العلل في النحو

أبو الحسن محمد بن عبد الله [ الوراق ]

العلل في النحو

المؤلف:

أبو الحسن محمد بن عبد الله [ الوراق ]


المحقق: مها مازن المبارك
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
الطبعة: ٢
ISBN: 1-57547-843-9
الصفحات: ٤١٦

أحدهما : أن يكون مصدرا للفعل من لفظه ، فكأنه بدل من رحبت مرحبا ، وأهلت أهلا ، وإن لم يستعمل.

والوجه الثاني أن يكون مفعولا لفعل من غير لفظه كأنه قال : أصبت أهلا وأصبت مرحبا.

وأما لقيته فجاءة وما أشبهه فنصبه على وجهين :

أحدهما : أن تضمر فعلا بعد لقيته من لفظ فجاءة ينصبها ؛ لأن اللقاء قد يكون على ضروب ففيه دلالة مجيء فلهذا جاز إضماره.

والوجه الثاني : أن تجعل نفس لقيته عاملا فيه ؛ لأن اللقاء لما كان قد يقع على هذه الصفة صار لقيته بمنزلة فاجأته ، وكذلك أخذته عنه سماعا ، وأما قولهم : مررت بهم الجماء الغفير (١) فإنما قدر في موضع الحال كقولهم :

أرسلها العراك (٢)

ولم تجىء الأسماء غير المصادر في موضع الحال بالألف واللام وإنما قدرناه حالا ؛ لأن الفعل الذي قبله ليس من لفظه ، ولا يرجع إلى معناه إذ كان الغفير في المعنى إنما يراد بهم القوم ، والحال هو الاسم الذي قبلها فلهذا قدر في موضع الحال.

فإن قال قائل : فلم جاز في المصادر أن تقع موقع الحال وفيها الألف واللام؟

ففي ذلك جوابان : أحدهما : بأن يكون المصدر منصوبا بفعل من لفظه وذلك الفعل في موضع الحال فلما حذف الفعل قام المصدر مقامه فجاز أن يقال إنه في

__________________

(١) الكتاب ١ / ١٨٨ (بولاق).

(٢) الكتاب ١ / ١٨٧ (بولاق) وأورد عليها شاهدا بيتا للبيد بن ربيعة قوله :

فأرسلها العراك ولم يذدها

ولم يشفق على نغص الدّخال

وانظر المقتضب ٣ / ٢٣٧ ، والأصول ١ / ١٦٤.

٢٢١

موضع الحال كقولهم : أرسلها العراك ، فالتقدير : أرسلها تعترك (١) العراك ، فالعراك نصب على المصدر ، والمصادر تكون معرفة ونكرة ، وتعترك هو الحال فأقيم العراك مقامه (٢).

والوجه الثاني : أن المصادر التي فيها الألف واللام قد تقوم مقام فعل الأمر كقولهم : الحذر الحذر ، والأفعال مع فاعلها جمل ، والجمل نكرات ، فلما جاز أن يقوم المصدر الذي فيه الألف واللام مقام الفعل في الأمر / جاز أن يقوم مقام الحال لما ذكرناه ، واشتقاق الجمّاء من الجمّة وهو الشعر المجتمع على الرأس (٣) فمثّل كثرة الناس بالشعر وإنما أنث فقيل الجماء : لأن المصادر قد تؤنث كقولهم ضربته ضربة.

وإنما قيل الغفير بغير لفظ التأنيث ؛ لأنه فعيل في معنى مفعول ، كأنه غفر بعضهم بعضا أي غطى ، فلهذا لم يؤنث الغفير كما يقال : كف خضيب.

وأما قولهم : هذا زيد حقا ، والحق كالباطل فالنصب على المصدر كأنك قلت : أحقّ الحقّ ، وأحقّ حقا لا أتوهّم الباطل ، وإنما تذكر هذه المصادر بعد الجمل توكيدا ؛ لأن الخبر قد يكون حقا وباطلا فصار في الجملة دليل على أحق.

واعلم أنك إذا قدمت هذه المصادر بين المبتدأ وخبره جاز كقولك : زيد حقا أخوك ، فإن قلت : حقا : زيد أخوك لم يجز وإنما جاز توسيطها ولم يجز تقديمها ، لأنّا قد بينا أن هذه المصادر توكيد للجمل فلما قدمناها قبل الجمل بدأنا (٤)

__________________

(١) في الأصل : تعرتك.

(٢) هذا الوجه يمثل رأي ابن السرّاج بقولهم : أرسلها العراك.

(٣) في اللسان الجمّة بالضم : مجتمع شعر الرأس وهي أكثر من الوفرة ، ... والجمّة من شعر الرأس ما سقط على المنكبين ... والجمع جمم وجمام ، اللسان (جمم) ١٤ / ٣٧٤.

وكذا ورد في القاموس (جمم) ١٤٠٨.

(٤) في الأصل : لبدأنا.

٢٢٢

بالتوكيد قبل المؤكد فهذا فاسد ؛ لأن التوكيد تابع ، والتابع حقه أن يكون بعد المتبوع ، فأما إذا توسطت فقد تقدم قبلها ما تكون توكيدا له ، فلهذا افترق حال التقديم والتوسيط إن شاء الله.

فأما قوله تعالى (١) : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) [مريم : ١٩ / ٣٤].

فالرفع من وجهين :

أحدهما : أن يكون على خبر ابتداء محذوف.

والثاني : أن يكون قول الحق نعتا (٢) لعيسى ، وإنما جاز أن ينعت بالقول ؛ لأن الله تعالى قد سماه كلمته ، فجانس معنى القول فلذلك جاز أن ينعت به ، وأما قول رؤبة بن العجاج (٣) :

إن نزارا أصبحت نزارا

دعوة (٤) أبرار دعوا أبرارا

ففي قوله إن نزارا أصبحت نزارا دلالة على أنهم قد كانوا مختلفين ، ثم اجتمعوا وصاروا على دعوة واحدة فدلّ على قوله دعوا دعوة أبرار.

باب الظروف

إن قال قائل : لم تعدى الفعل إلى ظروف الزمان خاصا وعاما (٥) من غير توسط حرف الجر نحو قولك : قمت وقتا ، وقمت يوم الجمعة؟

__________________

(١) والشاهد في (قول).

(٢) في الأصل : نعت.

