العلل في النحو

أبو الحسن محمد بن عبد الله [ الوراق ]

العلل في النحو

المؤلف:

أبو الحسن محمد بن عبد الله [ الوراق ]


المحقق: مها مازن المبارك
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
الطبعة: ٢
ISBN: 1-57547-843-9
الصفحات: ٤١٦

قيل له : أما الدليل على أنهما فعلان (١) ثبات علامة التأنيث فيهما على حد ثباتها في الفعل نحو : نعمت وبئست ، كما تقول : قامت وقعدت ، فلو كانا اسمين لكان الوقف عليهما بالهاء ، فلما وقف عليهما بالتاء علم أنهما فعلان وليسا باسمين وأما كونهما حرفين فلا شبهة في بطلانه لاستتار الضمير فيهما ولا يستتر ضمير الفاعل إلا في الأفعال ، وأما جواز دخول الباء عليهما فإن ذلك عندنا على معنى الحكاية ، كأنه حكى ما قال له ، وحروف الجر تدخل على الفعل الذي لا شبهة فيه على هذا الوجه كما قال : [والله ما زيد بقام صاحبه](٢) فإذا جاز دخول (٣) الياء على طريق الحكاية فليس بمنكور دخول الباء على نعم التي فيها بعض الإشكال ، فقد ثبت بما أوردناه (٤) انها فعل لا اسم (٥) والله أعلم.

فإن قال قائل : إذا نصبتم النكرة بعد نعم وبئس على التشبيه بالمفعول به لأنهما فيهما إضمار الفاعل ، فهل يجوز إظهار ذلك الفاعل مع بقاء المنصوب؟

فالجواب في ذلك أن سيبويه يمنع منه ، وأما أبو العباس المبرد فقد اختاره (٦) وهو قولك نعم الرجل رجلا زيد ، فأما امتناع جوازه فلأن أحد الرجلين يكفي

__________________

(١) ذهب البصريون إلى أنهما فعلان ماضيان لا يتصرفان ، وأيدهم من الكوفيين الكسائي. وذهب الكوفيون إلى أنهما اسمان مبتدآن. وقد ذهب الورّاق هنا مذهب البصريين ، انظر تفصيل ذلك في الإنصاف ١ / ٩٧.

(٢) أصل الرواية : والله ما ليلي بنام صاحبه ، وانظر الخصائص ٢ / ٣٦٦ (دار الكتب) وأسرار العربية ٩٩ ، ونص البيت في اللسان :

تالله ما زيد بنام صاحبه

ولا مخالط اللّيان جانبه

اللسان (نوم) ١٦ / ٧٦.

(٣) في الأصل : دوخول.

(٤) في الأصل : أوردناها.

(٥) في الأصل : لاسم.

(٦) انظر الكتاب ١ / ٣٠٠ ـ ٣٠١ (بولاق) وما ذكره الورّاق صحيح من أن المبرد خالف سيبويه في ذلك قال الأستاذ عضيمة : " ... والمبرد نقد سيبويه في قوله (ج ١ / ٣٠٠ هذا باب ما لا يعمل في المعروف إلا مضمرا ، فقال المبرد : نقض جميع ذلك بقوله في هذا الباب ، وأما قولهم : نعم الرجل عبد الله ... عمل (نعم) في الرجل ولم يعمل في عبد الله ... أطال المبرد في نقده على خلاف عادته وهو نقد تحامل فيه وقد ردّ عليه ابن ولاد في الانتصار ، انظر ١٤٤ ـ ١٤٨". ـ

١٦١

عن الآخر ؛ لأن كل واحد منهما اسم للجنس فلا وجه للجمع بينهما / وأبو العباس أجازه على طريق التوكيد.

فإن قال قائل : فلم خصت بجواز الإضمار قبل الذكر؟

قيل له : لأن المضمر قبل الذكر على شريط التفسير فيه شبهة من النكرة إذ كان لا يفهم إلى من يرجع حتى تفسره ، وقد بينا أن نعم وبئس لا يجوز أن يليهما معرفة محضة ، فصار الضمير على شريطة التفسير لما فيه الألف واللام من أسماء الجنس.

فإن قال قائل : فما الفائدة في هذا الإضمار وهلا اقتصروا على قولهم : نعم الرجل زيد؟ قيل له : الفائدة تخفيف اللفظ وذلك أنهم إذا أضمروا فيها احتاجوا إلى مفسر نكرة منصوبة وهي أخف من معرفة فيها الألف واللام ، فلما كان المضمر لا يظهر وكان ما يفسره خفيفا أضمروا فيها ليخف اللفظ عليهم ، ولو اقتصروا على إظهار الفاعل لكان ذلك شائعا.

فإن قال قائل : فهلا ثنوا الضمير وجمعوه كما يثنون الاسم الظاهر نحو : نعم الرجلان الزيدان؟ فالجواب في ذلك : أنهم إنما أضمروا على شريطة التفسير ليخف اللفظ ، فلما كان المفسر يثنى ويجمع وفيه دلالة على أن المضمر يجري مجراه استغنوا عن تثنية الضمير بما أظهروا من تثنية المفسر وجمعه فلو ثنوا الضمير

__________________

ـ انظر المقتضب ١٢ / ١٤١ حاشية رقم (٢).

