العلل في النحو

أبو الحسن محمد بن عبد الله [ الوراق ]

العلل في النحو

المؤلف:

أبو الحسن محمد بن عبد الله [ الوراق ]


المحقق: مها مازن المبارك
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
الطبعة: ٢
ISBN: 1-57547-843-9
الصفحات: ٤١٦

يتبعها (١) وكانت أجمعون لا تستعمل إلا تابعة فوجب أن يتقدم الأقوى أعني (كلا) وأما أجمعون فيتقدم على أكتعين ، وأفصعين ، وإنما وجب تقديمها عليها لأنها ليست بمشتقة اشتقاقا بيّنا وأجمعون مأخوذة من الاجتماع المعروف فلما قوي معنى أجمعين لأنها مشتقة تقدمت أكتعين وإن كان يجوز في أكتعين أن يشتق عن قولهم مرّ عليه حول كتيع ، أي تامّ ، (٢) فإن تركت أجمعين فقلت : مررت بالقوم أكتعين ، أو أتبعين ، أو أفصعين ، أو جمعت بينهما من غير أن تذكر أجمعين لم يجز فزاد هذا الإتباعات من غير أن يتقدمها أجمعون ، فإن قدمتها جاز أن تذكر ما شئت بعدها من التوابع ، وإن شئت قدمت بعضها على بعض لأنها متساوية في هذا الحكم فلذلك اتفقت أحكامها في ما ذكرناه (٣) / وحكم المؤنث في هذا كحكم المذكر.

فإن قال قائل : قد علمنا أن كلهم وأنفسهم يتعرفان بالإضافة ، فمن أين زعمت أن أجمعين معرفة؟

قيل له : لأن جمعه أقيم مقام الإضافة أي مقام إضافته إلى ما يعرّفه إذ كان الأصل أن تقول : مررت بالقوم أجمعهم فحذف لفظ الضمير وأقيم الجمع بالواو والنون مقامه.

فإن قال قائل : فلم كرهوا مررت بالقوم أجمعهم؟

قيل له : لأن أجمع على وزن أفعل ومن شرط أفعل إذا أضيف إلى الشيء أن يكون بعضه.

فلو قالوا : مررت بالقوم أجمعهم ، لتوهموا أن القوم بعض الهاء والميم ، وإنما

__________________

(١) في الأصل : يتبعه.

(٢) أجاز الكوفيون وابن كيسان تقدم أكتع على أجمع ، المساعد ٢ / ٣٩٠. وفي الأصل : تمام.

(٣) للتفصيل انظر شرح الأشموني ٢ / ٤٠٥ ، والمساعد ٢ / ٣٩٠.

٢٤١

غرضهم أن يخبروا عن جميع القوم ، فلذلك عدلوا عن إضافته في اللفظ وأتوا بالواو والنون ليدلو بذلك على استغراق المذكورين.

فأما (كلا) فهي عند البصريين اسم مفرد يدل على اثنين فما فوقهما ، (١) وأما الفراء فيقول هو مثنى وهو مأخوذ من كل فخففت اللام وزيدت الألف للتثنية (٢) ويحتج بقول الشاعر :

في كلت رجليها سلامى واحده

كلتاهما مقرونة بزائده (٣)

فأفرد (كلا) وهذا القول ليس بشيء وذلك أنه لو كان مثنى لوجب أن تنقلب ألفه في الجر والنصب ياء مع الاسم المظهر ، فلما وجدناه بالألف في جميع الإعراب علمنا أن ألفه ليست للتثنية ومن جهة المعنى فإن معنى (كلا) مخالفة المعنى (كل) ؛ لأن (كلا) للإحاطة و (كلا) (٤) تدل على شيء مخصوص فعلمنا أيضا في المعنى أنه ليس أحدهما مأخوذا (٥) من الآخر وإنما حذف الشاعر الألف من كلتا (٦) للضرورة وقدر أنها زائدة وما يكون ضرورة لا يجوز أن يجعل حجة.

__________________

(١) قال ابن الأنباري : " وذهب البصريّون إلى أن فيهما إفرادا لفظيا وتثنية معنوية ..."

انظر الإنصاف ١٨٢ مسألة (٦٢) (ليدن).

(٢) قال الفراء : " وقوله : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها) ولم يقل : آتتا ، وذلك أن كلتا ثنتان لا يفرد واحدتهما ، وأصله كلّ ... ، قد تفرد العرب إحدى كلتا وهم يذهبون بإفرادها إلى اثنتيها ، أنشدني بعضهم. في كلتا رجليها سلامى واحدة ...".

معاني القرآن ٢ / ١٤٢.

(٣) البيتان من الرجز وهما بلا نسبه واستشهد بهما في معاني القرآن ٢ / ١٤٢ ، أسرار العربية ٢٨٨ ، والإنصاف ٢ / ٤٣٩ ـ ٤٤١ ، والمساعد ٢ / ٣٥٠ ـ ٢ / ٣٩٤ ، واللسان (كلا) ٢٠ / ٩٣ ، والهمع ١ / ١٣٧ ، والخزانة ١ / ١٢٩ ، وفي الأصل كتب البيت الثاني : كلتاهما مقرونة بزيادة.

(٤) في الأصل : كلى.

(٥) في الأصل : مأخوذ.

(٦) في الأصل : كلتى.

٢٤٢

فإن قال قائل : فلم صار (كلا) بالياء في النصب والجر مع المضمر ، ولزمت الألف مع المظهر وكذلك هي في الرفع مع المضمر بالألف؟

قيل له : إن حقها أن تكون بالألف في جميع الجهات كما أن (عصا) لا تختلف ألفه إذا اتصلت بمضمر أو مظهر إلا أن (كلا) لما كانت لا تنفك عن الإضافة شبهت ب (على) و (إلى) فجعلت مع المضمر في النصب والجر بالياء لأن (على) لا تقع إلا منصوبة أو مجرورة ولا تستعمل مرفوعة فبقيت (كلا) في الرفع على أصلها مع المضمر لأنها لم تشبه (على) في هذه الحال.

