرف العين الواحد من الجنس فثبت

__________________

(١) في الأصل : للحاق.

(٢) انظر : ما ينصرف وما لا ينصرف ، ١.

(٣) في الأصل : أصلا.

(٤) في الأصل : فروع.

(٥) في الأصل : إن.

٢٩٤

أن التعريف فرع على التنكير وكذلك التأنيث فرع على التذكير لأن كل اسم شيء يقع عليه اسم ، والشيء مذكر فوجب لهذا / أن يكون الأصل التذكير ، ومع ذلك فإن لفظ التأنيث زائد على لفظ التذكير كقولك : قائم وقائمة ، وما كان زائدا فهو متفرع (١) عن الأصل لزيادته عليه ، والعجمة فرع لأنها دخيلة في كلام العرب ، والجمع فرع على الواحد ؛ لأنه يركب منه ، ومثال الفعل فرع وما أشبه الفرع فحكمه حكم الفرع إذ كان أصل البناء الذي منع الصرف هو الأفعال دون الأسماء ، ألا ترى أن المثال الذي يشترك فيه الفعل حكمه حكم الفرع والاسم لا يمتنع الصرف كرجل سميته ب (ضرب) لأن نظيره من الأسماء جمل فصار المثل الذي يختص [يوجب](٢) منع الصرف مختصا بالفعل ، فلذلك كان فرعا في الاسم ، والصفة فرع لأنها تابعة للموصوف ومن أجله دخلت فلما استقرت هذه الأشياء فروعا شابهت الفعل لما ذكرناه.

فإن قال قائل : فلم يمتنع الاسم من الصرف بوجود هذه الفروع فيه؟

قيل له : لأن الشبه من وجه واحد ليس يقوى وذلك أن شيئين متشابهين يتشابهان من وجه واحد فصاعدا ، فلما كان الشبه من وجه واحد لا تأثير له لم ينقل الاسم بهذا الشبه فيزول عن أصله وهو الصرف ، فإذا اجتمع في الاسم فرعان مما ذكرنا أو فروع مما تقوم مقام فرعين ثقل الاسم والتنوين زيادة عليه فمنعوه وشبهوه بالفعل وجعلوا جره كنصبه إذ كان الجر لا يدخل الأفعال فلهذا أشبه هذا النوع الأفعال [ف](٣) منعوه ما لا يدخلها وهو الجر وجعلوا لفظه كلفظ المنصوب ، كما جعلوا النصب في التثنية والجمع كالجر لما بينهما من المشابهة.

__________________

(١) في الأصل : مرفوع.

(٢) كتبت في الأصل على الهامش.

(٣) زيادة يقتضيها السياق.

٢٩٥

واعلم أن أفعل إذا كان صفة مثل : أصفر وأحمر ، وسميت به لم ينصرف عند سيبويه (١) وانصرف في النكرة عند الأخفش (٢) فحجة سيبويه أن أفعل قبل أن يسمى به اسم وإن كان صفة وقد كان في حال التذكير غير منصرف فإذا سميت به فحكم الصفة لم يرتفع عنه وتصير التسمية به كالعارية ، فإذا نكر عاد إلى موضع قد كان لا ينصرف فيه ، والدليل على صحة ذلك إجماع النحويين على قولهم : مررت بنسوة أربع ، فيصرفون أربعا لأنه اسم استعمل وصفا ولو راعوا فيه حكم الوصف لم ينصرف في هذه الحال لأنه على وزن الفعل وهو صفة فلما تقوى حكم الاسم بأن استعملوه صفة ، وكذلك أنه وإن استعمل اسما فحكم الصفة باق فلذلك انصرف ، وأما الأخفش فذهب إلى أن أحمر إنما امتنع من الصرف في النكرة لأنه على وزن الفعل وهو صفة فإذا سمي به زال عنه حكم الصفة فامتنع من الصرف ؛ لأنه معرفة ولأنه على وزن الفعل ، فإذا نكرته بقيت علّة واحدة وهي وزن الفعل فلذلك انصرف (٣) ، وقد بينا فساد هذا القول وأما إن سميت رجلا (يشكر) أو (يزيد) وما أشبه ذلك فإنه ينصرف في النكرة لأن (يزيد ويشكر) وأشباههما قبل التسمية أفعال ، فلو سميت بها انتقلت عن أصلها بالكلية وصارت الأسماء لا يتعلق الفعل بها وامتنعت من الصرف بوجود التعريف ، ومثال الفعل فإذا / نكرتها انصرفت لبقاء علّة واحدة فيها.

وأما (٤) أحمر وما كان على وزن أفعل من فلان مما يستعمل في التفضيل نحو قول : زيد أفضل من عمرو ، وأحسن من فلان ، فإنك إن سميت بها أعني بواحد

__________________

(١) قال سيبويه : " نقول كل (أفعل) يكون وصفا لا تصرفه في معرفة ولا نكرة ، وكل (أفعل) يكون اسما تصرفه في النكرة ..." الكتاب ٢ / ٥ (بولاق) ـ ٣ / ١٩٣ (هارون).