وقد أجاز ذلك أيضا (أي الجمع بين التمييز والفاعل الظاهر توكيدا) ابن السرّاج والسيرافي واستدلوا على ذلك بقول الشاعر :

نعم الفتاة فتاة هند لو بذلت

ردّ التحية نطقا أو بإيماء

ومنعه سيبويه والسيرافي مطلقا ، والورّاق هنا يؤيد المنع.

انظر شرح التصريح على التوضيح ٢ / ٩٥ ـ ٩٦.

١٦٢

وجمعوه لولي نعم وبئس اسمان ليس في لفظهما دلالة على الجنس فلهذا لم يثن ويجمع المضمر فيهما.

فإن قال قائل : إذا قلت : نعم الرجل زيد ، فزيد رفع بالابتداء ونعم الرجل خبره ، وليس في الجملة ضمير يرجع إلى المبتدأ ، ومثل هذا لا يجوز في غير هذين الفعلين؟

قيل له : لم يجز في غيرهما من الأفعال لوجهين :

أحدهما أن قولك : زيد قام الرجل ، لو جوزناه لالتبس الكلام ؛ لأن قولك : قام الرجل ، يجوز أن يكون كلاما تاما قائما بنفسه فلا يعلم هل هو خبر الابتداء أو هو استئناف جملة أخرى منقطعة مما قبلها ، وأما نعم الرجل ، فلا يتوهم فيه ؛ لأنه لا يقتصر عليه فصار تعلقه بما قبله كتعلق الضمير بما قبله كقولك : زيد قام فجرى المظهر بعد نعم وبئس مجرى المضمر في غيرهما من الأفعال.

والوجه الثاني : أن قولك : زيد نعم الرجل ، محمول على معناه إذ كان قولك : نعم الرجل ، يقوم مقام زيد الممدوح في الرجال ، فلما قام مقامه في المعنى اكتفي به ، ولم يكن في غيره من الأفعال هذا المعنى فلهذا اختلفا.

فإن قال قائل : من أين حسن إسقاط علامة التأنيث من نعم وبئس إذا وليهما مؤنث ولم يجز في غيرهما من الأفعال (١)؟

قيل له : قد ذكرنا في الشرح وجها آخر أجود منه وهو أن المؤنث الذي يلي نعم وبئس يجب أن يكون اسم جنس يجري مجرى الجمع ، والفعل إذا كان للجماعة وإن كانوا مؤنثين ذكّر فعلهم كقولك : قام النسوة ، فلهذا حسن التذكير في هذين الفعلين.

__________________

(١) قال سيبويه : " واعلم أن نعم تؤنث وتذكر ، وذلك قولك : نعمت المرأة ، وإن شئت قلت : نعم المرأة ، كما قالوا : ذهب المرأة ، والحذف في نعمت أكثر".

الكتاب ٢ / ١٧٨ ـ ١٧٩ (بولاق).

١٦٣

باب حبذا

إن قال قائل : ما الأصل في حبّ؟

قيل له : الأصل فيه فعل على وزن كرم فحذفت الضمة من الباء الأولى وأدغمت في الباء الثانية ، وإنما حكمنا عليها بفعل من وجهين :

أحدهما : أن اسم الفاعل منها حبيب وفعيل أكثر ما يكون / لما ماضيه على فعل نحو كرم فهو كريم.

ولأن الأفعال إذا أريد منها ما يراد في نعم وبئس فأكثر ما يستعمل على فعل كقولك : حسن رجلا زيد ، فلما استعملت حبذا استعمال نعم وإن كانت نعم على وزن فعل وجب أن يحمل حبذا على فعل لكثرة فعل في هذا الباب.

فإن قال قائل : فما الذي أحوج أن يجعل حب مع ذا اسما واحدا (١)؟

قيل : يجوز أن يكون الغرض تخفيف اللفظ ؛ لأنهم إذا قدروها بمنزلة شيء استغنوا عن تثنية (ذا) وتأنيثه ، فلهذا جعلا شيئا واحدا.

فإن قال قائل : فلم صار لفظ التذكير أولى من لفظ التأنيث؟

قيل له : لأن المذكر قبل المؤنث ، وهو كالأصل له فلما أرادوا تركيب [فعل مع](٢) اسم كان تركيبه مع المذكر السابق للمؤنث أولى من المؤنث.

فإن قال قائل : فلم خص بالتركيب مع (ذا) من بين سائر الأسماء؟

__________________

(١) قال سيبويه : " وزعم الخليل رحمه‌الله أن حبذا بمنزلة حب الشيء ، ولكن ذا وحبّ بمنزلة كلمة واحدة نحو لو لا ، وهو اسم مرفوع كما تقول : يا ابن عمّ ، فالعم مجرور ، ألا ترى أنك تقول للمؤنث حبذا ، ولا تقول حبذه ، لأنه صار مع حبّ على ما ذكرت لك ، وصار المذكر هو اللازم ، لأنه كالمثل".

