العلل في النحو

أبو الحسن محمد بن عبد الله [ الوراق ]

العلل في النحو

المؤلف:

أبو الحسن محمد بن عبد الله [ الوراق ]


المحقق: مها مازن المبارك
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
الطبعة: ٢
ISBN: 1-57547-843-9
الصفحات: ٤١٦

باب حتى

إن قال قائل : ما الأصل في حتى ؛ أن تكون عاطفة أم جارة؟

قيل له : الأصل فيها أن تكون جارة (١). ودخولها في باب العطف حملا على الواو. والدليل على أن أصلها الجر أنها إذا جعلت عاطفة لم تخرج من معنى الغاية ، ألا ترى أنك إذا قلت : جاءني القوم حتى زيد ، ومررت بالقوم حتى زيد ، فزيد بعض القوم ، وإذا رجعت أيضا على العطف فهو بعض القوم ، ولو كان أصلها العطف لوجب أن يكون ما بعدها من غير جنس ما قبلها ، إذ (٢) كانت حروف العطف هكذا حكمها نحو قولك : جاءني زيد وعمرو ، ولا يجوز جاءني زيد حتى عمرو ، وكذلك لا يجوز الخفض (٣) على الغاية ، فهذا دليل على أنها أصل الغاية.

فإن قال قائل : فمن أين أشبهت الواو؟ قيل ؛ لأن أصل الغاية أن تدخل ما بعدها في حكم ما قبلها ، ألا ترى أن قولك : ضربت القوم حتى زيد ، معناه أن الضرب وقع على زيد كما أنك لو قلت : ضربت القوم وزيدا ، لكان زيد مضروبا ، فلما اشتركا في المعنى حملت حتى على الواو.

فإن قال قائل : فلم وجب أن يكون ما بعد حتى جزءا مما قبلها؟

__________________

(١) قال الزجّاجي في حديثه عن حتى :

" وأما دخولها على الأسماء المفردة ، فإن الوجه أن تكون خافضة لها ، وربما أجريت مجرى حرف عطف ..." انظر كتاب الجمل في النحو ٦٧.

وانظر : الجنى الداني في حروف المعاني ٥٤٢.

(٢) في الأصل : إذا.

(٣) في الأصل : الخفظ.

١٨١

قيل له : لأن معناها أن تأتي لاختصاص ما يقع عليه ، إما لرفعته أو لدناءته ، وذلك أنك إذا قلت : ضربت القوم ، فلا بد أن يكون القوم عند المخاطب / مخصوصين معروفين وفيهم دنيء ورفيع ، فإذا قلت ضربت القوم حتى زيد ، فلا بد أن يكون زيد إما أرفعهم أو دونهم ، ليدل بذكره أن الضرب قد انتهى إلى الرفعاء أو إلى الأدنياء ، ولم يكن زيد بهذه الصفة لم يكن لذكرك (١) إياه فائدة ، إذ كان قولك : ضربت القوم ، يشتمل على زيد ، فلما كان لا بد من ذكر زيد على الوجه الذي ذكرناه وجب أن يكون بعضا مما قبله ليدل على هذا المعنى ، ولهذه العلّة لا يجوز أن تقول : ضربت الرجال حتى النساء ، لأن النساء لسن (٢) من نوع الرجال ، ولا يتوهم دخولهن مع الرجال ، فلهذا لم يجز ، وإذا قلت ضربت القوم حتى زيدا ضربته فذكرت بعد حتى اسما وفعلا من جنس الفعل المتقدم وكان ناصبا لضمير الاسم ، فلك فيه ثلاثة أوجه : الخفض على الغاية وإذا خفضت الاسم صار الفعل الذي بعد الاسم مؤكدا للفعل المتقدم ولا موضع له من الإعراب ، كما أن الفعل الأول لا موضع له ، وإن نصبته أضمرت فعلا ينصبه وصار الفعل الظاهر تفسيرا للفعل المضمر ، ولا موضع لهما من الإعراب ، لأن الفعل المضمر معطوف على المبتدأ به ، فلما كان الفعل المبتدأ به لا موضع له من الإعراب فكذلك حكم ما عطف عليه ، والمفسر له يجري مجراه ، فإذا رفعت الاسم صار مبتدأ والفعل الذي بعده في موضع خبره ، وعلى هذا الوجه يصير موضع الفعل رفعا ؛ لأنه في موضع خبر المبتدأ ، وأما إذا كان بعد حتى اسمان فلا يجوز الرفع على الابتداء والخبر وذلك أن حرف الجر لا يجوز أن يخفض أكثر من اسم واحد إلا على طريق الاشتراك أو النعت ، فلو خفضت الاسم الأول في قولك : ضربت القوم حتى زيد غضبان ، بقي غضبان بلا شيء يخفضه ولا يرفعه

__________________

(١) في الأصل : لذكره.

(٢) في الأصل : ليس.

١٨٢

ولا ينصبه وهذا يستحيل أن يكون مفرد معرب بغير شيء نعربه ، فلهذا يبطل الجر وصار حتى ها هنا بمنزلة الواو ، وأما بيت الفرزدق (١) :

فوا عجبا حتى كليب تسبني

كأن أباها نهشل أو مجاشع

فلو ذكرنا قبل حتى لفظ السب كقولك : يا عجبا يسبني الناس حتى كليب تسبني ، لجاز في كليب الرفع والجر ، فالرفع على الابتداء والخبر والجر على الغاية (٢) ويكون يسبني توكيدا للسب المتقدم ، وإذا رفعت فعلى الابتداء والخبر ، إلا أن البيت لمّا لم يذكر في أوله السب لم يجز أن يخفض كليبا ؛ لأنه يبقى يسبني معلقا بغير شيء ، فلهذا لم يجز عندنا إلا الرفع ، وقد أجاز الخفض فيه أهل الكوفة (٣) وحملو الكلام على المعنى ، والأجود قولنا ؛ لأن اللفظ له حكم وليس كل ما جاز على المعنى يجوز على اللفظ (٤) فاعرفه.