فأما (كلتا) التي للمؤنث فبين أصحابنا فيها اختلاف.

أما سيبويه فيقول : ألفها للتأنيث والتاء بدل من لام الفعل (١) وهي واو ، الأصل (كلوا) ، وإنما أبدلت تاء ؛ لأن في التاء علم التأنيث والألف في كلتا نظير ياء مع المضمر فتخرج عن علم التأنيث فصار إبدال الواو تاء تأكيدا للتأنيث فلهذا أبدلوها ، وأما الجرمي فكان يقول وزنها فعيل والتاء ملحقة (٢) والألف لام الفعل ، وقول سيبويه أقوى ؛ لأن التاء في كلتا لو كانت للإلحاق المحض وليس فيها من حكم التأنيث ما ذكرناه لوجب أن تثبت في النسبة فيقال : كلتوي ، فلما أجمعوا على إسقاطها في النسبة دل ذلك على أنهم قد أجروها مجرى التاء في أخت.

باب التمييز

اعلم أن التمييز إنما وجب أن ينصب على التشبيه بالمفعول ؛ لأن ما قبله تقدير الفاعل على طريق / التشبيه ، وذلك أنك إذا قلت عندي عشرون درهما ، فالنون

__________________

(١) انظر الكافية شرح الاستراباذي ٢ / ١٦١ ، جاء فيها : " وأما تاء بنت وأخت وهنت وكلتا وثنتان ومنتان فليست لمحض التأنيث بل هي بدل من اللام في حال التأنيث".

وقال سيبويه : " ... وكذلك تاء أخت وبنت وثنتين وكلتا لأنهنّ لحقن للتأنيث ..." ٢ / ٣٤٨ (بولاق).

(٢) انظر : المرتجل ٦٧.

٢٤٣

منعت الدرهم من الجر كما منع الفاعل رفع المفعول فصارت النون كالفاعل وصار التمييز كالمفعول ، وكذلك قولهم : خمسة عشر درهما ، وإنما انتصب الدرهم ؛ لأن التنوين فيه مقدر ، وإنما حذف لأجل البناء كما يحذف لمنع الصرف ، وكل تنوين حذف للإضافة وللألف واللام فحكمه مراد ؛ لأنه لم يدخل على الكلمة ما يعاقبه ، فلذلك وجب النصب ، وكذلك إذا قلت لي مثله وزنا ، فالهاء منعت الوزن من الجر فصارت الهاء كالفاعل فلذلك انتصب الوزن.

واعلم أنه لا يجوز أن تقدم شيئا من التمييز على ما قبله ؛ لأن العامل فيه ضعيف ؛ لأنه ليس بفعل متصرف والمنصوب به مفعول في الحقيقة ، فلذلك ضعف تقديمه.

وأما قولهم : هو يتصبب عرقا ويتفقّأ شحما ، ففيه خلاف ، أما سيبويه فكان لا يرى التقديم (١) في هذا الباب وإن كان العامل فيه فعلا ، وأما المازني فكان يجيز تقديم التمييز إذا كان العامل فيه فعلا ويشبهه بالحال.

فأما حجة سيبويه في امتناعه من ذلك ؛ فإن التمييز في هذه الأفعال فاعل في الحقيقة ، (٢) وذلك أنك إذا قلت : تصببت عرقا ، فالفاعل للعرق في المعنى ، ولكنه نقل عنه إلى الشخص فلما كان فاعلا في المعنى وكان الفاعل في الأصل لا يجوز تقديمه إلا على نية التأخير كذلك أيضا لا يجوز أن يقدم هذا إذ كان فاعلا.

__________________

(١) في الأصل : التقدير.

(٢) قال الشنتمريّ : " ومما أنشد المازني في الباب قول المخبل السعدي :

أتهجر ليلى بالفراق حبيبها

وما كان نفسا بالفراق تطيب

الشاهد فيه تقديم التمييز ، وهو قوله نفسا على العامل فيه وهو تطيب ، وقياسه عند المازني قياس الحال ، والحال متقدم عند جميع النحويين إلا الجرمي إذا كان العامل فيها فعلا ، وسيبويه لا يرى تقديم التمييز وإن كان العامل فيه فعلا ، وسيبويه لأنه منقول عن الفاعل ، والفاعل لا يتقدم ، وأما الحال فهو مفعول فيها كالظرف فجاز فيها من التقديم ما يجوز فيه ، والرواية الصحيحة في البيت : وما كان نفس بالفراق تطيب". الكتاب ١ / ١٠٨ (بولاق).

٢٤٤

فإن قال قائل : قد جاء في الشعر قوله (١) :

أتهجر ليلى للفراق حبيبها

وما كان نفسا بالفراق تطيب؟

فالجواب في ذلك أن النفس منصوبة بإضمار فعل على طريق التبيين كأنه قال : وما كان يطيب بالفراق ، ثم قال : نفسا ، فإذا أمكن أن يكون منصوبا بأعني لا بيطيب لم يكن لمن احتج به حجة على سيبويه.

فإن قال قائل : فلم نقلت هذه الأسماء عن كونها فاعلة ولم تستعمل على أصلها؟

قيل له : الفائدة في ذلك أنهم أرادوا أن يجعلوا الفعل للجثة ويجعلوا هذه الأسماء تبيينا ، لأن الجثة توصف بذلك فقد يمكن أن يكون المتصبب منها العرق وغيره ، فإذا جعلوا الفعل للجثة جاز أن يتصل بها جميع ما يتعلق بها ، ولو جعل الفعل للعرق فقالوا : تصبب عرق زيد ، ويتصبب ماء زيد لم يكن فيه دلالة على ذلك متصلة (٢) فلذلك تغير الفعل على فاعله لهذا المعنى فاعرفه.