الكتاب ٢ / ١٨٠ (هارون).

(٢) زيادة يقتضيها السياق ، وفي الأصل فلما أرادوا تركيب حرف اسم ...

١٦٤

قيل له : لأن ذا اسم مبهم ينعت بأسماء الأجناس ، وقد بينا أن لفظ الجنس يستحق أن يقع بعد نعم وبئس ؛ فوجب أن يجري مجراها فركبوها مع اسم يقتضي النعت بالجنس.

فإن قال قائل : فلم غلّبتم على حبذا الاسمية وقلتم إنهما صارا بمنزلة اسم واحد؟

قيل : وجدنا في الأسماء اسمين جعلا بمنزلة اسم واحد فوجب أن يحمل حبذا على حكم الاسمية لوجود النظير في الأسماء ولم يجز حملها على الفعل لعدم التنظير.

والوجه الثاني : أن الاسم أقوى من الفعل فلو جعلا شيئا واحدا وجب أن يغلب عليهما حكم الاسمية لقوة الاسم وضعف الفعل فإذا وجب هذا جاز أن تقول : حبذا زيد ، فتجعلوا حبذا اسما مبتدأ ، وزيد خبر فاعرفه ... (١)

باب الضمير (٢)

إن قال قائل : ما وجه تكرير العرب الأسد الأسد والطريق الطريق إذا أرادوا (٣) التحذير؟

قيل له : وجه ذلك أنهم جعلوا أحد الاسمين عوضا عن الفعل المحذوف ، والدليل على ذلك أنهم إذا أسقطوا أحد الاسمين جوزوا إظهار الفعل كقولك :

__________________

(١) جاء في شرح الأشموني ٢ / ٣٨١ في الحديث عن حبذا :

" ولهم فيه مذهبان : قيل غلبت الفعلية لتقدم الفعل فصار الجميع فعلا وما بعده فاعل ، وقيل : غلبت الاسمية لشرف الاسم فصار الجميع اسما مبتدأ وما بعده خبر ، وهو مذهب المبرّد وابن السرّاج ، ووافقهما ابن عصفور ، ونسبه إلى سيبويه ، وأجاز بعضهم كون (حبذا) خبرا مقدما".

(٢) يعني بذلك باب الإضمار.

(٣) في الأصل : أرودوا.

١٦٥

احذر الأسد ، فإذا كرروا لم يظهروا الفعل ، فدل ذلك على أنهم جعلوا الاسمين عوضا عن الفعل ، والوجه أن يكون العوض هو الأول كما أن الفعل يجب أن يكون مقدما على المفعول.

فإن قال قائل : فلم قدرتم الفعل في إياك بغير تكرير كقولك : إياك تريدون ، إياك احذر؟

قيل له : لأن إياك لا يجوز أن يقع فعل قبلها لأنك لا تقدر الكاف ولا يجوز أن تقول : ضربت إياك ، لأنك تقدر أن تقول ضربتك ، فلهذا وجب تقدير الفعل بعد إياك(١).

فإن قال قائل : فلم لا تضمر الفعل إذا كان يتعدى بحرف جر؟

قيل له : لو أضمرنا لوجب أن يبقى الاسم مجرورا لتقدير حرف الجر ولو فعلنا هذا لكنا قد أضمرنا حرف الجر وهذا لا يجوز ؛ لأن حرف الجر يجري في الضعف مجرى حروف الجزم وحروف الجزم لا تضمر وكذلك حروف الجر وجملة الأمر أن جميع الحروف لا يجوز إضمارها لضعفها وإنما جاز إضمار الفعل لقوته إذ كان متصرفا ويعمل في التقديم والتأخير ، فلما كانت هذه الحروف ناقصة عن حكم الفعل لم يجز أن تعمل مضمرة ، وأيضا فإن / المصدر إذا كان يمكن أن يقدر فعلا ينصب بنفسه وأمكن أن يقدر فعلا يصل بحرف جر وجب تقدير شيء واحد إذ كان تقديره ينوب عن شيئين وصار بذلك أولى لخفة حكمه.

واعلم أن إضمار الفعل يقع في كلام العرب على ثلاثة أوجه :

أحدها : لا يجوز إظهاره.

والآخر : يجوز أن يضمر ويظهر.

__________________

(١) انظر للتفصيل شرح التصريح على التوضيح ٢ / ١٩٢.

١٦٦

والثالث لا يجوز إضماره.

فأما ما لا يجوز إظهاره فنحو ما ذكرناه من إياك وزيدا ، وكذلك ما تكرر من الأسماء نحو : الطريق الطريق وكذلك [إن كان](١) أحد الاسمين معطوفا على الآخر لم يجز إظهار الفعل ، كقولك : رأسك والجدار.

وأما ما يجوز إظهاره وإضماره فإنه يجري ذكر الفعل أو يكون الاسمان في حال الفعل كقولك : زيدا إذا سمعت ذكر ضرب أو رأيت إنسانا يريد أن يضرب ، فأنت بالخيار إن شئت قلت : اضرب زيدا وإن شئت حذفت الفعل لدلالة الحال عليه.