__________________

(١) البيت من البحر الطويل وهو في الديوان : ١ / ٤١٩ وجاء في الكتاب ٣ / ١٨ ، ومعاني القرآن للفراء ١ / ١٣٨ والمقتضب ٢ / ٤١ ، وشرح أبيات سيبويه للنحاس ٢٧١ ، وشرح المفصل ٨ / ٨ و ٨ / ٦٢ ، ومغني اللبيب ١٧٣ ، وشرح شواهد المغني للسيوطي ١ / ١٢ ـ ١ / ٣٧٨ ، وأورد شيئا من القصيدة ، والهمع ٤ / ١٦٩ ، والخزانة ٩ / ٤٧٥.

والفرزدق : هو همّام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن مجاشع ، وسمّي كذلك لأنه شبّه وجهه بالخبزة.

طبقات فحول الشعراء ١ / ٢٩٨.

(٢) وهذا ما ذهب إليه ابن هشام فقال في المغني :

" ولا بد من تقدير محذوف قبل (حتى) في هذا البيت ، يكون ما بعد (حتى) غاية له ، أي :

فوا عجبا يسبني الناس حتى كليب تسبني ..." ١ / ١٣٧ (ط ٢ دار الفكر).

(٣) قال الفراء في البيت :

" فإن الرفع فيه جيد ، وإن لم يكن قبله اسم ، لأن الأسماء التي تصلح بعد حتى منفردة إنما تأتي من المواقيت ، كقولك : أقم حتى الليل. ولا تقول : أضرب حتى زيد ، لأنه ليس بوقت ، فلذلك لم يحسن إفراد زيد وأشباهه ، فرفع بفعله ، فكأنه قال : يا عجبا أتسبني اللئام حتى يسبني كليبيّ ، فكأنه عطفه على نية أسماء قبله. والذين خفضوا توهموا في كليب ما توهموا في المواقيت ، وجعلوا الفعل كأنه مستأنف بعد كليب ، كأنه قال : قد انتهى الأمر إلى كليب ، فسكت ، ثم قال : تسبني". انظر معاني القرآن ١ / ١٣٨.

(٤) في الأصل : العطف.

١٨٣

باب ما تنصبه العرب وترفعه

إن قال قائل بأي شيء تنصب وراءك في قولك وراءك أوسع لك؟

[قيل](١) : المعنى المقدر هو تأخر وراءك.

فإن قال قائل : فلم حسن النصب في قولك : ما صنعت وأباك؟

قيل له : لأن ضمير المرفوع لا يحسن العطف عليه إلا أن يؤكد فعدل به إلى النصب لقبح العطف على الضمير المرفوع ، فإن أكدت الضمير قلت : ما صنعت أنت وأبوك؟ حسن الرفع ، والنصب / جائز فاعرفه.

واعلم أنه ليس كل فعل يحسن فيه هذا لو قلت : قمت وعمرا ، لم يحسن ويجوز مع ذلك ، والأحسن أن يستعمل هذا الباب في كل فعل تعلق بمعنى (مع) ، ألا ترى أن قولك : ما صنعت يقتضي (مع) إذ كان قولك ما صنعت يقتضي مصنوعا معه ، فلهذا حسن تقدير (مع) في هذه الأفعال.

فإن قال قائل : فمن أين جاز أن تنوب الواو عن معنى (مع)؟

قيل له : لأن (مع) تقتضي مشاركة ما بعدها مع ما قبلها كقولك : جاءني زيد مع عمرو ، فعمرو قد شارك زيدا في المجيء كما شاركه لو قلت : جاءني زيد وعمرو ، فلهذا قامت مقامه.

واعلم أن المفعولات التي ذكرناها إنما نسبت إلى ما ذكرناه من أجل المعنى فسمي المصدر مفعولا مطلقا ؛ لأن العامل أحدثه.

وسمي زيد وما جرى مجراه من المفعولات مفعولا به ؛ لأن الفاعل لم يفعل زيدا وإنما هي أفعال تحل بزيد ، فلأجل تقديرنا أن الفعل حلّ به سمي مفعولا به.

__________________

(١) زيادة ليست في الأصل : يقتضيها السياق.

١٨٤

وكذلك سمي الظرف مفعولا فيه ؛ لأن معنى الفعل أنه حلّ فيه ، وكذلك الحال إذ كان معنى قولنا : أقمت ضاحكا أي إقامتي في هذه الحال ، وكذلك قولنا : جئتك مخافة الشرّ. فسمي أيضا من أجله ؛ لأن اللام مقدرة (١).

باب ... (وهو ما كان من الأفعال يتعدى بحرف جر) (٢)

اعلم أن الأصل في هذا الباب أن يتعدى بحرف الجر ، وإنما حذف حرف الجر استخفافا ولا يقاس عليه ، وأكثر ما يحذف منه حرف الجر إذا كان في الفعل دليل عليه ، ألا ترى أن قولك : اخترت الرجال زيدا ، أن لفظ الاختيار يقتضي تبعيضا ، فلهذا جاز حذف (من) لدلالة الفعل عليها.

ومنه ما يحذف استخفافا لكثرته في كلامهم كقولهم : نصحت زيدا ، وسميتك زيدا وكنيتك أبا عبد الله (٣) ، لأن هذه الأشياء قد كثرت في كلامهم فاستخفوها فحذفوا حرف الجر. وكلتك ، ووعدتك حذفوا حرف الجر إذ لا يشكل معناها ، فأما الباء في قولك : لست بمنطلق ، فليست ما تقتضيه منها ليس اقتضاء الأفعال لحرف الجر ، إذ كانت (ليس) تعمل في الخبر كعمل كان في خبرها ، وإنما تدخل في خبر (ليس) على طريق التوكيد للنفي لما ذكرناه في باب (ما) فاعرفه ، وقد تحتمل أن تجعل من [في](٤) قولك (من رجل) مفيدة ذلك ؛ لأن أحدا تستعمل بمعنى العموم ، فإذا قلت ما جاءني أحد ، جاز أن يتوهم ما جاءني واحد فإذا دخلت (من) بطل هذا المعنى ، وصار اللفظ مختصا لنفي الجنس.

__________________

(١) أي : لمخافة الشر.

(٢) كتبت في الأصل في سياق المتن وليس مع العنوان.

(٣) أي نصحت لزيد ، وسميتك بزيد ، وكنيتك بأبي ... وانظر شرح المفصل ٧ / ٦٣ ـ ٦٤ (إدارة الطباعة المنيرية).

(٤) زيادة ليست في الأصل يقتضيها السياق.