(٣) البيت منسوب لرؤبة بن العجاج في الكتاب ١ / ٣٨٢ ، وهو غير منسوب في المخصص ١٥ / ١٣٧ ، وفي شرح المفصل ١ / ١١٧.

(٤) في الأصل : دعوت.

(٥) في الأصل : خاصيا وعاميا.

٢٢٣

فالجواب في ذلك أن الفعل يدل بصيغته على الزمان وهو مضارع للزمان بنفسه ، فلما صار الزمان مشاركا للفعل هذه المشاركة استحق طرح حرف الجر منه إذ كان حذفه لا يشكل وهو أخف في اللفظ.

وأما ظروف المكان فالفعل لا يدل عليها من لفظه ، وإنما يدل عليها بالمعنى كما يدل على الفعل والمفعول ، إذا تعدى الفعل إليه بحرف جر لا يجوز حذف [حرف](١) الجر منه إلا أن يسمع ذلك من العرب ، ألا ترى أنك تقول : مررت بزيد ، ولا يجوز أن تقول : مررت زيدا ، وكذلك كان القياس في جميع ظروف المكان أن يتعدى الفعل إليها بحرف الجر كقولك : قمت في الدار ، وقمت في خلفك ، إلا أن الظروف المبهمة يجوز حذف حرف الجر منها ؛ لأنها قد أشبهت ظروف الزمان ، وذلك أنه ليس لها خلق كما أن الزمان لا خلقة له فباين بعضها بعضا ، وكذلك الخلف والقدام وما أشبه ذلك من هذه الظروف المبهمة يجوز أن تنقلب كلها فيصير الخلف قداما ، والقدام خلفا ، ألا ترى أن الجهة التي هي خلف ، إن تقدمها الشخص صارت قداما له ، وكذلك / حكم القدام له فلما كانت هذه الظروف شبيهة بظروف الزمان عدوّا الفعل إليها من غير توسط حرف الجر. ومع ذلك فإن هذه الظروف ليس يتعلق الفعل بها إلا على طريق الاستقرار ، ألا ترى أنه لا يحسن أن تقول : هدمت خلفك ولا قدامك ، كما تقول : هدمت الدار ، ولهذه العلّة جاز حذف حرف الجر منها.

فأما ما كان من ظروف المكان مخصوصا نحو : الدار والمسجد وما أشبه ذلك فلهذه خلق (٢) كزيد وعمرو ، ألا ترى أنه لا تسمى كل بقعة بمسجد ولا دار ، فلما جرت هذه الظروف مجرى زيد وعمرو وجب ألا يتعدى الفعل إليها إلا بحرف الجر (٣).

__________________

(١) كتبت في الأصل على الهامش.

(٢) في الأصل : خلف.

(٣) قال أبو علي : " الأماكن المختصة تشبه زيدا وعمرا في أن لكلّ ضرب منها جثثا متميزا بعضها من بعض ، ـ

٢٢٤

فإن قال قائل : من أين زعمتم أن الأصل في جميع هذه الظروف أن يكون الفعل متعديا إليها بتوسط حرف الجر؟

قيل له : لأن الأفعال التي تتعلق بها وتنصبها غير متعدية ، كقولك : قمت يوم الجمعة ، وقمت لا يتعدى ، ولما كانت الأفعال لا تتعدى تعدت بحرف الجر ، فكانت هذه الظروف مفعولا فيها في الحقيقة وجب أن يكون الأصل قمت في يوم الجمعة ، فحذف حرف الجر لما ذكرناه ، ووصل الفعل.

فإن قال قائل : أليس الحال مفعولا فيها ، فهل تقدر تقدير حرف الجر فيها كتقديره في الظروف؟

قيل له : الحال وإن كانت في معنى المفعول فليس حرف الجر مقدرا فيها كتقديره في الظرف فتحل الأفعال فيه فتنصبه ، والحال هي الاسم التي هي منه فاعلا كان أو مفعولا أو مجرورا كقولك : جاء زيد مسرعا ، فالمسرع هو زيد ، وليس بظرف ، فوجب أن يكون (مسرع) ليس بظرف له ولكنه مشبه بالظروف ، إذ كانت الحال تذكر على طريق توقيف الفعل وتبينه ، وكيف وقع ، كما يبين الظرف إن وقع مشابهة (١) الحال للظروف ، فقيل مفعولا فيها على التشبيه بالظروف ، لأن حروف الجر مقدرة فيها ، ألا ترى أنه لا يجوز إظهاره بحال ، والظروف إذا كني عنها ظهر حرف الجر مع المضمر كقولك : قمت يوم الجمعة ، فإذا أضمرت قلت : قمت فيه ، (٢) والحال لا يصح فيها هذا فجرت مجرى قولنا : إن زيدا مفعول به ، ليس قولنا : ضربت زيدا مقدرا معه حرف الجر ولكنه محمول على هذا المعنى ، وكذلك الحال لما شبهت بالظروف قيل مفعول فيها ؛ لأن حرف

__________________

ـ ومختصة ، فكما أن الفعل غير المتعدي لا يتعدى إلى زيد وعمرو ، كذلك إلى هذا النحو من الأماكن". انظر التعليقة على كتاب سيبويه ١ / ٢١٦.

(١) في الأصل : فشابهه.

(٢) انظر التعليقة على كتاب سيبويه ١ / ١١٨ ـ ١١٩.

٢٢٥

الجر مقدر فيها ، وإذا قلت : زيد خلفك ، فإنما وجب تقدير الاستقرار ، لأن زيدا مبتدأ فلا بد له من خبر ، والخبر يحتاج أن يتعلق بالمخبر عنه ، فلو لم تقدر الاستقرار لم يتعلق الخبر بزيد ، وأما القتال اليوم فلا يجوز أن يكون اليوم منصوبا (١) بالقتال ؛ لأنه لو انتصب به لصار من صلته فبقي المبتدأ بلا خبر ، وإذا كان كذلك وجب أن تقدر بعد القتال فعلا ينتصب اليوم به.

