العلل في النحو

أبو الحسن محمد بن عبد الله [ الوراق ]

العلل في النحو

المؤلف:

أبو الحسن محمد بن عبد الله [ الوراق ]


المحقق: مها مازن المبارك
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
الطبعة: ٢
ISBN: 1-57547-843-9
الصفحات: ٤١٦

كتاب

العلل في النحو

لأبي الحسن محمد بن عبد الله الوراق

المتوفى سنة (٣٨١ ه‍)

٢١
٢٢

بسم الله الرحمن الرحيم (١)

صلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما

قال أبو الحسن محمد بن عبد الله الورّاق رحمه‌الله وغفر له :

[باب علم ما الكلم؟](٢)

إن قال قائل : من أين علمتم أن الكلام ينقسم ثلاثة أقسام (٣)؟ قيل : لأن المعاني التي يحتاج إليها الكلام ثلاثة ؛ وذلك أن من الكلام ما يكون خبرا ويخبر عنه فسمى النحويون هذا النوع اسما ، ومن الكلام ما يكون خبرا ولا يخبر عنه فسمى النحويون هذا النوع فعلا ، ومن الكلام ما لا يكون خبرا ولا يخبر عنه فسمى النحويون هذا النوع حرفا ، وليس ههنا (٤) معنى يتوهم سوى هذه الأقسام الثلاثة فلهذا لا نشك فيما عدا هذه الأقسام ؛ إذ لا معنى يتوهم سواها (٥).

__________________

(١) الورقة الأولى من الكتاب ذكرت فيها التملكات ، لذلك كانت بدايته من الصفحة الثانية.

(٢) قمت بوضع عنوانات جزئية في الصفحات الثلاثين الأولى ، وذلك لعدم وجود ما يفصل بين الفقرات.

(٣) قال سيبويه : " فالكلم اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل" الكتاب ١ / ١٢ (هارون) ووجد الزجاجي هذا التقسيم في عدة لغات عرفها سوى العربية ، انظر الإيضاح ٤١ و ٤٥.

(٤) في الأصل : هاهنا.

(٥) انظر المرتجل ٥ ، إذ عرض ابن الخشاب نحوا من هذا الكلام.

٢٣

ووجه آخر : أن المعاني قد أحطنا بعلم جميعها والألفاظ يحتاج إليها من أجل المعاني (١) فإذا كان كل معنى لا يمكن أن يعبر عنه إلا بأحد هذه الأقسام الثلاثة دلّ ذلك على أن جميع الأقسام ثلاثة.

فإن قال قائل : فلم خصصتم القسم الأول بتلقيبه (٢) بالاسم ، والثاني بالفعل ، والثالث بالحرف؟ فالجواب في ذلك من وجهين :

أحدهما : أن غرض النحويين بهذا التلقيب الفصل بين هذه الأقسام ؛ إذ كانت معانيها مختلفة ، فإذا كان القصد باللقب إلى الفصل فليس لأحد أن يقول لم لقبتم هذا القسم بهذا اللقب دون غيره؟ إذ لا لقب يلقب به إلا ويمكن أن يعترض بهذا السؤال ، وقد وجب بحالة أن يخص بلقب ، فإذا وجب الشيء لم يجب الاعتراض عليه.

والوجه الثاني : أنه يمكن أن يجعل لكل لقب معنى من أجله لقب به ، والوجه في تلقيب ما صح أن يكون خبرا ويخبر عنه بالاسم ، لأن الاسم مشتق من سما يسمو أي ارتفع (٣) فلما كان هذا له مزيّة على النوعين الآخرين من أجل أنه شارك النوع الذي يكون خبرا في هذا المعنى ويفضله في أن الخبر يصح عنه ؛ وجب أن يلقب بما ينبئ عن هذه المزية فلقب بالاسم (٤) ليدل بذلك على علوه وارتفاعه على النوعين الآخرين.

__________________

(١) أثار الزجّاجي هذه العلّة ، انظر الإيضاح ٤١ ـ ٤٣ ، كما فصّل ابن الأنباري هذا المعني في أسرار العربية ٣ ـ ٤.

(٢) في الأصل : بتلقيب الاسم. وقد أثبت ما يناسب السياق.

(٣) ذهب البصريون إلى أن الاسم من السمو لأنه سما على مسماه وعلا ما تحته ، وذهب الكوفيون إلى أنه من الوسم لأنه سمة على مسماه.

انظر للتفصيل : الزجاجي ٤٣ ، وأمالي بن الشجري ٢ / ٦٦ (دار المعرفة ـ بيروت) وأسرار العربية ٤ والإنصاف في مسائل الخلاف : المسألة الأولى.

(٤) يعني أن الاسم امتاز من قسيميه بأنه يجوز أن يخبر عنه ، وأن يخبر به ، ولذلك ارتفع عن الفعل الذي يخبر به ولا يخبر عنه ، كما ارتفع عن الحرف الذي لا يخبر به ولا عنه.

٢٤

وأما النوع الثاني فلقب بالفعل ؛ وذلك أن قولك (ضرب) يدل على الضرب والزمان ، والضرب هو فعل في الحقيقة ، فلما كان ضرب يدل عليه لقّب بما دل عليه (١).

فإن قيل : فلم صار تلقيبه بالفعل الدال عليه دون الزمان وهو أيضا دال عليه؟ قيل : لأنه مشتق من لفظ المصدر ، وليس مشتقا من لفظ الزمان ، فلما اجتمع فيه الدلالة على المصدر واشتقاق اللفظ كان أخص به من الزمان لوجود لفظه فيه.

فإن قيل : فلم اشتق الفعل من المصدر دون الزمان؟ قيل : لأن الزمان دائم الوجود والمصادر أفعال تنقضي ، وإنما الغرض في اشتقاق الفعل من أحدهما ليدل عليهما ، فلما كانت الأفعال منقضية والزمان موجودا ، وجب أن يقع الاشتقاق من المصادر ليدل لفظ / الفعل عليهما من غير تذكار ، ولم يجتمع في الزمان إلى ذلك لوجوده ؛ فلهذا وجب الاشتقاق من المصدر دون الزمان.

