العلل في النحو

أبو الحسن محمد بن عبد الله [ الوراق ]

العلل في النحو

المؤلف:

أبو الحسن محمد بن عبد الله [ الوراق ]


المحقق: مها مازن المبارك
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
الطبعة: ٢
ISBN: 1-57547-843-9
الصفحات: ٤١٦

صالحا ، ويا زيد وخيرا من عمرو ، وكذلك لو قدمت هذه الأسماء التي تستحق النعت ثم عطفت عليها بمفرد معرفة ضممته إذ كان حكم كل واحد منهما كأنه منادى في نفسه إلا أن يكون المنادى معرفة منفردة فعطفت عليها باسم فيه ألف ولام فإنه يجوز ذلك فيما فيه الألف واللام الرفع ، والنصب كقولك : يا زيد والحارث (١) ، وإن شئت نصبت الحارث وقد قرئ بالوجهين جميعا ، (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) [سبأ : ٣٤ / ١٠](٢) ، وقرأ الأعرج بالرفع (٣) ، فأما الرفع فعلى العطف على اللفظ ، وأما النصب فبالعطف على الموضع ، وإنما جاز فيه الوجهان لأن (يا) لا يصح أن يدخل [على](٤) ما فيه الألف واللام ، أن يلي (٥) حرف النداء لم يكن له حكم يختص به كما كان ذلك لما ذكرناه من الأسماء المضافة والمفردة ، فلما لم يكن له حكم يختص به وكان الاسم الذي قبله له لفظ ومعنى حمل ما فيه الألف واللام على اللفظ مرة إذ كان اللفظ قد يجري مجرى لفظ المرفوع ، وحمل مرة على الموضع إذ كان نصبا.

واعلم أن الرفع عند سيبويه ومن تابعه الوجه (٦) ، وأما أبو عمر الجرمي وأبو عثمان (٧) ومن تابعهما فإنهم يختارون النصب (٨) والحجة لمن اختار الرفع قوية

__________________

(١) في الأصل : الحرث.

(٢) والآية (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ).

(٣) قرأ روح وزيد عن يعقوب (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) بالرفع مثل قراءة عبيد بين عمير والأعرج وغيرهما ، وقرأ الباقون ورويس (والطير) بالنصب. المبسوط في القراءات العشر ٣٦٠ ، ومعجم القراءات القرآنية ٥ / ١٤٦.

(٤) زيادة ليست في الأصل.

(٥) في الأصل : يليه.

(٦) قال سيبويه : " وتقول : يا زيد ويا عمرو ، وليس إلا أنهما قد اشتركا في النداء في قوله : يا ، وكذلك يا زيد وعبد الله ، ويا زيد لا عمرو ، ويا زيد أو عمرو ، لأن هذه الحروف تدخل الرفع في الآخر كما دخل في الأول ، وليس ما بعدها بصفة ولكنه على يا ... ، فأما العرب فأكثر ما رأيناهم يقولون يا زيد والنضر وقرأ الأعرج ... ، وقال الخليل : هو القياس كأنه قال ويا حارث ...". الكتاب ١ / ٣٠٥ (بولاق).

(٧) يعني المازني وقد مرت ترجمته.

(٨) قال المبرد : " واعلم أن المعطوف على الشيء يحل محله ، لأنه شريكه في العامل نحو : مررت زيد وعمرو ... فعلى هذا تقول : يا زيد وعمرو أقبلا ، لأن (عبد الله) إذا حل محل (زيد) في النداء لم يكن إلا نصبا ...".

٢٠١

وذلك أن ما فيه الألف واللام لفظه لفظ المفرد ، وهو معرفة فصار التعريف فيه بالألف واللام كالتعريف بالقصد مع (يا) ، ألا ترى أن قولك : يا رجل ، إذا قصدت قصده فجرى في التعريف مجرى ما فيه الألف واللام بمنزلة المفرد المعرفة العلم ، ولو عطفت على الأول أعني الذي فيه الألف واللام لم يجز فيه إلا الضم ، ووجب أن يختار ما يشاكله وهو الرفع ، وأما من اختار النصب [فقد](١) جعل الألف واللام مقام التنوين والإضافة ، فلو كان الاسم مضافا أتوا (٢) بالنصب فكذلك ما قام (٣) مقامهما فوجب لهما النصب وهذه العلّة فيها إدخال ، وذلك أن التقدير لو كان صحيحا لوجب النصب في النعت إذ كانت فيه الألف واللام ولم يجز رفعه كما يجوز رفع المضاف ، فلما كانت الألف واللام في النعت لم توجب نصبه علمنا أنهما لا يجعلان الاسم كالمضاف ، وإذا كان كذلك جرى ما فيه الألف واللام مجرى المفرد العلم المعرفة ، فكان الأولى فيه أن يكون مرفوعا ليشاكل لفظ ما قبله.

واعلم أن ما فيه الألف واللام لا يجوز أن تدخل [يا](٤) عليه ؛ إلا اسم الله تعالى (٥) ، وإنما لم يجز ذلك ؛ لأن الألف واللام تعريفهما من جنس تعريف (يا)

__________________

ـ وقال أيضا : " فإن عطفت اسما فيه ألف ولام على مضاف أو منفرد فإن فيه اختلافا.

أما الخليل ، وسيبويه ، والمازني فيختارون الرفع ...

وأما أبو عمرو ، وعيسى بن عمر ، ويونس ، وأبو عمر الجرمي فيختارون النصب ...".

ثم يقول : " والنصب عندي حسن على قراءة الناس ..." المقتضب ٤ / ٢١١ ـ ٢١٣.

ونرى المبرد هنا يضع المازني بين من يختار الرفع ، في حين صنّفه الورّاق بين من يختار النّصب ، وكذلك إذا عدنا إلى شرح المفصل نرى ابن يعيش يؤيد المبرد في مذهب المازني. شرح المفصل ٢ / ٣.

(١) زيادة ليست في الأصل.

(٢) في الأصل : أمنوا.

(٣) في الأصل : مقام.

(٤) زيادة ليست في الأصل يقتضيها السياق.

(٥) قال سيبويه : " واعلم أنه لا يجوز لك أن تنادي اسما فيه الألف واللام البتّة ، إلا أنهم قد قالوا يا الله اغفر لنا ، وذلك من قبل أنه اسم يلزمه الألف واللام لا يفارقانه ، وكثر في كلامهم فصار كأن الألف واللام فيه بمنزلة الألف واللام التي من نفس الكلمة ...". الكتاب ١ / ٣٠٩ (بولاق) ، وشرح المفصل ٢ / ٩ (إدارة الطباعة المنيرية).