فإن قال قائل : فمن أين جاز أن تقوم المصادر مقام الظروف في قولهم : زيد مني مزجر الكلب ، (٢) وأتيتك مقام الحاج؟

قيل له : لأن الفعل لما كان دالا على المصدر والزمان دلالة واحدة اشتركا من هذا الوجه وإن الأفعال تقتضي الزمان فجرت المصادر مجرى الزمان فجاز أن تخلفها. /

فإن قال قائل : فهل يجوز القياس على ما سمع من العرب ، فيقال مكان السارية؟ قيل له : لا يجوز ذلك والسبب فيه أن هذه المصادر لما كانت معلومة المواضع في القرب والبعد جعلت تمثيلا للقرب والبعد ، فإذا قلت : زيد مني مقعد القابلة (٣) ، دل ذلك على قربه مني إذ كانت القابلة قد استقر قربها ممن تقبله في النفوس ، فإذا قلت : هو مني مزجر الكلب ، دل على إبعاده وإهانته ، فأما مكان السارية ومربط الفرس (٤) فليس لها مواضع مخصوصة ، وقد تكون قريبة وبعيدة ، فلما لم يستقر حكمها على قرب مخصوص ولا على بعد مخصوص ولم يجز أن تجعل تمثيلا لأحدهما لاحتمال أمرين فاعرفه ...

__________________

(١) في الأصل : منصوب.

(٢) الكتاب ١ / ٢٠٥ (بولاق) ، والرمّاني النحوي في ضوء شرحه لكتاب سيبويه : باب المكان المختص الجاري مجرى المبهم ص ٣٥٢.

(٣) الكتاب ١ / ٢٠٥ (بولاق).

(٤) الكتاب ١ / ٢٠٦ (بولاق). قال سيبويه في ذلك : فاستعمل من هذا ما استعملت العرب ، وأجز منه ما أجازوا.

٢٢٦

باب الحال

إنما وجب أن تكون الحال نكرة لأمرين :

أحدهما : أنها زائدة لا فائدة فيها للمخاطب ، فلو كانت معرفة لم يستفدها المخاطب ، ومع ذلك فلو جعلت معرفة لجرت مجرى النعت لما قبلها من المعرفة ، والنكرة أعم من المعرفة.

والوجه الثاني : وهو أجود الوجهين ، أن الحال هي مضارعة للتمييز لأنك تبين بها كما يتبين بالتمييز نوع المميز ، فلما اشتركا فيما ذكرناه وكان التمييز نكرة ، وجب أن تكون الحال نكرة ، وإنما قبح الحال من النكرة إذا قلت : جاءني رجل ضاحكا ، (فأجريت ضاحكا نعتا للرجل ، ثم لو قلت : جاءني رجل ضاحكا فنصبت ضاحكا) (١) على الحال كان معنى (٢) الحال ومعنى الصفة واحدا لأنك إذا قلت : جاءني رجل ضاحك ، فليس يجب أن يكون في حال الخبر ضاحكا ، وكذلك إذا نصبته على الحال ، فلما استوى معناهما كان النعت أولى من الحال ؛ لاتفاق اللفظ ، وليس كذلك حكم نعت المعرفة ؛ لأنك إذا قلت : جاءني زيد الظريف ، وجب ألا يكون الظريف حالا له وقت الخبر ؛ لأنك ذكرته لتبين به زيدا ، وزيد معرفة قد كان مستغنيا بنفسه فلما خفت اختلاطه بغيره من الزيدين بيّنته بالنعت ، وأما النكرة فليس عينا بائنا فالصفة إنما تفيد فيها تخصيصا ، وليس يجب بقاء ذلك التخصيص في حال الخبر ، فلهذا حسن الحال من المعرفة وقبح من النكرة ، (٣) ووجب جوازه فيها على التشبيه بالمعرفة ، وإنما وجب أن تقدم الحال

__________________

(١) كتبت في الأصل على الهامش.

(٢) مكررة في الأصل.

(٣) للتفصيل : انظر شرح الأشموني ١ / ٢٤٤.

٢٢٧

على العامل فيها إذا كان فعلا متصرفا (١) ؛ لأن الحال مفعولة فإذا كان العامل فيها فعلا متصرفا جاز تقديمها عليه ، كما يجوز تقديم المفعول على الفعل لقوة الفعل سواء كانت من اسم مضمر أو مظهر ، والفراء يمنع من تقديم الحال إذا كانت من اسم ظاهر (٢) نحو : ضاحكا جاء زيد ، قال ؛ لأن في ضاحك ضميرا يرجع إلى زيد لا يجوز تقديمه عليه ، وهذا ليس بشيء عندنا ؛ لأن الضمير إذا تعلق باسم وكان ذلك الاسم مقدما على شريطة التأخير جاز تقديمه كقولك : ضرب غلامه زيد ، لأن المفعول شرطه أن يقع بعد الفاعل فكذلك حكم الحال.

وأما إذا كان العامل معنى فعل لم يجز تقديم الحال عليه كقولك : المال لك خالصا ، فلو قلت خالصا المال لك ، لم يجز ؛ لأن الفعل ليس بملفوظ به / وإنما اللام بتأويل الفعل لأنها تفيد الملك ، فلما كان العامل ضعيفا لم يجز تصريفه ألا ترى أن (إنّ) وأخواتها لا تعمل فيما قبلها لضعفها.

فإن قيل : أليس إذا قلت زيد خلفك ضاحكا ، فالعامل في خلف فعل مقدر وهو استقر والمضمر من الأفعال يجري مجرى المظهر في عمله فهلّا جاز تقديم الحال على الظرف ؛ لأن العامل في الحقيقة ليس هو الظرف؟

قيل له : لأن هذا الفعل لا يجوز أن يجري مجرى غيره من الأفعال في جواز التصرف ؛ لأنه قد خلفه الظرف ، ومع هذا إن هذا الفعل حكمه مسقط (٣) بأن لا يجوز إظهاره فلما صار في حكم المسقط وأقيم مقامه ما ليس بفعل فضعف عمله (٤).

__________________

(١) قال ابن يعيش : " واعلم أنه إذا كان العامل فيها فعلا جاز تقديم الحال عليه ، فتقول : جاء زيد قائما ، وجاء قائما زيد ، وقائما جاء زيد ، كل ذلك جائز لتصرف الفعل ..." شرح المفصل ٢ / ٥٧.

