العلل في النحو

أبو الحسن محمد بن عبد الله [ الوراق ]

العلل في النحو

المؤلف:

أبو الحسن محمد بن عبد الله [ الوراق ]


المحقق: مها مازن المبارك
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
الطبعة: ٢
ISBN: 1-57547-843-9
الصفحات: ٤١٦

جمعت زدت (١) نونا مشددة فقلت : هنّ وأنتنّ ، وإنما شددت النون لأنك زدت للمذكر حرفين وهما الميم والواو (٢) ، فجعلت النون مشددة لتكون بمنزلة ما زدت للمذكر ولم تثقل كثقل الواو فتخفف ولو خففت أيضا لزالت المشاركة التي قصدت بتشديد النون (٣).

فأما المتكلم إذا انضم إليه غيره واحدا كان أو جمعا مؤنثا كان أو جمعا مذكرا ، فلفظه نحن ، وإنما لم يثن على لفظه لأن شرط التثنية إذا اتصلت أن تكون على لفظ الواحد والمتكلم لا يقترن إليه متكلم وإنما يقترن إليه غائب أو مخاطب ألا ترى أنك إذا قلت : نحن فعلنا ، وفعلت ذلك ، كان تقديره : أنا وزيد وأنت فعلنا ذلك ، ولم يكن تقديره : أنا وأنا ، فإذا كان المنضم إليه من غير جنس المتكلم لم يجز أن يثنى على لفظه وإذا (٤) كان الأمر على ما ذكرنا وجب أن يبطل لفظ الواحد ويستأنف للتثنية اسما لأن التثنية أول الجموع لأن معنى الجمع ضم شيء إلى شيء فلما فات لفظ التثنية المحققة وجب أن يستأنف لفظ يدل على الاثنين فما فوقه ، فلذلك قالوا نحن.

فإن قال قائل : فلم جعل ضمير المرفوع الغائب المنفصل مستترا وظهرت علامة المتكلم والمخاطب نحو : قمت؟

فالجواب في ذلك أن الغائب لما كان لا يذكر إلا بعد تقدمة ذكر صار ذكره قبل الفعل كعلامة فأغنى عن ذكر علامة أخرى في الفعل ، وأما المخاطب والمتكلم فليس / يتقدم لهما ذكر ، فلو استترت علامتهما لم يكن عليهما دليل فلذلك ظهرت علامة الغائب في التثنية والجمع نحو قولك : الزيدان قاما ، والزيدون قاموا.

__________________

(١) في الأصل : زد.

(٢) في الأصل : والنون.

(٣) في الأصل : التي قصدت تشديد الهاء.

(٤) في الأصل : وإنما.

٢٦١

فإن قال قائل : لم لم تكتف بتقدم الأسماء عن إظهار العلامة كما اكتفيت بالواحد؟

قيل له : إنما جاز استتار ضمير الواحد لإحاطة العلم أن الفعل لا يخلو من فاعل واحد وقد يخلو من اثنين وأكثر من ذلك فلو سترنا (١) ضمير الاثنين والجمع لجاز أن يتوهم أن الفعل لواحد فلذلك وجب إظهار علامة التثنية والجمع.

وأما الضمير المنفصل المنصوب فإياك ، وإياي ، وإياه وقد اختلف في هذا الاسم على وجوه فكان الخليل رحمه‌الله يقول : هو اسم مظهر مضاف ناب عن الضمير فاستدل على إضافته بقول العرب : إذا بلغ المرء الستّين فإياه وإيّا الشوابّ (٢).

فلو كان مضمرا لم تجز إضافته لأن المضاف يقدر قبل الإضافة نكرة ثم يضاف لأن الغرض في الإضافة تعريفه ، فلذلك وجب أن يقدر نكرة ، فلو كان الضمير لا يجوز أن يكون نكرة لم يجز أن يكون مضافا.

وأما الأخفش فكان يقول : إنه اسم بكماله وذلك أن (إيّا) لما نابت عن الكاف في قولك : ضربتك ، كانت اسما بكمالها وإن ما بعد (إيّا) من الكاف والياء والهاء لا موضع لها من الإعراب وإنها متعلقة ب (إيا) كما تتعلق التاء من أنت ب [أن](٣) فالزم على هذا القول (٤).

__________________

(١) في الأصل : استرنا.

(٢) قال سيبويه : " قال الخليل : لو أن رجلا قال : إياك نفسك لم أعنّفه ، لأن هذه الكاف مجرورة وحدثني من لا أتهم عن الخليل أنه سمع أعرابيا يقول : إذا بلغ الرجل الستين فإيّاه وإيّا الشواب".

الكتاب ١ / ١٤١ (بولاق) وانظر أيضا الأصول لابن السرّاج ٢ / ٢٥١ فقد نقل قول الخليل.

(٣) كتبت في الأصل على الهامش.

(٤) جاء في شرح المفصل عن هذه المضمرات : " اعلم أن هذا الضرب من المضمرات فيه إشكال ولذلك كثر اختلاف العلماء فيه ، وأسد الأقوال إذا أمعن النظر فيها ما ذهب إليه أبو الحسن الأخفش وهو أن (إيّا) اسم مضمر وما بعده من الكاف في إياك ، والياء في إياي ، والهاء في إياه حروف مجردة من مذهب الاسمية للدلالة على أعداد المضمرين وأحوالهم لا حظ في الإعراب ...". ٣ / ٩٨ (إدارة الطباعة المنيرية).

٢٦٢

إن قيل له : لم كانت اسما للمضمر والمظهر بتغير آخره بانتقال الحروف ، وإنما تنتقل الأواخر بالحركات؟

فالجواب له من هذا الإلزام : أنه قد خص بما ذكره وله نظير مع ذلك ألا ترى أنهم يقولون : جاءني أخوك ، ومررت بأخيك ، ورأيت أخاك ، فيغيرون هذه الأسماء بالحروف علامة للإعراب فبتغير هذه الحروف جاز أن يتغير أواخرها علامة للأشخاص إلا أن ما ذكرناه عن الخليل من إضافة هذه الأسماء يدل على ضعف قول الأخفش ، والوجه عند الأخفش أن (إيّا) الاسم وما اتصل بها لا موضع له كالتاء وغيره إنه بكماله اسم ليعلم أنه ليس بمضاف ، ولم يعبأ بالذي ذكره الخليل إذ كان عنده شاذا ويجوز أن تدخل الشبهة على من أضافه لما رأى آخره يتغير كتغير المضاف والمضاف إليه إن شاء الله.