ووجه آخر أن أسماء الأزمنة قليلة وأسماء الأنفس كثيرة ، فلو اشتق من الزمان لفظ الفعل ضاق الكلام ، ولم يكن فيه مع ذلك دلالة على المصدر ، فاشتق لفظ الأفعال من المصدر لأنها لا تفارقه وإن لم يكن لها اسم يحصرها.

وأما تسمية النوع الثالث بالحرف فالحرف في اللغة موضوع لطرف الشيء (٢) ، و [لمّا](٣) كان هذا النوع إنما يقع طرفا للاسم والفعل معا خصّ بهذا اللقب كقولك : أزيد في الدار؟ والألف إنما أدخلت للاستفهام عن كون زيد ولم تدخل (٤) هي لمعنى يختصها ، وهي في اللفظ حرف مع ذلك ، فاعرفه.

__________________

(١) أي أن الفعل مشتق من المصدر ، ولم يشتق من الزمن مع دلالته عليهما جميعا.

(٢) الطرف : منتهى كل شيء. التاج (طرف) ٦ / ١٧٦.

وفي الإيضاح ٤٤" سمي حرفا لأنه حد ما بين هذين القسمين ورباط لهما ، والحرف حد الشيء". وانظر أسرار العربية ١٢.

(٣) زيادة يقتضيها السياق.

(٤) مكررة في الأصل.

٢٥

باب حد الأسماء والأفعال والحروف (١)

واعلم أن للاسم حدا وخواص (٢) ، فحده كل (٣) ما دلّ على معنى مفرد تحته غير مقترن بزمان محصّل فهو اسم ، كقوله : رجل وفرس وما أشبه ذلك (٤) ، ألا ترى أن هذه اللفظة دالة على شخص مجرد من شيء سواه.

وأما الخواص فجواز دخول الألف واللام عليه ، والتنوين ، وحرف من حروف الجر ، ووقوعه فاعلا ومفعولا والإضافة والإضمار وما أشبه ذلك ، وأن يحسن معه ضرّ أو نفع (٥). وبعض النحويين لا يجعل علامة الاسم دخول هذه الأشياء ، فرارا من أن تلزمهم معارضة لقولهم : أتت الناقة على مضربها (٦) ، أي على الزمان الذي يضربها فيه الفحل ، وذلك أنه يقول إن المضرب قد دل على زمان وضرب ، وهو مع ذلك اسم ، وهذا ينقض حدّ الاسم!؟ فالجواب عن هذا السؤال أن يقال : إن المضرب وضع للدلالة (٧) على زمان فقط وإن كنا نفهم مع ذلك الضرب ، لاشتقاق اللفظ من الضرب ، وإذا كان المفهوم من دلالة وضع الاسم معنى واحدا

__________________

(١) هذا العنوان ليس في الأصل.

(٢) في الأصل : (وخواصا).

(٣) في الأصل : (كلما).

(٤) لم يحد سيبويه الاسم بل قال : " الاسم كرجل وفرس وحائط". الكتاب ١ / ١٢ (هارون). أما المبرّد فجعل حد الاسم" كل ما دخل عليه حرف من حروف الجر فهو اسم ، وإن امتنع من ذلك فليس باسم". المقتضب ١ / ٣ ، وانظر أصول ابن السراج ١ / ٣٦.

وقد عرض الزجّاجي أقوال النحاة في حد الاسم في إيضاحه ٤٨ ـ ٤٩ ، وكذلك ابن فارس في الصاحبي ٤٩ ـ ٥١ ، والخشّاب في المرتجل أما التعريف الذي اعتمده الورّاق فهو عند الزجّاجي تعريف المنطقيين وهو غير صحيح عند النحويين للاختلاف بينهما مذهبا وغرضا.

والعكبري في مسائله الخلافية ٤٣ حيث ناقش جميع الأقوال ، وفي التبين عن مذاهب النحويين ١٢١ ـ ١٢٨.

(٥) انظر التفصيل في الأصول ١ / ٣٨ ـ والمرتجل ٨ ـ ١٣ ، إذ قسم ابن الخشّاب الخواص إلى قسمين لفظية ومعنوية : فالمعنوية أن يكون فاعلا ومفعولا ، وأن يخبر عنه تارة ، ويخبر به أخرى ... وما دون ذلك فهي علامات لفظية.

(٦) الكتاب ٢ / ٢٤٧ (بولاق) ، والأصول ٣ / ١٤١ ، والتبيين للعكبري ١٢٥ وفيهما : أتت الناقة على منتجها.

(٧) في الأصل : لدلالة.

٢٦

فقد سلم لفظ الحد ، ونظير ما ذكرنا أن الأفعال إنما وضعت للدلالة على الزمان ، وإن كنا نفهم أن الفاعل منها يحتاج إلى مكان إلا أن ذلك نفهمه بالتأمل دون اللفظ ، فكذلك المضرب يجري في هذا المجرى ، يدل على صحة ذلك أن العرب إذا أرادت الدلالة على المصدر فقط قالت : المضرب ففتحوا الراء ، فلو كان المضرب يدل على المصدر لم يحتاجوا (١) إلى بناء آخر.

فإن قيل : فما قولكم في ضارب وما أشبهه من أسماء الفاعلين؟

قيل : دالة على الفاعل للضرب من جهة اللفظ ، وإنما يفهم معنى الزمان فيها بالنيّة ، وجاز ذلك لأن اسم الفاعل مشتق عن الفعل فجاز أن ينوى به الزمان لاشتقاقه من لفظ يدل على الزمان.

فإن قيل : أليس كان وأخواتها تدل على الزمان فقط ، فهلا جعلت اسما لدلالتها على معنى مفرد كدلالة (يوم) و (ليلة) وما أشبههما؟!