٢٠٢

مع القصد وهما لفظ ممكن إسقاطه من الكلمة ، فلما نابت (يا) مع القصد عنهما لم يحتج إليها والدليل / على أن تعريف الألف واللام من جنس تعريف (يا) مع القصد لأنك لو قلت في ضرورة الشعر : يا الرجل ، لكان كمعنى يا رجلا ، لأن الألف واللام تبطل مع العهد ويصير تعريفها للجنس فقط ، والدليل على أن العهد ساقط أعني مع العهد أنه يجوز للشاعر أن يقول : يا الرجل (١) من غير تقدمه (٢) ذكر فإذا كانت يا تنوب عنها لم يحتج إليها فهذا هو الأصل وإن اضطر شاعر فأدخل يا على الألف واللام جاز كما قال (٣) :

فيا الغلامان (٤) اللذان فرا

إياكما أن تكسبانا شرا

فوجد ذلك أنه أراد : يا أيها (٥) الغلامان ، فحذف (المنادى) (٦) وهو (أي) وأقام الصفة مقامه ، واما اختصاص (يا) باسم الله تعالى فجواز دخول يا عليها فلاجتماع أشياء فيه ليست موجودة في غيره أحدها : كثرة الاستعمال ، ومنها أنه جرى مجرى الأسماء الأعلام ، ومنها أن الألف واللام لا يفارقانه ، ومنها أن الأصل فيه إله (٧) ، فلما أدخلت فيه الألف واللام أسقطت همزة إله فأدغمت لام التعريف في اللام التي بعدها فصارت الألف واللام عوضا من الهمزة الساقطة

__________________

(١) في الأصل : يا لرجل.

(٢) في الأصل : تقديمة.

(٣) لم يعرف قائله ، وهو في المقتضب ٤ / ٢٣٤ وكان المبرد يرى إنشاده على هذا الوجه غير جائز ، ويرى صوابه : فيا غلامان اللذان ... ، وهو أيضا في اللامات ٥٣ ، وفي أسرار العربية ٢٣٠ ـ ٢٣١ ، وفي الإنصاف ١ / ٣٣٦ ، وشرح المفصل ٢ / ٩ ، والمساعد على تسهيل الفوائد ٢ / ٥٠٣ ، وشرح الكافية لابن جماعة ١٢١ ، وفي شرح ابن عقيل ٣ / ٢٤١ ، والعيني ٤ / ٢١٥ ، والهمع ٣ / ٣٧ ، والخزانة ٢ / ٢٩٤.

وهناك خلاف حول بحر هذا البيت فمنهم من قال إنه من السريع ومنهم من جعله بيتين من الرجز.

(٤) في الأصل : فيالغلامان.

(٥) في الأصل : يأيها ، وقد كتبت على طريقة القدماء بحذف الألف.

(٦) كتبت في الأصل على الهامش.

(٧) في الأصل : إلاه.

٢٠٣

فجرت الألف واللام فيه مجرى بعض حروفه فلاجتماع هذه الجهات جاز دخول (يا) عليه.

فأما (الذي) و (التي) فلا يجوز دخول (يا) عليهما وإن كانت الألف واللام لا يفارقانهما لأنهما صفتان ولم يكثر استعمالهما ففارقتا اسم الله تعالى ، وكذلك لو سميت رجلا بالحارث ، وأبو العباس لم يجز إدخال (يا) عليهما لما ذكرناه في قلة استعمالهما ، ولأن الألف واللام ليستا فيه بعوض من حرف ، فقد بان لك اسم الله تعالى لم اختص بما لا يشاركه فيه اسم فلهذا جاز أن يختص بدخول (يا) عليه.

واعلم أنك إذا ناديته تعالى قطعت ألفه يا ألله (١) اغفر لي ، وإنما قطعت الألف لتدل بقطعها أنها في هذا الموضع قد خالفت سائر ما فيه الألف واللام ، لأن هذا اسم قد نودي نداء ما فيه الألف واللام أصلية فوجب أن يؤتى بلفظها على لفظ الألف واللام الأصلية ليطابق لفظها الحكم الذي قد اختصت به إن شاء الله.

واعلم أنه يجوز أن تدخل (ما) (٢) مشددة آخر هذا الاسم بدلا من (يا) فلهذه العلّة شددت ليكون التشديد بمنزلة يا إذ كانت حرفين فتقول : اللهمّ اغفر لي ، فتجري مجرى يا ألله اغفر لي ، ولا يحسن الجمع بينهما إلا في ضرورة الشعر ، وإنما فتحت الميم ؛ لأن الحروف أصلها السكون فإذا زدت الميمين وهما ساكنان لم يجز الجمع بين ساكنين ، فحركتا الميم الثانية بالفتح لالتقاء الساكنين ، وصار الفتح أولى لخفته وثقل التشديد ، وقد حكي عن الفراء أن الميم عوض من قولك : يا الله أمّنّا [منك](٣) بخير ، فحذفت الياء وبقيت الميم (٤) التي في أمّنا مشددة مفتوحة وهذا القول ليس بشيء من وجهين :

__________________

(١) في الأصل : يألله.

(٢) في الأصل : مما.

(٣) كتبت في الأصل على الهامش.

(٤) وهو رأي الكوفيين ، قال الفراء : " .. ونرى أنها كلمة ضمّ إليها ، أمّ : يا الله أمّنا بخير ، فكثرت في الكلام فاختلطت ..." معاني القرآن ١ / ٢٠٣ (دار الكتب المصرية). وانظر الإنصاف المسألة ٤٧ ١٥١ (ليدن).

٢٠٤

أحدهما : أنه يستحسن أن يقال : يا الله أمّنا منك بخير ، فيأتي ب (يا) في أول الكلام ، وأمّنا في آخره ، ولو كان على ما قال لحسن : يا اللهم اغفر لنا ، فلما قبح الجمع بين الميم و (يا) علمنا أن الأمر فيها على ما ذكرناه دون ما ذكره.

والوجه الثاني : أنه مستحسن / اللهم أمّنا منك بخير ، فلو كانت الميم المراد بها ما ذكر لحصل في الكلام الذي ذكرناه تكرار والتكرار مستقبح ، وحسن استعماله دليل على فساد ما قال إن شاء الله.