١٨٥

باب التعجب

إن قال قائل : لم خصت (ما) من بين سائر الأسماء بالتعجب؟

قيل له : لأنها مبهمة (١) ، والشيء إذا أبهم كانت النفس مشوقة (٢) إليه ، والدليل على أن (ما) أشد إبهاما من (من) و (أي) (٣) أنها تقع على ما لا يعقل وعلى صفة من يعقل ، و (من) تختص بمن يعقل فصارت (ما) أعم ومع ذلك فإن (ما) واقعة على الشيء الذي يتعجب منه ، وذلك أن الشيء ليس مما يعقل فلم يجز إدخال (من) هنا.

وأما (أي) فهي متضمنة للإضافة ، والإضافة توضحها فلذلك لم تقع هذا الموقع.

فإن قال قائل : فهلا استعملوا الشيء إذ كان أبهم الأشياء (٤)؟ قيل له : إن الشيء ربما يستعمل للتقليل / ولو قلت : شيء أحسن زيدا ، لجاز أن يعتقد أنك تقلل المعنى الذي حسّن زيدا فتجنبوه لهذا الوجه ، وأيضا فإن الغالب على قولك : شيء حسّن زيدا أنه إخبار عن معنى مستقر ، وما يتعجب منه ينبغي أن يسرك في الحال ، فأما ما قد استقر وعرف فلا يجوز التعجب منه ، فلهذا خصت من بين سائر الأسماء بالتعجب.

__________________

(١) كتبت في الأصل : مها.

(٢) في الأصل : مشرقة.

(٣) انظر : اللباب في علل البناء والإعراب ١ / ١٩٦ ـ ١٩٧. فقد أثار العكبري الفكرة نفسها وناقشها.

(٤) انظر شرح المفصل ٧ / ١٤٣ حيث جاء فيه :

" ... فإن قيل : فإذا قلتم إن تقدير ما أحسن زيدا ، شيء أحسنه وأصاره إلى الحسن ، فهلّا استعمل الأصل الذي هو (شيء)؟ فالجواب : أنه لو قيل : شيء أحسن لم يفهم منه التعجب ؛ لأن شيئا وإن كان فيه إبهام إلا أن (ما) أشد إبهاما ، والمتعجب معظم للآمر ، فإذا قال : ما أحسن زيدا ، فقد جعل الأشياء التي يقع بها الحسن متكاملة فيه ، ولو قال : شيء أحسن زيدا ، كان قد قصر حسنه على جهة دون سائر جهات الحسن ، لأن (الشيء) قد يستعمل للقليل ...".

١٨٦

فإن قال قائل : فلم خص فعل التعجب بأن يكون منقولا من الثلاثي (١)؟

قيل له : لأن النقل لا يكون إلا بالأفعال الثلاثية كقولك : قام زيد ، ثم تقول : أقمته ، وكذلك نقول حسن زيد فتخبر عنه ثم تقول : أحسنته ، إذا أردت أنك حسّنته ، نقلت هذه الأفعال إلى لفظ الرباعي ، فصار ما أحسن زيدا بمنزلة شيء أحسن هو زيدا فصار زيد مفعولا يجعل الفعل لغيره (٢).

فإن قال قائل : فلم لا يجوز في الأفعال الرباعية في غير التعجب؟

قيل له في ذلك وجوه :

أحدها : أنه لو جاز النقل في الرباعي لجاز في الخماسي والسداسي ، ولو جاز ذلك أيضا لصار السداسي سباعيا وليس في الأفعال ما هو على سبعة أحرف ، فلما كان نقل الرباعي يؤدي إلى الخروج عن الكلام لم يجز.

ووجه آخر أن الأفعال الأصول تقع على ضربين ثلاثي ورباعي في نقل الثلاثي ليحمل على الرباعي الذي هو الأصل ، فلو نقل الرباعي لم يكن لنا أصل يرد إليه فلهذا لم يجز.

ووجه ثالث : وهو أن الثلاثي أخف الأبنية فلخفته جاز أن تزاد عليه الهمزة للنقل ، وما زاد على الثلاثي فهو ثقيل ، فلم تجز الزيادة فيه.

فإن قال قائل : فلم خصت الهمزة من بين سائر الحروف؟

قيل له : لأنها أقرب إلى حروف المد إذ (٣) كانت من مخرج الألف ، والألف لا

__________________

(١) في الأصل : الثاني.

(٢) قال ابن يعيش في شرح المفصل : " ولا يكون هذا الفعل إلا من الأفعال الثلاثية نحو : ضرب ، علم ، ظرف ..." ، ٧ / ١٤٤ (إدارة الطباعة المنيرية).

وانظر : كتاب قطر الندى وبل الصدى لابن هشام ١١٨ (ط بولاق).

(٣) في الأصل : إذا.

١٨٧

يكون الابتداء بها ، فكان أولى من الهاء لأنها قد كثرت (١) زيادتها في هذا الموضع نحو أصفر ، وأحمر ، وما أشبه ذلك ، فلما كثرت زيادتها أولا كانت أولى من سائر الحروف.

فإن قال قائل : فمن أين زعمتم أن (أحسن) في التعجب فعل (٢) ، وما تنكرون أن يكون اسما لوجهين أحدهما أن التصغير يدخله كقوله : ما أحيسن زيدا ، والثاني أنه يصح كما تصح الأسماء ، كقولك : ما أقوم زيدا ، والفعل يعتل فيقال : أقام زيد عمرا ، ولا يقال : أقوم زيد عمرا؟

قيل له : الدليل على أنه فعل لزوم الفتح لآخره ، ولو كان اسما لوجب أن يرفع إذا كان المبتدأ ألا ترى أنك تقول : زيد أحسن من عمرو ، ترفع وإن كان تعجبا قلت ما أحسن زيدا تنصب ، ولو كان الذي بعدها اسما لارتفع فلما لزمه الفتح دلّ على أنه فعل ماض (٣).

فإن قال قائل : فمن يذهب إلى قول الفراء إنما يفتح آخره ليفرق بينه وبين الاستفهام والأصل فيه الاستفهام (٤)؟

قيل له : هذا لا يجوز وذلك أن الاستفهام معنى مباين (٥) لمعنى التعجب ، وإذا

__________________

(١) في الأصل : كثر.

(٢) زعم الكوفيون أن أفعل في التعجب بمنزلة أفعل في التفصيل ، واحتجوا بجواز تصغيره ، وبأنه تصح عينه في التعجب نحو ما أقوله ، وما أبيعه وهذا يكون في الأسماء ...