وقال أهل الكوفة : إن الكاف والهاء والياء هي الأسماء وإن (إيّا) عمدتها واستدلوا على ذلك بلحاق التثنية والجمع لما بعد (إيّا) ولزوم (إيّا) لفظا واحدا (١) وهذا القول ظاهر السقوط وذلك أنه لا يجوز أن يبنى الاسم منفصلا على حرف واحد فلذلك لم يجز أن يقدر هذا التقدير ، ويدل على فساد قولهم أيضا أنه لا يجوز أن تكون أكثر الكلمة تبعا لأقلها لأن ذلك نقص ما يبنى عليه الكلام ، وليس احتجاجهم بلحاق التثنية والجمع لما بعد (إيا) مما يدل على أنها هي الأسماء فأما على مذهب الخليل فلا شبهة في تثنيتها وجمعها إذ كانت اسما مضافا إليها. وأما (٢) على قول الأخفش فلا يلزم أيضا لأن الحروف لما زيدت / للدلالة على الأشخاص جاز أن يلحقها التثنية والجمع كالكاف التي هي حرف ، ومع ذلك تثنى وتجمع فبان بما ذكرناه فساد ما اعتمدوا عليه ، لأن ما بعدها علامة

__________________

(١) للتفصيل انظر الإنصاف المسألة (٩٨) ٢٨٨. طبعة (ليدن).

(٢) في الأصل : وما.

٢٦٣

للمخاطب والغائب والمتكلم ، فلم يكن بد من لحاق علامة التثنية والجمع ، ومما يقوي قول الخليل أن بعض النحويين ذكر أن (إيّا) على وزن فعلى وأنه مشتق من الآية ، والآية العلامة ، يقال : رأيت آية فلان ، أي شخصه ، فأصل (إيّا) على هذا القول أن تكون الهمزة فاء الفعل والياء عينه والألف الآخرة زائدة ، لأن آية اصل : أييه ، وغيره يقول أصلها : أية فلما اشتق لفظ (إيّا) منها والاشتقاق إنما هو للأسماء الظاهرة دل أن (إيّا) مظهرة وقد ذكره سيبويه في كتابه (١) فيجوز أن يكون موافقا لقول الأخفش فوجه قوله الموافق لقول الخليل أن العرب لما أضافت (إيّا) في المثال الذي ذكرناه وجب أن تكون مضافة ، وجاز قول الأخفش أن يكون إضمارا ، لأنها ما استعملت استعمال المضمر كانت كعلامة المرفوع ، ألا ترى أنك متى قدرت على التاء لم تأت بأنت ، فكما اتفقوا على أن أنت مضمر (٢) وجب أن يكون (إيّا) مضمرا ومع هذا فإن (إيّا) لو كانت اسما مظهرا لحسن أن تقول : ضربت إياك.

فإن قيل فقد قال الشاعر (٣) :

كأنا يوم قرّا

إنما نقتل إيانا

قيل له : إن الشاعر إنما أراد نقتل أنفسنا فلما رأى (إيانا) تقوم مقام النفس في المعنى فعلى ذلك جاز على طريق الاستعارة.

__________________

(١) انظر الكتاب : هذا باب علامة المضمرين المنصوبين ـ وهذا باب استعمالهم إيّا إذا لم تقع مواقع الحروف التي ذكرنا ١ / ٣٨٠ (بولاق).

(٢) في الأصل : مضمرا.

(٣) البيت من الرجز ، مختلف في نسبته فهو منسوب إلى بعض اللصوص في : الكتاب ٢ / ١١١ ـ ٢ / ٣٦٢ ، وفي شرح المفصل ٣ / ١٠١ ـ ١٠٢ ، وفي الخزانة ٥ / ٢٨٠ ، ونسبه ابن السيرافي إلى ذي الإصبع العدواني في شرح أبيات سيبويه ٢ / ١٧٩ ، وكذلك في أمالي ابن الشجري ١ / ٥٧ وأورد الأبيات التي تسبقه وتليه وهو في الخصائص منسوب إلى أبي بجيلة ٢ / ١٩٤ ، وهو في ارتشاف الضرب ٣ / ٣٣٠. وشرح البيت كما جاء في حاشية الشنتمري على الكتاب : " وصف أن قومه أوقعوا ببني عمهم فكأنهم قتلوا أنفسهم ... وقرى : اسم موضع ..." الكتاب ١ / ٢٧١ (بولاق).

٢٦٤

فإن قيل : كيف جاز إضافة المضمر؟

قيل له : إن (إيّا) لما كانت لا تنتقل من الإضافة ولا يحصل لها معنى بانفرادها ولم تقع قط إلا معرفة فتحتاج إلى التنكير وخالفت في موضعها سائر المضمرات جاز أن تخص بالإضافة عوضا مما منعته ، وإنما جاز كسرها في هذين الموضعين كراهة لخروجهم من الكسر إلى الضم إذ كان ذلك لا يوجد في أبنيتهم لازما ولأن الكسر من الياء فاختاروا في الياء أيضا ما اختاروا مع الكسر ، وجاز الضم على الأصل إذ ليس بلازم للهاء لأنه قد يكون ما قبلها مضموما ومفتوحا ، وأما ضمير الغائب المنفصل المنصوب والمرفوع فأصله الضم كقولك : رأيته ، وجاءني غلامه ، وإنما وجب أن يبنى على الضم لأن الهاء حرف خفي ، وقد بينا أن المضمر يجب أن يبنى على حركة فاختاروا الضم لأنه أقوى الحركات فصار تقوية للهاء وبيانا لها ، ولذلك اتبعوا الهاء واوا على طريق التبيين لها وليست الواو من بناء الاسم والدليل على ذلك أنها تسقط في الوقف كقولك : رأيته ، ولو كانت من الأصل لم تسقط.

واعلم أن الاختيار إذا وصلت الضمير أن تلحقه الواو إذا تحرك ما قبله ويجوز حذف هذه الواو في الشعر لأن الضمة تسقط في الوقف. قال الشاعر في حذف الواو (١) :

__________________

(١) البيت من الطويل وهو منسوب إلى الأعشى : في الديوان ٩ ، من قصيدة يهجو بها عمرو بن المنذر بن عبدان ويعاتب بني سعد بن قيس ورواية الديوان :

وما عنده مجد تليد ولا له

 ...