(٢) انظر رأي الأخفش في : ما ينصرف وما لا ينصرف ، باب أفعل الذي يكون صفة إذا سميت به رجلا ، ٧.

وشرح الأشموني ٢ / ٥٣٩ ـ ٥٤٠.

(٣) ذهب المبرد مذهب الأخفش في هذه المسألة. انظر ما ينصرف وما لا ينصرف للزجاج ٨.

(٤) في الأصل : وما.

٢٩٦

من هذه الصفات فحكمه كحكم أحمر ، والخلاف كالخلاف في أحمر ، أعني إن سميت بهذه الصفات مع من فإن سميت بإحداها دون من انصرف في النكرة بلا خلاف ، وإنما انصرف في النكرة ؛ لأنه قد زال عن حكم الصفة ؛ لأنه إنما استعمل صفة بمن فلما سميته بأفعل دون من كان كأن لم تسمه بالصفة وكان الذي منعه من الصرف في حال التسمية التعريف ووزن الفعل فإذا نكرته زالت عنه إحدى العلتين فانصرف في النكرة.

واعلم أن ما كان على ثلاثة أحرف من أسماء المؤنث أوسطه ساكن فبعض العرب يصرفه وبعض العرب لا يصرفه (١). والفرق بينهما أن العجمة في الاسم ليست كحكم الزائد عليه لأن لغة العجم مشتركة بسائر اللغات فلهذا لم يثقل حكمها وانصرف الاسم إذ كان على ثلاثة أحرف متحركا أوسطها أو ساكنا ، وأما التأنيث فحكمه زائد على حكم المذكر ، وإن لم يكن لفظ التأنيث موجودا فيه ، إلا أنه مراعى من جهة الحكم ، والدليل على ذلك أنك لو صغرت هندا اسم امرأة (٢) لقلت : هنيدة ، فعلمت أن علامة التأنيث مراعاة فصار التأنيث أثقل لفظا ومعنى ، فلذلك صار حكم التأنيث أقوى من حكم العجمة ، وأما إذا سميت امرأة ب (زيد) فكثير من النحويين لا يصرفون ويفرقون بينه وبين هند ، والفرق بينهما أن زيدا من أسماء المذكر وخفيف في الاسم فتسميتك المؤنث به إخراج له من حكم الأخف فصارت علتان التعريف والتأنيث فلذلك لم ينصرف في المعرفة وليس كذلك حكم هند لأنه من أسماء المؤنث لم يحصل فيه حكم يوجب ثقله فلذلك جاز أن تجعل خفته مقاومة (٣) لأحد الثقيلين.

__________________

(١) للتفصيل : انظر معاني القرآن للأخفش : ١ / ٢٠ ـ ٩٩. وكتاب ما ينصرف وما لا ينصرف للزجاج ٤٩ ـ ٥١.

(٢) في الأصل : أمرة.

(٣) في الأصل : مقوامة.

٢٩٧

فإن قال قائل : فما الفرق بين تسمية المذكر بمؤنث على ثلاثة أحرف وبين تسميته بما زاد على الثلاثة؟

فالجواب في ذلك : أن ما كان على ثلاثة أحرف ينصرف متحرك الأوسط كان أو ساكنا ، ولا ينصرف ما زاد على الثلاثة أحرف كرجل سميته بقدم ، فإنه ينصرف ولو سميته بعقرب لم ينصرف ، والفصل بينهما أن المؤنث إذ كان على ثلاثة أحرف فسمي مذكرا فإنه ينتقل عن حكم التأنيث بالكلية ويصير إلى المذكر ، والدليل على ذلك أنك لو صغرته بعد التسمية لم ترد الهاء فيه ولو كان حكم التأنيث فيه باقيا لظهرت هاء التأنيث في التصغير ، فهذه الدلالة علمتنا أنه قد انتقل عن حكم التأنيث وصار مذكرا ، وأما ما زاد على ثلاثة أحرف وهو مؤنث فإن الحرف الرابع جعل مثل هاء التأنيث ، والدليل على ذلك أنك لو صغرت عقربا قبل التسمية وبعدها لم [يثبت](١) فيهما هاء فعلمنا أن الحرف الرابع قد أجري مجرى حرف التأنيث ، فإذا سميت به مذكرا فإنك سميته بما فيه علامة التأنيث فلذلك لم ينصرف وفارق حكم الثلاثة /.

واعلم أن ما عدل عن العدد نحو : أحاد ومثنى (٢) إلى معشر وعشار ففي منع صرفه وجوه :

أحدها : قد ذكرناه في الشرح.

والثاني : أنه عدل عن اللفظ والمعنى فقام هذا العدل مقام علتين ، والدليل على أنه عدل عن معناه أنه لا يستعمل في موضع ما يستعمل فيه الأعداد غير المعدولة

__________________

(١) كتبت في الأصل على الهامش.

(٢) في الأصل : وثنا.