انظر شرح المفصل ٧ / ١٤٣ (إدارة الطباعة المنيرية).

وقد وافق الكسائي البصريين في فعليته انظر : الكافية في النحو شرح الاسترباذي ٢ / ٣٠٨.

(٣) انظر الكافية في النحو شرح الاسترباذي ٢ / ٣٠٨.

(٤) انظر المصدر السابق ٢ / ٣١٠ ، وجاء فيه : " وقال الفراء وابن درستويه ما استفهامية ما بعدها خبرها وهو قوي من حيث المعنى لأنه كان جهل سبب حسنه فاستفهم عنه ، وقد يستفاد من الاستفهام معنى التعجب. قيل :مذهبه ضعيف من حيث أنه نقل من معنى الاستفهام إلى التعجب ، فالنقل من إنشاء إلى إنشاء مما لم يثبت".

(٥) في الأصل : مبانيا.

١٨٨

تباينت (١) المعاني لم يجز أن يجعل أحدهما أصلا للآخر ، فإذا كان قد فسد أن يجعل الاستفهام أصلا للتعجب ثبت ما ذكرناه ، وأما احتجاجهم بالتصغير فساقط ، وذلك أن فعل التعجب قد لزم طريقة واحدة فجرى في اللفظ مجرى الأسماء ، فأدخلوا عليه التصغير تشبيها بالاسم ، وليس يجب أن يكون الشيء إذا حمل على غيره لشبه بينهما أن / يخرج من جنسه ، إلا أنّ اسم الفاعل قد عمل عمل الفعل ، ولم يخرجه ذلك عن أن يكون اسما (٢) ، وكذلك فعل التعجب وإن صغّر تشبيها بالاسم فلا يجب أن يكون اسما.

ووجه آخر وهو أن الفعل يدل على مصدره وإذا زادوا ياء التصغير أرادوا تحقير الجنس الذي وقع فيه التعجب ، وهو المصدر بعينه فلم يمكنهم لعدم لفظ المصدر فأدخلوا التصغير على الفعل وهم يريدون به المصدر ؛ لأنه مشبه (٣) به ودال عليه ، فإذا كان التصغير دخل على الفعل على طريق العارية لا على طريق التحقيق لم يكن تصغيره دلالة على أنه اسم ، وأما تصحيحه فلما ذكرناه من تشبيهه بالاسم إذ قد لزم طريقة واحدة ، كما يصح الاسم.

فإن قال قائل : فما أوجه تصحيح الاسم؟

قيل له : ليفصل بينه وبين الفعل ، وذلك أن ما كان على أفعل وهو صفة لا ينصرف ، فإذا لم ينصرف لم يدخله الجر ولا التنوين ، كما أن الفعل لا يدخله جر ولا تنوين ، فلو أعللنا الاسم كما يعل الفعل لم يقع بينهما فصل فجعل التصحيح فصلا بينه وبين الاسم. وإنما كان الاسم بالتصحيح أولى من الفعل ، لأن الفعل يتصرف فتدخل الحركات على حروف المد في تصاريف الفعل وذلك مستثقل ، والاسم يلزم طريقة واحدة والحركة إنما تدخل على حرف المد في الاسم في موضع واحد فكان أولى بالتصحيح من الفعل لما ذكرناه.

__________________

(١) في الأصل : تباين.

(٢) في الأصل : إلى أن يكون اسما.

(٣) في الأصل : مشيب.

١٨٩

وأما (دار) و (باب) فإنما أعلّا ؛ لأن الجر والتنوين يدخلهما فيقع لهما الفصل بين الاسم والفعل ، فلم يجب تصحيحهما فحملا على الفعل في الإعلال ؛ لأنه أخف.

واعلم أنك إذا قلت ما أحسن ما قام زيد ف (ما) الثانية مع الفعل مصدر وزيد فاعل للقيام ولا تحتاج (ما) إلى ضمير يرجع إليها عند سيبويه ، لأنها بمنزلة (أن) في هذا الموضع وإن كانت بمنزلة (الذي) لم تجز المسألة لأنها في صلتها ضمير يرجع إليها ، فإن أردت أن تجعلها بمنزلة (الذي) قبح وكان لفظه : ما أحسن ما قام زيد إليه ، وكذلك تقول : ما أحسن ما كان زيد إذا جعلت (كان) بمنزلة وضع وجعلت (ما والفعل) مصدرا فإن نصبت زيدا بكان جعلتها بمنزلة (الذي) وجعلت في كان ضميرا يرجع إليها ونصبت زيدا على خبر كان ، وإنما قبح أن تجعل (ما) بمنزلة (الذي) في هذا الموضع ؛ لأن (ما) إنما تقع لذات ما لا يعقل ولصفات ما يعقل ، ولا يحسن أن تقع على ذات ما يعقل ، ألا ترى أنك لو قلت : ما كان في الدار؟ لكان الجواب : حمار أو ثور ، ولا يجوز أن يكون الجواب : زيد ولا عمرو ، إلا أنه جاز ما ذكرناه ؛ لأن الصفة هي (١) الموصوف ، فإن قلت : ما أظرف ما كان زيد ، و [ما أعلم ما كان زيد](٢) ، كان محالا ؛ لأن كان مع الفعل بمنزلة المصدر فيصير التقدير : ما أظرف كون زيد ، وما أعلم كون زيد ، والكون لا يوصف بالظرف ، والعلم ، فإن نصبت زيدا على أن تجعل (ما) بمنزلة (الذي) أجز ذلك ، فاعرفه.

واعلم أن الألوان والخلق إنما لم يشتق منها فعل للتعجب لوجهين (٣) :

أحدهما : أن أصل أفعالها أن يستعمل على أكثر من ثلاثة أحرف ، وذلك أن

__________________

(١) في الأصل : هو.

(٢) كتبت في الأصل على الهامش.

(٣) انظر شرح المفصل ٧ / ١٤٥.