فأما الوجه الثالث فأن تقول : زيدا فتضمر الفعل ، وهو لم يجر له ذكر ، فهذا لا يجوز ؛ لأنه لا يدرى أنك تريد اضرب زيدا أو أكرمه ، فلما لم يكن على الضمير دليل لم يجز.

فإن قال قائل : فلم خصت العرب إياك وحدها من بين سائر أخواتها فلم يستعملوا معها الفعل وإن أفردت كقولك : إياك إذا أردت احذر؟

فالجواب : في ذلك أن إياك أقاموها مقام فعل الأمر ، فلم يجز إظهار الفعل معها ، أما غيرها من الأسماء فلم يقم مقام الفعل معه ، فجاز إظهار الفعل معه ، وإنما خصّ إياك بهذا لأنها اسم لا يقع إلا علامة للمنصوب ، فصار لفظه يدل على كونه مفعولا ، وأما غيره من الأسماء فيصح أن يقع منصوبا أو مرفوعا أو مجرورا ، فلما لم يختص من الأسماء اختصاص النصب الذي يقتضيه الفعل الناصب لم يقم مقامه ، ولما اختصت إياك بهذا المعنى جاز أن تقوم مقام الفاعل فاعرفه.

__________________

(١) كتبت في الأصل على الهامش.

١٦٧

باب اسم الفاعل

إن قال قائل : لم وجب لاسم الفاعل أن يجري مجرى الفعل إذا أريد به الحال والاستقبال ، ولم يجز هذا المعنى فيه إذا أريد به المضي ولزم وجها (١) واحدا وهو الجر؟ قيل له ؛ لأن أصل الأسماء ألا تعمل إلا الجر وأصل الأفعال أن تعمل في المفعول إلا أن الفعل المضارع قد أشبه الاسم من وجوه قد ذكرناها في صدر هذا الكتاب (٢) أوجبت له الإعراب بعد أن كان مستحقا للبناء على السكون فكذلك الاسم أيضا حمل على الفعل المضارع فعمل عمله ، وأما الفعل الماضي فلم يشابه الاسم مشابهة قوية فلهذا لم يزد على البناء على الفتح وكذلك يجب في الاسم الذي بمعناه ألّا يزال عن أصله ، والأصل في الأسماء ألا تعمل إلا الجر لما ذكرناه أيضا في باب الجر فبقي اسم الفاعل إذا أريد به الماضي على أصله ، وجاز في اسم الفاعل أن ينصب إذا أريد به الحال والاستقبال حملا على المضارع لما بينهما من الشبه.

فإن قال قائل : فلم جاز في اسم الفاعل إذ أريد به الحال والاستقبال الجر وقد استقرت مشابهته للفعل ، وهلّا امتنع من الجر كما امتنع / الفعل المضارع من البناء إذ كان بحصول شبهة بالأسماء يستحق الإعراب؟

__________________

(١) قال سيبويه : «تقول جئت إذ عبد الله قائم. وجئت إذ عبد الله يقوم ، إلا أنها في فعل قبيحة ، نحو قولك : جئت إذ عبد الله قام» الكتاب ١ / ١٠٧ (هارون).

وقال الزجّاجي : " ضارب تعمل عمل يضرب ، كما أن يضرب أعرب لأنه ضارعه ، فكذلك ضارب يعمل عمله لمضارعته إياه ، فحمل كل واحد منهما على صاحبه" الإيضاح ١٣٥.

وشروط عمل اسم الفاعل : أنه إن كان اسم الفاعل مجردا من (ال) عمل عمل فعله ، إن كان دالا على الحال أو الاستقبال ، وإن كان دالا على الماضي لم يعمل. قال ابن مالك :

كفعله اسم فاعل في العمل

إن كان عن مضيّه بمعزل

وذلك لأن اسم الفاعل يعمل حملا على شبهة بالفعل المضارع ، والمضارع إنما يدل على الحال أو الاستقبال ، فإذا دلّ اسم الفاعل على زمن ماض لم يبق له شبه بالمضارع فزال عمله. انظر شرح ابن عقيل على الألفية ٣ / ٧١ (دار الفكر بيروت).

(٢) راجع ص ٢٩ ـ ٣٠.

١٦٨

قيل له : لأن اسم الفاعل وإن أجري مجرى الفعل لم يخرج عن حكم الاسمية ، ولأجل كونه اسما جاز أن يجر ما بعده ، ولأجل ما بينه وبين المضارع من الشبه جاز أن ينصب ، وأما الفعل المضارع فقد جاز فيه أيضا الرد إلى أصله وهو السكون ، وذلك إذا لحقته علامة جماعة النساء ، كقولك : الهندات يضربن ، فقد استوى حكم نون الفاعل والفعل المضارع فيما سألت عنه ، وأيضا فإن بين حمل اسم الفاعل على الفعل المضارع وبين حمل الفعل على الاسم فرقا ، وذلك أن الفعل حمل في التثنية بما يختص الاسم ، من حمل على الفعل بهذا المعنى أيضا ، فصار حمل الاسم على الفعل أنقص حكما من حمل الفعل على الاسم ، فإذا كان كذلك وجب ألا يزول عن الاسم ما كان يستحقه من جواز الجرّ به ، ولم يجز في الفعل السكون ، لأنه قد انتقل عن أصله لحصول الشبه فيه.