فقد ثبت بما ذكرناه أن يا لا تدخل على ما فيه الألف واللام ، فإن أردت أن تذكر اسما فيه الألف واللام جئت ب (أي) ، وأوقعت حرف النداء عليها كقولك : يا أيها الرجل أقبل ، ف (أي) هنا مبنية على الضم ك (زيد) وموضعها نصب ؛ لأن لفظ النداء وقع عليها ، والرجل مرفوع وهو نعت ل (أي) بمنزلة قولك : يا زيد الظريف ، إلا أن الرجل لا يجوز فيها النصب كما يجوز في الظريف (١) ، والفصل بينهما أن (أيا) إنما تدخل وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام فصارت معه كالشيء الواحد فجرى مجرى المفرد ، فأرادوا أن يكون لفظه كلفظ المفرد ، فلهذا لم يجز النصب في نعت (أي) ، وقد أجاز المازني النصب فيه تشبيها بنعت زيد (٢)

__________________

(١) قال سيبويه : «هذا باب لا يكون الوصف المفرد فيه إلا رفعا ... وذلك قولك : يا أيها الرجل ويا أيها الرجلان ... وإنما صار وصفه لا يكون فيه إلا الرفع لأنك لا تستطيع أن تقول : يا أيّ ولا يا أيها وتسكت لأنه مبهم يلزمه التفسير ، فصار هو والرجل بمنزلة اسم واحد كأنك قلت يا رجل».

الكتاب ١ / ٣٠٦ (بولاق)

وقال المبرد : " وإذا كانت الصفة لازمة تحل محل الصلة في أنه لا يستغني عنها لإبهام الموصوف لم يكن إلا رفعا لأنها وما قبلها بمنزلة الشيء الواحد ... وذلك قولك : يا أيها الرجل أقبل ..."

المقتضب ٤ / ٢١٦ ، وانظر مجالس ثعلب ٥٢ و ٦٥٤.

(٢) قال ابن يعيش : " فتقول يا أيها الرجل أقبل ، فيكون أي والرجل كاسم واحد ، فأيّ مدعو ، والرجل نعته ، ولا يجوز أن يفارقه النعت لأن أيا اسم مبهم لم يستعمل إلا بصلة إلا في الاستفهام والجزاء فلما لم يوصل ألزم الصفة لتبينه كما تبينه الصلة ، وقد أجاز المازني نصب ذلك حملا على الموضع قياسا على غير المبهم ، والصواب ما ذكرنا للمانع المذكور" شرح المفصل ٢ / ٣ ـ ٤.

٢٠٥

والوجه ما بدأنا به لما ذكرنا من العلّة ، وأيضا فإن حق اللفظ أن يكون اللفظ آخذا من المعنى ، والضم في المنادى قد اطرد حتى جرى مجرى المفعول ، فلما كان المنادى في المفرد له لفظ ومعنى حمل [النعت على](١) اللفظ أكثر ، وقد يجوز أن يحمل على المعنى إذ كان المنادى يصح السكوت عليه فيقع التصرف في النعت ، فإذا (٢) كان المنادى لا يصح السكوت عليه لم يجز التصرف في نعته وحمل على لفظه.

فإن قال قائل : فمن أين خصت (أي) من بين سائر الأسماء المبهمة بأن جعلت وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام؟

قيل له : لأن (أيا) لا معنى لها في نفسها ، وإنما يحسن معناها بما يضاف إليها وأما هذا ، وذاك ، وما أشبههما فلها معان في أنفسها ، فلما أرادوا إدخال اسم لغير (٣) فائدة في نفسه ، بل للوصلة إلى غيره كان (أيا) إذ لا معنى له في نفسه ، فكان أولى بالزيادة مما له معنى في نفسه.

فإن قيل : فلم زيدت (ها) على أصلها؟

قيل : في ذلك أقوال أحدها : أن (أيا) تستعمل مضافة ولا ينفصل من الإضافة إلا في النداء فلما حذف منها المضاف عوضت (أي) (ها).

وقول آخر : أنهم أدخلوها توكيدا للنداء.

ووجه ثالث : أن ما فيه الألف واللام هو المنادى في المعنى ، فلما لم يصح دخول (يا) عليه لما ذكرناه أدخلوا على (أي) (ها) للتنبيه ، فليكن قائما مقام حرف النداء الذي يستحقه الألف واللام.

واعلم أنك إذا قلت : يا هذا الرجل ، فلك فيه وجهان :

__________________

(١) كتبت في الأصل على الهامش.

(٢) في الأصل : فإذ.

(٣) في الأصل : لغيره.

٢٠٦

أحدهما : أن تقدره تقدير (أي) ، أعني وصلة إلى ما فيه الألف واللام ، فإذا قدرت هذا التقدير لم يجز في الرجل إلا الرفع. والوجه الثاني : أن تجعل هذا بمنزلة زيد ؛ لأن في السكوت عليه فائدة ، فإذا قدرت هذا التقدير صار الرجل بعده بمنزلة الظريف بعد زيد فيجوز ذلك حينئذ الرفع والنصب ، فإن قلت يا أيها (١) الرجل ذو المال ، فلك في (ذي المال) الرفع والنصب ، فالرفع بالنعت للجر والنصب على البدل من أي ولا يجوز أن تقول أنه (٢) نعت ؛ لأن المبهمة لا تنعت بالمضاف وإنما لم يجز أن يكون المضاف نعتا ل (أي) في النداء ؛ لأن المضاف يمكن أن / تدخل عليه (يا) وقد بينا أن (أيا) إنما احتيج إليها وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام لامتناع دخول (يا) عليه ، فإذا كان المضاف يصح دخول (يا) عليه لم يحتج إلى (أي) فلهذا لم يجز أن تنعت (أيا) بالمضاف وأما إذا قلت : يا زيد الطويل ذو الجمة ، فلك في (ذي الجمة) الرفع والنصب ، فالرفع على النعت لزيد ، والنصب على وجهين أحدهما أن تجعله بدلا من زيد كأنك قلت : يا ذا الجمة ، والوجه الثاني : أن يكون نعتا لزيد.

واعلم أن الحروف التي ينادى بها خمسة وهي : يا ، وأيا ، وهيا ، وأي ، والألف.

فأما الألف فلا تستعمل إلا للقريب منك كقولك : أزيد أقبل ، فإن كان بعيدا استعملت له (يا) وسائر الحروف ، وإنما وجب ذلك ؛ لأن البعيد منك يحتاج إلى مد الصوت وسائر الحروف سوى الألف فيها حرف مد يمكنك مد الصوت به ؛ فلهذا وجب استعمالها للبعيد ، وأما القريب منك فلا يحتاج إلى مد الصوت فاختيرت له الهمزة ؛ لأنه لا مد فيها وهي همزة الاستفهام (٣) ، وإنما كانت الهمزة أولى لكثرة زيادتها أولا ، وأما (يا) فقد تستعمل للقريب والبعيد ، وإنما جاز ذلك

__________________

(١) في الأصل : يايها.

(٢) في الأصل : لأنه.