١٩٠

عور أصله في الاستعمال : اعورّ ، وكذلك حول / أصله : احولّ ، وما زاد على الثلاثي من الأفعال في باب الاستعمال لم يجز أن يبنى منها فعل التعجب ؛ لأن ذلك يؤدي إلى إسقاط الزوائد منه حتى يرجع إلى ثلاثة أحرف ، ثم تدخل عليه همزة التعدي وإسقاط الزوائد منه يبطل معناه ، فلهذا لم يجز أن يبنى من الألوان (١) فعل التعجب ولا مما زاد على ثلاثة أحرف من الأفعال ، وإن كان زائدا (٢) إلا أن تكون الزوائد لو حذفت لم يخل بالمعنى فقولك : ما أفقر زيدا ، وإن كان المستعمل افتقر زيد ، لأنك رددت افتقر إلى فقر ، فكان اللفظ لا يغير من معنى الكلمة فلهذا جاز ، وكذلك تقول : ما أعطاه للدرهم وأولاه بالجميل ، لأنك رددت أولى وأعطى إلى أصلهما ثم نقلتهما بالهمزة فأصلهما واحد ، فلهذا جاز نقل أعطى وأولى (٣).

فإن قال قائل : فمن أين زعمتم أن الأصل في عور اعورّ وما تنكرون أن أصله عور لا اعورّ؟

قيل الدليل على ما ذكرناه من وجهين :

أحدهما : أنه قد اطرد في هذه الألوان والخلق أن يجيء على أفعل كقولك :أصفر وأخضر ولا يجيء على فعل نحوه (٤). فدل امتناع فعل التعجب من جميعها أنه مرفوع في الاستعمال فإن الأصل في الاستعمال الفعل المطرد في جميع الباب.

__________________

(١) في الأصل : الأولوان.

(٢) في الأصل : زيدا.

(٣) قال سيبويه في باب ما لا يجوز فيه ما أفعله : " وذلك ما كان أفعل وكان لونا أو خلقة ألا ترى أنك لا تقول :ما أحمره ولا ما أبيضه ، ولا تقول في الأعرج : ما أعرجه ... إنما تقول : ما أشد حمرته ... وما لم يكن فيه ما أفعله لم يكن فيه أفعل به رجلا ، ولا هو أفعل منه لأنك تريد أن ترفعه من غاية دونه ..." وللتفصيل انظر : الكتاب ٢ / ٢٥٠ ـ ٢٥١ (بولاق) ، وشرح المفصل ٧ / ١٤٤ ـ ١٤٦.

(٤) في الأصل : نحوا.

١٩١

والوجه الثاني : أن أفعل أثقل من فعل ، ومن كلامهم جواز التخفيف من الثقيل ، أعني أنهم ينتقلون من الثقيل إلى الخفيف ، وإنما نقل عور من اعورّ وحول من احولّ ، وليس من كلامهم أن ينقلوا الخفيف إلى الثقيل إذا اتفقا في المعنى أعني الخفيف والثقيل ؛ لأن ثقل الخفيف يوجب تكلّفا لا فائدة فيه إذا كانا في هذا الموضع قد اتفقا في المعنى ، ومثل هذا لا يقع من حكيم ، فدل استعمالهم عور واعورّ بمعنى واحد أن عور مخفف من اعورّ ، ويجوز أن يعتل في امتناع اشتقاق الفعل من الألوان والخلق بما يحكى عن الخليل (١) أن هذه الأشياء لما كانت مستقرة في الشخص ، ولا تكاد تتغير جرت مجرى أعضائه الثلاثة التي لا معنى للفعل فيها كاليد والرجل ، فكما لا تقول : ما أيداه ، ولا ما أرجله ، إذ كانا اسمين ليس بجاريين على فعل ، فكذلك لا يجوز في الألوان والخلق اشتقاق فعل للتعجب حملا على اليد والرجل.

واعلم أنك إذا قلت : أحسن بزيد ، وأظرف بعمرو ، فالباء يجوز أن يكون موضعها رفعا ونصبا ، والأظهر أن يكون موضع الباء وما بعدها رفعا ؛ لأن (أحسن) فعل ولا بد للفعل من فاعل ، ووجب أن تكون [الباء مع](٢) الاسم في موضع الفاعل فهذا هو الظاهر ، وأما من جوز أن يكون موضعها رفعا ونصبا فإنه يقول : في الفعل الفاعل وهو الحسن كما أضمر فيه إذا كان بعد ما ، فإذا قدر الثاني مضمرا صار حرف الجر مع ما تعلق به في موضع المفعول ، وهذا القول ضعيف ، وإنما ضعف وفارق ما أحسن زيدا ، وإنما جاز الإضمار في ما أحسن لتقدم (ما) عليه ، و (ما) اسم مبتدأ ، وأحسن في موضع خبره ، فلم يكن بد من

__________________

(١) قال سيبويه : " وزعم الخليل أنهم إنما منعهم من أن يقولوا في هذه ما أفعله ، لأن هذا صار عندهم بمنزلة اليد والرجل ، وما ليس فيه فعل من هذا النحو ، ألا ترى أنك لا تقول : ما أيداه ، ولا ما أرجله ، إنما تقول : ما أشدّ يده ، وما أشد رجله ونحو ذلك ..." الكتاب ٢ / ٢٥١ (بولاق).

(٢) كتبت في الأصل على الهامش.

١٩٢

تقدير ضمير يرجع إلى المبتدأ ، وأما قوله : أحسن بزيد فلم يتقدم قبله ما يدل على الإضمار / فإذا أمكننا أن نحمل الكلام على ظاهره كان ذلك أولى من التأويل البعيد.

فإن قال قائل : فما وجه استعمال فعل التعجب على لفظ الأمر وإدخال الباء معه؟

قيل له : يجوز أن يكون أرادوا بذلك المبالغة في المدح فأدخلو الباء لأنهم قدروه بأحسن أثبت بزيد ، فلما أرادوا هذا المعنى أدخلوا الباء إذ كان أثبت يتعدى بحرف الجر ودخله معنى حسن جدا ؛ لأن لفظ الأمر فيه طرف من المبالغة ، فلهذا أجازوه ، ويجوز في إدخال الباء وجه آخر ، وهو أنهم أرادوا أن يفصلوا بين لفظ الأمر الذي هو يراد به التعجب وبينه إذ كان أمرا في الحقيقة. واعلم أن لفظ (أحسن بزيد) ، لا يتغير (١) لواحد خاطبت أو لاثنين أو لجماعة أو لمؤنث أو لمذكر كقولك : يا زيد أحسن بعمرو ، يا هند أحسن بعمرو ، وإنما لم يختلف لفظه لأنك لست تأمره أن يفعل شيئا ، وإنما هذا اللفظ بمنزلة قولك : ما أحسن عمرا فبما أن (ما أحسن عمرا) لا يتغير فكذلك ما قام مقامه.