قيل : إنها وإن كانت تدل على الزمان فقط فقد صرفت تصريف الأفعال ومع ذلك فالغرض من ذكرها العبارة عن المعاني التي تقع في خبر المبتدأ فصارت كأنها دالة على ذلك المعنى والزمان جميعا ، ألا ترى أنك إذا قلت : كان زيد قائما ، دللت ب (كان) على قيام زيد في زمان واحد فلذلك وجب أن تجعل أفعالا.

وأما الفعل فحدّه أن يقال : / كل كلمة تدل على معنى وزمان محصل فهي (٢) فعل ، كقولك : ضرب وانطلق ، يدل على ضرب وانطلاق في زمان.

وله أيضا خواص فمن خواصه التصرف نحو : ضرب يضرب ، وذهب يذهب وما أشبهه : ومنه صحة الأمر نحو : اضرب واقتل وما أشبهه (٣).

__________________

(١) في الأصل : يحتاجون.

(٢) في الأصل : فهو ، وانظر حد الفعل في : مسائل خلافية ، للعكبري ٦٧.

(٣) اكتفى الورّاق بذكر خاصتين من خواص الأفعال دون الباقي ، كدخول قد عليه أو السين وسوف ، أو اتصاله ـ

٢٧

وأما الحرف (١) فحده ما دلّ على معنى في غيره نحو قولك : أخذت درهما من مال زيد ، ف (من) تدخل للتبعيض للمال ، والبعض هو الدرهم من المال. وإن شئت اعتبرته بامتناع حد الاسم والفعل منه أو بامتناع خواصهما منه (٢).

وأما إدخال الهاء في (العربية) (٣) ، فلأن المراد بالعربية اللغة العربية ، و (اللغة) مؤنثة فدخلت الهاء على المراد.

[باب مجاري أواخر الكلم]

وإنما قسمت العربية على أربعة أضرب (٤) ، لأن أصل الإعراب هو إلابانة ، والإعراب إنما يدخل في الكلام للإبانة عن المعاني (٥) وكأنا أردنا أن تنقسم العربية من حيث كانت مبنية عليه لا من حيث تصاريفها ، وإذا كان كذلك فالإعراب إنما هو بحركة أو سكون ، والحركة إنما تكون ضمة أو فتحة أو كسرة ، لا يمكن أن توجد حركة مخالفة لهذه الثلاثة ، والسكون الرابع فلهذا انقسمت أربعة أقسام.

فإن قال قائل : فلم صار الرفع والنصب يدخلان على الأسماء والأفعال ، واختص الجر بالأسماء والجزم بالأفعال (٦)؟ قيل : لأن أصل الإعراب إنما هو في

__________________

ـ بالضمير ، أو بتاء التأنيث. انظر الأشباه والنظائر ٢ / ٢٢ (مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق) وقد ذكر هنا خواص عامة وليست لنوع واحد من الأفعال كالماضي أو المضارع الذي يختص بالسين.

(١) يريد هنا بالحرف : حروف المعاني أو الأدوات. وقد فصّل السيوطي الحديث عنها من خلال آراء النحاة فيها ، انظر الأشباه باب الحروف ، ٢ / ٢٦ (مطبوعات المجمع).

(٢) كأنه هنا يعتمد على ما قاله الزجاجي. انظر الإيضاح ٥٤ ـ ٥٥.

(٣) قال سيبويه : هذا باب علم ما الكلم من العربية. الكتاب ١ / ١٢ (هارون).

وهذه هي كلمة العربية التي يتحدث عنها.

(٤) قال سيبويه في باب علم مجاري أواخر الكلم من العربية : " إنها تجري على ثمانية مجار ، وهذه المجاري الثمانية لجمعهن في اللفظ أربعة أضرب". الكتاب ١ / ١٣ (هارون).

(٥) انظر شرح هذا التعريف في الخصائص باب القول على الإعراب ١ / ٣٥ (دار الكتب المصرية) ، وهو تعريف الزجاجي للإعراب ، الإيضاح ٦٩.

(٦) عقد الزجّاجي بابين عن علّة امتناع الأسماء من الجزم ، وعله امتناع الأفعال من الخفض. الإيضاح ١٠٢ ـ ١٢٠.

٢٨

الأسماء دون الأفعال ، والدلالة على ذلك أن الأسماء لو لم تعرب لأشكل معناها ، ألا ترى أنك لو قلت : ما أحسن زيد ، لكنت ذاما له ، ولو قلت : ما أحسن زيد؟ لكنت مستفهما عن أبعاضه أيها أحسن ، ولو قلت : ما أحسن زيدا! لكنت متعجبا ، فلو أسقط الإعراب في هذه الوجوه لاختلطت هذه المعاني ، فوجب أن تعرب الأسماء ليزول الإشكال (١).

وأما الأفعال فإنها لو لم تعرب لم يشكل معناها لأنها بنيت لأزمنة مخصوصة ، فإعرابها وتركها لا يخلّ بمعناها ، والإعراب زيادة ، ومن شرط الحكيم ألا يزيد لغير فائدة ، فكان حق الأفعال كلها أن تكون سواكن ، إلا أن الفعل الذي في أوله الزوائد الأربع (٢) أشبه الاسم من أربع جهات (٣) :

أحدها : أن يكون صفة ، كما يكون الاسم كقوله : مررت برجل يضرب ، كما نقول : مررت برجل ضارب.

والثاني : أنه يصلح لزمانين أحدهما الحال والآخر الاستقبال ، ثمّ تدخل السين وسوف فتهيئه إلى الاستقبال ، كما أن قولك : ضارب لا يدل على شخص بعينه كما اختص الفعل بزمان بعينه.

والثالث : أن اللام التي تدخل في خبر إنّ ، تدخل على الاسم وعلى هذا الفعل كقولك : إن زيدا لقائم ، وإن زيدا ليقوم ، ويقبح دخولها على الماضي نحو : إن

__________________

(١) قال ابن فارس : " من العلوم الجليلة التي خصت بها العرب ؛ الإعراب الذي هو الفارق بين المعاني المتكافئة في اللفظ ، وبه يعرف الخبر الذي هو أصل الكلام ، ولولاه ما ميز فاعل من مفعول ، ولا مضاف من منعوت ، ولا تعجب من استفهام ...". الصاحبي : باب ذكر ما اختصت به العرب ٤٢.