وورد البيت أيضا في الكتاب ١ / ٣٠ ، وفي المقتضب ١ / ٣٨ ـ ١ / ٢٦٦ ، وفي شرح أبيات سيبويه للنحاس ٨ ، وفي كتاب الشعر أو شرح الأبيات المشكلة الإعراب للفارسي ١ / ٢٢٧ ، وكذلك في شرح شواهد الإيضاح للفارسي أيضا ٤٥٨ ـ ٤٥٩ ووردت في الحاشية الروايات المختلفة للبيت ، وفي شرح أبيات سيبويه للسيرافي ١ / ١٣٥ ، وفي الإنصاف ٢ / ٥١٦ ، وفي ارتشاف الضرب ٣ / ٢٩٧.

٢٦٥

وماله من مجد تليد وماله

من الريح حظ لا الجنوب ولا الصبا

فإن انكسر ما قبل الواو وكان ما قبلها ياء كسرتها وانقلبت الواو ياء للكسرة ، والاختيار إثبات / الياء إذا تحرك ما قبل الياء ويجوز حذف الياء والاجتزاء بالكسرة كما جاز حذف الواو ، ويجوز الضم فيها على الأصل ، لأن الهاء إذا كان قبلها حرف مد فالاختيار ألا تلحقها واو كقوله تعالى : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) [الحاقة : ٦٩ / ٣٠] و (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ) [الشعراء : ٢٦ / ٤٥](١) و (عَلَيْهِ ما حُمِّلَ) [النور : ٢٤ / ٥٤](٢) وإنما حذفوا الواو لأن قبل المضمر حرف مد والهاء تشبه بحرف المد لأنها خفيفة فاجتمعت ثلاثة أحرف متجانسة وليس بين الساكنين حرف حصين فصار كاجتماع ساكنين ، ولذلك اختاروا حذف الواو ، ويجوز إثباتها على الأصل.

وأما المؤنث فأثبتوا الألف بعد الهاء نحو : ضربتها ، وأكرمتها ، وإنما ألحقوا الألف للفصل بين ضمير المذكر وضمير المؤنث وكانت الألف أولى بالمؤنث لأنها أخف الحروف ، والمؤنث أثقل من المذكر لأن التنوين يبدل منه ألف في الوقف فيجب ألا يختلف ، ولأن الزوائد التي لحقت الهاء يجب إسقاطها لمجيء علامة التثنية إذ الهاء تقوى بما زيد عليها للتثنية فلم تحتج إلى الزيادة التي في الواحد ، فإذا وجب إسقاطها رجعت الهاء إلى الأصل واستوى لفظ المؤنث والمذكر ، فإذا جمعت فالأصل أن تلحق واو بعد الميم كما ذكرنا فيما تقدم والأحسن حذفها كقولك : ضربتهم ، والأصل : ضربتهمو (٣) ، فحذفت الواو لما ذكرنا ، وأما المؤنث فدليله

__________________

(١) كتبت في الأصل : ألقى.

والآية : (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ).

(٢) والآية : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ).

(٣) في الأصل : ضربتهموا.

٢٦٦

نون مشددة نحو : ضربتهنّ ، وإنما شددت النون لأنك لما زدت للمذكر حرفين وهما الميم والواو اختاروا أيضا أن يزاد للمؤنث حرفان لاشتراكهما في الجمع ، ولا يجوز تخفيف النون لوجهين :

أحدهما : زوال المعادلة بين المذكر والمؤنث فيما ذكرناه.

والثاني : أن الاستثقال الذي كان في الواو والخروج عن نظير الأسماء ليس بموجود في النون فلذلك لم يخفف.

فأما الكاف التي للمخاطب فتفتح للمذكر وتكسر للمؤنث ، وإنما اختير الكسر للمؤنث لأن الياء قد ثبتت في بعض المواضع فيها علم التأنيث نحو : أنت تضربين ، والكسر من الياء فلذلك اختير للمؤنث ، ولم يكن للضم مدخل ها هنا لأن الفتح يغني عنه ، وهو أخف منه في ذلك سقط حكمه ها هنا فإذا ثنيت ضممت الكاف والعلّة في ضمها في التثنية والجمع كالعلّة في ضمّ التاء في أنتنّ وأنتما ، وحكم المؤنث في تشديد النون كحكمه في أنتما فالعلّة واحدة.

واعلم أن الفصل إنما دخل في الكلام ليبين أن ما بعده خبر وذلك أنك إذا قلت : زيد هو العاقل ، علم بهذا الضمير أن ما بعده خبر وليس بنعت ، فلما كانت صلة لم يجز أن يقع إلا بين كلامين أحدهما محتاج إلى الآخر لأنه إذا كان ما قبله تاما لم يحتج إليه ، إذ كان إنما دخل ليبين عن تمام ما بعده ، وإنما جعل ضمير المرفوع مختصا بهذا المعنى الأول إذ كان الرفع أول أحوال الاسم ، فلما كان سابقا للضمير المنصوب وهو مع ذلك أخف في اللفظ منه كان أقوى في الاتساع والتصرف / من ضمير المنصوب ، وإنما وجب أن يقع الفصل في كل موضع لا يخل سقوطه بمعنى الكلام لأنه لو أخلّ لم يكن فصلا وكان داخلا لمعناه ولافتقار الكلام إليه فلذلك وجب أن يجعل فصلا في كل موضع لا يخل سقوطه بالكلام ، فلما كان الفصل يقع بالضمير ، والضمير معرفة لم يجز أن يقع إلا بين

٢٦٧

معرفتين أو ما قاربهما ، إذ كان قد دخل ليبين ما قبله وما بعده فوجب أن يكون ما قبله وما بعده مجانسا له فلذلك لم يجز أن يكون ما قبله وما بعده نكرة محضة ولا أحدهما.

باب أيّ

اعلم أن (أيا) موضوعها أن تكون جزءا مما تضاف إليه ، وهو على كل حال مما يتجزأ كقولك : أيّ الرجال عندك؟ فهي في هذه الحال من الرجال جزء ، وإذا قلت : أي الثياب عندك؟ فهي في هذه الحال من الثياب ، وعلى هذا يجري حكمها في جميع ما يتجزأ ، وقد بينا أن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ، وإنما لم يحتج في الاستفهام إلى صلة لأن الصلة توضح الموصول والمستفهم لا يعلم ما يستفهم عنه ، فلذلك لم يجز أن توصل في الاستفهام ، وكذلك الشرط والجزاء لا يجوز أن يكون معلوما لأنه مما يجوز أن يكون ويجوز ألا يكون فلم يحتج أيضا في الجزاء إلى صلة.