فإن قال قائل : فلم جاز في اسم الفاعل إذا أريد به المضي أن يتعدى إلى المفعول الثاني نحو قوله : زيد معطي عمرو درهما أمس؟ ، قيل له في ذلك وجهان :

أحدهما : أن يكون الاسم منصوبا بفعل مقدر تقديره : أخذ درهما أمس.

والوجه الثاني : وهو أجودهما أن الفعل الماضي لما كان قد بني على حركة لما بينه وبين الاسم من الشبه وجب أن يكون لهذا الشبه تأثير في الاسم فجعل هذا في المعنى يجوز أن يتعدى إلى المفعول الثاني (١).

فإن قال قائل : فلم جاز أن تقول هذان الضاربان زيدا ، وأنت تريد الماضي بهذا القول؟

فالجواب في ذلك أن أصل الكلام هذان اللذان ضربا زيدا ، فانتصب زيد بالفعل ؛ لأن العرب تختص بعض كلامها فتنقل لفظ (الذي) إلى الألف واللام (٢) ؛

__________________

(١) ويروى هذا الوجه عن السيرافي كما جاء في شرح الأشموني ٢ / ٣٤٤.

(٢) (ال) إذا دخلت على أسماء الفاعلين والمفعولين كانت موصولة ، انظر المغني.

١٦٩

لأن الفعل لا يصح دخول الألف واللام عليه فلا بد أن ينقل إلى لفظ الاسم وهو ضارب ليصح دخول الألف واللام عليه وصار لفظ الضاربان زيدا منصوبا بمعنى الفعل المقدر فلهذا جازت المسألة فاعلمه.

واعلم أن المفعول لا يتقدم على اسم الفاعل إذا كانت فيه الألف واللام نحو قولك : هذا الضارب زيدا ، فلو قلت : زيدا هذا الضارب ، لم يجز وإنما لم يجز ، لأن الألف واللام بمعنى (الذي) فما بعدها في صلة (الذي) وما في الصلة لا يتقدم على الموصول فلهذا لم يجز.

فإن قال قائل : فمن أين جازت الإضافة مع الألف واللام مع التثنية والجمع في هذا الباب كقولك : هذان الضاربان زيد والضاربو (١) عمرو ولم يجز ذلك في المفرد نحو قولك الضارب زيد؟

قيل : أما جواز الإضافة في التثنية والجمع فلأن النون إذا ثبتت وجب نصب الاسم بعدها كما يجب نصبه إذا نونت الاسم في قولك : ضارب عمرا ، فكما أنه إذا حذفت النون خفضت الاسم وجب أيضا إذا حذفت النون من التثنية والجمع أن تخفض الاسم. وأما قولك : هذا الضارب زيدا فالألف واللام قد قامت مقام التنوين فلم يكن في الاسم شيء يحذف منه لأجل الإضافة ، فلهذا لم يجز الجر فيه.

فإن قال قائل : فقد قالوا : زيد الضارب / الرجل فأضافوا إلى ما فيه الألف واللام وإن لم يكن فيه تنوين؟

قيل له : جازت الإضافة تشبيها من جهة اللفظ ، كقولك : زيد الحسن الوجه ، وكما قالوا : الحسن الوجه ، تشبيها بقولك : الضارب الرجل ، وسنبين وجه الشبه

__________________

(١) في الأصل : الضاربوا.

١٧٠

بينهما في باب الصفة (١) فصار جواز إضافة الضارب إلى ما فيه الألف واللام بالشبه الذي ذكرناه.

فإن قال قائل : فهلّا جازت الإضافة في التثنية والجمع في الأسماء غير المشتقة من الأفعال نحو قولك : هذان الغلاما زيد كما قلت الضاربا زيد؟

قيل له : الفصل بينهما أن جواز الإضافة فيما بعد الضارب لما ذكرناه من جواز وقوعه منصوبا بعدها بحال ، فلهذا لم تجز إضافتها ، ألا ترى أنك لو قلت : هذان الغلامان زيدا. لم يجز ، فلهذا لم تجز الإضافة؟

فإن قال قائل : فهلّا جوزت الإضافة في هذا من غير هذا التقدير؟

قيل له : إنها لم تجز ؛ لأن القصد (٢) في الإضافة تخصيص المضاف وتعريفه فإذا كانت في المضاف الألف واللام تعرّف بهما ، ولم يحتج إلى تعريف آخر من جهة الإضافة فلهذا لم يجز فاعرفه.

باب ما يعمل من المصادر

إن قال قائل : من أين جاز أن يعمل المصدر وهو أصل الفعل عمل الفعل؟

قيل له : من وجهين :

أحدهما : أن الفعل لما كان مشتقا منه ، وكان في المصدر لفظ الفعل جاز أن يعمل عمله ؛ إذ كل واحد منهما يدل على الآخر.