واعلم أن الفصل بين فعل التعجب وما عمل فيه لا يجوز هكذا ذكر سيبويه (٢). وقد أجاز بعضهم الفصل بينهما بالظروف وحروف الجر ، فأما امتناع الفصل ؛ لأن أحسن قد لزم طريقة واحدة فقد شابه من هذا الوجه الحروف في العمل ،

__________________

(١) في الأصل : لا تغير.

(٢) ذكر سيبويه أن هذه الصيغة لا يزال فيها شيء عن موضعه لأنهم لم يريدوا أن تتصرف فجعلوا لها مثالا واحدا تجرى عليه قال : " ولا يجوز أن تقدم عبد الله وتؤخر ما ولا تزيل شيئا عن موضعه ، ولا تقول فيه ما يحسن ولا شيئا مما يكون في الأفعال سوى هذا ... هذا لأنهم لم يريدوا أن يتصرف فجعلوا له مثالا واحدا يجرى عليه ...".

انظر الكتاب (باب ما يعمل عمل الفعل ولم يجر مجرى الفعل ولم يتمكن تمكنه) ١ / ٣٧ (بولاق).

١٩٣

وكان المنصوب بعده وإن كان معرفة يشبه التمييز وإن كان ليس بتمييز في الحقيقة ، ووجه شبهه بالتمييز أنك إذا قلت ما أحسن ، فقد أبهمت فإذا ذكرت زيدا أو عمرا بينت من الذي قصد بالإخبار عنه بهذا المعنى ، وإن لم تجعل نصبه على هذا المعنى ؛ لأن فعله مقول عنه ، فجرى مجرى المفعول الذي يتعدى (١) إليه الفعل ، وخرج عن حكم التمييز ، وهو مع ذلك يجري مجرى المثل لا يفارقه لفظه في المذكر والمؤنث والتثنية والجمع ، والأمثال حقها ألا تغير عما سمعت ، فلما اجتمع في فعل التعجب هذه الجهات التي ذكرناها منع الفصل بينه وبين مفعوله إذ كانت الأشياء حقها ألا يفصل بينها وبين ما تعمل فيه ، فأما من أجاز الفصل بينه وبين معموله بالظرف وحروف الجر (٢) فقال إن فعل التعجب وإن لم يتصرف فليس يكون أضعف من الحروف ؛ لأنه لم يخرج من الفعل إذ لم يتصرف ، وقد وجدنا الحروف الناصبة يفصل بينها وبين ما تعمل فيه بالظرف ، فكان [فعل التعجب](٣) أولى بجواز الفصل ، وهذا لا يدخل على ما ذكرناه ؛ لأن اجتماع الأمور التي ذكرناها مجموعها منع الفصل ، وأما إذا انفرد بعض أوصافه فليس يجب أن يجري حكمه مجرى مجموع الأوصاف.

فإن قال قائل : قد قالت العرب ما أحسن بالرجل أن يفعل الجميل [وقد فصل بين](٤) التعجب وما عمل فيه بحرف الجر؟

قيل له : لا يلزم ، وذلك إن كان أوقع التعجب بأن ، وقع بها فهي وما بعدها مصدر والمصدر إنما يقع من الرجل المخصوص ؛ لأن معنى الكلام : ما أحسن فعل

__________________

(١) في الأصل : يتعدا.

(٢) أجاز ذلك الفراء ، والجرمي ، وأبو علي ، والمازني ، وأجاز ابن كيسان توسيط الاعتراض بلولا الامتناعية ، ومنع ذلك الأخفش والمبرد.

انظر تفصيل ذلك في شرح المفصل ٧ / ١٤٩ ـ ١٥٠ ، والكافية شرح الاسترباذي ٢ / ٣٠٩.

(٣) كتبت في الأصل على الهامش.

(٤) زيادة ليست في الأصل.

١٩٤

الأجمل بالرجل ، فالمدح والذم إنما يقعان بأصحاب الأفعال ، فصار بالرجل وإن كان مخصوصا يرجع التعجب إليه فلم يقع الفصل ؛ لأنه في المعنى هو المتعجب منه ، فأما ما / كان من حروف الجر والظروف التي لا تجري هذا المجرى فيما تعلقت به فلا يجوز الفصل بينها لما ذكرناه من الفصل بينهما.

واعلم أنك إذا رددت فعل التعجب إلى نفسك قلت : ما أحسنني ، زدت نونا قبل ياء المتكلم ليسلم الفعل (١) ، وأنت بالخيار إن شئت سكنت النون الأولى وأدغمتها في النون الثانية وإن شئت أظهرت النونين ، وهذا أجود ؛ لأن المفعول منفصل مما قبله ، وكذلك إذا جمعت ، فأما إذا رددت إلى نفسك في حال الاستفهام زدت ياء (٢) مجردة عن النون وكسرتها ؛ لأن ياء المتكلم لا يكون ما قبلها إلا مكسورا ، فإن ثنيت أو جمعت قلت : ما أحسننا ، فرجعت الضمة إلى النون لزوال الياء ويجوز أيضا الإدغام ، فأما إذا رددت الفعل في النفي إلى نفسك قلت : ما أحسنت سكنت النون لمجيء تاء المتكلم ، وقد بينا ذلك فيما مضى ، فإن جمعت قلت : ما أحسنّا بالإدغام لا غير ؛ لأن النون في أحسن تسكن ، ولا يجوز تحريكها فلما لقيتها النون الثانية وهي متحركة التقى حرفان من جنس واحد ، وهما في تقدير كلمة واحدة ، وإذا كان الفعل والفاعل كالشيء الواحد فلهذا وجب الإدغام.

باب النداء

إن قال قائل : ما بال الاسم المفرد مبنيا والمضاف معربا ، وإذا (٣) مثلت ما انتصب عليه المضاف كان هو والمفرد في ذلك سواء كقولك : دعوت زيدا ، ودعوت عبد الله فإذا جئت ب (يا) اختلفا؟

__________________

(١) انظر كتاب قطر الندى ، ١١٩ (بولاق).

(٢) في الأصل : تاء.

(٣) في الأصل : وإذ.