واعلم أنه لا يجوز أن يلي (أيا) إذا كانت استفهاما من الأفعال إلا أفعال القلوب لأنك تحتاج أن تلغيها لأنه لا يجوز أن يعمل في الاستفهام ما قبله ، وخصت أفعال القلوب بذلك لأنها قد تلغى في الخبر إذا توسطت بين المفعولين ، ويكون معناها باقيا فلذلك جاز أن تدخل على الاستفهام ولا تعمل فيه ويكون معناها باقيا ، وأما الأفعال المؤثرة فإنه لا يجوز أن تدخل على الاستفهام لأنك إن أدخلتها على الاستفهام وجب أن تعملها ، ولا يجوز أن تعمل ما قبل الاستفهام فيه فلا يجوز لذلك دخولها عليه.

فإن قال قائل : أليس من شرط العامل أن يكون قبل المعمول فيه إذا قلت : أيهم تضرب؟ فنصبت (أيا) بتضرب ، وتقدير أيهم تضرب : أن تكون تضرب قبل أي فقد جاز أن يعمل ما قبل الاستفهام فيه وتعمل فيه الأفعال المؤثرة؟

٢٦٨

فالجواب في ذلك أن (أيا) نائبة عن شيئين أولهما الاسم ، والثاني حرف الاستفهام ، فإذا قلت : أيّهم تضرب؟ فالتقدير : أزيدا تضرب ، فصار الفعل حكمه بعد الاستفهام فلم يجز تقديمه لما ذكرنا على (أي).

واعلم أن (أيا) إذا كانت بمعنى الذي فصلتها تجري مجرى [صلة](١) الذي إلا أن بعض العرب قد استعمل حذف المبتدأ مع (أي) أكثر من استعمالهم حذفه مع الذي كقولك : لأضربن أيهم قائم ، والأصل : لأضربن أيّهم هو قائم ، فإذا حذفوا المبتدأ ألزموا (أيا) الضم ، فعند سيبويه أن الضم في (أيّ) ضم بناء وأنها تجري في هذا الموضع مجرى (قبل وبعد) (٢) ، وأما الخليل فيقول (أي) مرفوعة ، وإنما رفعت في هذا الموضع على الحكاية ، كأنه قال : لأضربنّ الذي يقال له (٣) أيّهم قائم ، فالضرب واقع على الذي (٤) / دون (أي) ، وأما يونس فيقول : ألغوا الفعل كما ألغوا أفعال القلوب (٥) والأقوى عندي من هذه الأقوال قول سيبويه ، وإنما وجب بناء (أي) في هذه الحال لمخالفتها أخواتها ، فلما خرجت عن حكم نظائرها نقصت رتبة فألزمت البناء للنقص الذي دخلها من حذف المبتدأ.

فإن قال قائل : قد وجدنا المفرد إذا بني في حال إفراده ، أعرب في حال إضافته و (أي) إذا حذفت المضاف منها أعربتها كقولك : لأضربن أيا أبوه قائم ، وهذا قلب حكم المبنيات؟

__________________

(١) زيادة ليست في الأصل.

(٢) للتفصيل انظر الكتاب ١ / ٣٩٧ (هذا باب أي) بولاق.

(٣) في الأصل لهم.

(٤) قال سيبويه : " وزعم الخليل أن (أيّهم) إنما وقع في اضرب أيّهم أفضل على أنه حكاية ، كأنه قال : اضرب الذي يقال له أيهم أفضل ..." الكتاب ١ / ٣٩٧ ـ ٣٩٨ (بولاق).

(٥) قال سيبويه : " وأمّا يونس فيزعم أنه بمنزلة قولك أشهد إنك لرسول الله ، واضرب معلّقة ، وأرى قولهم اضرب أيّهم أفضل على أنهم جعلوا هذه الضمة بمنزلة الفتحة في خمسة عشر ... ففعلوا ذلك بأيهم حين جاء مجيئا لم تجيء أخواته عليه إلا قليلا ، واستعمل استعمالا لم تستعمله أخواته إلا ضعيفا". الكتاب ١ / ٣٩٨ (بولاق).

٢٦٩

فالجواب في ذلك أن الإضافة إنما تردّ المبني في حال الإفراد إلى الإعراب وإذا استحق البناء لم يجز أن يكون للإضافة تأثير في حال الإعراب ونظير ذلك (لدن) هي مبنية في حال الإضافة لأنها استحقت ذلك في هذه الحال كقوله تعالى : (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) [النمل : ٢٧ / ٦](١) ، وكذلك حكم (أي) خصت بالبناء على الضم لأنه أقوى الحركات فتصير قوته كالعوض من المحذوف وبعض العرب يعربها على الأصل لأن المحذوف مراد في النية فكأنه موجود.

فأما قول يونس فضعيف جدا لما ذكرناه من ضعف إلغاء الأفعال المؤثرة ، وأما قول الخليل فبعيد أيضا لأنه قدر الحركة وليس الكلام بمنقاد إليها ، وإذا ساغ حمل الكلام على ظاهره كان أولى من عدوله إلى خلاف ظاهره من غير ضرورة تدعو إلى ذلك (٢).

باب من

اعلم أن (من) مبنية لأنها في الاستفهام نائبة عن حرف الاستفهام ، وفي الشرط نائبة عن حرف الشرط ، وفي الخبر بمنزلة (الذي) ، فقد صارت كبعض اسم فوجب بناؤها في جميع المواضع ، وخصت بالسكون لأنها لم تقع متمكنة.

وهي تقع على من يعقل كقولك : من في الدار؟ فالجواب في ذلك أن يقال : زيد أو عمرو ، ولا يقال حمار ولا ثوب.

وحكمها فيما يعمل فيها ويمتنع من العمل فيها كحكم (أي) فإذا قال الرجل : رأيت رجلا فقلت : منا في الجواب. وإنما ألحقت (من) ألفا لتبين أنك تسأل عن الرجل المذكور إذ كان منصوبا وكذلك تزيد واوا في الرفع وياء في الجر وإنما زادوا

__________________

(١) وقد سبق ذكرها ص ١٩٧.

(٢) ناقش سيبويه قول الخليل ويونس وردهما ، انظر الكتاب ١ / ٣٩٨ (بولاق).