(٢) جاء في الكافية شرح الاستراباذي : " واعلم أن الكوفيين منعوا تقديم الحال على صاحبها إذا كان صاحبها ظاهرا مرفوعا كان أو منصوبا أو مجرورا إلا في صورة واحدة وهي إذا كان ذو الحال مرفوعا ، والحال مؤخرا عن العامل فيجوزون : جاء راكبا زيد ، ولا يجوزون : راكبا جاء زيد ...". ١ / ٢٠٦.

(٣) في الأصل : مسقطا.

(٤) قال ابن يعيش : " فإن كان العامل في الحال معنى فعل لم يجز تقديمها على العامل ...".

وللتفصيل انظر شرح المفصل ٢ / ٥٧ ـ ٥٨.

٢٢٨

فإن قال قائل : فكيف جاز أن نقول : يوم الجمعة المال لك ، فتنصب يوم الجمعة بمعنى اللام والظرف مفعول فيه كما أن الحال مفعول فيها ، فمن أين اختلفا؟

قيل له : إنما جاز ذلك في الظرف لاحتوائه على الجملة المتعلق بها فصار في هذا المعنى تقديمه وتأخيره سواء ، وأما الحال فهي بمنزلة المفعول ، وليس فيها معنى الاحتواء فوجب أن يراعى فيها قوة العامل وضعفه.

واعلم أنما قبح من النكرة ؛ لأن معناها ومعنى الصفة سواء ، وذلك إذا قلت : جاءني رجل ضاحك ، فإنما أخبرنا عن مجيء رجل ضاحك ، ولم يجب أن يكون ضاحكا في حال خبرك ، فلما اتفق معنى الحال والصفة كان إجراء الصفة على ما قبلها أولى ؛ لأن اختلاف اللفظ لا يوجب اختلاف المعنى ، فإذا وجب أن يوفق بين اللفظين ، ويكون المعنى كمعنى المختلف كان أولى.

فأما المعرفة فالحال فيها مختلف كحكم الصفة وذلك أنك إذا قلت : جاءني زيد الظريف ، وجب أن يكون الظريف حالا له في حال خبرك ، ولو لا ذلك لم يحتج إليها ، لأن زيدا معروف ، وأما الحال فلا يجب أن تكون في الخبر فاصلة ، ولهذا حسنت الحال من المعرفة ، وقبحت من النكرة ، وقوله : أحسن ما يكون زيد قائما ، فأحسن رفع بالابتداء و (ما) مع (يكون) في موضع خبره لأنها مع الفعل مصدر ، ولا تحتاج إلى عائد يعود عليها إذا كانت مصدرا لأنها قد جرت في هذا الموضع مجرى (أن) كما لا تحتاج (أن) إلى عائد في قولك : أن يكون قائما أحسن ، فكذلك (ما) في هذا الموضع ، وعند الأخفش لا بد لها من عائد لأنها أبدا عنده اسم ، وإذا كانت اسما فلا بد لها من عائد إليها ففي هذه المسألة لا عائد عليها ، إذ هي بمعنى (أن) وهذا يدل على صحة قول سيبويه ، ونصب قائم على الحال (١) والعامل فيها فعل تقديره إذا كان قائما أو إذ كان قائما ، وإنما وجب إضمار (إذ) و (إذا) لأنهما يدلان على الزمان

__________________

(١) قال سيبويه : " ... فأما عبد الله أحسن ما يكون قائما فلا يكون فيه إلا النصب ، لأنه لا يجوز لك أن تجعل أحسن أحواله قائما على وجه من الوجوه ..." الكتاب ١ / ٢٠٠ (بولاق).

٢٢٩

الماضي والمستقبل ، وليس تخلو حال الإنسان من أن تكون ماضية أو مستقبلة ، فلهذا وجب إضمار (إذ) و (إذا) لدلالة الكلام عليها.

واعلم أن (أفعل) إذا أضيف إلى جنس كان من جنس ما أضيف إليه ، فلما أضيف أحسن إلى المصدر وجب أن يكون مصدرا والمصادر يكون خبرها ظروف الزمان فلهذا / احتجنا إلى إضمار (إذ وإذا) ، إذ كانا ظرفين من الزمان وموضعهما نصب بإضمار استقر كما تقول : القتال اليوم ، ولا يجوز أن تنصبهما بكان لأنها في موضع جر ب (إذ) و (إذا) والمجرور لا يجوز أن يعمل في الجار.

فإن قال قائل : فهلّا جعلت قائما نصبا على خبر (كان) أو (يكون) التي تلي (ما)؟

قيل له : لا يجوز ذلك لأنّا لو نصبنا قائما على خبر (يكون) لكان مع (يكون) من صلة (ما) وبقي أحسن بغير خبر ، فلهذا بطل أن يكون خبر يكون.

ووجه آخر أنه لو كان خبرا لجاز أن يقع معرفة ، والعرب لا تستعمل هذا إلا نكرة فدل ذلك على أنه حال ، وليس بخبر ، ولهذه العلّة لم يجز أن يكون خبرا لكان المضمرة.

واعلم أن الحال إنما يجوز في هذا الجنس من المسائل متى كانت راجعة إلى غير المصدر كقولك : ضربك زيدا قائما إنما هو راجع إلى زيد وإلى المتكلم ، وإذا كانت الحال راجعة إلى نفس المصدر لم يكن فيها إلا الرفع كقولك : ضربي زيدا شديد ، وإنما وجب الرفع ؛ لأن الأول هو الثاني فصار كقولك : زيد قائم.

واعلم أنه إذا جاز أن تقول : أرخص ما يكون السمن منوان (١) ، فتحذف خبر المنوين الراجع إلى المبتدأ الأول ؛ لأن السعر في نفوس الناس مستقر معلوم بدلالة

__________________

(١) الكتاب ١ / ٢٠٠ (بولاق) ـ المسائل الحلبيات ص ١٨٧ ـ ١٩٦ وجاء فيه : وذلك نحو قولهم : البر أرخص ما يكون قفيزان ، كأنك قلت : البر أرخص أحواله قفيزان.

٢٣٠

الكلام عليه ، وأما الراجع إلى المبتدأ فإنما حسن حذفه ها هنا ؛ لأن في الكلام أيضا دليلا أنه قد أحاط العلم أن المنوين ليسا جميع السمن إذ كان السمن اسم الجنس فصار ذكره بعد السمن يدل على أنهما بعض له ، والمحذوف منه (من) التي للتبعيض ، فلما كان في الكلام ما يدل عليه حسن حذفه.