١٩٥

قيل : هذا الذي ذكرت إنما هو عبارة الكلمة وأنت إذا قلت : يا زيد ، فلست مقبلا على مخاطب بهذا الحديث عن زيد ، إنما خطابك فيه لزيد ، وإذا قلت : دعوت زيدا ، فأنت مخاطب غير زيد بهذا ، ولو خاطبت بهذا زيدا لقلت : دعوتك ، ولم تقل دعوت زيدا ، والتأويل تأويل فعل ، والمعنى معنى خطاب ، فوقع زيد بين حالتين ، بين المخبر عنه وهو غائب ؛ لأنه معرض عنك ، وبين المخاطب ؛ لأنك تريد غيره فضارع المكني ؛ لأنك إذا خاطبت فإنما تقول أنت فعلت ، وإياك أردت ، وهما اسمان مبنيان ، فلما خوطب المنادى باسمه الذي يقع فيه الحديث عنه عند من يخاطب صار غير متمكن في هذا الموضع فعدل عن الإعراب إلى البناء ؛ لأنه وقع موقع اسم مبني.

فإن قال قائل : ما بال هذا المفرد كان بناؤه على حركة؟

قيل له : لأن المنادى من قبل كان مستحقا للإعراب ، وكل اسم كان معربا ثم أزيل عنه الإعراب لعلّة عرضت فيه وجب أن يبنى على حركة ، ليكون بينه وبين غيره من الأسماء التي لم تقع قط معربة فرق نحو : من ، وكم ، وما ، فلهذا وجب أن يبنى المنادى على حركة.

فإن قيل : فلم صار الضم أولى من سائر الحركات؟

قيل له : لأن الفتح مبني على أصل لو بني عليه لم يعلم أمعرب هذا أم مبني ، إذ كان في الأسماء ما لا ينصرف ، فلو ناديته وفتحته لم يعلم أنه منصوب على أصل ما يستحقه المنادى أو مبني فسقط الفتح لما ذكرناه ، ولم يجز الكسر / لأن المضاف إلى المتكلم الاختيار فيه حذف الياء والاجتزاء بالكسرة عنها نحو : يا غلام أقبل ، فلو كسرت المنادى لم يعلم أنه مفرد أو مضاف فسقط الكسر أيضا فلم يبق إلا الضم ، فلهذا خصّ بالضم.

١٩٦

فإن قال قائل : أليس النكرة [و](١) المضاف مخاطبين كالمفرد ، فهلا بنيا (٢) لوقوعهما موقع المكني كما يبنى المفرد؟

قيل له : الفصل بينهما من وجهين :

أحدهما : أن المفرد وقع بنفسه موقع المكني ، ألا ترى أنه يتعرف بنفسه كما يتعرف المكني ، وأما المضاف فيتعرف بالمضاف إليه ، فلم يقم مقام المكني في جميع أحكامه كما وقع المفرد ، وأما النكرة فبعيدة الشبه بالمكني لم يجز بناؤها ، والوجه أنّا لو سلمنا أن المضاف والنكرة وقعا موقع المكني كوقوع المفرد لم يلزم بناؤهما ؛ لأنه عرض في المضاف ما يمنع البناء وكذلك ما يقوم مقامه ، وأما النكرة فنصبت للفصل بينها وبين النكرة المقصود قصدها فبنيت النكرة المحضة على أصل البناء وبنيت النكرة المقصود قصدها إذ كانت هي المخرجة عن بابها ، وكانت أولى بالتغيير.

فإن قال قائل : فقد وجدنا مضافا مبنيا كقوله تعالى (٣) : (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) [النمل : ٢٧ / ٦].

قيل له : إنما تردّ الإضافة الاسم إلى الإعراب إذا لم يكن المضاف مستحقا للبناء في حال الإضافة ، وهو متضمن للإضافة كالمنادى. ألا ترى أنه لا تلزمه الإضافة في جميع أحواله وأما لدن [ف](٤) ليس لها حال تنفك بها من الإضافة ، فلما كان البناء يلزمه في حال إضافته لم يجز إعرابه.

فإن قال قائل : أليس إذا خاطبت إنسانا فقلت له : أنت تفعل ، فقد يجوز أن

__________________

(١) زيادة ليست في الأصل.

(٢) في الأصل : يبنى.

(٣) والآية (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ).

(٤) الفاء زائدة ليست في الأصل.

١٩٧

يشكل عليه خطابك له إذ كان هذا اللفظ يصح أن يكون له ولغيره ، فهلّا جعل المنادى كالمضمر إذ كان مخاطبا وإن وقع فيه اللبس الذي ذكرته.

قيل : الفصل بينهما أن المنادى معرض عمن يناديه ، وليس يعلم أنه المقصود إلا بنفس اللفظ فقط ، واللفظ لا يدل عليه دون غيره فاحتجنا إلى ذكر اسمه ليعرفه (١) ، وأما المخاطب غير المنادى فثم إشارة بيد أو عين مع اللفظ ، فصار هذا المعنى يضطر المخاطب إلى العلم بأنه مقصود بالخطاب ، فلهذا استغني بالمضمرات عن الأسماء الظاهرة.

واعلم أن المنادى المعرفة فيه اختلاف فمن النحويين من يقول : إن تعريفه الذي كان فيه قبل النداء قد بطل وحدث فيه تعريف آخر بالنداء (٢). وأما ابن السراج فيقول تعريفه باق فيه (٣) ، والأجود القول الأول وإنما كان أجود ؛ لأن الاسم العلم تعريفه من جهة القصد ، وإذا اجتمع معنى القصد إلى النداء تعرف المنادى. ألا ترى أن قولك : يا رجل ، معرفة بالقصد و (يا) ، فوجب إذا نادينا زيدا وما أشبهه أن يبطل تعريفه من جهة النية ، ويصير ما حصل له من التعريف بالقصد

__________________

(١) في الأصل : ليرعفه.

(٢) قال المبرد : " قد علمنا أن المضاف معرفة بالمضاف إليه ، كما كان قبل النداء ، والنكرة في حال النداء ، كما كان قبل ذلك ، و (زيد) وما أشبهه في حال النداء معرفة بالإشارة ، منتقل عنه ما كان قبل ذلك فيه من التعريف.