وهذا الرأي السابق هو رأي جميع النحاة إلا قطربا ، انظر الإيضاح ٦٩.

(٢) يعني الفعل المضارع الذي يبدأ بواحد من حروف (أنيت).

(٣) انظر شرح الأشموني :(" وأعربوا مضارعا" بطريق الحمل على الاسم ؛ لمشابهته إياه : في الإبهام والتخصيص وقبول لام الابتداء ، والجريان على لفظ اسم الفاعل : في الحركات والسكنات ، وعدد الحروف وتعيين الحروف الأصول والزوائد ...) ١ / ٢٣.

٢٩

زيدا لقام ، فلما شارك الفعل المضارع الاسم في حسن دخول اللام عليه علمنا أن بينهما مشابهة ، وإنما قبح دخول اللام على الماضي لأن هذه اللام أصل دخولها على المبتدأ ونقلت عن موضعها لدخول إنّ عليها (١) ، وحق خبر المبتدأ أن يكون هو المبتدأ في المعنى (٢) ، فلما كان الفعل المضارع مشبها للاسم حسن دخول اللام عليه ولما بعد الماضي من شبه الاسم قبح دخولها عليه.

والرابع : أن قولك ضارب يصلح لزمنين ، وكذلك يضرب يصلح لزمانين ، وإنما صارت هذه / المشابهة لها تأثير لأن الاسم الواحد قد يقع لمسمّيات كثيرة (٣) ، فلما وقع المضارع لزمانين صار كالاسم الواقع لمسمّيين. بذلك صار هذا الوجه معتدا به في شبهه للاسم ، ولم يجز أن يعتد بكون ضرب دالا على الزمان الماضي ، فيجعل الماضي مشبها له في هذه الوجوه ، لأن دلالة الفعل على معنى واحد لا يوجب شبها بالأسماء ؛ لأن الاتساع إنما وقع في الأسماء لكون الاسم الواحد لمسميات لضيق الأسماء وكثرة المسمّين بها ، فما أشبهها من هذه الوجوه يجري مجراها وما دلّ على معنى واحد فهو على أصله ، فلما أشبه الفعل المضارع الاسم من هذه الجهات وجب أن يحمل على الاسم فيما يستحقه الاسم وهو الإعراب ، وإنما حمل على الاسم في الإعراب دون ما يستحقه الاسم من الجمع والتصغير وغير ذلك مما يخص الأسماء دون الأفعال لأن الإعراب لا يغير معنى الفعل بدخوله عليه ، وصار ما ذكرته يوجب معنى تغير الفعل وإخراجه إلى أن يكون اسما إذ كانت المعاني التي اختص بها الاسم مما لا يصح دخولها على الفعل ، اختص بها من حيث كان اسما ؛ فلذلك وجب أن يحمل الاسم على الفعل من

__________________

(١) لذلك سماها بعضهم اللام المزحلقة.

(٢) هذا ما عبر عنه سيبويه بقوله : " واعلم أن المبتدأ لا بد له من أن يكون المبني عليه شيئا هو هو". الكتاب ١ / ٢٧٨ (بولاق).

(٣) وهو ما يطلق عليه اسم المشترك اللفظي.

٣٠

أجل ما أشبهه في حكم لا يغير معناه ويلحقه (١) بمعنى الأسماء وهو الإعراب ، إلا أن الجزم لم يجز دخوله على الاسم (٢) لأنه لو دخل عليه لأوجب حذف شيئين : التنوين والحركة ، والاسم في نهاية الخفة فكان ذلك يؤدي إلى الإجحاف به ، فسقط الجزم من الأسماء وأدخل في الأفعال إذ كان الفعل ثقيلا يحتمل الحذف والتخفيف ، فاستقر الجزم للفعل كما ذكرنا وبقي من الإعراب ثلاثة أضرب وهي (٣) : الرفع والنصب والجر ، فالجر امتنع من الفعل (٤) لأن الجر إنما يكون بالإضافة ، والقصد بالإضافة تخصيص المضاف ، والفعل لو أضفت إليه لم تخص ما قبله ، ألا ترى أنك لو قلت : هذا غلام ، لكان مبهما ، فإذا قلت : هذا غلام زيد اختص على زيد ، فلو قلت : جاءني غلام يقوم لم يختص الغلام بإضافته إلى يقوم ، لأن القيام يكون من زيد ومن عمرو وسائر الناس ، فلهذا سقط الجر من الفعل. ووجه آخر وهو أن المجرور يقوم مقام التنوين ، والفعل لا يخلو (٥) من فاعل فكان يؤدي إلى أن يقوم مقام التنوين وهو وجه واحد ضعيف ، شيئان قويان وهما الفعل والفاعل ، فسقط الجر من الفعل وحصل في الاسم إذ كان محلا للإعراب.

وبقي من الإعراب الرفع والنصب ولم يعرض فيهما ما يوجب اختصاصهما أو أحدهما بالفعل والاسم فوجب أن يدخلا عليهما وحازت إضافة أسماء الزمان إلى الأفعال (٦) لأنها تضاف إلى المصادر والفعل يدل على مصدره كقولك : من كذب كان شرا له (٧) ، أي كان الكذب شرا له ، فلما جاز أن تقول : أعجبني يوم خروجك ، جاز أن تقول : أعجبي يوم تخرج.

__________________

(١) في الأصل : يحلقه.

(٢) قال سيبويه : " وليس في الأسماء جزم لتمكنها وللحقاق التنوين". الكتاب ١ / ٣ بولاق.

(٣) في الأصل : وهو. وهذا الضمير لا يناسب قوله" ثلاثة أضرب ...".

(٤) في الأصل : الرفع. وقد أثبت ما يناسب المعنى.