وأما قوله : أخذته بدرهم فصاعدا ، فمعنى هذا الكلام أنك أشرت إلى عدل متاع وقع سعر ثوب منه بدرهم ثم غلا السعر فزاد على الدرهم فيكون التقدير أخذته بدرهم فزاد الثمن صاعدا. ونصب الثمن على الحال والعامل فيه زاد ، ولا يجوز أن يجعل بدل الفاء الواو كما تقول : أخذته وزيادة ؛ لأن قولهم : أخذته بدرهم وزيادة ، إنها إخبار عن شيء واحد وقع ثمنه الدرهم مع زيادة ، وأما أخذته بدرهم فصاعدا ، (١) فلست تريد أن تجعل صاعدا مع الدرهم ثمنا لشيء واحد ، وإنما الدرهم كان ثمنا لبعض الجملة ثم زاد السعر ، وإذا كان كذلك صار إدخال الواو يبطل هذا المعنى ، ولو جئت ب (ثمّ) في موضع الحال لجاز ذلك ، إلا أن الفاء أحسن وإنما كانت الفاء أحسن للاستئناف الذي في معنى دخولها هنا.

باب حروف العطف

اعلم أن (الواو) أصل حروف العطف ، والدليل على ذلك أنها لا توجب إلا الاشتراك بين الشيئين فقط في حكم واحد ، وسائر حروف العطف توجب زيادة حكم على هذا ، ألا ترى أن (الفاء) توجب الترتيب ، و (أو) للشك ، و (بل) للإضراب ، فلما كانت في هذه الحروف زيادة معنى على حكم العطف صارت في المعنى كالمركبة ، والواو مفردة فصارت كالبسيط ، والمركب بعد المفرد البسيط ، فلهذا صارت الواو أصلا.

__________________

(١) الأصول ٢ / ٣٠٢.

٢٣١

واعلم أن (إمّا) / في العطف أصلها (إن ما) فأدغمت النون في الميم ، والدليل على أن الأصل ما ذكرناه قول الشاعر (١) :

لقد كذبتك نفسك فاصرفنها

فإن جزعا وإن إجمال صبر

أراد (إما) والدليل على ذلك أنه لم يأت ل (إن) بجواب (٢) بعد البيت ولا قبله ، وذلك أن الفاء إذا دخلت على حرف الشرط لم يجز أن يكون ما قبلها جوابا لها كقولك : أنا أحبك فإن أتيتني ، ولو أسقطت الفاء صار ما قبلها جوابا (٣) فدلّ على ما ذكرناه أن البيت لا يحتمل إلا معنى (إما) وإذا كان كذلك صح أن أصلها من (إن) و (ما).

فإن قال قائل : (إما) هذه التي تكون للشك هي التي تكون للجزاء أو غيرها؟

قيل له : هي هي إلا أنها في الشك يلزم تكريرها ، وإنما انتقلت للجزاء ؛ لأن الشرط يجوز أن يكون ويجوز ألّا يكون ، ومعنى (إمّا) في العطف إيجاب أحد الشيئين ، لما تضارعا من هذا الوجه أدخلت في العطف ، أعني التي للجزاء مع (ما).

واعلم أن (إما) في العطف إذا تكررت فإن العاطفة منها الثانية لا الأولى ، وإنما أدخلت الأولى لوجهين :

__________________

(١) البيت من البحر الوافر ، وهو منسوب لدريد بن الصمة وهو في ديوانه ٦٨ ، وفي شرح أبيات سيبويه لابن السيرافي ١ / ٢٠٩ ، وفي أمالي ابن الشجري ٣ / ١٥٠ ، وفي الخزانة ١١ / ١٠٩ ، وهو بلا نسبة في الكتاب ١ / ٢٦٦ ـ ٣ / ٣٣٢ ، وفي الكامل ١ / ٣٧٨ ، وفي المقتضب ٣ / ٢٨ ، وفي شرح أبيات سيبويه للنحاس ١٢٤ ـ ٣٢١ ، وفي شرح المفصل ٨ / ١٠١ ، وفي المساعد على تسهيل الفوائد ٢ / ٤٦٣ ، وفي ارتشاف الضرب ٢ / ٢١٣ ، وفي الهمع ٥ / ٢٥٤.

ورواية الديوان : لقد كذبتك نفسك فاكذبيها ...

(٢) ونقل ذلك عنه أبو حيان أثير الدين الأندلسي في كتابه (تذكرة النحاة) ، ومطابقة النصين دليل على أن النص للوراق هذا صاحب العلل ، وليس لوراق آخر كما ذكر محقق التذكرة في الحاشية (٣) من الصفحة ١٠٩.

(٣) المعروف أن جواب الشرط لا يتقدم عليه ، وإذا تقدم عليه وجب حذف جملة الجواب. انظر حذف جملة جواب الشرط ـ المغني ٧٢١.

٢٣٢

أحدهما : أن يكون الابتداء بالشك أو التخيير ، وإنما احتاجوا إلى ذلك لئلا يتوهم أن ما قبل (إما) منقطع مما بعدها ؛ لأنه قد يستأنف بعدها الكلام ، فأدخلوا (ما) في الكلام ليعادلوا بين الاسمين إن شاء الله (١).

وأما (بل) فتستعمل على ضربين :

أحدهما : بعد النفي ، والآخر : بعد الإيجاب.

وإذا استعملت بعد النفي كان خبرا بعد خبر والثاني موجب والأول منفي ، كقولك : ما جاء زيد بل عمرو.

وإن استعملت بعد الواجب فما قبلها يذكر على وجهين :

إما على طريق الغلط ، وإما على طريق النسيان ، كقولك : جاء زيد بل عمرو ، وإنما صار الأول غلطا أو نسيانا ؛ لأنك أثبت للذي أتيت به بعد الأول المجيء ، وأضربت به عن الأول فعلم أنه مرجوع فيه ، وما جاء في القرآن من كلام الله تعالى و (بل) مستعملة فيه بعد إيجاب ، فهو على تقدير خبر واجب ؛ لأن الله عزوجل لا يجوز عليه الغلط والنسيان (٢) ، فلهذا قدرناها على ما ذكرناه.