٢٧٠

هذه الحروف بدل الإعراب وذلك أنهم يطلبون هذه العلامة في الدرج فلو أعربوا (من) لسقط إعرابها في الوقف إذ كان الإعراب لا يوقف عليه فعوضوا منه هذه الحروف إذ كانت تقع دلالة على الإعراب في نحو قولك : أخوك وأخاك وأخيك.

فإن قال قائل : فلم جعلوا العلامة في (من) ولم يأتوا بلفظ الرجل منصوبا فيقولوا : من رجلا ، كما يقولون ذلك في المعارف الأعلام؟

فالجواب عن ذلك أن النكرة لا تدل على شخص بعينه ، وتكررها يدل على أشخاص مختلفة لما ذكرناه أنها غير دالة على شخص بعينه ، ألا ترى أنك لو قلت : رأيت رجلا وجاءني رجل ، لكان الظاهر أن يكون الذي جاءك غير الذي رأيته ، فلو قالوا : من رجلا؟ لجاز أن يتوهم أن المسؤول (١) عنه رجل (٢) غير المذكور ، فلذلك لم يأتوا بلفظ النكرة / وجعلوا العلامة في (من).

فأما المعارف الأعلام فجاز حكايتها لأن الاسم العلم يدل على شخص بعينه ولو كرر فلذلك جاز حكايتها.

واعلم أن هذه العلامات إذا لحقت (من) في حال الإفراد والتثنية والجمع والتأنيث (٣) فإنما تثبت في الوقف ، فإذا وصلت سقطت ، وذلك أنهم جعلوا ما اتصل بالكلام عوضا من هذه الزيادة لأن هذه العلامات جعلت بدل الإعراب في الاستفهام ، وما كان من الإعراب إنما يثبت في الوصل دون الوقف وكانت هذه العلامات قد أقيمت مقام الإعراب ، فوجب أيضا أن تثبت في أحد الموضعين فلذلك وجب إثباتها في الوقف إذ كان في الوصل قد وقع منها عوض.

__________________

(١) في الأصل : المسئول.

(٢) في الأصل : رجلا.

(٣) انظر الكتاب ٢ / ٤٠٨ (هارون) هذا باب من إذا كنت مستفهما عن نكرة.

٢٧١

وأما إذا قلت في المؤنث (منه) فحركت النون ولم تحركها في التثنية إذا قلت (منتين) ، لأن هاء التأنيث لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا ، فلذلك حركت النون في قولك (منه) وإنما سكنتها في (منتين) لأن علامة التأنيث قد صارت في وسط الكلمة فجاز أن يتوهم فيها غير التأنيث ويجعل بمنزلة أخت ، وإنما دعاهم إلى ذلك تحريك نون (من) وقد وجدنا مساعدا إلى تسكينها إذ كانت مبنية ولا يجوز أن تحرك نون التثنية والجمع وتاء المؤنث في قولك : شاءت ، لأن تحريكها إنما يجب في الدرج إذا أدرجت ، فلما ثبت لما ذكرناه أنه لا يجوز تحريك العلامات في الوصل ، وكانت الحركات لا يوقف عليها وجب إسكانها على ما ذكرناه ، وأما (أي) إذا استفهمت بها عن نكرة فإنك تعربها لأنها متمكنة يدخلها الإعراب فوجب أن يلحقها الإعراب علامة للحكاية إذ كانت متمكنة فتقول إذ قال الرجل : رأيت رجلا ، أيا يا هذا؟ وأيّين في التثنية ، وأيين في الجمع ، وكذلك أيان وأيون في الرفع. واعلم أن بعض العرب يصل ويبقي العلامة وذلك قليل من ذلك قول الشاعر (١) :

أتوا ناري فقلت : منون أنتم؟

فقالوا : الجن ، قلت : عموا ظلاما

وإنما جاز ذلك على التشبيه ب (أي) لاشتراكهما في الاستفهام والجزاء والخبر وبعض العرب يوحد من في جميع الجهات فيأتي بالواو والألف والياء فيقول : منا للواحد المنصوب والمثنى والمجموع ، وكذلك منو (٢) ، ومني في الرفع والجر وإن ثني وجمع وإنما جاز ذلك لأن (من) فيها معنى العموم ، فلما كانت تقع على الجماعة ولفظها واحد جاز أيضا أن يقع هاهنا هذا الموقع.

__________________

(١) الشاهد بلا نسبة في أغلب المصادر وهو في : الكتاب ١ / ٤١١ (هارون) ، والمقتضب ٢ / ٣٠٧ ، وشرح أبيات سيبويه للسيرافي ٢ / ١٨٣ ، والخصائص ١ / ١٢٩ ، وأسرار العربية ٣٩٣ ، وشرح المفصل ٤ / ١٦ ونسبه لشمر بن الحارث الطائي ، وفي الارتشاف ٣ / ٧٧ ، وأوضح المسالك ٣ / ٢٣١ ، وشرح ابن عقيل ٤ / ٤٣٣ ، وفي الهمع ٦ / ٢٢١ ، وفي الخزانة ٦ / ١٦٧ ـ ١٦٨.

(٢) في الأصل : منوا.

٢٧٢

وأما المعارف الأعلام فقد بينا جواز الحكاية فيها وبعض العرب لا يحكي اكتفاء بوقوع السؤال عقب الكلام للمخاطب ومن يحكي فغرضه البيان عن المخبر عنه بعينه لئلا يتوهم سواه ، فأما إذا عطفت بالفاء والواو فقلت : ومن زيد ، أو فمن زيد فكلهم يبطل الحكاية لأن حروف العطف لا يبتدأ بها ، وفيها دليل على أن هذا السؤال معطوف به على كلام المخاطب فاستغنوا عن الحكاية.

واعلم أنك إذا قلت : رأيت زيدا ، فقلت : من زيدا ، فمن في موضع رفع بالابتداء ، وزيد موضعه أيضا رفع لأنه خبر / الابتداء وإنما نصبته بالحكاية ، فأما ما لم يكن اسما علما فأكثر العرب لا تحكيه وإن كان معرفة لأنه لم يكثر الكلام به كثرة الأسماء الأعلام فجاز في الأسماء الأعلام الحكاية وتعتبر ما يستحقه من الإعراب لكثرتها في كلامهم ، فأما ما سواه فلم يكثر ، فبقي على الأصل ؛ لأن ما بعد (من) يجب أن يكون مرفوعا على خبر (من) وبعض العرب يحكي ما لم يكن سماعا حملا على الأسماء الأعلام.