(٥) في الأصل : يخلوا. وسأعرض عن الإشارة إلى مثل ذلك لكثرته.

(٦) انظر الإيضاح ١١٢ ـ ١١٣ ـ ١١٤ ـ ١٣٨. حيث فصّل الزجّاجي الحديث عن إضافة أسماء الزمان إلى الأفعال.

(٧) انظر الكتاب ٢ / ٣٩١ ، (هارون ـ ط ٢) وانظر الأصول (١ / ٧٩ ـ ٢ / ١٧٦.

٣١

ووجه آخر : أن الفعل يدل على مصدر وزمان ، والزمان جزء من الفعل ، فلما جازت إضافة البعض إلى الكل / جازت إضافة الزمان إلى الفعل كما يجوز أن تقول : ثوب خزّ. وقال الأخفش (١) في ذلك إن جميع ظروف الزمان يتعدى الفعل إليها بغير توسط حرف الجر ، وظروف المكان إنما يتعدى الفعل إلى المبهم منها بغير توسط حرف الجر فجعلت إضافة ظروف (٢) الزمان إلى الفعل عوضا من ذلك (٣).

فأما (حيث) من ظروف المكان فيجوز إضافتها إلى الفعل تشبيها ب (حين) لأنها مبهمة في المكان كإبهام حين في الزمان ، فلذلك جاز إضافتها إلى الفعل ، فاستقر بما ذكرنا أن الجر للأسماء والجزم للأفعال ، وبقي الرفع والنصب مشتركين للأسماء والأفعال.

فإن قال قائل : قد قلتم إن أصل الأفعال السكون ثم بينتم وجوب الإعراب للمضارع ، فمن أين اختلف فعل الأمر ، والفعل الماضي فبنيتم الماضي على الفتح ، والأمر على السكون؟ فالجواب (٤) في ذلك أن الفعل الماضي قد حصلت له مشابهة بالاسم من وجه ، وذلك في الصفة نحو قولك : مررت برجل قام ، كما تقول : مررت برجل قائم ، ويقع موقع المضارع في الشرط كقولك : إن ضربت ضربت ، فهو بمنزلة : إن تضرب أضرب ، وفعل الأمر لا يقع هذا الموقع فجعل للماضي مزية على فعل الأمر ، ولم تبلغ هذه المزية أن توجب له الإعراب ، فوجب أن يجعل الماضي حكمه بين حكم المضارع وبين فعل الأمر فمنع الإعراب لنقصه عن المضارع ، وفضل بحركة لمزيته على فعل الأمر.

__________________

(١) هو الأخفش الأوسط أبو الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي ت ٢١٥ ، وكان بصريا.

انظر : طبقات النحويين واللغويين ٧٤ ، والإنباه ٢ / ٣٦ ، وإشارة التعيين ١٣١ ، والبغية ٢٥٨ ، ومعاني القرآن للأخفش ١ / ١٣.

(٢) في الأصل : حروف. وقد أثبت ما رأيته مناسبا.

(٣) للتفصيل انظر معاني القرآن للأخفش ١ / ٨٨ ـ ٨٩ باب إضافة الزمان إلى الفعل.

(٤) يشرح الورّاق هنا ما ذكره سيبويه في الكتاب ١ / ١٦ (هارون).

٣٢

فإن قال قائل : فلم جعلت تلك الحركة الفتحة؟ قيل : لأن الغرض بتحريكه أن تحصل له مزية على فعل الأمر ، وبالفتح نصل إلى غرضنا كما نصل بالضم والكسر. إلا أن الفتح أخف الحركات فوجب استعماله لخفته. ووجه آخر : وهو أن الجر لما منع الفعل ، وهو كسر عارض ، والكسر اللازم أولى أن يمنع الفعل ، فلهذا لم يجز أن يبنى على الكسر ولم يجز أن يبنى على الضم لأن بعض العرب (١) تجتزئ بالضمة عن الواو فتقول في قاموا : قام ، قال الشاعر (٢) :

فلو أن الأطبا كان حولي

وكان مع الأطباء الأساة

فلو بنى على الضم لالتبس بالجمع في بعض اللغات (٣) فأسقط للالتباس (٤) ، وأسقط الكسر لما ذكرناه ، فلم يبق إلا الفتح فبني عليه.

فإن قال قائل : ما تنكرون أن يكون فعل الأمر مجزوما بلام محذوفة ، لأن الأصل في قم : لتقم (٥) والدلالة في ذلك قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يونس : ١٠ / ٥٨](٦) فحذفت اللام والتاء ، وبقي الفعل مجزوما كما كان.

قيل له هذا يفسر من وجوه :

__________________

(١) قال الفراء في معاني القرآن : " إن إسقاط الواو لغة في هوازن وعليا قيس" ١ / ٩١.

(٢) البيت من البحر الوافر ، ولم يعرف قائله وهو في معاني القرآن للفراء ١ / ٩١ ، والإنصاف ١ / ٣٨٥ والرواية فيه (الشفاة) ، وأسرار العربية ٣١٧ والرواية فيه (الشفاء) ، والمساعد ١ / ٨٥ ، ارتشاف الضرب ٣ / ٣٠٩ ، وشرح المفصل ٧ / ٥ ـ ٩ / ٨٠ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٥١ ، والهمع ١ / ٢٠١ ، والخزانة ٥ / ٢٢٩.

(٣) في الأصل : اللغاة.

(٤) في الأصل : للإتباس.

(٥) هذا مذهب الكوفيين كما جاء في شرح الأشموني ١ / ٢٣.

" وأما الأمر فذهب الكوفيون إلى أنه معرب مجزوم بلام الأمر مقدرة ، وهو عندهم مقتطع من المضارع ، فأصل : قم : لتقم ، فحذفت اللام للتخفيف ، وتبعها حرف المضارعة ...".

(٦) والآية : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) ،انظر حجة القراءات ٣٣٣ وفيه أن يعقوب قرأها عن رويس وجعلها هي الأصل ؛ لأنها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمبسوط في القراءات العشر ٢٣٤.