(٣) يعني أن الهمزة تستعمل للاستفهام كما تستعمل للنداء.

٢٠٧

فيها خاصة لكثرة استعمالهم للبعيد بحصول مد الصوت فيها واستعمالهم إياها للقريب على طريق التوكيد والحرص على البيان.

واعلم أن حروف النداء قد تحذف إذا كان المنادى منك قريبا كقولك : زيد أقبل ، وغلام عمرو تعال ، فهذا مطرد في جميع الأسماء إلا النكرة والمبهم فإنه لا يجوز إسقاط حرف النداء منهما ؛ لأن المبهم هو من نعت (أي) لأنك تقول : يا هذا أقبل ، الأصل فيه : أي هذا ، فيصير هذا نعتا ل (أي) كالألف واللام ، فلو قلت : هذا أقبل لأجحفت بالاسم إذا حذفت الموصوف وحذفت النداء لا يجوز أن تقول : رجل أقبل ، مما يكون نعتا لأي والأصل : يا أيها الرجل فلو أسقطت (يا) منه لكنت قد أجحفت به لحذف الموصوف وحرف النداء وقد كثر حذف حرف النداء في القرآن كقوله تعالى : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا ...) [يوسف : ١٢ / ٢٩](١) و (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا ...) [آل عمران : ٣ / ٨](٢) ويجوز أن يكون الحذف كثيرا في القرآن ؛ لأن الله تعالى قريب ممن يدعوه فلهذا حذف حرف النداء.

فأما :

يا تيم تيم عدي (٣) ...

 ...

__________________

(١) والآية (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ.)

(٢) والآية (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.)

(٣) البيت لجرير وهو من البحر البسيط وتمامه :

يا تيم تيم عديّ لا أبا لكم

لا يوقعنّكم في سوءة عمر

وهو في ديوانه ٢٨٥ ، وفي الكتاب ١ / ٥٣ ـ ٢ / ٢٠٥ (هارون) وورد عند سيبويه يا تيم تيم بالنصب ، وهو أيضا في الكامل ٣ / ١١٤٠ ، وفي المقتضب ٤ / ٢٢٩ ، والأجود عند المبرد : يا تيم تيم عدي ، وفي اللامات ١٠١ ، وفي شرح أبيات سيبويه للنحاس ٢٢٠ ، ورأى فيه حجة لنصب (تيم) الأول فالشاعر يريد فيه : يا تيم عدي يا تيم عدي ... ، وهو في شرح أبيات سيبويه للسيرافي ١ / ١٤٢ ، وفي الخصائص ١ / ٣٤٥ ، وفي أمالي ابن الشجري ٢ / ٣٠٧ ، وفي شرح المفصل ٢ / ١٠ وهو عنده بالنصب والضم ، والمساعد ٢ / ٥١٩ ، وفي شرح الكافية ١٢١ ، وفي ارتشاف الضرب ٣ / ١٣٥ ، والمغني ٥٩٦ ، وشرح ابن عقيل ٣ / ٢٤٨ ، وشرح شواهد المغني للسيوطي ٢ / ٨٥٥ ، والهمع ٥ / ١٩٦ ، والخزانة ٢ / ٢٩٨.

٢٠٨

ففيه وجهان :

أحدهما : يختاره المبرد ، وهو أن يكون الأول مضافا إلى عدي كإضافة الثاني إليه ثم حذفه فبقي منصوبا على نيّة الإضافة (١).

وأما سيبيويه فيجعل الاسم الأول هو المضاف إلى عدي لاعتماد الكلام عليه ، ويصير تيم الثاني حشو الكلام ، فكأنه مع الأول مضاف (٢) إلى الثاني ، وانتصب الثاني بوجود لفظ الإضافة فيه والأول مضاف في الحقيقة ، وأما ابن أم وابن عم فمن فتحهما بناهما ، والذي أوجب لهما البناء تضمنهما لحرف الجر وكثرة استعمالهما ، ووقوعهما موقع ما يجب له البناء نحو : يا زيد ، ويا عمرو ، فلاجتماع هذه المعاني يبنى [واكتفى بالمعنى على إضافة اللفظ وذلك أن اللام تقتضي ذلك لا محاله فأغنى هذا المعنى عن إضافتها في اللفظ](٣) ، وأما من كسر (٤) فالوجه فيه ما ذكرناه من جعل الاسمين اسما واحدا ، فلما صار بهذه المنزلة جريا مجرى غلام ، وصاحب ، وتجتزيء بالكسرة ، وكذلك تحذف يا ابن أم ويا ابن عم.

باب الترخيم

اعلم أن الترخيم لا يستعمل إلا في النداء ؛ لأنه باب حذف ، / ألا ترى أن المنادى المفرد قد حذف منه التنوين والإعراب ، فلما جاز حذف التنوين منه والإعراب جاز أيضا حذف بعض حروفه استخفافا لدلالة ما بقي عليه.

__________________

(١) إذا عدنا إلى المقتضب ٤ / ٢٢٧ ـ ٢٢٩ نجد أن الأجود عند المبرد ، وإن أجاز الوجهين ـ أن يكون الأول مرفوعا ، وهذا يناقض ما نسبه إليه الورّاق.

(٢) في الأصل : مضافا.

(٣) كتبت في الأصل على الهامش.

(٤) جاء في شرح المفصل : " يا ابن أم ويا ابن عم ، بالفتح وقد قرأ به ابن كثير ونافع وأبو عمرو ... وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي (يا ابن أم) بالكسر ...". ٢ / ١٣

٢٠٩

ولا يرخم من الأسماء إلا ما يستحق البناء ، فأما ما جرى في النداء على أصله في النصب فلا يجوز ترخيمه ؛ لأنه في النداء بمنزلته في غير النداء (١) فإن اضطر شاعر جاز أن يرخم الاسم في غير النداء ، ويحمل ذلك في غير النداء على طريق التشبيه ، وإنما صار في الترخيم المختار أن يحذف آخره ويبقى ما قبله على حركته أو سكونه ؛ لأن الاسم في الحقيقة موضع الحذف (٢) ، وإنما يحذف هذا الموضع فقط ، فوجب أن يبقى ما قبله على أصله ليدل ذلك على المحذوف ، وإنما لم يجز ترخيم ما كان على ثلاثة أحرف مما ليس في آخره الهاء ، لأن الغرض في الترخيم تخفيف ، وفي الأسماء ما هو على سبعة أحرف وهو نهاية بنائها ، وأقلها ما كان على ثلاثة أحرف ، وإنما نحط السبعة حتى نبلغ بها إلى الثلاثة ، فلما كانت الثلاثة نهاية في الحقيقة لم ترخم ، وأما ما كان ثالثه الهاء فإنما جاز ترخيمها ؛ لأن الهاء ليست من بناء الاسم ، وإنما هي بمنزلة اسم ضم إلى اسم ، فلما كانت في المعنى منفصلة جاز حذفها ، وأما المبهم فلا يجوز ترخيمه ، لأنه وإن كان معرفة فهو في الأصل من نعت ، أي : فلما كان في المعنى نعتا صار غير منادى ، فلهذا لم يرخم ، وإن شئت قلت : إنه لما كان نعتا للاسم ثم حذفت المنعوت قبح ترخيمه ، لأن ذلك يكون إجحافا به ، وأما الجمل فلا يجوز ترخيمها لأنها تحكى ، وذلك أنك لو رخمتها بطلت حكايتها (٣) ، وأما ما كان في آخره ألف ونون زائدتان فإنما حذفا معا في الترخيم لأنهما زيدا معا فجريا مجرى زيادة واحدة ، وأما ما كان في