والوجه الثاني : أنك إذا قلت : أعجبني ضرب زيد عمرا ، فالمعنى : أن ضرب زيد عمرا ، فلما كان المصدر مقدّرا بأن والفعل صار العمل في المعنى للفعل ، فلما

__________________

(١) انظر باب الصفة ص ٢٣٤ من هذا الكتاب.

(٢) في الأصل : الفصل.

١٧١

حذف لفظ الفعل بقي حكمه (١) فلهذا جاز أن يقع بعد الاسم مرفوعا ومنصوبا إذا نونته أو أدخلت فيه ألفا ولا ما ، وإذا أسقطت الألف واللام أو التنوين وجبت الإضافة ؛ لأن المصدر اسم ما لم يحل بينه وبين ما يعمل فيه الحائل أعني التنوين [ف](٢) وجب خفض ما بعده.

فإن قال قائل : قد ادّعيت أن المصدر اسم للفعل فمن أين وجب له ذلك؟

قيل له في ذلك وجوه :

أحدها اجتماع النحويين على تسميته مصدرا ، والمصدر في اللغة هو الموضع الذي تصدر منه الإبل وترده ، فلما استحق هذا الاسم وجب أن يكون الفعل هو الصادر عنه.

ووجه آخر وهو أن الفعل يدل على مصدر وزمان ، والمصدر يدل على نفسه فقط ، فلما كان المصدر أحد الشيئين اللذين دلّ عليهما الفعل بالواحد من الاثنين فلهذا وجب أن يكون المصدر أصلا للفعل.

ووجه ثالث : وهو أن المصدر اسم ، والاسم يقوم بنفسه كقولك : ضربك وجيع (٣) كما تقول : والدك عالم ، فقد لحق المصدر بالأسماء بالقيام بنفسه ، والفعل لا يستغني عن الاسم ، فإذا كان كذلك وجب أن ما لا يحتاج إلى غيره أصلا في نفسه هو (٤) الاسم وما افتقر إلى غيره فرعا هو (٥) الفعل ، وهذا الدليل على أن الفعل مأخوذ من المصدر ؛ لا أن المصدر مأخوذ من الفعل (٦).

__________________

(١) انظر شرح الأشموني ٢ / ٣٣٤.

(٢) زيادة ليست في الأصل.

(٣) في الأصل : وجميع ، وقد أثبت ما يناسب المعنى.

(٤) في الأصل : وهو.

(٤) في الأصل : وهو.

(٥) انظر في الإنصاف المسألة (٢٨) : القول في أصل الاشتقاق ، الفعل هو أو المصدر؟

١٧٢

فإن قال قائل : فقد وجدنا المصدر يؤكد به الفعل كقولك : ضربت ضربا والتأكيد بعد المؤكد؟

قيل : هذا غلط / وذلك أن المصدر وإن أطلقنا عليه أنه توكيد فإنما يقتضي أنه بعد المؤكد في اللفظ ، كما أنك لو قلت : ضربت ضربت ، وجاءني زيد زيد ، وكررت الاسم والفعل لكان المكرر توكيدا للأول ، وليس الأول أصلا له من سبب أنه جاء قبله ، وأيضا فإن قولك : ضربت ضربا ، معناه أنك أوقعت فعلا ، فالمصدر مفعول كقولك : ضربت زيدا ، فلو اعتبرنا ترتيب اللفظ وكون الفعل عاملا فيما بعده وجعلناه أصلا لهذه العلّة لوجب أن يكون الفعل قبل الاسم ، أعني قبل زيد في قولك : ضربت زيدا ، وكذلك سائر الأسماء ووجب ما هو أقبح من هذا ، وهو أن تكون الحروف أصلا للفعل والاسم ، إذ (١) كانت عوامل فيهما فلما بطل هذا سقط الإلزام.

فإن قال قائل : قد وجدنا المصدر يعتل باعتلال الفعل ويصح بصحته كقولك : قام قياما ، والأصل قواما ، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، وجرى المصدر على فعل ، وقد اعتل ، فإذا قلت : قاوم فصححت الواو وقلت في المصدر : قواما فلم تقلب الواو لصحة الفعل ، فلما كان المصدر يتبع الفعل في اعتلاله وصحته وجب أن يكون الفعل أصلا له؟

قيل له : هذا غلط بيّن ، وذلك أن الشيء يحمل على الشيء ؛ لأنهما من نوع واحد ، لأن أحدهما أصل للآخر يحمل عليه لئلا يختلف طريق تصاريف الكلمة ، ألا ترى أنك تقول وعد يعد فتحذف الواو لوقوعها بعد ياء وكسرة حملا على يعد (٢) وليس يعد أصلا في (عد) ولكنه من نوعه ؛ فحمل عليه لئلا يختلف

__________________

(١) في الأصل : إذا ، وقد أثبت المناسب.

(٢) في الأصل : على ما يعد.