باب الاستثناء

إن قال قائل : لم وجب أن ينصب المستثنى من الموجب نحو : جاءني القوم إلا زيدا ، ولم يجز البدل منه كما جاز في النفي نحو ما جاءني أحد إلا زيد؟

فالجواب في ذلك أن البدل مستحيل وذلك أن المبدل منه يجوز أن يقدر كأنه

__________________

(١) البيت من البحر الطويل وقد اختلفوا في نسبته فمنهم من نسبه إلى أعشى همدان ، ومنهم من نسبه إلى قيس بن الملوح والأغلب أنه للمخبل السعدي فهو له في الخصائص ٢ / ٣٨٤ ، وفي اللسان (حبب) ١ / ٢٨١ ، وفي العيني ٣ / ٢٣٥ ، وهو بلا نسبة في المقتضب ٣ / ٣٧ ، وفي شرح شواهد الإيضاح للفارسي ١٨٨ ـ ١٩٠ ، وفي أسرار العربية ١٩٧ ، والإنصاف ٢ / ٨٢٨ ـ ٨٣٢ ، وفي أمالي ابن الشجري ١ / ٥٠ وفي شرح المفصل ٢ / ٧٤ ، وفي شرح ابن عقيل ٢ / ٥٣٠ ، وفي الهمع ٤ / ٧١.

(٢) في الأصل : متصل به.

٢٤٥

ليس في الكلام ، وإذا قدرنا الكلام على هذا صار اللفظ : جاءني إلا زيد ، لأنه لا يوجب مجيء العالم بأجمعهم إليه سوى زيد ، وليس يستحيل هذا في النفي لأنك إذا قلت : ما جاءني أحد إلا زيد ، فالكلام صحيح ؛ لأنه يجوز أن ينفي مجيء العالم سوى مجيء زيد ، فلذلك لم يجز البدل في الإيجاب.

فإن قال قائل : / فلم صار البدل في النفي أجود من النصب على الاستثناء؟

ففي ذلك جوابان :

أحدهما : أن البدل مطابق للفظ ما قبله ومعناه ، ومعنى الاستثناء سواء ، فلما كان المعنى واحدا كانت مطابقة اللفظ أولى من اختلاف يوجب تغيير حكم ، فلذلك كان البدل أجود.

والوجه الثاني : أن البدل يجري في تعلق العامل به كمجراه في سائر الكلام ، ويحمل فيه من غير تشبيه بغيره ، والمنصوب على الاستثناء يشبه بالمفعول به (١) فكان ما يجري على الأصل أقوى من المشبه.

فإن قال قائل : فهلا جعلتم (إلا) هي العاملة في الاستثناء دون التشبيه بالمفعول؟(٢)

فالجواب في ذلك أن (إلا) لو كانت عاملة ما جاز أن يقع بعدها مختلفا ، فلما وجدنا ما بعدها مختلفا منصوبا ومخفوضا ومرفوعا ومعناها قائم علمنا أنها ليست بعاملة ويدل ذلك أيضا أنّا لو وضعنا في موضعها (غير) لا تنصب (غير) كقولك :

__________________

(١) انظر الاستغناء في الاستثناء ٦٧.

(٢) جاء في المصدر السابق : " اختلف في العامل في الاستثناء مع إلا فقيل : الفعل بواسطة إلا ...

وقيل : العامل ما قبله من الكلام ، فهو منصوب على تمام الكلام ...

وقيل : العامل إلا ، لأنه لم يوجد غيرها ...

وقيل : العامل فيه إلا غير أنها نائبة عن (استثنى) ...

وقيل : انتصب على أنه اسم إن ، وخبرها محذوف ... بناء على أن إلا مركبة من حرفين : إن ولا ..." ٦٧ ـ ٦٨.

٢٤٦

جاءني القوم غير زيد ، فلما انتصب غير زيد وناب عن إلا (١) علمنا أن الناصب هو الفعل المتقدم إذ كان الشيء لا يعمل في نفسه فصح أن المنصوب في الاستثناء إنما عمل فيه فعل متقدم لا (إلا) وإنما كان النصب الوجه فيما ليس من جنس الأول ؛ لأنه متى حمل عليه في البدل وجب أن يحمل الكلام على المجاز ، ويقدر الاسم الأول كأنه من جنس الثاني إذ شرط البدل أن يكون هو المبدل أو بعضه ، فلما كان حمل ما ليس من جنس الأول على الثاني يحتاج إلى تأويل كان النصب الوجه ؛ لأنه لا يحتاج إلى تأويل.

الحروف التي يجر بها في حروف الاستثناء

اعلم أن حاشا عند سيبويه حرف (٢) وعند أبي العباس المبرد فعل (٣) ، ويجوز أن يكون حرفا وفعلا.

فأما حجة سيبويه أنها لا تكون إلا حرفا فإجماع (٤) النحويين على أنها لا تكون صلة ل (ما) مع كونها متصرفة عندهم دلّ ذلك على أنها ليست بفعل ، واحتج أبو العباس في كونها فعلا بأشياء أحدها قول النابغة (٥) :

 ...

ولا أحاشي من الأقوام من أحد

__________________

(١) في الأصل : لا.

(٢) قال سيبويه : " وأما حاشا فليس باسم ولكنه حرف يجر ما بعده كما تجر حتى ما بعدها ، وفيه معنى الاستثناء".

الكتاب ١ / ٣٧٧ (بولاق).

(٣) قال المبرد : " وما كان حرفا سوى إلا فحاشا وخلا ، وما كان فعلا فحاشا ، وخلا إن وافقا لفظ الحروف" المقتضب ٤ / ٣٩١.

(٤) في الأصل : بإجماع.

(٥) البيت من البسيط وهو للنابغة في ديوانه ١٣ ، وفي أسرار العربية ٢٠٨ ، وفي الإنصاف ١ / ٢٧٨ ـ ٢٨٠ ، وفي شرح المفصل ٨ / ٤٨ ـ ٢ / ٨٥ ، وفي اللسان (حشا) ١٨ / ١٩٨ ، وفي المغني ١٦٤ ، وفي شرح شواهد المغني للسيوطي ١ / ٣٦٨ ـ ١ / ٧٤ ، وفي الهمع ٣ / ٢٨٨ ، وفي الخزانة ٣ / ٤٠٣. وصدر البيت :

ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه

 ...