وأما (لكن) فإنها إذا استعملت بعد النفي جرت مجرى (بل) بعد النفي ، وإذا استعملت بعد الإيجاب لم يجز أن يقع بعدها إلا جملة مضادة للجملة التي قبلها كقولك : جاءني زيد لكن عمرو لم يجئ ، وإنما لم يجز أن تقول : جاءني زيد لكن عمرو ، وتسكت ؛ لأن ذلك يوجب الغلط لما ذكرناه فقد استغني في ذلك ب (بل) إذ لا تحتاج العرب أن تكثر الحروف الموجبة للغلط ، فإذا كان كذلك وجب أن يكون ما بعدها مخالفا لما قبلها ليكونا خبرين مختلفين.

__________________

(١) لم يأت على ذكر الوجه الثاني.

(٢) وذلك مثل قوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ ، بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ)[الأنبياء : ٢١ / ٢٦].

٢٣٣

باب الصفة

اعلم أن الأصل ألا توصف المعارف لأنها وضعت في أول أحوالها تدل على شخص بعينه لا يشاركه فيه غيره وذلك أنهم سموا الشخص زيدا ، على تقدير أنه ليس في العالم بمسمى زيد سواه ثم التسمية للآخر على هذه النية ، فلما كانت الأشخاص أكثر من الأسماء اشترك في الاسم الواحد جماعة ، فإذا قال القائل : جاءني زيد ، فخاف ألا يعرف المخاطب زيدا الذي يعنيه (١) لاشتراك جماعة فيه بيّنه بالنعت فصارت / نعوت المعارف دواخل عليها إذ أشبهت النكرة من هذا الوجه.

وأما النكرة فالأصل فيها أن تنعت ؛ لأن الغرض في النعت تخصيص المنعوت ، فلما كانت النكرات مجهولة احتاجت إلى التخصص ، وإنما صار الاسم العلم معرفة ؛ لأنه وضع دلالة على شخص واحد بعينه من بين سائر أمته فلهذا صار معرفة.

وأما ما فيه الألف واللام فإنّما (٢) يذكر لمعهود قد عرفه المخاطب فيذكره بدخولهما هذا الشخص الذي قد عهده ، فلما كانت تدل على شخص بعينه صار الاسم بها معرفة.

وأما المضمر فإنما صار معرفة لأنك لا تضمر الاسم حتى تعرفه فصار المضمر يدل على شخص بعينه

وأما المبهم فإنما صار معرفة بالإشارة التي فيه فصارت الإشارة إذ كان يقصد بها شخص بعينه تجري مجرى ما فيه الألف واللام ، وأما النكرة فحدها أن يكون الاسم واقعا على اثنين فصاعدا يشتركان في التسمية ، ألا ترى أن قولهم : رجل ، يدل على من كان له بنية مخصوصة بهذا الاسم ، وليس كذلك الأسماء الأعلام

__________________

(١) في الأصل : بعينه.

(٢) في الأصل : إنما.

٢٣٤

لأنها وضعت للدلالة على معنى يخص الاسم ، ألا ترى أن أنقص البرية قد يجوز أن يسمى بزيد ، وزيد مأخوذ من الزيادة ، فعلمت لما ذكرنا.

واعلم أن حق النعت أن يكون تعريفه أنقص تعريفا من المنعوت ، ولا يجوز أن تنعت الاسم بالأخص ، وإنما وجب ما ذكرنا لأن المخاطب إذا كان قصده تعريف مخاطبه وجب أن يذكر له أخص الأسماء التي يعرفها المخاطب في الشخص حتى يستغني بها عن التطويل بالنعت ، وإذا ذكر أخصها لم يخل المخاطب من أن يعرفه أولا (١) يعرفه ، فإن عرفه لم يحتج إلى زيادة بيان ، وإن أشكل عليه بيّن بأخص صفة فيه ، حتى يعرفه المخاطب إذ كان اجتماع الأوصاف في شخص واحد لا يكاد يشاركه فيها إلا اليسير ، فلهذا تعرف لكثرة الوصف ، فإذا ثبت ما ذكرناه جاز أن ينعت الاسم العلم بثلاثة أشياء : أحدها : ما فيه الألف واللام ، والثاني المبهم ، والثالث المضاف إلى المعرفة ، وإنما صار الاسم العلم أخص من هذه الأشياء ؛ لأنه وضع في أول أحواله عليه وصفا واحدا من بين سائر الأشخاص ، وليس كذلك ما فيه الألف واللام ، لأن الألف واللام توجب على المخاطب تذكر العهود ، والاسم العلم تذكره إذ كان موضوعا لا يشاركه في هذا الاسم غيره ، والعهد قد يقع في أشياء مختلفة ، فلما كانت الألف واللام توجب ما ذكرنا من التذكر حتى يعرف الشخص بعينه صار أنقص رتبة مما لا يحتاج إلى تذكرة.

وأما المبهم فليس موضوعا لشيء بعينه ، ألا ترى أن الإشارة لا تختص بزيد دون عمرو ، فلما احتاج المشير إلى الشخص أن يميز بين الشخصين حتى يعرف المشار إليه بعينه صار هذا الحكم أنقص رتبة من الأعلام ؛ لأنه يعرف بغيره فصار تعريفه فرعا ، فلذلك صار أنقص من الأعلام مرتبة. وأما المضمر فإنه لا يجوز نعته لأنك لا تضمر حتى يعرفه المخاطب.

__________________

(١) في الأصل : أولى.

٢٣٥

وأما ما فيه الألف واللام فلا يجوز أن ينعت بالأسماء المبهمة ، لو قلت : مررت بالرجل هذا ، وأنت تجعل / (هذا) نعتا للرجل لم يجز ؛ لأن المبهم أخص مما فيه الألف واللام ، والدليل على ذلك أن تعريف ما فيه الألف واللام يتعلق بالقلب والعين جميعا ، فصار ما فيه تعريفان أقوى مما فيه تعريف واحد ، ولذلك جاز أن تنعت المبهم بما فيه الألف واللام ولم [يجز](١) أن ينعت ما فيه الألف واللام بالمضاف إلى الأعلام والمضمرات ، لأن العلم المضاف أكثر تعريفا مما فيه الألف واللام لما بيناه ، والمضاف يكتسب تعريفا من المضاف إليه فيصير المضاف إلى العلم والمضمر كأن فيه تعريفهما ، فلذلك لم يجز أن يكون نعتا لما فيه الألف واللام.