ألا ترى أنك تقول إذا أردت المعرفة : يا رجل أقبل ، فإنما تقديره : يا أيها الرجل أقبل ، وليس على معنى معهود ، ولكن حدثت فيه إشارة النداء ، فلذلك لم تدخل فيه الألف واللام ، وصار معرفة بما صارت به المبهمة معارف" ، المقتضب ٤ / ٢٠٥.

(٣) قال ابن السرّاج : " فأما : يا زيد ، فزيد وما أشبهه من المعارف معارف مثل النداء ، وهو في النداء معرفة كما كان ، ولو كان تعريفه بالنداء لقدر تنكيره قبل تعريفه ، ويحيل قول من قال إنه معرفة بالنداء فقط ، إنك قد تنادي باسمه من لا تعلم له فيه شريكا ، كما تقول : يا فرزدق أقبل ، ولو كنت لا تعرف أحدا له مثل هذا الاسم ، ولو لم يكن عرف أن هذا اسمه فيما تقدم لما أجابك إذا دعوته به ، ومن قال إذا قلت : يا زيد : إنه معرفة بالنداء ، فهذا الكلام من وجه حسن ومن وجه قبيح عندي ..."

وقال أيضا : " وإنما ادّعى من قال : إن : يا زيد معرفة بالنداء لا بالتعريف الذي كان له".

الأصول ١ / ٣٣٠ ـ ٣٣١.

١٩٨

و (يا) إذ كان هذا التأويل معنى في زيد وما أشبهه فحمل الشيء على معناه ، وما هو حاصل له في الحال أولى. وأما ما ذهب إليه ابن السراج فإنه رأى أن بعض الأسماء لا يقع فيها اشتراك نحو : الفرزدق / قال : والتنكير إنما هو باشتراك الأسماء وهذه شبهة ضعيفة ؛ لأنه لا يمتنع أن يسمى بالفرزدق أشخاص كثيرة إذ كانت التسمية ليست بمحظورة ، وإذا كان كذلك صار حكم جميع الأسماء واحدا في جواز الاشتراك فيها فوجب أن يكون الأمر على ما ذكرنا أولا ، ولا يجوز وجه آخر في إيجاب تنكير الأسماء أن يقال لما كان المكنى لا يختص بشخص دون شخص في حال النداء ثم ذكرنا أنّ الاسم العلم وقع في موضعه وجب أن يحصل في موضعه جهالة حتى يتبين بالقصد إليه كما حصل ذلك في المضمر الذي قام مقامه.

واعلم أن المفرد المعرفة إذا نعته بمفرد معرفة فلك في النعت وجهان الرفع ، والنصب ، فأما الرفع فبالحمل على اللفظ ، وأما النصب فبالحمل على الموضع (١).

فإن قال قائل : أما الحمل على الموضع فمسلم ؛ لأن الموضع نصب ، فمن أين حمل النعت على اللفظ ، وهذه الحركة ليست بحركة إعراب ، فإذا جاز الحمل على اللفظ فهلّا جاز أيضا النعت على لفظ ما لا ينصرف كقولك : مررت بعثمان الظريف؟

قيل له : إنما جاز حمل النعت على اللفظ في المنادى ؛ لأن الضم قد اطرد في كل مفرد ، فصار اطراده يجري مجرى عامل أوجب له ذلك ، فشبهت الضمة في المنادى بحركة الفاعل لما ذكرناه من الاطراد وإنما يجب ذلك في عامل الرفع ، وإنما قبح فيما لا ينصرف في حال الجر فليس ذلك بمطرد في كل اسم فصارت الفتحة عارضة ، فلم تبلغ من قوتها أن تشبه بالحركة التي تجب من أجل عامل فإذا كان

__________________

(١) قال سيبويه : " قلت أرأيت قولهم يا زيد الطويل ، علام نصبوا الطويل؟ قال : نصب لأنه صفة لمنصوب ، وقال : وإن شئت كان نصبا على أعني ، فقلت : أرأيت الرفع على أي شيء هو إذا قال : يا زيد الطويل؟ قال : هو صفة لمرفوع ..." الكتاب ١ / ٣٠٣ (بولاق).

١٩٩

كذلك ، جاز (١) حمل النعت على الموضع الذي قد عمل فيه عامل واحد ولم يجز حمل النعت على حركة عارضة لما ذكرناه.

فإن قال قائل : كيف جاز أن يكون النعت معربا والمنعوت مبنيا؟

قيل له : لأن المنعوت استحق البناء لعلّة فيه وهو كونه منادى ، وأما النعت فليس بمنادى فلم تعرض له علّة البناء فوجب أن يكون معربا رفعته أو نصبته ، ألا يرى أن ما لا ينصرف ينعت بالمنصرف إذا لم تعرض فيه علّة تمنع الصرف ، وقد بان ذلك أن المنادى وإن كان مبنيا فنعته معرب.

فإن قال قائل : فلم لا يجوز الرفع في نعت المضاف حملا على لفظ المنادى كما يجوز الرفع فيه إذا كان مفردا؟

قيل له : لأن نعت المفرد كان حقه أن يحمل على الموضع لأنه الأصل ، وإنما تحمله على اللفظ لاجتماع علّتين إحداهما ما ذكرناه من اطراد الضم في كل مفرد ، والثانية أن يجوز حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، فلما كانت الصفة المفردة لو حلت محل المنادى ضمت جاز فيها الرفع كما يجوز فيها الضم ، وأما الصفة المضافة فليس لها هذا الحكم ، ألا ترى أنها لو قامت مقام الموصوف لم تكن إلا منصوبة ، فلم يكن لدخول الضم وجه فلزمت وجها واحدا وهو النصب ، فأما ما لزمه النصب إذا كان منادى فليس له إلا طريقة واحدة ونعته أيضا لا يجوز فيه إلا وجه واحد وهو النصب كقولك : يا عبد الله الظريف ، ويا رجلا صالحا ، ويا خيرا من زيد.

واعلم أن حكم المعطوف أن يجري حكمه / على ما يستحقه لو وليه عامل المعطوف عليه إذ كان شريكا له ، فإذا عطفت على المنادى فاعتبره في نفسك فإن كان مفردا وجب له الضم ، وكان المعطوف مثله أيضا مضموما ، وإن كان مضافا أو نكرة أو مضارعا للمضاف نصب كقولك : يا زيد ، ويا عبد الله ، ويا زيد ورجلا

__________________

(١) في الأصل : فإن.

٢٠٠