__________________

(١) قال سيبويه : " واعلم أن الترخيم لا يكون في مضاف إليه ولا في وصف لأنهما غير مناديين ، ولا ترخم مضافا ولا اسما منونا في النداء من قبل أنه جرى على الأصل". الكتاب ١ / ٣٣٠ (بولاق).

(٢) في الأصل : الحروف.

(٣) جاء في شرح المفصل : " وأما ما يحكى من نحو (تأبط شرا ، وبرق نحره) ونحوهما فإنه لا يرخم لأن النداء لم يؤثر فيه ، وإنما هي جمل محكية ، والترخيم إنما يكون فيما أثر فيه النداء بناء على ما قال سيبويه ، ولو رخمت هذا لرخمت رجلا يسمى بقول عنترة : يا دار عبلة بالجواء تكلمي ... ومع ذلك فإنه لا يجوز لأنها جمل محكية الإعراب لا حظّ للبناء فيها فاعرفه" ٢ / ٢٣ ـ ٢٤ (إدارة الطباعة المنيرية) ، وانظر : شرح السيرافي ١ / ٥١٦ (دار المأمون للتراث) ، وانظر : الأشباه والنظائر ٢ / ٥٦٥ (مطبوعات المجمع).

٢١٠

آخره حرف مد زائد فإنما حذف (١) مع حذف الآخر تشبيها بألف عثمان ، وذلك أن الألف في عثمان ساكنة وهي قبل آخره وهي حرف مد بمنزلة الألف واللام فحذفت مع النون من عثمان (٢) وحكم ألفي التأنيث كحكم الألف والنون لأنهما زيدتا أيضا معا (٣) ، فأما إذا حذفت الزائدتان وهي من الأسماء أقل من ثلاثة أحرف لم يجز إلا حذف الآخر لما ذكرناه من الإجحاف بالاسم ، وكرهوا أن يبقى الاسم على حرفين ، وأما الهاء فإنما وجب حذفها وحدها طال الاسم أو قصر لأنها ليست من بناء الاسم الأول ، وهي كالمنفصل منه ، وإذا حذفت لم يجز أن تحذف معها غيرها إذ كانت غير متعلقة بالاسم تعلقا شديدا ، فلهذا حذفت وحدها.

فإن قال قائل : لم لم يعمل ما قبل الاستفهام فيه وفيما بعده (٤)؟

قيل له : لأن الاستفهام إذا دخل على الجمل كان استفهاما عن جميعها مثل قولك : أضربت زيدا؟ فلو قدمت (٥) على الألف لم يبق معنى الاستفهام فيه وهو مقدم ، والمعاني ليس لها قوة تصرف فيما قبلها وفيما بعدها ؛ فلذلك لم يجز أن يعمل ضربت زيدا ، وبينهما (٦) ألف الاستفهام ، وأما الأسماء نحو : أي ، ومن ، وما ، فلا يجوز أيضا أن يعمل فيها ما قبلها لهذا لو قلت : علمت أيّهم في الدار ، بنصب أيهم لم يجز ، وإنما لم يجز ذلك ؛ لأن الأصل أن يدخل ألف الاستفهام على هذه الأسماء ، وإنما حذفت ألف الاستفهام / استغناء لأن هذا الكلام لا يكون إلا

__________________

(١) مكررة في الأصل.

(٢) في الأصل : فحذفت مع الألف من عثمان. وعثمان بلا تنقيط.

(٣) قال الزجّاجي : " إن كان في آخر الاسم زيادتان زيدتا معا ، حذفتهما معا في الترخيم ، فقلت في ترخيم" عثمان" : يا عثم أقبل ..." الجمل في النحو ١٧١.

(٤) في الكلام انقطاع أو سقط فالسؤال هنا لا علاقة له بالترخيم!؟!

(٥) في الأصل : ضربت.

(٦) في الأصل : وبينها.

٢١١

استفهاما فصارت الألف محذوفة وحكمها باق فلهذا منعت الفعل من العمل في هذه الأسماء.

فإن قال قائل : فكيف جاز أن تعمل فيها حروف الجر كقولك : بأيّهم مررت؟

قيل له : الضرورة دعت إلى ذلك ، وذلك أن حروف الجر لا يجوز أن تقوم بأنفسها ولا بد أن تتعلق بما تدخل عليه ، وقد بينا [أن](١) الأسماء التي يستفهم بها تنوب عن شيئين عن ألف الاستفهام ، وعن الاسم ، فيصير قولنا : أيّهم في الدار؟ بمنزلة : أزيد في الدار؟ فإذا قلت : بأيهم مررت ، صار التقدير : أبزيد مررت ، لأن الباء موصلة للفعل الذي بعد الاستفهام (٢) ليعمل فيه لأنهما مقدران بعد ألف الاستفهام ، فلهذا خصت حروف الجر بجواز العمل من بين سائر العوامل ، ولهذه العلّة أيضا جاز لما بعد الاستفهام أن يعمل فيه.

واعلم أن الأفعال التي تدخل على الاستفهام لو قلت : ضربت أيهم عندك ، وأنت تريد الاستفهام كان محالا ، وإنما فسد ذلك ؛ لأن ضربت وما جرى مجراها لا يصح إلغاؤها ؛ لأنه فعل مؤثر فإذا تقدم قبل الاستفهام لم يخل من أحد أمرين : إما أن يعمل وإما أن يلغى ، وقد بيّنا أن عمل ما قبل الاستفهام باطل وأن إلغاء هذا الفعل أيضا محال ، فلذلك لم يجز هذا الكلام.