واعلم أنك إذا عطفت فقلت : رأيت زيدا وعمرا ونعت الاسم فقلت : رأيت زيدا الظريف ، لم يجز في الكلام الحكاية لأن طول الكلام قد دل على أن المسؤول عنه هو الذي يقوم بنفس المخبر يبعد وقع سؤال آخر عن غير المذكور.

فأما الاسم العلم إذا نعتّه بابن وأضفت إلى الاسم أبا الأول أو كنيته نحو : رأيت زيدا بن عمرو فالحكاية جائزة فيه لأنه قد صار مع ابن كالشيء الواحد ، ففارق سائر النعوت لأنها لم تكثر في الاستعمال مع الموصوف بها ككثرة ابن إذا كان مضافا إلى ما ذكرناه.

باب الجواب بالفاء

اعلم أن الفاء أصلها العطف ، وحروف العطف لا يجوز أن تعمل ؛ لأنها من

٢٧٣

الحروف التي يليها الاسم مرة والفعل مرة ، وقد بيّنا أن من الحروف ما كان على هذا السبيل لم يعمل شيئا ، فإذا كان الأمر على ما ذكرناه ، ووجدنا العرب تنصب الفعل بعد الفاء في جواب ما ذكرناه علمنا أن النصب إنما وجب بغيرها ، وإنما هو بإضمار (أن) ووجه تقدير (أن) بعد الفاء أن تقدر ما قبلها تقدير المصدر المقدم قبلها كقولك : ما تأتيني فتحدثني ، والتقدير ما يكون منك إتيان فحديث ، وإنما وجب أن تقدر ما قبل الفاء بتقدير المصدر ، لأنه لا يخلو أن يكون ما قبلها فعلا وفاعلا أو مبتدأ وخبرا ، والفعل يدل على المصدر والجملة أيضا يجوز أن تجعل في تقدير فعل وفاعل كقولك : ليت زيدا عندنا فنكرمه ، أي ليت كونا من زيد فإكراما ، وعلى هذا يجري جميع ما يقع قبل الفاء إذا نصبت ما بعدها ، وإنما كانت (أن) بالإضمار أولى لأن الأصل في حروف النصب أن يليها الماضي والمضارع ، فلقوتها كانت أولى بالإضمار من أخواتها ، وجاز أن تضمر وتعمل وإن كانت حرفا ، لأن الفاء قد صارت عوضا منها ، ولم يجز إظهارها لأن ما قبلها في تقدير المصدر من غير إظهار اللفظ ، فلما كان المعطوف عليه مصدرا غير مظهر اختاروا أن تكون (أن) مضمرة بعد الفاء ليشاكل ما قبلها.

واعلم أنك إذا قلت : ما تأتيني فتحدثني ، فلك فيه وجهان : النصب والرفع ، فالنصب على ما قدرناه ، ومعنى الكلام إذا نصبت على وجهين :

أحدهما : أن يكون معناه ما تأتيني فكيف تحدثني ، أي الذي يمنع من الحديث ترك الإتيان ، (١) وإنما دخل هذان المعنيان في معنى حكم المنصوب لأن الفاء قد بينا أنها للعطف ويجب أن يكون الثاني بعد الأول ، فلما كان / معنى قولك : ما يكون منك إتيان فحديث منقطعا من الأول متصلا من أصل اللفظ ، جاز أن ينفي الإتيان ويتعلق الحديث به وينتفي معه لدخول معنى الاتصال في الفاء.

__________________

(١) استغنى الوراق عن ذكر الوجه الثاني لتقدمه.

٢٧٤

وأما الرفع فعلى وجهين :

أحدهما : أن يكون الفعل معطوفا على ما قبله ويكون النفي قد تناول الإتيان على حدة والحديث على حدة ، أي : ما تأتيني وما تحدثني.

والوجه الثاني : أن يكون الإتيان منفيا ويكون ما بعد الفاء مبتدأ وخبرا على طريق الاستئناف كأنك قلت : ما تأتينا فأنت تحدثنا ، فيكون الحديث كائنا والإتيان منفيا ، وأما قوله تعالى : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٧٧ / ٣٦](١) وقوله : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) [فاطر : ٣٥ / ٣٦](٢). فإنما رفع يعتذرون بالعطف على يؤذن أي ليس يؤذن لهم ولا يعتذرون ، وقد قرئ (٣) بالنصب على تقدير لا يكون إذن فعذر ومعناه أنه لو أذن لهم اعتذروا ولكن سبب العذر ارتفاع الإذن ففي نصب الثاني يجب الأول في الرفع ليس لأحدهما تعلق بالآخر ، وأما قوله تعالى : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) فإنما جاء منصوبا لأن الموت ليس بفعلهم ولا يقع مبتدأ منه كما يصح وقوع الاعتذار منه من المعتذر ، فصار القضاء سببا للموت ، فلذلك وجب النصب ، ولا يحسن رفعه لأنه وجب أن يكون الموت وقع مبتدأ الحكم فيه من الميتين ، ويجوز الرفع فيه بالعطف على يقضي ، ويستدل بالمعنى إذ كان قد ينسب فعل الموت إلى الإنسان وأن الله تعالى هو الفاعل فيصير التقدير لا يقضى عليهم ولا يموتون لأن الله عزوجل لا يريد موتهم. وأما قوله تعالى :

__________________

(١) قال الفراء : " رويت بالفاء أن يكون نسقا على ما قبلها ، واختير ذلك لأن الآيات بالنون ، فلو قيل : فيعتذرا ولم يوافق الآيات. وقد قال الله جل وعز : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) بالنصب ، وكلّ صواب ...".

معاني القرآن (عالم الكتب) ٣ / ٢٢٦ ، وقد نقل القرطبي كلام الفراء هذا في تفسيره انظر ١٩ / ١٦٦.

(٢) والآية : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ).

وقد قرأها الحسن : (لا يقضى عليهم فيموتون) ، وكذلك الثقفي ، قال أبو الفتح : (يموتون) عطف على (يقضى) أي : لا يقضى عليهم ولا يموتون. والمفعول محذوف أي : لا يقضي عليهم الموت. وحسن حذفه هنا لأنه لو قيل : لا يقضي عليهم الموت فيموتون ، كان تكريرا يغني من جميعه بعضه. انظر المحتسب لابن جني ٢ / ٢٠١ ـ ٢٠٢.

(٣) في الأصل : قرأ.