١٧٣

تصريف الفعل ، وكذلك المصدر لما كان مشتقا من لفظه صار بينهما مناسبة من جهة اللفظ فحمل عليه ، ومما يدل أيضا على فساد ما ألزمنا المخالف أن من مذهبه في الفعل الماضي في القبح على أن التثنية فرع على الواحد ، فإذا جاز للفراء أن يحمل الأصل على الفرع ، وهو المخالف لنا في هذه المسألة ، جاز لنا أن نحمل المصدر وإن كان أصلا للفعل في باب الإعلال وقد استقصينا هذه المسألة بأكثر من هذا الشرح في شرح كتاب سيبويه.

واعلم أن المصدر يقدر بأن والفعل متى لم يعمل فيه فعله المشتق منه ، فإن عمل فيه فعله لم يقدر بأن ، مثال قولك : أعجبني ضرب زيد عمرا ، فالتقدير : أعجبني أن ضرب زيد عمرا ، فلو قلت : ضربت زيدا ضربا لم يجز أن تقدره ب (أن) فتقول : ضربت زيدا ، وإنما وجب ما ذكرناه ؛ لأن لفظ المصدر لا يدل على معنى معين. فإذا قلت : أعجبني ضرب زيد ، لم يعلم أنه ضرب ماض أو مستقبل أو حال فتفصل بأن والفعل ، لأن لفظ الفعل يدل على زمان مخصوص فلهذا قدر ب (أن) إذا عمل فيه غير فعله ، وأما إذا عمل فيه فعله فلا حاجة بنا إلى تقديره ؛ لأن الفعل المتقدم قد دلّ على الزمان الذي وقع الضرب فيه ، وأمّا قوله تعالى : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) [البلد : ٩٠ / ١٤ ـ ١٥] ، إن قيل : أين فاعل الإطعام؟

قيل : هو محذوف من الكلام للدلالة عليه. فإن قيل : فما الذي يدل عليه؟ قيل قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) [البلد : ٩٠ / ١٢]. / هذا خطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، دلّ ذلك على أن الفاعل هو المخاطب ، والتقدير أو إطعام أنت يتيما.

فإن قيل : فهلّا كان الفاعل مضمرا في الإطعام كما يضمر في اسم الفاعل كقولنا : أنت مطعم ، ففي مطعم ضمير مستتر كما استتر في الفعل إذا قلت تطعم؟ فالجواب في ذلك : أن المصادر لا تقبل الضمير وإن عملت عمل الفعل ،

١٧٤

وإنما لم يصح فيها هذا لأنها أصل الأفعال ، فجرت مجرى أسماء الأجناس نحو : رجل وفرس ، فلما كانت هذه الأسماء لا تقبل الضمير وجب أن يكون المصدر كذلك ، فإذا لم يظهر الفاعل بعدها فإنما ذلك لأجل حذفه للدلالة عليه لا لاستتاره.

فإن قيل : ألستم تزعمون أن الفعل لا يخلو من فاعل مظهر أو مضمر ، فالمصادر أجريتموها في العمل مجرى الفعل فكيف جاز أن يخلو من لفظ الفاعل؟.

قيل له : إن المصدر وإن عمل عمل الفعل فيظهر في نفسه اسم وهو متعلق بالفاعل والمفعول ، فهو في نفسه اسم وهو متعلق بالفاعل والمفعول كما قلت إذا كان الفاعل أحدثه والمفعول به وقع به ، فصار ما تعلق به كالشيء الواحد ، وكما يجوز أن يحذف في بعض الكلام للدلالة عليه جاز أيضا حذف الفاعل.

فإن قيل : فهلّا أجري اسم الفاعل مجرى المصدر ؛ لأنه اسم من المصدر ، وكيف جاز أن يقبل الضمير ولم يقبله المصدر؟

قيل له : لأن اسم الفاعل والفعل جميعا فرعان للمصدر ، فلما جاز استتار الفاعل في الفعل جاز استتاره أيضا في اسم الفاعل لاشتراكهما في الفرعية ، إلا أن بين استتار الفاعل في الفعل وبين استتاره في اسم الفاعل فرقا ، وهو أن ضمير الفاعل المستتر في الفعل يظهر في التثنية والجمع كقولك : الزيدان يضربان ، والزيدون يضربون ، وفي اسم الفاعل يستتر في النية ولا يظهر في اللفظ ، فإنما وجب ذلك في اسم الفاعل ؛ لأنه اسم في نفسه فلا بد أن تلحقه تثنية تخصّه لنفسه ، فلم تجز إظهار تثنية الضمير مع تثنية الاسم ؛ لأن ذلك يوجب الجمع بين تثنيتين ، وهذا محال.

فإن قال قائل : كيف تقدّرون قولهم : أعجبني أكل الخبز والخبز مفعول؟

قيل في ذلك تقديران :

١٧٥

أحدهما أن يكون المصدر مقدرا بأن وفعل لم يسم فاعله ، فالتقدير : أعجبني أن أكل الخبز.

والثاني أن المصدر اسم متعلق بالفاعل والمفعول ، وقد بينّا أنه يجوز أن يكتفي بالفاعل مع المصدر وحده ، وكذلك يكتفي بالمفعول مع المصدر ، فجاز إضافة المصدر إلى المفعول إذ ليس مفتقرا إليه من جهة اللفظ فاعرفه.