فأما أفعال القلوب فهي إذا توسطت بين مفعولين تلغى ، وقد بينّا فيما مضى لم جاز إلغاؤها ، وتقول : قد علمت زيدا أبو من هو ف (هو) خبر الأب ، والراجع إلى زيد (هو) ولما كان (هو) الأب لم يحتج الأب إلى راجع إليه ، وإنما صار النصب في زيد أقوى من الرفع ؛ لأن زيدا ليس بمستفهم عنه في اللفظ ، وإنما هو مستفهم عنه في المعنى ، واللفظ أقوى من المعنى ؛ لأن الحاسة تقع عليه من العقل ، والمعنى

__________________

(١) زيادة ليست في الأصل.

(٢) اللام زيادة ليست في الأصل.

٢١٢

إنما يقع عليه العقل فقط ، فلذلك كان النصب أقوى ، وأما قولهم : كلّ رجل وقرينه (١) فهو إضمار ليكن كل رجل مع قرينه ، والأحسن إظهار الفعل إلا أن العطف جعل كالعوض منه ، وكذلك ما ينصب في هذا الباب فهو معطوف أو مكرر ، ولا يجوز إظهار الفعل نحو قولك : رأسك والحائط ، والأسد الأسد ، وما أشبه ذلك لما ذكرناه من التكرار والعطف عوض عن الفعل ، فلم يجز إظهاره مع وجود العوض منه ، وأما قولهم : المرء مجزى بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر (٢) ، فإنما اختير النصب في الأول بإضمار (كان) لكثرة دورها في الكلام ، لأنها عبارة عن جميع الأفعال ، ألا ترى أنك تقول : قام زيد ، فيقول القائل : قد كان ذلك ، فلهذا وجب أن تضمر كان ، وإنما كان إضمارها مع اسمها أولى من إضمارها مع خبرها ، لأن الخبر منفصل من الاسم والاسم متمكن في الفعل فهو معه كالشيء الواحد ، فصار إضمارها مع اسمها أولى من إضمارها مع خبرها ، وكلما خف الإضمار كان أولى من كثرته ، وإنما لم تقدر (كان) بمعنى وقع وحدث وإن كان جائزا ؛ لأن كان التي بمعنى وقع وحدث فعل حقيقي بمنزلة ذهب وضرب ، وليس ككثرة (كان) التي للعبارة عن الجمل ، فلهذا كان الاختيار في الأول النصب ، فأما الذي هو [مرتبط ب](٣) الفاء فإنما اختير فيه الرفع ؛ لأن الفاء / التي تقع جوابا للجزاء إنما تدخل ليليها المبتدأ والخبر ، وإنما وجب ذلك ؛ لأن جواب الخبر إذا كان فعلا لم يحتج إلى الفاء ؛ لأن (أن) تعمل فيه ، فإذا كان خبرا ومبتدأ لم يجز ل (إن) أن تعمل في الأسماء ، فلو جئنا بالمبتدأ والخبر فجعلنا جوابا للشرط لم يعلم تعلقه به ؛ لأن الجمل قائمة بأنفسها فاحتاجوا إلى حرف يعلق الجملة بالشرط

__________________

(١) وردت في كتب النحو : كل رجل وضيعته. انظر الكافية شرح الاسترباذي ١ / ١٩٨.

(٢) انظر الكتاب باب ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره بعد حرف ١ / ١٣٠ (بولاق) ، وأصول ابن السرّاج ٢ / ٢٤٨.

(٣) زيادة ليست في الأصل.

٢١٣

فأتوا بالفاء ، فقد بان بما ذكرناه أن الفاء تطلب الاسم فوجب أن يضمر بعدها المبتدأ فيصير خبرا له ، فلهذا اختير الرفع في الثاني.

وأما الوجه الثاني فإنه صار أقرب إلى الأول ، لأنك تضمر أيضا بعد (إن) فعلا فأنت مخير إن شئت كانت (كان) التي بمعنى وقع ، وإن شئت أضمرت (كان) التي هي عبارة في خبرها.

والوجه الثالث أضعف من هذا ، لأنك تضمر بعد الفاء شيئين ، وهو الفعل والمبتدأ ، وذلك أنك إذا قدرت الكلام على شيء يجيء مؤخرا لم يكن بد للفاء من مبتدأ لما ذكرناه من أنها تطلب المبتدأ فضعف لكثرة الإضمار من غير ضرورة تدعو (١) إليه.

وأما الوجه الرابع فأضعفها ؛ لأنه عكس المختار ، لأنك ترفع الأول وتنصب الثاني فلهذا ضعف جدا ، وأما قولهم : قد كان ذلك إن صالحا وإن فاسدا ، فإنما وجب نصبه ؛ لأن قولك قد كان ذلك إشارة إلى أمر ما ، فالصالح والفاسد هو ذلك الأمر بعينه ، فإنما يرتفع مثل هذا على أنك تقدره اسم (كان) ، وتجعل الخبر في تقدير الظرف له ، ومحال أن تكون جملة الشرط ظرفا لجميعه فلهذا استحال أن تقدره بقولك : إن كان فيه صالح ، فأما إذا قلت : إن كان فيه صلاح أو فساد فجائز ؛ لأن الصلاح والفساد غير الشيء المذكور ، فجاز أن تقدر في تقديره الظرف للصلاح والفساد فلهذا حسن رفعه ، وأما قول الشاعر(٢) :

لا تقربنّ الدهر آل مطرّف

إن ظالما فيهم وإن مظلوما

__________________

(١) في الأصل : تدعوا.

(٢) البيت لليلى الأخيلية ، وهو من البحر الكامل ، وهو في ديوانها ١٠٩ ، وفي كتاب الجمل في النحو ، للفراهيدي ١١١ ، الكتاب ١ / ٢٦١ (هارون) ، شرح أبيات سيبويه للنحاس ١٢٣ ، شرح أبيات سيبويه للسيرافي ١ / ٣٤٥ ، وفي أمالي المرتضى ١ / ٥٨ ، وفي المساعد ١ / ٢٧١ ، وفي الارتشاف ٢ / ٩٧ ، وفي الهمع / ١٠٢.

والرواية في الديوان :

لا تغزونّ الدهر ...

لا ظالما أبدا ولا مظلوما

٢١٤

فإنما (١) وجب نصبه ؛ لأن المخاطب مضمر في الفعل فانتصب ظالما على الخبر ولا يمكن غير ذلك لما يقتضيه معنى البيت.

باب الإغراء

إن قال قائل : لم خصت العرب (عندك وعليك ودونك) بإقامتها (٢) مقام الأفعال من بين سائر الظروف؟

قيل له : لأن الفعل لا يجوز أن يضمر [إلا](٣) أن يكون عليه دليل من مشاهدة حال أو غير ذلك ، فلما كان (على) للاستعلاء والمستعلي يرى ما تحته ، وكذلك (عندك) للحضرة ومن بحضرتك تراه. وكذلك (دون) للقرب ، فلما كانت هذه الظروف أخص من غيرها جاز فيها ذلك.