وأما المبهمات فإنما أصلها أن تنعت بأسماء الأجناس ؛ لأن الإشارة تقع أولا إلى ذات الشخص فينبغي إذا أشكل أمر الإشارة أن يبين بما تقتضيه الإشارة وهو اسم ، وإذا ذكرت الجنس فما أشكل بعد ذلك ذكرت الصفة المشتقة من الأفعال كقولك : يا هذا الرجل الظريف ، وقد يجوز أن تقول : مررت بهذا الظريف على وجهين : أحدهما : أن تجعل الظريف عطف بيان بهذا ، والثاني : أن تقيم الصفة مقام الموصوف ، ولا يجوز أن تنعت المبهمات بالمضاف الذي فيه الألف واللام ؛ لأن الإشارة تطلب العهد من الألف واللام ، ولذلك صارت المبهمات مع نعوتها كالشيء الواحد ، ولا يجوز الفصل بينها لما أحدثت في نعتها من المعنى وهو إبطال العهد ، والدليل على ذلك أنك تقول : جاءني هذا الرجل ، من غير تقدمة ذكر ، ولو قلت : جاءني الرجل ولم يتقدم عهد بينك وبين المخاطب فيه لم يجز فبان أن الألف واللام تسقط منها حكم العهد بالإشارة ، ولو جاز أن تنعت المبهمات بالمضاف إلى الألف واللام لصار المضاف معرفة بهما وصار في حكم المعهود ،

__________________

(١) زيادة ليست في الأصل.

٢٣٦

ولأجل تقدم الإشارة يجب أن يكون المشار إليه غير معهود ، لأنه لا يجوز اسم في حال واحدة معهودا وهو غير معهود (١).

واعلم أنه في الأسماء أسماء تضاف إلى المعرفة ولا تكون معرفة لمعان تدخل فيها فمن ذلك : شبهك ومثلك ، لم يتعرفا بالإضافة ؛ لأن المماثلة تكون من جهات وإنما تقيد المخاطب أنه مثله ، وليس يعلم من أي وجه يماثله ، فلذلك لم يتعرف إلا [أن](٢) يكون شخصان ، وقد اشتهرا في الشبه بين الناس ، فيكون على هذا الوجه معرفة ، فنقول : مررت برجل مثلك وشبهك ، المعروف بشبهك ، فلذلك تعرف على هذا الوجه.

وأما حسبك بمعنى حسب الاكتفاء وهو مبهم ، فلذلك لم يتعرف.

وأما شبيهك فلا يكون إلا معرفة ، لأنه من أبنية المبالغة ؛ فصارت المبالغة فيه تؤدي عن شبه المعروف فلذلك تعرف.

وأما غيرك فلا يكون إلا نكرة ؛ لأن معناه عند المخاطب مجهول فلذلك لم يقع معرفة.

وأما باب حسن الوجه ، فالأصل فيه أن يستعمل في غير المتعدية نحو : ظريف وحسن وكريم وما أشبه ذلك فتقول : مررت برجل حسن وجهه ، فحسن نعت للرجل ، والهاء في وجهه ترجع إلى الرجل ، والوجه فاعل للحسن فإن ثنيت الأول / أو جمعته أو أنثته لم تغير لفظ حسن ؛ لأن الوجه مذكر ، والفعل إنما يؤنث إذا

__________________

(١) جاء في المغني : " قال ابن عصفور : أجازوا في نحو (مررت بهذا الرجل) كون الرجل نعتا ، وكونه بيانا ، مع اشتراطهم في البيان أن يكون أعرف من المبيّن ، وفي النعت ألا يكون أعرف من المنعوت ، فكيف يكون الشيء أعرف وغير أعرف؟

وأجاب بأنه إذا قدّر بيانا قدرت (ال) فيه لتعريف الحضور ، فقد يفيد الجنس بذاته ، والحضور بدخول (ال) ، والإشارة إنما تدل على الحضور دون الجنس ، وإذا قدر نعتا قدرت (ال) فيه للعهد ، والمعنى : مررت بهذا وهو الرجل المعهود بيننا ، فلا دلالة فيه على الحضور ، والإشارة تدل عليه ، فكانت أعرف ...". انظر : المغني ٥١ ـ ٥٢.

(٢) زيادة ليست في الأصل.

٢٣٧

كان فاعله مؤنثا ، فلما كان فاعل الحسن مذكرا ليست فيه علامة التأنيث ولم يثن ولم يجمع لظهور فاعله ، فإن نقلت الضمير من الوجه إلى حسن صار الفعل للضمير ووجب أن تعتبر حال الضمير ، فإن كان مذكرا ذكرت فعله ، وإن كان مؤنثا لحقته علامة التأنيث ولم يعتد بالوجه ، وتثنيته وجمعه بحصول الضمير فيه ، فإذا استقر ما ذكرناه فبقي الوجه يحتاج إلى إعراب. وليس يجوز أن يبقى مرفوعا ؛ لأنه لا يكون لفعل واحد فاعلان فسقط رفعه ولم يبق له من الإعراب إلا النصب ، والجر أولى به ؛ لأن هذه الصفة ليست بمعنى فعل متعد فيستحق ما بعدها النصب فوجب أن يجري مجرى غلام زيد ، إلا أنك لما نقلت الضمير من الوجه اختارت العرب أن تعوض منهما الألف واللام ؛ لأن الألف واللام هما بمعنى الضمير لأنهما يعرفان ما دخلا عليه كما يعرف الضمير ، ومع ذلك فإن الألف واللام لما كانت للعهد والمعهود غائب جرتا مجرى الضمير ، إذ كان للغائب أعني الضمير فلذلك كانتا بالعوض أولى من سائر الحروف فتقول على هذا : مررت برجل حسن الوجه ، وبامرأة حسنة الوجه ، وقد يجوز أن تنون الصفة وتنصب الوجه تشبيها بضارب ، وإنما جاز أن يحمل عليه لاشتراكهما في الصفة وأنهما اسما فاعلين ، والتثنية والتأنيث يلحقهما فجريا مجرى شيء واحد ، فجاز أن يحمل أحدهما على الآخر ، فتقول : مررت برجل حسن الوجه ، ويجوز ألّا تعوض من الضمير ؛ لأنه قد علم أن الوجه للأول إذ كانت هذه الصفة ليست متعدية وكان إسقاطها أخف عليهم ، فإذا أسقطت الألف واللام جاز لك وجهان : الجر والنصب ، فالجر على الأصل ، والنصب على التشبيه بالمفعول.