٣٣

أحدها : أن حروف الجزم أضعف من حروف الجر لأن الفعل أضعف من الاسم ، والجر على هذا يجب أن يكون أقوى من الجزم ، وعوامل الجر لا يجوز حذفها ، وما هو أضعف منها أولى أن يحذف (١).

ووجه آخر : وهو أن هذه الزوائد أوجبت للفعل المضارعة للاسم ، فوجب أن يزول الإعراب الذي وجب من أجلها.

ووجه آخر : وهو أن شرط المعرب أن تعتقب (٢) في آخره الحركات (٣) باختلاف العوامل ، وشرط المبني أن يلزم طريقة واحدة ، فلما وجدنا فعل الأمر لا يزول عن السكون / وجب أن يلحق بحكم المبنيات دون المعرب (٤).

والأسماء لا يصح دخول الجزم عليها نحو : صه ومه : وما أشبه ذلك ، فقد بان بما ذكرنا أن فعل الأمر يجب (٥) أن يكون مبنيا على السكون (٦).

فإن قال قائل : لم صارت هذه الأسماء الستة تختلف أواخرها ، نحو : جاءني أخوك ، ورأيت أخاك ، ومررت بأخيك ، وغيرها من الأسماء إنما تختلف أواخرها بالحركات؟ (٧) فالجواب في ذلك من وجهين :

أحدهما : أن يكونوا جعلوا هذه الأسماء مختلفة الآواخر توطئة لما يأتي من التثنية والجمع ، وصارت هذه الأسماء أولى بالتوطئة من غيرها لأنها أسماء لا تنفك من إضافة المعنى ، والإضافة فرع على الأصل ، كما أن التثنية والجمع فرع على

__________________

(١) في الأصل : تحذف.

(٢) مكررة في الأصل.

(٣) في الأصل : الحركاة.

(٤) جاء في الأصل بعد (دون المعرب) : وليس معنى دخول معنى الأمر ، وفي الكلام اضطراب لا تستقيم معه الجملة.

(٥) في الأصل : يوجب.

(٦) تفصيل العلّة في الإنصاف المسألة : ٧٢ (فعل الأمر معرب أو مبني؟).

(٧) انظر الإنصاف المسألة : ٢ (الاختلاف في إعراب الأسماء الستة).

٣٤

الواحد ، فلما شابهت هذه الأسماء التثنية والجمع في هذا الحكم كانت أولى من غيرها التي لا مشاركة بينها وبين التثنية والجمع في هذا الحكم.

والوجه الثاني : أن هذه الأسماء تفرد في اللفظ فيصير إعرابها بالحركات نحو قولك : هذا أب ، ورأيت أبا ، ومررت بأب ، فقد لزمت أوساطها الحركات فلما ، ردّوها إلى أصلها في الإضافة وقد كانت أوساطها تدخلها حركة الإعراب أرادوا أن يبقوا هذا الحكم فيها ليدل بذلك على أنها مما يصح أن يعرب بالحركات في حال الانفراد فوجب أن يضموا أوساطها في الرفع فلما ضموا أوسطها انقلب آخرها واوا لأن أصلها فعل فحق أواخرها أن تقلب ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، والألف متى انضم ما قبلها صارت واوا وكذلك إذا انكسر ما قبلها صارت ياء ، فلهذا وجب أن تختلف أواخر هذه الأسماء بالحروف. واعلم أن الإعراب في الحقيقة مقدر في هذه الحروف إذ شرط الإعراب أن يكون زيادة على بناء الاسم ، ولا يجوز أن يكون ما تفتقر إليه الكلمة من بنائها إعرابا ، وإذا كان كذلك فالإعراب مقدر كما في الأسماء المقصورة ، وسنبين لم وجب تقديره ولم يستحق اللفظ به في موضعه.

فإن قال قائل : فلم وجب أن يكون الإعراب في آخر الكلمة دون أولها ووسطها (١)؟ فالجواب في ذلك أن الأوائل لا يصح أن تكون مواضع الإعراب لوجهين :

أحدهما : أن بعض الإعراب سكون ، فلو أعربت الأوائل لأدّى ذلك أن يبتدأ بالساكن ، وهذا محال ؛ لأن المبتدأ مهيج للنطق فلا يجوز أن يثير تهيجه حركة مع

__________________

(١) عقد الزجّاجي بابا عنوانه : لم يدخل الإعراب في آخر الكلمة دون أولها ووسطها؟

انظر الإيضاح ٧٦ وقد أيد الزجّاجي جميع النحاة في أقوالهم ، والأشباه والنظائر ١ / ١٨١ ؛ فقد عرض السّيوطي آراء بعض النحاة في هذه العلّة ، وأيّد الجميع فيما ذهبوا إليه أيضا.

٣٥

الحرف ، ولو جاز الابتداء بالساكن لكان ذلك شائعا في أكثر الحروف ، لأن الحركة غير الحروف ، فإذا جاز أن نجرد بعض الحروف من الحركة جاز ذلك في سائر الحروف ، فلما امتنع هذا الحكم عند من يخالف في هذا الموضع إلا في حرف أو حرفين (١) يقدر أنها ساكنة ، وإنما هو اختلاس الحركة مع ما ذكرناه لأن الابتداء بالساكن ممتنع.

والوجه الثاني : أن الابتداء لا بد له من حركة تختصه لما ذكرناه فلو أعرب الأول لم تعرف حركة الإعراب من حركة البناء فلهذا لم يجز أن تدخل في الأول.

ولم يجز أن تدخل في الأوسط لوجهين : أحدهما أن الوسط به / يعرف وزن الكلمة هل هو : فعل أو فعل أو فعل ، فلو أعرب الوسط اختلطت أيضا حركة الإعراب بحركة البناء.