فإن قال قائل : لم خص المخاطب بهذا دون غيره؟ قيل : لأن المخاطب لا يحتاج إلى حرف سوى الفعل ، والغائب والمتكلم الأمر لهما باللام كقولك : ليقم زيد ، ولأقم معه ، فلما أقيمت هذه الظروف مقام الفعل كرهوا أن يستعملوها للغائب والمتكلم فتصير نائبة عن شيئين وهما الفعل واللام ، فوجب أن تختص بالمخاطب لتقوم مقام شيء واحد ، وقد سمع من العرب عليه رجلا ليسني (٤) ، فأمر بعلى وحدها للغائب ، ولا يقام عليه ، وقد تستعمل (على) بمنزلة فعل يتعدى إلى مفعولين إذا أمرت بنفسها / ولا يقاس عليه كقولك : عليّ زيدا ، معناه أعطني زيدا ، ولا تقول : عندي زيدا ولا دوني عمرا ، لما بيناه [من](٥) أن

__________________

(١) في الأصل : وإنما.

(٢) يريد أسماء الأفعال.

(٣) زيادة ليست في الأصل.

(٤) انظر الكتاب ١ / ١٢٦ (بولاق) ، والمقتضب ٣ / ٢٨٠ (مثل).

(٥) زيادة ليست في الأصل.

٢١٥

هذه الظروف أقيمت مقام الفعل والفاعل اتساعا فليس يجب أن تتصرف تصرفه ، أعني تصرف الفعل فما اشتقته العرب قلناه وما تركته على أصله لم نجاوزه إلى غير ذلك.

واعلم أنك إذا قلت : عليك زيدا ، فللمخاطب ضميران مجرور ومرفوع ، فالمجرور الكاف الظاهرة والمرفوع مستتر في النية ، فإذا أردت أن تؤكد المرفوع أو تعطف عليه جاز ذلك كقولك : عليك أنت نفسك زيدا ، وعليك أنت وعمرو زيدا ، ولا يحسن إذا أردت العطف على المضمر المرفوع أن تسقط توكيده ، وقد بينا ذلك ، فإن أردت أن تعطف على الكاف لم يجز ؛ لأن المضمر المجرور لا يعطف عليه الظاهر إلا بإعادة حرف الجر ، ومع هذا إنك لو أردت أن تعيد حرف الجر لم يجز ؛ لأنه يصير اللفظ عليك وعلى زيد عمرا ، فيصير أمر الغائب المخاطب ، وقد بينا أن هذا لا يجوز في هذه الحروف ، فإن أردت أن تؤكد الكاف جاز ذلك نحو : عليك نفسك زيدا ، وقد يجوز أن تجعل النفس مفعولة كما قال الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) [المائدة : ٥ / ١٠٥](١) أي : اتقوا أنفسكم ، وما أشبه ذلك على ما ذكرناه أو تقول : عليك نفسك نفسك نفسك ، فترفع الأول على التوكيد للضمير المرفوع المتوهم الفاعل ، وتجر الثانية على التوكيد للكاف ، وتنصب الثالثة على الإغراء ، إلا أن الأحسن إذا أردت التوكيد بالنفس للمرفوع أن تقدم (أنت) لما بيناه من اختلاط الفعل للفاعل ، وإن النفس قد تستعمل غير مؤكدة كقولك : خرجت نفسه ، فلما جرى مجرى ما لا يكون تابعا استقبحوا أن يتبعوها ما قد جرى مجرى بعض الفعل حتى يؤكدوا ذلك فيقوى بالتوكيد كما ذكرنا في العطف.

__________________

(١) والآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.)

٢١٦

باب المصدر

اعلم أن المصدر (١) إنما ينصب ؛ لأنه مفعول ، ألا ترى أنك إذا قلت : ضربت ضربا فقيل له : ما فعلت؟ فقلت : أحدثت ضربا ، فقد بان لك أن المصدر مفعول فلهذا انتصب.

فإن قال قائل : فهل المصدر أصل للفعل أو الفعل أصل للمصدر (٢)؟

قيل له : بل المصدر أصل للفعل ، والدليل على ذلك من وجوه :

أحدها : أن المصدر يدل على نفسه فقط ، ألا ترى أنك إذا قلت : ضربت ، دل على الضرب وهو الألم الذي يوجد منه ، فصار ضرب يدل على جوهر الضرب ، كأنه مصوغ من جوهر ما يدل ، إذا أضفته إلى ما صيغ منه دل أنه منه ، وإن كانت صورته مخالفة لصيغة آخر صيغ من ذلك الجوهر ، وآخر كذلك وكلها تدل على ذلك الجوهر فقد صار الجوهر أصلا لها ، وكذلك كل فعل يدل على مصدره الذي أخذ منه ، لأن المصدر جوهره الذي يوجد فيه ذلك الفعل.

ووجه آخر : وذلك أن الفعل يدل على شيئين ، وهما الزمان والمصدر ، والمصدر يدل على نفسه فقط فصار الفعل بمنزلة المركب إذ كان يدل على المصدر وعلى الزمان ، فلما صار في تقدير اثنين وأحد الاثنين المصدر ، والواحد قبل الاثنين وجب أن يكون قبل الفعل.

ووجه ثالث : أن المصدر يقوم بنفسه ألا ترى أنك [تقول](٣) / ضربك حسن ،

__________________

(١) أي المفعول المطلق.

(٢) فصّل الزجّاجي القول في هذه المسألة في باب القول في الفعل والمصدر ، أيهما مأخوذ من صاحبه. انظر : الإيضاح ٥٦ ، وكذلك ابن الأنباري في إنصافه انظر المسألة الثامنة والعشرين.

(٣) كتبت في أسفل الصفحة ولم تكتب في متن الصفحة التي تليها.

٢١٧

ولا تحتاج إلى ذكر الفاعل ، والفعل لا يجوز أن تذكره خاليا من الاسم ، فوجب أن يكون المصدر لاستغنائه عن الفاعل أصلا للفعل لافتقار الفعل إليه.

ووجه رابع : وهو أن المصدر في اللغة هو الموضع الذي (١) تصدر عنه الإبل وترده ، فلما استحق هذا الاسم وجب أن يكون الفعل صادرا عنه وإذا كان صادرا وجب أن يكون فرعا.