وفي بعض الروايات : وما أحاشي من الأقوام من أحد.

٢٤٧

فلما تصرفت على أنها فعل ، ومنها أنه قال : وجدنا الحذف يدخلها كقولك : حاشا لزيد ، والحذف إنما يقع في الأفعال والأسماء دون الحروف.

ومنها أنه قال : لو كانت حرفا لما جاز أن يتصل بها لام الجر إذ كان حرف (١) الجر لا يدخل على حرف جر ، وجميع (٢) ما ذكره أبو العباس يمكن تأويله ، فإذا أمكن تأويله كان ما حكى سيبويه أولى ، لأن ذلك متعلق بالحكاية عن العرب ، فلذلك صار قول سيبويه أقوى.

وأما قول النابغة وإنما اشتق من حاشا كما يقول القائل : قد حوقل الرجل وبسمل إذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله ، وبسم الله ، فكذلك تقدير قول النابغة ، أي هذا المعنى الذي في (حاشا) لا يمتنع قوله لجميع الناس فإذا أعمل ذلك لم يكن في البيت حجة ، فأما الحذف الذي ذكره فقد يوجد في الحرف مثله نحو (رب) و (من) فيجوز أيضا أن يحذف من (حاشا) لكثرة استعمالهم إياها ولاتصال الكلام بها ، وأما الجمع بينها وبين اللام فتقدير ذلك / أن تكون اللام التي للجر متعلقة بفعل آخر أو تكون زائدة فإذا كانت زائدة فلا شبهة في الكلام ، وإذا كانت متعلقة بفعل فالتقدير في قولك : ضربت القوم حاشا لزيد ، لأنك لما قلت حاشا أردت أن تبين من المميز فقلت لزيد أي أعني.

فإن قال قائل : كيف يتبين كلام غير تام ، وإنما يتبين الكلام إذا تممه المتكلم ولم يفهمه المخاطب فحينئذ يجب البيان؟

قيل : قد حكى سيبويه مثل هذه المسألة فقال : إنه المسكين أحمق وقال هذا

__________________

(١) في الأصل : الحرف.

(٢) جاء في الحاشية بإزاء كلامه في المتن كلام لم أتبينه.

٢٤٨

على طريق التبين يعني هو المسكين (١) فإذا كان قد بين بهو وخبر إن لم يحصل ؛ لأنه قوله أحمق فجاز مثل هذا على هذا إن شاء الله.

فلا خلاف في كونها فعلا وحرفا وإذا كانت فعلا نصبت ما بعدها ؛ لأن فيها ضمير الفاعل ، لأن الفعل لا يخلو من فاعل ، فلما استغنى الفعل بفاعله صار المستثنى فضلة كالمفعول فلذلك انتصب. فإذا قدرت (خلا) حرفا خافضا خفضت ما بعدها ونظير (خلا) (عدا) لأنها قد تكون حرفا وفعلا فإذا أدخلت (ما) على (خلا) لم يجز أن تكون إلا فعلا (٢) ؛ لأن (ما) إنما توصل بالفعل إذا كانت مصدرا لأنها تصير مع الفعل مصدرا ولا يجوز أن توصل بالحروف فلذلك وجب أن تكون (خلا) مع (ما) فعلا غير حرف ، فإذا كانت فعلا وجب النصب فيما بعدها.

فإن قال قائل : فما وضع (ما) مع (خلا)؟

فالجواب في ذلك أن يكون نصبا ؛ لأنه اسم جاء بعد استغناء الفعل بفاعله ، فلذلك وجب أن يكون موضعه (٣) نصبا ، وأما (غير) فهي اسم وتقع في الاستثناء موقع (إلا) فإن كان الاسم الذي قبلها مرفوعا منفيا رفعتها وكذلك إن كان مخفوضا خفضتها ، وإنما وجب ما ذكرنا ؛ لأن (غير) عاملة فإذا حلت محل إلا وجب أن يخفض المستثنى على جميع الوجوه ولا بد ل (غير) من إعراب فنقل إعراب المستثنى إليه ليدل ذلك على أنها قامت مقام حرف الاستثناء. وأما (سواء) الممدودة فيجب أن تكون منصوبة بالفعل الذي قبلها على جميع الجهات

__________________

(١) قال سيبويه : " وزعم الخليل أنه يقول : إنه المسكين أحمق على الإضمار ... كأنه قال : إنه هو المسكين أحمق وهو ضعيف ..." ١ / ٢٥٦ (بولاق).

وانظر أيضا : المسائل الحلبيات ١٤٦.

(٢) انظر : الاستغناء في الاستثناء ٢٩.

(٣) في الأصل : موضعها.

٢٤٩

لأنها ظرف غير متمكن فلم يجز أن ينقل إليها الإعراب مما بعدها فترفع وتخفض ؛ لأن ذلك يؤدي إلى تمكنها وهي غير متمكنة فلذلك لزمت وجها واحدا وحكم المقصورة كحكم الممدودة وإن لم يظهر فيها الإعراب.

واعلم أن الجرمي ترجم باب الاستثناء بالحروف على طريق المسامحة إذ كان أصل الباب (إلا) فلذلك غلب حكم الترجمة للحروف.

فإن قال قائل : لأي شيء كان أصل الاستثناء بإلا؟

قيل له : لأنه لا يخرج عن معناه ولا يفيد غيره وأما سواها مما يستثنى به فتخرج عن الاستثناء لمعان تدخله ، فصار في الحكم زائدا على حكم (إلا) ، فوجب أن يكون فرعا في الباب إذ زاد حكمه على ما يقتضيه حكم الباب ، وكانت إلا مختصة بما يقتضيه الباب فلذلك وجب أن تكون أصلا في الباب ، وإنما استثني بجميع ما ذكرنا على طريق التشبيه ب (إلا) ، فأما (غير) فإنما دخلت في الاستثناء لأنها توجب إخراج (١) المضاف / إليها من الحكم المتقدم قبلها كقولك : مررت برجل غيرك ، فمعناه أي اقتطعت بمروري آخر من الناس كلهم والاستثناء إنما هو اقتطاع شيء من شيء ، فلما ضارعت غير معنى الاستثناء أدخلت فيه.