٢٩٨

ألا ترى أنك تقول : جاءني اثنان وثلاثة ولا يجوز أن تقول جاءني مثنى وثلاث حتى تقدم قبله جمعا لأنه جعل بيانا لترتيب الفعل.

فإذا قال القائل : جاءني القوم مثنى أفادنا أن ترتيب مجيئهم قد وقع اثنين اثنين ، وأما الأعداد نفسها فإنما الغرض فيها الإخبار عن مقدار المعدود دون غيره فقد بان بما ذكرناه اختلافهما في المعنى فلذلك جاز أن تقوم العلّة مقام علتين لإيجابها حكمين مختلفين.

ووجه ثالث : أن الظاهر في هذه الأعداد المعدولة أن تكون معدولة من المؤنث ، فإذا كان المعدول من المؤنث الذي لا هاء فيه كان أخف ، فصار معنى التأنيث الذي فيها مع الصفة علتين ، فلذلك لم ينصرف ، فأما (آخر) فالذي أوجب أن يكون معدولا عن الألف واللام أن الواحدة منه أخرى مثل الفعلى وباب الفعلى والأفعل تستعمل بالألف واللام أو بمن كقولك : زيد أفضل من عمرو ، وإن شئت قلت : زيد الأفضل ، فكان القياس أن يقال : زيد آخر من عمرو كما يقال : أقدم من عمرو ، إلا أنهم حذفوا (من) والسبب في ذلك أن معنى الآخر بعد أول فلما صار لفظها مقتضيا لمعنى (من) أسقطوا (من) اكتفاء بدلالة اللفظ عليها ، والألف واللام تعاقب (من) فلما جاز استعمالها بغير (من) جاز استعمالها أيضا بغير ألف ولام فصار الآخر والأخرى معدولين عن حكم نظائرهما ؛ لأن الألف واللام استعملا فيها ثم حذفا ، والدليل أن العدل إنما كان على طريق الذي ذكرناه دون الآخر والأخرى أنه لو كان الآخر والأخرى قد استعملا بالألف واللام ثم عدلا عن الاستعمال لوجب أن يبقى حكم التعريف بالألف واللام فيهما كما أن (سحر) لما عدل عن استعمال الألف واللام بقي معرفة فدل تنكير آخر وأخرى أنهما لم يعدلا ما استعمل فيه ، وإنما عدلا عن نظائرهما.

٢٩٩

فإن قال قائل : فالخروج عن الأصل يوجب للاسم البناء فهلا بنيتم آخر وأخرى لخروجهما عن نظائرهما؟

قيل له : إن آخر وأخرى وإن خرجا عن حكم نظائرهما فليس هو خروجا مباينا لما عليه الأسماء ، وإنما خروج عن حكم تعريف إلى حكم تنكير ، وأكثر الأسماء يلحقها التعريف والتنكير ، فلم يكن لهذه المخالفة قوة توجب في آخر وأخرى [البناء](١) وما خرج من الأسماء عن نظائره وصار بهذا الخروج مشبها للحروف فهذا المستحق للبناء فلذلك لم يستحق آخر وأخرى البناء لأنه قد نقص بهذا العدل درجة وعن حكم في أخواته ، فجعل هذا من أقسام العلل المانعة للصرف فاجتمع في آخر وأخرى في حال التنكير العدل على ما ذكرناه ، والصفة فلذلك لم ينصرفا.

فإن قال قائل : / فكيف جاز أن تقول جاءتني امرأة أخرى ، ولم يجز أن تقول جاءتني امرأة فضلى (٢)؟

قيل له لما كان أخرى قد أجري مجرى ما فيه الألف واللام اللتين تعاقبان (من) وجاز أن تقول : جاءتني المرأة الفضلى صار أخرى ، وإن لم تكن فيه الألف واللام بمنزلة ما فيه الألف واللام من أخواته ، وإنما لم يجز أن تقول : جاءتني امرأة فضلى ، لأنه يجب أن تستعمله بالألف واللام فتقول : جاءتني المرأة الفضلى ، فأما إذا استعملتها بمن لم يجز فيه لفظ التأنيث ، وكان على لفظ التذكير في المذكر والمؤنث كقولهم : مررت برجل أفضل منك وبامرأة أفضل منك وكذلك حكمه في التثنية والجمع إذا استعمل (بمن) وافترقا إذا استعمل بالألف واللام فثني وجمع وأنث.

__________________

(١) زيادة ليست في الأصل يقتضيها السياق.

(٢) جاء في شرح المفصل : " وتعتوره حالتان متضادتان لزوم التنكير عند مصاحبه (من) ولزوم التعريف عند مفارقتها فلا يقال زيد الأفضل من عمرو ، ولا زيد أفضل ، وكذلك مؤنثه وتثنيتهما وجمعهما ؛ لا يقال فضلى ولا أفضلان ولا فضليان ولا أفاضل ولا فضليات ولا فضل ، بل الواجب تعريف ذلك باللام أو بالإضافة كقولك : الأفضل : والفضلى ، وأفضل الرجال ، وفضلى النساء ..." ٦ / ٩٥.

٣٠٠