فإن قال قائل : ما تنكرون أن يكون المصدر لا يراد به الموضع وإنما يراد به المفعول أي المصدور به عن الفعل كما تقول : مركب فاره ، وكما يقال : مشرب عذب أي شرب عذب؟

قيل له : هذا يفسد من وجهين :

أحدهما : أن الألفاظ إذا أمكن تأويلها على ظاهرها فليس ينبغي أن يعدل عن الظاهر إلا بدلالة ، فإذا كان ظاهر المصدر يوجب أن يكون اسما للموقع ها هنا ما يمنع من ذلك وجب أن يحمل على ظاهره وإذا كان كذلك فيجب أن يكون اسما للموضع على ما ذكرناه.

والوجه الثاني أن قولهم : مركب فاره ، ومشرب عذب يجوز أن يكون موضع المركوب والمشروب ، وإنما ينسب (٢) إلى الفراهة والعذوبة للمجاوره كما يقال : جرى النهر ، وإنما يجري الماء في النهر.

فإن قال قائل : قد رأينا المصدر يصح بصحة الفعل ويعتل باعتلاله ، فيجب أن يكون فرعا له إذ تبعه في الاعتلال والصحة كقولك : قمت قياما ، فاعتل قيام لعلّة قام ، ولو صح الفعل لصح المصدر كقولك : قاومته قواما (٣)؟

__________________

(١) في الأصل : التي.

(٢) في الأصل : يسب.

(٣) هذا التساؤل من أدلة الكوفيين على أن المصدر مأخوذ من الفعل ، انظر الإيضاح ٦٠.

٢١٨

قيل له : هذا لا يدل على ما ذكرت ، وذلك أن الفراء الذي يخالفنا في هذه العلّة قد حمل الأصل على الفرع وذلك أنه قال : بني قام لدخول التثنية عليه ، والتثنية فرع على الواحد ، وقوله يمتنع أن يبني المصدر على الفعل وإن كان أصلا للفعل ، وأيضا فإن الشيء قد يحمل على الشيء في الاعتلال للمشاركة بينهما ولئلا يختلف طريق الكلمة وليس [أحدهما](١) أصلا للآخر ، ألا ترى أنهم يقولون : وعد يعد فيحذفون الواو من (يعد) لوقوعها بين ياء وكسرة ويحذفونها أيضا من (نعد) و (أعد) وإن لم تكن قد وقعت بين ياء وكسرة فحملا على (يعد) لئلا يختلف طريق الفعل ، فإذا ثبت أن الحمل في باب الاعتلال لا يدل أن المحمول على غيره فرع على المحمول عليه لم يجب أن يكون المصدر فرعا للفعل وإن حمل عليه في باب الاعتلال.

فإن قال قائل : أليس الفعل يعمل في المصدر ومن شرط العامل أن يكون قبل المعمول فيه ، فإذا كان كذلك يجب أن يكون الفعل قبل المصدر؟

قيل له : هذا ساقط ؛ لأن الحرف يعمل في الأسماء والأفعال فلو وجب ما قلت لصارت الحروف أصلا للأسماء والأفعال وهذا بين الفساد.

فإن قال قائل : أليس قلتم إن المصدر مؤكد والتأكيد بعد المؤكّد فيجب أن يكون الفعل أصلا للمصدر ؛ لأنه المؤكد؟

قيل هذا يفسد من وجهين : أحدهما : أن المصدر في المعنى مفعول ، وقد بينا أنه من هذا الوجه لا يجب أن يكون فرعا وليس ذكر المصدر بأكثر من كونه مفعولا.

والوجه الثاني : أن المصدر إنما أقيم / مقام تكرير الفعل ، فكما أن الشيء لا يجوز أن يكون أصلا لنفسه فكذلك لا يجوز أن يكون ما قام [مقامه](٢) فرعا عليه.

__________________

(١) كتبت في الأصل على الهامش.

(٢) زيادة ليست في الأصل.

٢١٩

واعلم أن إقامة الآلة مقام المصدر جائز ، وإنما الغرض فيه الاختصار فإذا قلت [ضربت](١) زيدا سوطا واحدا ، دل ذكر السوط على أن الضرب به وقع ، ويثنى ويجمع فتكون تثنيته وجمعه دلالة على الضرب فإذا قلت : ضربت زيدا مئة سوط فالمعنى مئة ضربة بسوط واحد.

واعلم أنك إذا قلت : أنت سيرا سيرا ، فإنما المعنى أنت تسير سيرا فحذفت الفعل لدلالة المصدر عليه إذ كان مشتقا من لفظ المصدر ، ومع هذا فإنهم جعلوا أحد المصدرين بدلا من الفعل ، ويجوز أن يكون حذفوا الفعل ههنا ؛ لأن المبتدأ يجب أن يكون خبره هو والسير غير أنت فدلّ ذلك على المحذوف وهو يسير ، وقد يجوز الرفع فتقول : أنت سير سير ، فالرفع على وجهين : أحدهما أن يكون التقدير : أنت صاحب سير فحذف الصاحب وأقيم السير مقامه ، ومثل هذا قول الخنساء :

ترتع ما علقت حتى إذا ادّكرت

فإنما هي إقبال وإدبار (٢)

أي صاحبة إقبال وإدبار.

والوجه الثاني أن تجعل المبتدأ هو على سعة الكلام ويكون المعنى فيه أن السير كثر منه فجرى مجراه.

وأما مرحبا وأهلا فإنما حذف الفعل منه على وجهين :

__________________

(١) زيادة ليست في الأصل يقتضيها السياق.

(٢) البيت للخنساء وهو من البحر البسيط وهو في ديوانها ٥٣ ، وفي الكتاب ١ / ٣٣٠٧ ، والكامل ١ / ٣٧٤ و ٣ / ١٣٥٦ ـ ١٤١٢ ، والمقتضب ٣ / ٢٣٠ ـ ٤ / ٣٠٥ ، وشرح أبيات سيبويه للنحاس ٥٥ ، وشرح أبيات سيبويه للسيرافي ١ / ٢٨٢ ، والخصائص ٢ / ٢٠٣ ـ ٣ / ١٨٩ ، وفي أمالي ابن الشجري ١ / ١٠٦ ، وفي شرح المفصل ١ / ١١٥ ، وفي اللسان (رهط) ٩ / ١٧٧ ـ (قبل) ١٤ / ٥٤ ـ (سوا) ١٩ / ١٣٥ ، وفي خزانة الأدب ١ / ٤٣١.

ورواية الديوان : ترتع ما رتعت حتى إذا ... والخنساء هي تماضر بنت عمرو بن الشريد ، عاشت في الجاهلية والإسلام. انظر الشعر والشعراء ١٢٢.

٢٢٠