ويجوز أن تدخل الألف واللام على الصفة لأنها لم تتعرف بما أضيف إليها وإن كان معرفة ، وإنما لم تتعرف به ؛ لأن المجرور فاعل في المعنى ، والفاعل لا يعرفه فعله ، فلما كانت إضافته لا يتعرف بها ، وكان حقه من جهة اللفظ أن يعرف

٢٣٨

لعلّة ، فلما منع ما يكون في نظيره جوّزوا فيه جمع الألف واللام والإضافة ، فتقول مررت بزيد الحسن الوجه ، (١) ويجوز أن تنصب الوجه على التشبيه بالمفعول ، وإن أسقطت من الوجه الألف واللام لم يكن إلا منصوبا ؛ لأن إضافته كانت على أصلها إذ كان شرط النكرة إذا أضيفت إلى معرفة أن تتعرف ، فلما جرى في بابه مجرى إضافة النكرة إلى المعرفة التي تعرف المضاف ، وكانت الألف مع هذه الإضافة لا يجتمعان أيضا [لم يجز](٢) أن يجتمع الألف واللام مع الإضافة إلى النكرة.

واعلم أن الفاعل في هذا الباب إذا كان مضافا إلى سبب الموصوف جاز فيه هذه الثمانية الأوجه (٣) كقولك : زيد حسن وجه أخيه ، وزيد حسن وجه الأخ ، وزيد حسن وجه الأخ ، وزيد حسن وجه أخ ، وزيد الحسن الوجه الأخ / وزيد الحسن وجه الأخ (٤). واعلم أن الفائدة في هذا النقل اختصار الكلام والمبالغة في مدح الأول ، وذلك أنك إذا نقلت الضمير خف اللفظ بالنقل لاستتار الضمير في الفعل ، وصارت الصفة في اللفظ الأول ولذلك صار مدحها.

__________________

(١) انظر أوجه الاسم الثاني (الوجه) في اللباب ١ / ٤٤٣ ـ ٤٤٦.

(٢) زيادة ليست في الأصل.

(٣) انظر للتفصيل الكتاب ١ / ٩٩ ـ ١٠٥ (بولاق). وخلاصة القول في معمول الصفة المشبهة : " أن يكون مرفوعا على اعتباره فاعلا لها ، ويجوز أن يكون منصوبا على التشبيه بالمفعول به إن كان هذا المعمول نكرة ، أو معرفة ، ... أو منصوبا على التمييز إن كان نكرة. ويجوز أن يكون مجرورا بالإضافة ... ولا فرق في هذه الأوجه الثلاثة بين أن تكون الصفة المشبهة مقرونة (بأل) أو مجردة منها ... ولا بين أن يكون المعمول مقرونا بها أو مجردا منها ... وينشأ من هذا التفريع صور متعددة أكثرها صحيح ، وأقلها غير صحيح. ومن المشقة والإرهاق أن نتصدى لحصر صورها ، ونحدد عددهما على الوجه الذي فعله بعض الخياليين ، فأوصلهما إلى مئات بل ألوف ، وانتهى به التحديد إلى ما لا خير فيه". النحو الوافي ٣ / ٢٤٠ ـ ٢٤١.

(٤) اكتفى الوراق بذكر ستة أوجه من الثمانية وأغفل الاثنين الباقيين وهما :

ـ زيد الحسن وجه أخيه (بوجود ضمير يعود على الموصوف).

ـ زيد الحسن الأخ وجها (بأن يكون مجردا من (أل) ومن الإضافة معا).

انظر النحو الوافي ٣ / ٢٣٤.

٢٣٩

باب التوكيد

اعلم أن الغرض في البدل خلاف الغرض في النعت ، وذلك أن النعت إنما يؤثر به بيانا للمنعوت فيصير في التقدير كجزء من المنعوت ، وأما البدل فالغرض فيه أن يجمع المخاطب البدل والمبدل منه على أنه قد يجوز أن يفهم بالمبدل منه وحده ، وقد يجوز أن يفهم بهما جميعا كقولك : مررت بأخيك زيد ، فالمخاطب يجوز أن يعرف زيدا باسمه أو بأنه أخ للمخاطب أو بمجموعهما ، فهذا (١) الفصل بين البدل والنعت ، وأما التوكيد فالغرض إثبات الخبر عن المخبر عنه وذلك أنك إذا قلت : جاءني زيد نفسه ، أخبرت أن الذي تولى المجيء هو بعينه ، فلذلك دخل التوكيد في الكلام ولهذه العلّة لم يجز أن تؤكد النكرة ؛ لأنه ليس لها عين ثابتة كالمعارف ، فلم يحتج إلى إثباتها إذ كانت لا تثبت بالتوكيد فلهذا أسقط التوكيد عنها.

ولما كانت المضمرات معارف جاز توكيدها ؛ لأن أعيانها ثابتة إلا أن يكون المضمر مجهولا فلا يجوز توكيده كالمضمر بعد رب نحو قولك : ربه رجلا ، وكالمضمر بعد نعم وبئس ، وما أشبه ذلك.

واعلم أن الأسماء التي يؤكد بها لها مراتب ، فالنفس والعين يجب تقديمهما على كل حال ، (٢) وإنما كانا بالتقديم أولى لأنهما قد يستعملان غير مؤكّدين كقولك : نزلت بنفس الجبل ، ورأيت عين زيد ، فلما كانا يستعملان مفردين لغير معنى التوكيد ، وكان (كلا) و (أجمعون) لا يجوز أن يستعملا إلا تابعين أو في تقدير التابع وجب أن يقدم ما يقوم بنفسه على التابع ، وأما تقديم (كل) على أجمعين فإنما ذلك ؛ لأن (كلا) قد تستعمل مبتدأة كقولهم : كلهم منطلقون ، ولا يجوز أن تقول : أجمعون منطلقون ، فلما كانت كل قد تستعمل مبتدأة ، وليس قبلها ما

__________________

(١) في الأصل : فلهذا.

(٢) يعني تقديمهما على غيرهما من ألفاظ التأكيد.

٢٤٠