٢٧٥

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ) [البقرة : ٢ / ٢٤٥](١) فوجه الرفع فيه من وجهين :

أحدهما : أن يكون خبر ابتداء محذوف فهو يضاعفه ، ويكون معناه و (أن مبتدأ) أنه يضاعفه إذا قرض ، وأما وجه النصب فتقديره (٢) : من يكون منه قرض فمضاعف له ، فيكون سبب المضاعفة هو القرض من جهة اللفظ وفي الرفع يكون من جهة المعنى إذا حملته على الابتداء. وإن حملته على العطف أردت معنى النصب ، وأما قول الشاعر (٣) :

فلا زال قبر بين بصرى وجاسم

عليه من الوسمي خود (٤) ووابل

فينبت حوذانا وعوفا (٥) منورا

سأتبعه من خير ما قال قائل

فإنما اختير الرفع في ينبت وإن كان النصب جائزا لأن النصب إخبار (٦) عن

__________________

(١) والآية : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.) قرأ ابن كثير : (فيضعّفه) بالرفع والتشديد ، وقرأ ابن عامر : (فيضعّفه) بالنصب والتشديد ، وقرأ عاصم (فيضاعفه) بالنصب والألف ، وقرأ الباقون بالألف والرفع. حجة القراءات ١٣٨ ـ ١٣٩.

(٢) في الأصل : تقديره.

(٣) البيتان من البحر الطويل ، وهما للنابغة الذبياني كما جاء في الكتاب ٣ / ٣٦ وهما في ديوانه ولكن برواية مختلفة :

سقى الغيث قبرا بين بصرى وجاسم

ثوى فيه جود فاضل ونوافل

ولا زال يسقى بطن شرج وجاسم

بجود من الوسميّ قطر ووابل

وهما من قصيدة له في رثاء النعمان بن الحارث : الديوان ١١٩ ـ ١٢٠ ، وهما في المقتضب ٢ / ٢١ ، وفي شرح أبيات سيبويه للنحاس ٢٧٥ ـ ٢٧٦ ، وشرح أبيات سيبويه للسيرافي ٢ / ٥٦ ، وفي كتاب الرد على النحاة ١٤٦.

وقد وردت الأبيات في ديوان حسان بن ثابت ١ / ٥٠٦ ، وكذلك وردت منسوبة له في الأغاني ١٧ / ١٠٠ ورواه رواية أخرى ١٠٤ من الجزء نفسه :

فلا زال قبر بين بصرى وجلّق

 ...

(٤) الوسميّ : مطر الربيع الأول. القاموس (وسم)

والخود : الحسنة الخلق ، الشابة ، أو الناعمة ، ... (خود).

(٥) الحوذان والعوف : نبات طيب الرائحة ، انظر القاموس (حوذ) ٤٢٤ ـ ٤٢٥. (عوف) ١٠٨٥.

(٦) في الأصل : اختيارا.

٢٧٦

حصول الإنبات وفي النصب يصير وعاء وسببا للإنبات ، فلما كان الرفع أبلغ لثبات النبات بالضم اختير الرفع ، والنصب جائز.

واعلم أن الجواب بالواو يوجب (أن) لأن الواو للعطف وقد بينا أن حروف العطف لا تعمل شيئا ، وإذا وجدنا الفعل منصوبا بعدها وجب أن يكون منصوبا بغيرها وهو (أن) كما قلنا في الفاء ، وأنك تقدر ما قبلها تقدير المصدر كقولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن أي : لا يكن منك أكل وشرب ، ومعناه لا يجمع بينهما ؛ لأن الواو معناها الجمع بين الشيئين ، فعلى هذا يجري حكمها. /

وأما قول طفيل الغنوي (١) :

وما أنا للشيء (٢) الذي ليس نافعي

ويغضب منه صاحبي بقؤول

فعند سيبويه أن الاختيار نصب يغضب والرفع جائز ، وعند أبي العباس المبرد أن الرفع هو المختار والنصب جائز ، فحجة سيبويه أن الواو متعلقة بالنفي الذي في صدر الكلام ، والتقدير : ما أنا بقؤول للشيء الذي ليس نافعي ، واللام التي في قوله للشيء في موضع نصب بقؤول ، فلما كان استقرار الكلام على هذا المعنى صار تقديره أنه مما يقع من الشيء الذي هذه حاله ، وأما الرفع فبالعطف على نافعي ، وإنما ضعف النصب عند أبي العباس لأن الغضب ليس مما يقال ، وإذا جعل يغضب عطفا على أنا صار الخبر بقؤول وليس الغضب مما يقال : وإنما (٣) يقال الشيء الذي يقع منه الغضب ، وأما الرفع فلا يحتاج إلى تأويل فلذلك اختار أبو العباس الرفع وعدل عن النصب.

__________________

(١) البيت من الطويل وقد نسب عند البعض لكعب بن سعد الغنوي كما في الكتاب ٣ / ٤٦ ، وكتاب الشعر للفارسي ٢ / ٤٢٦ ، والرد على النحاة ١٥٠ ، وشرح المفصل ٧ / ٣٦ ، وكما في اللسان (قول) ، وأورده مع أبيات أخرى من القصيدة ، وكما في الخزانة ٨ / ٥٦٩ ، وهو بلا نسبة في : المقتضب ٢ / ١٩ ، وفي شرح أبيات سيبويه للنحاس ٢٧٩ ـ ٢٨٠. وطفيل الغنوي هو : طفيل بن كعب ، وكان من أوصف العرب للخيل ، الشعر والشعراء ١٧٣.

(٢) في الأصل : بالشيء.

(٣) في الأصل : وأما.

٢٧٧

باب المجازاة (١)

اعلم أن أصل حروف المجازاة (٢) (إن) وإنما وجب أن تكون الأصل لأنها لا تخرج عن الجزاء ، ولا تختص بالاستعمال في بعض الأشياء دون بعض ، وسائر ما يجازى به سواها قد يخرج من باب الجزاء إلى غيره ، ومن الجزاء (من وما وأي ومتى وأين وأنّى) وكل هذه تستعمل استفهاما وتخرج من باب الجزاء.

وأما (مهما) ففيها وجهان :

أحدهما : أن يكون الأصل فيها (ما) فزيدت عليها (ما) كما تزاد على (إن) فصار اللفظ (ما ما) فأبدلوا من الألف الأولى (هاء) لأنها من مخرجها كراهة لتكرار اللفظ فصار اللفظ (مهما) وقد بينا أن (ما) تستعمل في غير المجازاة.