والوجه الثاني : أن من الأشياء ما لا وسط له ، وهو ما كان عدده زوجا نحو ما كان على حرفين ك (يد ودم) وما كان على أربعة أحرف نحو (جعفر) وما كان على ستة أحرف نحو (عضرفوط) (٢) ، فلو أعرب الوسط لأدى ذلك إلى أن يختلف موضع الإعراب إذ كان ما ذكرناه من الأسماء لا وسط له ، فسقط أن تعرب الأوساط ، فلم يبق إلا الأواخر ، فلهذا صارت محلا للإعراب (٣).

ووجه آخر في العلل (٤) ، وهو أن الإعراب قد بينا أنه دخل لإفادة المعنى ، وهو زيادة على الاسم ، وإنما يعرف الشخص عند الفراغ من ذكر اسمه ، فيجب أن

__________________

(١) مكررة في الأصل.

(٢) العضرفوط : وهو العذفوط : دويبة بيضاء ناعمة ، يقال لها العسولّة. ويقال العضرفوط : ذكر العظاء ، ويقال هو من دواب الجن وركائبهم. وتصغيره : عضيرف ، وعضيريف وجمعه : عضافيط ، وعضرفوطات ، وعضارف.

اللسان (عضرفط) ، والتاج (عضرط) ، والقاموس المحيط (عضرط).

(٣) هذا رأي المبرد كما نقل الزجّاجي ، انظر الإيضاح ٧٦.

(٤) في الأصل : اللعل.

٣٦

يكون إذا فهم معنى الشخص أن يزاد عليه معنى الإعراب ، فإذا كانت معرفته إنما تقع عند الفراغ من الاسم فلا سبيل أن يكون الإعراب [إلا بعد](١) فهم الشخص ومعناه ولو كان على غير هذا لأشكل معناه.

فإن قال قائل : لم خصّوا التنوين من بين سائر الحروف فجعلوه علامة للانصراف؟ (٢) فالجواب في ذلك أن أولى ما يزاد من الحروف للعلامة حروف المد واللين ، وإنما صارت أولى لكثرة دورها في الكلام إذ لا كلمة تخلو منها أو من بعضها فكرهوا أن يزيدوا حرفا منها علامة للانصراف ، إذ كانت هذه الحروف تدل على التثنية والجمع فكان يؤدي زيادتها إلى أحد أمرين : إما اللبس بالتثنية والجمع ، أو يؤدي ذلك إلى ثقل اللفظ ؛ فسقطت زيادتها ولم يكن للحروف شيء أقرب إليها من التنوين لأن التنوين نون خفيفة.

وإنما لقب بهذا اللقب ليفصل بين النون التي يوقف عليها : وبين النون أعني التنوين الذي لا يوقف عليه.

وشبهت بحروف المد واللين أنها غنة في الخيشوم ، فليس على المتكلم فيه كلفة إذ لا يعتمد له في الفم ، فجرى مجرى الألف في الخفة ، إذ كانت هواء في الحلق فلهذا وجب أن يزاد التنوين علامة للانصراف.

فإن قال قائل : فما الذي أحوج إلى إدخال التنوين إلى الفصل الذي ذكرتموه؟ قيل له : لأن الأسماء كلها نوع واحد ثمّ دخل على بعضها ما أوجب له الشبه

__________________

(١) زيادة ليست في الأصل.

(٢) قال سيبويه : " اعلم أن بعض الكلام أثقل من بعض ، والأفعال أثقل من الأسماء ، لأن الأسماء هي الأولى وهي أشد تمكنا ، فمن ثمّ لم يلحقها تنوين ولحقها الجزم والسكون" الكتاب ١ / ٢٠ (هارون).

والأصل أن التنوين عندهم علامة للأمكن ، وتركه علامة لما يستثقلون ، لذلك جعله سيبويه فارقا بين المتصرف من الأسماء وغير المتصرف ، وجعله لازما للمتصرف منها لخفته. وانظر التفصيل أيضا في باب ذكر علّة دخول التنوين في الكلام ووجوهه الإيضاح ٩٧.

٣٧

بالحروف ، فهذا القسم يبنى على حركة أو سكون لأنه أشبه المبني وهو الحرف وذلك نحو : أي ، وكيف وما أشبه ذلك ، ووجه شبهه بالحروف أنه ناب عنها ، وذلك قول القائل : أين زيد؟ ينوب عن قوله : أفي الدار زيد؟ وما أشبه ذلك من الأماكن نحو السوق وغيره فلما ناب عن حرف الاستفهام وجب أن يبنى كبنائه ، ومن الأسماء ما دخلت عليه علّة أوجبت له الشبه بالفعل ، فهذا القسم يعرب إلا أنه لا يدخله الجر والتنوين ، كما لا يدخل الفعل الذي أشبهه (١). وقسم من الأسماء لم تعرض له علّة تخرجه عن أصله وهو الإعراب ، فلو لم يدخل التنوين عليه التبس بالمعرب الذي يشبه الفعل ، فلم يكن بد من علامة تفصل بينهما ، فهذا الذي أوجب أن يفصل بالتنوين بين المنصرف وغيره /.

فإن قال قائل : فلم أسقطتم التنوين في الوقف؟ قيل له : لأن التنوين تابع للإعراب ألا ترى أنه يدخل في المرفوع والمنصوب والمجرور ، فلما كان تابعا له والإعراب لا يوقف عليه وجب أن يسقط في اللفظ إذ كان تبعه من جهة اللفظ ، ألا ترى أن التنوين لا يوجد إلا بعد حركة ، فإذا وجب إسقاط حركة ما قبله تبعها (٢) في السقوط.

ووجه آخر قد ذكرناه وهو أي التنوين قد بينا أنه زيادة على الكلمة ، وحكم الزائد أنقص من حكم الأصلي فأسقطوه في الوقف ليدلوا بذلك على نقصه.

فإن قيل لك : هلا أسقط في الدرج وأثبت في الوقف؟

فالجواب في ذلك من وجهين أحدهما : أن السؤال يرجع على السائل ، لو صرنا إلى ما قال. فلما لم يفدنا إلا ما نحن عليه من الفرق لم يكن لأحد أن يعترض بهذا الاعتراض ، إذ لو فعلوا ما سامنا السائل لكان جائزا.