حكم (سوى) و (سوى) كحكم (غير) لتقارب ما بينهما من المعنى.

فأما (حاشا) فمعناها تنزيه المذكور بعدها عما حصل لغيره فصارت منقطعة له من غيره فلذلك دخلت في الاستثناء.

فأما (خلا) و (عدا) فمعناهما المجاوزة ، والمجاوزة للشيء فيها معنى الانقطاع لمن جاوزته دون غيره ، فلذلك أدخلها في الاستثناء.

فأما (ليس) و (لا يكون) فاستعملتا أيضا في الاستثناء ، لأن النفي يوجب

__________________

(١) في الأصل كلمة لم أتبينها ، ولعلها كلمة (الاسم).

٢٥٠

إخراج المنفي من حكم غير النفي فإن ثبت له معنى آخر فصار فيها معنى الانقطاع فدخلا في حكم الاستثناء فإنما خصا بهذا (١) من بين سائر الأفعال ؛ لأن (ليس) تضمنت معنى النفي فلو استعمل غيرها احتيج إلى حرف آخر معها ، فلما تضمنت معنى حرف النفي كانت أولى بالاستعمال لنيابتها عن فعل وحرف ، إذ هي بتضمنها معنى الحرف تشبه ب (إلا) وأما (إلا أن يكون) فاستعملت لكثرة دوران (أن) و (يكون) في الكلام.

واعلم أن (ليس) و (لا يكون) معناهما في الاستثناء معنى الإيجاب لأنهما أقيما مقام (إلا) للإيجاب فلذلك لم يكونا للنفي فإذا قلت : أتاني القوم ليس زيدا ، فهو بمعنى قولك : أتاني القوم إلا زيدا ، وإنما استويا في هذا الحكم ؛ لأن (إلا) تخرج ما بعدها من حكم ما قبلها كما أن النفي له هذا الحكم فلهذا استويا.

واعلم أن (ليس) و (لا يكون) إذا أريد بهما الاستثناء يقدر فيهما ضمير اسمهما ولا يثنى ذلك الضمير ولا يجمع ولا يؤنث وإن كان ما قبله مؤنثا كقولك : جاءني النسوة ليس فلانة ، وتقدير المضمر : ليس بعضهم فلانة ، وكذلك : لا يكون بعضهم فلانة ، وإنما قدر الضمير بتقدير البعض ؛ لأن البعض ينتظم الواحد فما فوقه وهو مذكر في اللفظ وإن كان مضافا إلى مؤنث فلذلك لزما وجها واحدا ، وإنما وجب ذلك لأنهما قاما مقام الحرف أعني (إلا) وكانت (إلا) لا يختلف لفظها في جميع الوجوه وجب أيضا أن يكون ما قام مقامها على لفظ واحد فيجري مجراها ، ويدل استعماله على هذا الوجه أنه خارج عن أصله وملحق بحكم غيره.

أما إذا جعلت (ليس) و (لا يكون) صفات لما قبلها ولم تجعلها استثناء ثنيت وجمعت وأنثت فقلت : أتتني امرأة ليست فلانة ، وعلى هذا فقس ، وهذا الذي ذكرناه ينتظم في جميع هذا الباب إن شاء الله.

__________________

(١) في الأصل : فإنما خصا بهذا الأفعال من بين سائر الأفعال.

٢٥١

باب كم

إن قال قائل : لم وجب أن تبنى كم (١)؟

قيل له : إنما وجب بناؤها على الخبر لأنها نقيضة (ربّ) و (ربّ) معرب فوجب أن تجري نقيضتها مجراها إذ كان قد دخلها معنى الحرف ، ووجب بناؤها في الاستفهام لتضمنها معنى حرف الاستفهام ، فقد استحق البناء لما ذكرناه في الوجهين.

وإنما وجب أن تبنى على السكون ليكون بينه وبين حاله حال تمكن فصل ، وإنما وجب / أن يخفض بها في الخبر وينصب بها في الاستفهام لوجهين :

أحدهما : أنها في الخبر نقيضة (ربّ) ، فكما وجب الخفض (بربّ) وجب الخفض بنقيضتها.

والوجه الثاني : أن (كم) في الخبر للكثرة وفي الاستفهام يقع الجواب عنها بالقليل والكثير من الأعداد ؛ لأن المستفهم لا يدري قدر ما يستفهم عنه ألا ترى أنك إذا قلت : كم رجلا أتاك؟ جاز أن يقول : ثلاثة ، أو مئة ، لاحتمال الأمرين جميعا ، فلما كانت (كم) تقع في الاستفهام للتكثير والتقليل صار متوسط الحكم بين القليل والكثير فجعل لها حكم الأعداد المتوسطة بين الكثيرة والقليلة وما بين المئة إلى العشرة فما دونها ، فالعشرة فما دون للقلة ، والمئة فما فوقها للكثرة ، وبينهما هو المتوسط فلذلك جاز أن ينصب بها في الاستفهام ، وجعلت في الخبر خافضة (٢) حملا على لفظ العدد الكثير أعني المئة فما فوقها ، وإنما خصت بأن جعلت صدر الكلام لدخول معنى الاستفهام فيها [وجعلت في الخبر كذلك لأنها

__________________

(١) في الأصل : أي.

(٢) في الأصل خافظة.

٢٥٢

نقيضة (ربّ) و (ربّ) تقع صدر الكلام لأن فيها معنى النفي](١) إذ كانت القلة نفي الكثرة ، فلما دخلها معنى النفي والنفي له صدر الكلام حملت عليها لما ذكرناه.