والثاني : أن يكون الأصل فيها (مه) مثل (صه) بمعنى اسكت ، ثم زيد عليها (ما) وهذه أيضا لا تختص بالجزاء وإنما ساغ (٣) دخولها في الجزاء لأن الجزاء قد يجاب بجواب الشرط ، وهو غير واجب ، فجاز أن يستعمل بعد ألفاظه (٤).

فأما (حيث) فظرف من المكان ولا تستعمل في باب الجزاء إلا بزيادة (ما) عليها ، وكذلك (إذ) هي ظرف من الزمان ولا تستعمل في الجزاء إلا بدخول (ما) عليها فقد بان بما ذكرناه أن جميع ما يستعمل في باب الجزاء مدخل فيها وغير مختص به فلذلك وجب أن تكون (إن) الأصل وما سواها محمول عليها.

__________________

(١) أي باب الشرط.

(٢) في الأصل : المجازات.

(٣) في الأصل : صاغ.

(٤) قال سيبويه : " وسألت الخليل عن (مهما) فقال هي (ما) أدخلت معها (ما) لغوا بمنزلتها مع متى ... وبمنزلتها مع إن ... وبمنزلتها مع أين ... وبمنزلتها مع أيّ ... ولكنهم استقبحوا أن يكرّروا لفظا واحدا فيقولوا ما ما فأبدلوا الهاء من الألف التي في الأولى ، وقد يجوز أن يكون مه كإذ ، ضمّ إليها ما". الكتاب ١ / ٤٣٣ (بولاق).

٢٧٨

واعلم أن الأسماء كان حقها ألا تستعمل في باب الجزاء إلا أن هذه المعاني حقها أن تختص بالحروف وتكون الأسماء دالة على المسميات فقط وإنما أدخلوها في الجزاء لفوائد ، وأما (من) فجاز استعمالها في الجزاء لأن (من) فيها معنى العموم لجميع من يعقل ، فلو استعملت (إن) وحدها وغرضك العموم لم يمكنك أن تقدر جميع الأسماء التي للأشخاص ، ألا ترى أنك إذا قلت : من يأتني أكرمه ، أن هذا اللفظ انتظم الجميع أعني جميع من يعقل ، وإذا قلت : إن يأتني زيد أكرمه ، وعددت أشخاصا كثيرة على التفصيل لم يستغرق جميع من يعقل / وإن توسع في ذكر أقوام ، و (من) تقتضي العموم من غير تكرير فلذلك استعملت في باب الجزاء.

فإن قال قائل : فما الفائدة في استعمال (أي) في باب الجزاء وهي لا تختص لشيء فهلا اكتفي بإضافتها؟

فالجواب في ذلك أنها استعملت لمعنى الاختصار ، وذلك أنك إذا قلت : أي يأتني (١) أكرمه ، ناب (أي) عن قولك : إن يأتني بعض القوم أكرمه ، فلما كان اختصار (٢) لفظ من (أن) تضمنها معنى الإضافة ولم يكن بدّ إلى القوم من ذكر المضاف والمضاف إليه استعملت في باب الجزاء لما ذكرناه من الاختصار.

وأما (متى) فاستعملت في الجزاء لاختصاصها بالزمان ، وفيها معنى العموم لجميع الأوقات فجرى مجرى (من) في جميع من يعقل ، ألا ترى أنك إذا قلت : متى تقم أقم ، جمع هذا اللفظ جميع الأوقات ولن تحتاج أن تخص وقتا بعينه ، ولا يمكنك أن تقدر جميع الأوقات ، وحكم (أين) في المكان كحكم (متى) في الزمان.

وأما (أنّى) فمستعمل بمعنى (كيف) وفيها معنى الحال ، وهي تقتضي العموم ويدخلها أيضا مع ذلك معنى التعجب كقولك في الاستفهام : (أَنَّى يَكُونُ لِي

__________________

(١) في الأصل : يأتي.

(٢) في الأصل : احضار.

٢٧٩

غُلامٌ؟) [آل عمران : ٣ / ٤ ، ومريم : ١٩ / ٧ و ١٩] كيف يكون لي غلام ، وفيها معنى التعجب ، فلما كانت قد تستعمل في الاستفهام على ما ذكرناه [و](١) كان الاستفهام يضارع الجزاء استعملت فيه أيضا.

وأما (حيث) فهي مبهمة في المكان واستعملت في باب الجزاء لإحاطتها بالأمكنة.

وأما (إذ) فاستعملت في الجزاء بإضمام (ما) إليها وخرجت من حكم الظرف ، وإنما حكمنا عليها بالحروف لأن معناها قد زال فاستعملت استعمال (إن) ألا ترى أنها تستعمل في المجازاة للمستقبل كقولك : إذ ما تقل أقل ، أي كما تقول أقول ، فلما زال عن حكم الوقت أجريت مجرى (إن) فهذه فائدة دخولها ليكثر باب الجزاء بها وتقوى (إن) بانضمام حروف إليها ، ولذلك أضافوا (إذ) وغيرها ، وإنما لزمت (إذ) (ما) و (حيث) (ما) في باب المجازاة لأنهما ظرفان يضافان إلى الجمل فجعلت (ما) لازمة لهما لتمنعهما من حكم الإضافة وتخلصهما من باب الجزاء.

واعلم أن هذه الأسماء التي استعملت في باب الجزاء إنما يجزم ما بعدها بتقدير (إن) ولكن حذف لفظ (إن) اختصارا واستدلالا بالمعنى ، لأن الأصل أن تعمل الأفعال والحروف فأما الأسماء فليس أصلها أن تعمل ولذلك وجب تقدير (إن) والله أعلم.

واعلم أن الجازم للشرط (إن) فأما الجواب فقد اختلف فيه ، فمن النحويين من يجعل العامل فيه (إن) أيضا ؛ لأنه قد استقر عملها في الشرط والشرط مفتقر للجواب ، فلما كانت (إن) عاقدة للجملتين وجب أن تعمل فيهما (٢) ، ومن النحويين من يجعل العامل في الجواب (إن) والشرط معا إذ كان الجواب لا يصح

__________________

(١) زيادة ليست في الأصل.

(٢) قال سيبويه : " واعلم أن حروف الجزاء تجزم الأفعال ، وينجزم الجواب بما قبله ، وزعم الخليل أنك إذا قلت : إن تأتني آتك ، فآتك انجزمت بإن تأتني كما تنجزم إذا كانت جوابا للأمر ...". الكتاب ١ / ٤٣٥ (بولاق).

٢٨٠