__________________

(١) يعني الممنوع من الصرف.

(٢) في الأصل : ما قبلها تبعه ، وقد أثبت ما يناسب السياق.

٣٨

والوجه الثاني : أن ما فعلوه أولى مما سامنا وذلك أن الإعراب قد استقر أن يثبت حكمه في درج الكلام وهو زيادة على الاسم ويسقط في الوقف فحمل التنوين عليه لاشتراكهما في أنهما علامتان زائدتان على الاسم ، فلما وجب في الإعراب كان ما ذكرناه لأنه عند الفراغ من الكلمة يجب أن تقع راحة المتكلم ، إذ كان آخر نشاطه آخر كلامه فأرادوا (١) أن يكون لفظه في هذه الحال أخف من لفظه في حال النشاط ، فجعل حال الدرج والتنوين لأنه موضع لاستراحته.

فإن قيل لك : فلم أبدلتم من التنوين ألفا في الوقف (٢) ، وهذا قد أدى إلى التسوية بين الزائد والأصلي على ما علمتم لأنه قد ثبت في الوقف والأصل ، لأن القصد من الفصل بين الزائد والأصلي أن يحصل للزيادة حال نقص في حال الوقف والدرج ، ولا يثبت في حال واحدة كثبات الأصلي ، والألف التي هي بدل من التنوين تسقط في الدرج كما يسقط التنوين في الوقف ، فقد فارق حكم الحرف الأصلي؟ وإنما أبدلوا من التنوين ألفا لأن الألف خفيفة ، وإن الإشارة إلى الفتح متعذرة لخفائه فكان البدل من التنوين ألفا يجتمع فيه أمران : أحدهما : بيان الإعراب فيما قبله ، والآخر : أن تكون هذه العلامة بها حال تثبت في الوصل والوقف حتى لا يسقط حكمها في الوقف بحال.

وإنما احتيج إلى ذلك لأن شرط العلامة أن تثبت في كل حال ، فلما عرض في ثباتها في جميع الأصول اللبس بالحرف الأصلي والتسوية بينها وبينه أسقط التنوين ، فيما ذكرناه وأثبت هاهنا لئلا يخل بحكمه.

__________________

(١) في الأصل : فأردوا.

(٢) للتفصيل انظر التصريف الملوكي ٣١ (إبدال الألف من النون) ، وأسرار العربية ٤٢ إذ يعرض ابن الأنباري آراء النحاة في مسألة الوقف وإبدال التنوين ألفا ، و ٤١٢ باب الوقف.

وانظر : المبدع في التصريف ١٦٢ ـ ١٦٣ ، والشافية بشرح الجاربردي حيث تحدث فيها عن ثلاثة مذاهب في إبدال التنوين أيضا في الوقف ١ / ١٧١.

٣٩

فإن قال قائل : لم يجب الوقف على السكون وعلى الإشارة إلى الضم والكسر (١)؟

قيل له : قد بينا أن الأصل إنما يجب أن يكون بالسكون ، والذي يشير إلى الضم والكسر ، فإنما غرضه أن يبين أن لهذا الحرف حال حركة في الدرج ، وبعضهم يروم الحركة.

والفصل بين الروم (٢) والإشمام (٣) أن الإشمام إنما يفهمه البصير دون الضرير لأنه عمل بالشفة بعد الفراغ من الحرف ، فأما الروم فهو الاختلاس للحركة وهو / مما يدركه البصير والضرير ، وهذه الثلاثة الوجوه يجوز في كل اسم قبل آخره ساكن ، فإن كان قبل آخره متحرك جازت الوجوه الثلاثة فيه وجاز وجه رابع وهو تشديد آخره كقولهم في عمر : عمرّ ، وفي خالد : خالدّ ، وإنما شددوا لأن الحرف المدغم لا يكون إلا ساكنا ، وقد علموا أن الجمع بين ساكنين لا يجوز في درج الكلام ، فإذا شددوا علم بالتشديد أن الحرف الآخر لا بد أن يتحرك في الوصل لسكون ما قبله (٤) وهو التشديد ، والتشديد أبين من روم الحركة ، فإذا وصلت سقط التشديد ، وهو إنما يجوز في المرفوع ويجوز أيضا في المجرور ، إلا الإشمام فإنه

__________________

(١) انظر للتفصيل المصدر السابق. (الشافية بشرح الجاربردي).

(٢) الروم : هو عبارة عن النطق ببعض الحركات حتى يذهب معظم صوتها ، فتسمع لها صويتا خفيا ، يدركه الأعمى بحاسة سمعه دون الأصم. أو كما عرفه الداني هو : " تضعيفك الصوت بالحركة حتى يذهب بذلك معظم صوتها فتسمع لها صوتا خفيفا يدركه الأعمى بحاسة سمعه ، ... ويكون عند القراء في الرفع والضم ، والخفض والكسر ، ولا يستعملونه في النصب والفتح لخفتهما ...".

(٣) الإشمام : هو عبارة عن ضم الشفتين بعد سكون الحرف من غير صوت ، ويدرك ذلك الأصم دون الأعمى. ويعبر عنه ويراد به خلط حركة بحركة ... ، ويطلق أيضا ويراد به خلط حرف بحرف ، وقد عرفه الداني بقوله : " هو ضمك شفتيك بعد سكون الحرف أصلا ، ولا يدرك معرفة ذلك الأعمى لأنه لرؤية العين لا غير إذ هو إيماء بالعضو إلى الحركة ، ويكون في الرفع والضم لا غير ، وقولنا : الرفع والضم ، والخفض والكسر ، والنصب والفتح نريد بذلك حركة الإعراب المنتقلة ، وحركة البناء اللازمة.

انظر التيسير في القراءات السبع ، للإمام الداني : ٥٩ ، شرح الشافيه للاستراباذي : ٢ / ٢٧٥ ، والتمهيد في علم التجويد للجزري ٧٣.

(٤) في الأصل : قبلها.

٤٠