فإن قال قائل : فلم جاز أن يعمل فيها ما يجر من بين سائر العوامل؟

فالجواب في ذلك : أن الجار والمجرور كالشيء الواحد ، فلا يجوز انفصال الجار من المجرور وقيامه بنفسه كما يجوز انفصال الرافع من المرفوع والناصب من المنصوب ، فصار تقديم الجار عليه ضرورة ، ولم يجز تقديم ذلك في الرافع والناصب إذ ليس مضطرا (٢) فيه إلى ذلك.

واعلم أنك إذا قدرت دخول الجار عليها بحال الاستفهام قدرت الأول (٣) الاستفهام على حرف الجر كقولك : على كم جذعا بيتك مبني (٤)؟ وإنما وجب التقدير على ما ذكرنا لئلا يتقدم العامل على حرف الاستفهام ، وأما ما في الخبر فالعلّة فيها ما ذكرنا والجار داخل عليها من غير توسط إن شاء الله.

واعلم أن النصب فيها على تقدير تنوين فيها كما أن النصب بخمسة عشر وأخواتها على تقدير التنوين بها فمن خفض بها في الاستفهام فعلى وجهين :

أحدهما : أن يكون قدر حذف التنوين ، ولم يجعلها كخمسة عشر بل جعلها بمنزلة العدد الذي لا ينون.

والوجه الآخر : أن يكون الخبر بتقدير (من) لكثرة استعمالهم إياها في هذا الموضع وإنما نصب بها في الخبر وقدر التنوين فيها وجعلها بمنزلة المستفهم بها.

__________________

(١) كتبت في الأصل على الهامش.

(٢) في الأصل : مضطر.

(٣) في الأصل : الأو.

(٤) انظر الكتاب ٢ / ١٦٠ (هارون). وعنده : على كم جذع بيتك مبني؟ وما ورد عند الوراق هو القياس. أما الذين جرّوا فقد أرادوا معنى (من) تخفيفا وصارت على عوضا منها.

٢٥٣

واعلم أنك إذا نصبت بها في حال استفهام لم يجز أن يكون بعدها الاسم إلا مفردا نكرة كما لا يجوز أن يذكر بعد العشرين إلا اسما مفردا نكرة. فأما في الخبر فيجوز أن يذكر بعدها الفعل خفضت أو نصبت ، لأنها تجري مجرى ثلاثة أثواب ، وثلاثة أثوابا ، إذا نون كما نون في العشرين ، وربما جاز الفصل بينها وبين ما تنصبه ، نحو قولك : كم عندك غلاما؟. وإن كان مثل هذا لا يجوز في العشرين لا تقول : هؤلاء عشرون عندك غلاما ، وربما سهل ذا في (كم) لأنه جعل الفصل فيها عوضا مما منعته من التمكّن ، ولزومها طريقة واحدة. ولم يجز ذلك في / العشرين لأنها متمكنة ، فمنعت تأخر معمولها على العامل فلذلك ضعف الفصل بينها وبين معمولها.

باب لا

اعلم أن (لا) تنصب الاسم تشبيها ب (إنّ) ، لأنها نقيضتها وهي تدخل على الأسماء كدخول (إنّ) عليها فوجب أن تنصب الأسماء كما تنصب (إنّ).

وإنما بنيت الأسماء مع (لا) لوجوه :

أحدها : لأنه جواب لقولك : هل من رجل في الدار ، والجار والمجرور بمنزلة الشيء [الواحد](١) جوابه إذا كان الناصب مع المنصوب لا يكون كالشيء الواحد.

ووجه آخر وهو أن تكون (من) مقدرة بين (لا) وما تعمل فيه فيكون الأصل : لا من رجل في الدار ، فلما حذفت (من) تضمن الكلام معنى الحرف ، والحروف مبنية فوجب أن تبنى (لا) مع ما بعدها لتضمها الحروف.

__________________

(١) في الأصل كلمة غير واضحة لعلها (فما هو).

٢٥٤

ووجه ثالث : أنها لما كانت مشبهة بالحروف في العمل وكانت الحروف مشبهة بالفعل صارت فرعا للفرع فضعفت فجعل البناء فيها دليلا على ضعفها.

واعلم أن النكرة التي تبنى مع (لا) في المفردة ، وإن كانت موصولة أو مضافة لم يجز البناء فيها ؛ لأن التنوين يصير في وسط الكلمة فيجري مجرى سائر الحروف ، والمضاف إليه يقوم مقام التنوين فيمنع أيضا من البناء ، وذلك نحو قوله : لا غلام رجل عندك ، ولا خيرا من زيد عندك ، فصار ما عوض فيها يمنع من البناء كما منع ذلك في المنادى.

واعلم أن النكرة التي تنصبها بالتبرئة أعني (لا) يراد بها الجنس ، ولا يراد بها نفي شخص واحد ؛ لأنها جواب تقتضي الجنس وليس يراد بها نفي شخص واحد ، فإذا قلت : لا رجل عندك ، فالمعنى لا واحد من هذا الجنس عندك ولا أكثر منه.

واعلم أن (لا) [و](١) ما تعمل فيه في موضع رفع بالابتداء ولا بد له من خبر وحكم خبره إن كان اسما أن يكون مرفوعا كخبر المبتدأ إذ كان هو الأول كقولك : لا رجل أفضل منك ، (٢) فأفضل منك خبر الابتداء ، وإن فصلت بين (لا) وما تعمل فيه بطل عملها ؛ لأنها مشبهة بالحروف فلم تقو على العمل مع الفصل ، ومع ذلك فإنها مع النكرة المفردة كاسمين جعلا اسما واحدا قام مقامهما ، فكما أن الفصل بين الشيئين اللذين هما كالشيء الواحد لا يجوز فكذلك أيضا لم يجز الفصل بين (لا) وما تعمل فيه إذ قد جريا مجرى شيء واحد.

واعلم أنك إذا رفعت ما بعد (لا) فعلى وجهين :

__________________

(١) زيادة ليست في الأصل.

(٢) انظر الكتاب ٢ / ٢٧٦ (هارون) هذا باب النفي بلا.

٢٥٥

أحدهما : بالابتداء ، فإذا قدرت هذا التقدير استوت المعرفة والنكرة بعدها إلا أن الأحسن إذا أردت هذا الوجه أن تكرر فتقول : لا زيد عندي ولا عمرو. ليكون الجواب عن المعرفة خلاف الجواب عن النكرة التي تؤدي معنى الجنس ، ولا يكون مفردا ؛ لأنه جواب : أزيد عندك أم عمرو؟ ولم يحسن الإفراد ؛ لأن هذا الموضع من مواضع (ما) ، فاستغنوا بها عن أن يستعملوا ذلك (لا) فلذلك لم يجز إفراد ما بعد (لا) في هذا الموضع ، وكذلك حكم النكرة بعدها.

والوجه الثاني : أن تشبهها بليس فترفع (١) / الاسم بها ، فإذا قدرتها هذا التقدير لم تعمل أيضا إلا في النكرة وإن كانت قد شبهت ب (ليس) فقد حصل لها الضعف بشبهها ب (ليس) ، ولم يختلف معناها ، فلذلك وجب في العمل أن تلزم طريقة واحدة ، أعني أن تختص بالعمل في النكرة دون المعارف ، ومتى فصل بينها وبين ما تعمل فيه وهي رافعة فالأحسن أن يبطل عملها لما ذكرناه من ضعفها. واعلم أنك إذا قلت : لا مسلمين لك ، فثبتت النون فعند سيبويه أن (لا) مبنية مع التثنية والجمع كبنائها مع الواحد ، ولم يجز حذف النون وإن حذفت التنوين من الواحد ؛ لأن النون أقوى من التنوين ، ألا ترى أنها تثبت مع الألف واللام والتنوين يسقط معهما؟ فقد بان أنه ليس يجب حذف التنوين ، وإنما جرت التثنية والجمع مجرى الواحد في البناء ؛ لأن إعرابها الواحد فصار بمنزلته (٢).

وأما أبو العباس المبرّد فيمنع من ذلك ويجعل التثنية والجمع منصوبين كنصب المضاف ، وإنما امتنع من ذلك ؛ لأنه لم يوجد في كلام العرب اسمان جعلا اسما واحدا والثاني مثنى أو مجموع (٣) فلهذا امتنع منهما. وقول سيبويه أولى

__________________

(١) انظر المغني باب (لا) ٢٦٢ ـ ٢٦٥.

(٢) للتفصيل انظر الكتاب ١ / ٣٤٥ ـ ٣٥٠ (بولاق).

(٣) للتفصيل انظر : المقتضب باب ما يقع مضافا بعد اللام ٤ / ٣٧٣.

وانظر أيضا : ٣٦٤.

٢٥٦

بالصواب ؛ لأنّا قد نثني حضرموت ونجمع فنقول : جاءني حضرموتان ، ونجمعه فنقول : حضرموتون ، إذ كان اسم رجل فقد لحقت التثنية والجمع الاسم الثاني وإن كان قد جعل اسما واحدا فكذلك يجب أيضا أن تلحق علامة التثنية والجمع فيها بعد لا ولا يتغير من حكم البناء شيء كما يتغير ذلك في حضرموت.

فأما الذي لم يوجد في كلام العرب فأن يكون الاسمان جعلا اسما واحدا ، والثاني مثنى أو مجموع في أول أحوالهما ، فأما ما تلحقه علامة التثنية والجمع ويزولان عنه فليس حكمه هذا الحكم فمن أجل هذا أدخلت الشبهة على أبي العباس والصحيح ما ذكرنا عن سيبويه.

واعلم أن لام الجر تزاد في النفي فيكون دخولها كخروجها فيصير الاسم الذي قبلها في تقدير المضاف إلى ما بعدها كقولك : لا مسلمي لك ، إذا قدرت اللام (١) زائدة لأنك في المعنى قد أضفت مسلمين إلى الكاف ولم يعتد باللام فلذلك حذفت النون وإنما فعلوا كراهة أن يضيفوا الاسم من غير توسط اللام فيصير في اللفظ معرفة و (لا) لا تعمل في المعارف ، فلما كان اللفظ يصير معرفة استقبحوا ذلك ففصلوا بينهما باللام ، وإنما كانت اللام أولى من سائر الحروف ؛ لأن الإضافة تضمنتها وإن كانت محذوفة ألا ترى أن معنى قولك : جاءني غلام زيد ، كمعنى جاءني غلام لزيد ، وإن كان الأصل معرفة يتعرف بالإضافة ، فلما كانت الإضافة تتضمن اللام أظهروها دليلا على أن الاسم نكرة ، وساغ أيضا ذلك من أجل حذف التنوين لأجل البناء فيصير دخول اللام عوضا من بناء الاسم ، فإن لم ترد باللام الزيادة أثبت النون وجعلت اللام وما بعدها خبر الابتداء إن شئت ، وإن شئت / جعلتها صلة للكاف ، وأضمرت الخبر كأنك قلت : لا مسلمين مملوكان لك مما يعرفه المخاطب من حكم الخبر.

__________________

(١) في الأصل : لك.

٢٥٧

باب الضمير

إن قال قائل : لم جاز أن يقع الاسم المرفوع والمنصوب ضميرا منفصلا ولم يكن في المجرور إلا ضميرا متصلا؟ فالجواب في ذلك : أن المرفوع والمنصوب يجوز أن يفصل بينهما وبين ما عمل فيهما ، والمجرور مع الجار كالشيء الواحد ولا يجوز الفصل فيهما ، فلما جاز الفصل في المرفوع والمنصوب وجب أن يكون لهما ضمير منفصل ـ وأعني بالمنفصل الذي يقوم بنفسه ولا يتصل بعامل ـ ولما كان المجرور لا يجوز انفصاله من عامله لم يكن له إلا ضمير واحد.

فإن قال قائل : هل الاسم أنا جملته أو بعضه؟

قيل له : الاسم (أن) والألف زيدت لبيان حركة النون والدليل على ذلك أنك إذا وصلت الكلام قلت : أن ، فسقطت الألف كقولك : أنا قمت ، ولو كانت الألف من نفس الكلمة لم تسقط ، وإنما كانت الألف أولى بالزيادة لأنها أخف الحروف ، وبعض العرب يجعل في موضع الألف الهاء إذا وقف فيقول : أنه ، وهذا يدلك على أن الألف ليست من بناء الاسم ، وإنما زيدت لما ذكرنا (١) وإنما كانت الألف أكثر من الهاء لأنها قد تتصل بالضمير إذ كانت أنّ العاملة قد يتصل بها ضمير الغائب كثيرا فلذلك كانت الألف أكثر استعمالا في هذا الموضع من الهاء.

وأما أنت فالاسم أيضا منه (أن) والتاء زيدت للمخاطب وليس لها موضع من الإعراب لأنها لو كانت لها موضع من الإعراب لم تخل من أن تكون رفعا ، أو نصبا ، أو جرا ، والتاء ليست من علامات المجرور ولا المنصوب فسقط أن يكون موضعها نصبا أو جرا ، ولم يجز أن يكون رفعا لأن العامل هو أن في قولك : ما قام إلا أنت ، فلو كانت التاء في موضع رفع لكنت قد جعلت للفعل فاعلين من

__________________

(١) للتفصيل انظر شرح تصريف المازني ١ / ٩.

٢٥٨

غير اشتراك بينهما في تثنية أو عطف ، ويتبين لك أنها لا موضع لها إذا دخلتها علامة كالهاء والتي تدخل علامة للتأنيث والعلامات لا تكون لها مواضع لأنها ليست أسماء (١) وأما قولنا (هو) فالاسم الهاء والواو جميعا ، وأهل الكوفة يجعلون الاسم الهاء وحدها (٢) ويستدلون على ذلك بإسقاط الواو في التثنية نحو قولك : هما ، وكذلك نسقط في الجمع نحو : هم ذاهبون.

فالجواب في هذا أن الحرف يسقط في التثنية والجمع إذا عرضت فيه علّة توجب إسقاطه وإن كان الحرف من أصل الكلمة ألا ترى إذا جمعنا قاضيا قلنا في جمعه : قاضون ، فأسقطنا الياء وهي لام الفعل ولم يدل إسقاطها على أنها زائدة وكذلك إسقاط الواو من التثنية والجمع من هما وهم لا يدل على زيادتها.

فإن قال قائل : فما العلّة التي من أجلها سقطت (٣) الواو؟

قيل : لأنها لو لم تسقط لوجب ضمها فكان إثباتها يوجب أن تكون مضمومة وقبلها ضمة وذلك مستثقل فحذفوها للاستثقال فكانت العلّة في / حذف الواو استثقال الضمة فيها فلهذا حذفت.

فإن قال قائل : فلم وجب أن تضم وهي مفتوحة في الإفراد؟

قيل : لأنها لو بقيت مفتوحة وقد زيدت عليها الميم والألف لتوهّم أنهما حرفان منفصلان في أمرين متصلين ، فوجب أن تغير الحركة التي كانت مستعملة في آخره كما غيرت في قولك : أنتما ، فدلت الضمة على أنهما شيء واحد ، فلذلك وجب ضم الواو فاعلمه.

__________________

(١) في الأصل : لأنها ليست لها أسماء.

(٢) قال ابن يعيش : " ... وقال الكوفيون : الاسم الهاء وحدها ، والواو مزيدة ..." شرح المفصل ٣ / ٩٦ (إدارة الطباعة المنيرية).

(٣) في الأصل : سقط.

٢٥٩

فإن قال قائل : فلم زيدت الميم في التثنية؟

ففي ذلك جوابان :

أحدهما : أن التثنية لما كانت توجب تغيير الواحد كثروا اللفظ أيضا بزيادة الميم إذ كانت هذه المكنيات قد تبنى على حرف واحد وأقل الأسماء أصولا يجب أن يكون على ثلاثة أحرف فلذلك زادوا الميم.

والوجه الثاني : أن القافية إذا كانت مطلقة تبعتها الألف ، فلما زادوا على [أنت] و [هو] ألف التثنية جاز أن يتوهم في بعض الأحوال أنها ألف الإطلاق.

وكما قال الشاعر :

يا مرّة بن رافع يا أنتا

أنت الذي طلقت عام جعتا (١)

فزادوا الميم ليزول اللبس ، وإنما كانت الميم أولى بالزيادة من بين سائر الحروف لأنها من زوائد الأسماء ، والمضمر اسم ، فلذلك وجب أن يزاد عليه الميم ، فإذا جمعت زدت واوا مع الميم لتكون الواو تحل محل ألف التثنية فتقول : أنتمو وهمو (٢) ، إلا أن هذه الواو تحذف استخفافا لأنه لا يشكل حذفه ويجوز أن يتكلم بها على الأصل ، فأما المؤنث فإنه في التثنية لا يختلف طريقها فلذلك استويا فإذا

__________________

(١) ورد هذا الرجز بروايات مختلفة منها :

يا أبجر بن أبجر يا أنتا

أنت ...

و:

يا مرّ يا ابن واقع يا أنتا

 ...

واستدلوا به على أن الاسم المنادى لما وقع موقع اسم الخطاب وجب أن يكون مبنيا كما أن اسم الخطاب مبني ، وجاء البيت في : أمالي ابن الشجري ٢ / ٣٠١ ، وروايته : يا أقرع بن حابس ، والإنصاف ١ / ٣٢٥ ، وشرح المفصل ١ / ١٢٧ ـ ١٣٠ ، وفي المقرب لابن عصفور ١ / ١٧٦ ، والمساعد ٢ / ٤٨٣ ، وأوضح المسالك ٣ / ٧٢ ، والهمع ٣ / ٤٦ ، والخزانة ٢ / ١٣٩ ، وقد نسب هذا البيت وهما للأحوص وقائله هو سالم بن دارة وصوابه : يا مرّ يا ابن واقع يا أنتا ، هذا ما جاء في حاشية ديوان الأحوص الأنصاري ٢١٦.

(٢) في الأصل : أنتموا وهموا.

٢٦٠