باب ما يشتغل عنه الفعل (١)

اعلم أنك إذا قلت : زيد ضربته ، فالاختيار الرفع في زيد ، والنصب جائز ، وإنما اختير الرفع ؛ لأن الرفع بغير إضمار ، والنّصب بإضمار ، فكان ترك الإضمار أولى ؛ لأنه أخف مؤنة من النصب وليس أيضا في الكلام ما يقتضي إضمار فعل ، فلهذا كان الرفع أولى ، وأما إذا قلت : ضربت زيدا وعمرا كلمته ، فالاختيار نصب عمرو / والرفع جائز وإنما اختير النصب في عمرو ؛ لأن واو العطف حقها أن يكون ما بعدها مشاكلا لما قبلها ، فلما بدأت بالفعل كان إضمار الفعل بعد الواو أولى لتكون قد عطفت فعلا على فعل فلهذا اختير النصب ، والرفع جائز على أن يجعل ما بعد الواو النصب متى كان الفعل الذي بعد الواو ابتداء وخبرا فتصير عاطفا جملة على جملة.

واعلم أنه متى كان المبتدأ به الفعل فالاختيار فيما بعد الواو النصب متى كان الفعل الذي بعد الواو ناصبا لضمير الاسم الذي يلي الواو عاملا في سببه ، وسواء كان الفعل المبتدأ به مما ينصب أو يرفع أو يتعدى بحرف جر ، كقولك : فيما يرفع : جاء زيد وعمرا كلمته ، وكذلك لو قلت : جاءني زيد وعمرا

__________________

(١) انظر : الكتاب ١ / ٨٠ (هارون) هذا باب ما يكون فيه الاسم مبنيا على الفعل قدم أو أخر وما يكون فيه الفعل مبنيا على الاسم (الاشتغال).

١٧٦

كلمت أباه ، لأنك بدأت في جميع هذه المسائل بالفعل ، فإن قلت : إنّ زيدا قائما وعمرا كلمته ، فالاختيار في عمرو الرفع لأنك لم تبتدئ بفعل إذ كانت (إنّ) حرفا ، وهي وإن غيرت اللفظ فما بعدها في حكم المبتدأ ، فلهذا اختير الرفع في عمرو ، ويجوز النصب كما جاز في الابتداء بإضمار فعل مثل الفعل الذي قد عمل في الضمير ، فإن قلت : ضربت زيدا وعمرو قائم أو يقوم ، لم يجز في عمرو إلا الرفع ، لأنك لم تذكر بعد الواو فعلا يجوز أن يعمل في عمرو ، وليس بمعطوف على الاسم الأول ، فيدخل في حكمه ، ولكنه عطف جملة قائمة بنفسها على جملة مثلها ، فلهذا لم يجز نصب ما بعد الواو ؛ لأنك لو نصبته بقي الفعل أو الاسم الذي بعده متعلقا ، إذ لا يتعلق بما قبله من الكلام ، فإن قلت : زيد ضربته وعمرو كلمته ، كنت في عمرو بالخيار إن شئت نصبته وإن شئت رفعته ، وإنما اعتدل النصب والرفع هاهنا لأنك بدأت بالاسم في أول الكلام وشغلت الفعل بالضم ، وإن قدرت ما بعد الواو كأنه معطوف على الهاء اختير النصب في عمرو ؛ ليكون ما بعد الواو الفعل كما أن المضمر محمول على الفعل ، فإن قدرت ما بعد الواو اسما مبتدأ بمنزلة المعطوف عليه رفعت ، واختير الرفع ، فإن دخلت ألف الاستفهام على الاسم وقد اشتغل الفعل اختير النصب كقولك : أزيدا ضربته ، وإنما اختير النصب ؛ لأن الاستفهام وقع على الفعل فصار حرف الاستفهام يطلب الفعل فيجب أن يضمر الفعل ، ويكون الموضع الذي يقتفي الفعل أولى بالإضمار ، فإذا وجب إضمار الفعل قبل الاسم وجب النصب. والرفع جائز على المبتدأ أو الخبر ، وإنما جاز الرفع ؛ لأن الاستفهام قد يقع بعده المبتدأ والخبر كقولك : أزيد قائم؟ فكما جاز الابتداء بعد حرف الاستفهام وإن كان خبره لمبتدأ اسما ، فكذلك يجوز الرفع في الاسم وإن كان خيرا لمبتدأ فعلا ، إذ الفعل المشتغل بالضمير لا تسلط له على المبتدأ فجرى مجرى الاسم ، فلهذا جاز فاعرفه ، وكذلك إذا أدخلت عليه / حرف النفي كقولك : ما

١٧٧

زيد ضربته وعمرا كلمته ، وإنما اختير النصب ؛ لأن النفي لمّا كان غير واجب ضارع الاستفهام فاختير فيه النصب كما يختار في الاستفهام ، والرفع أحسن في الاستفهام ؛ لأن النفي تقديره أن يدخل على الموجب كأنك أدخلت (ما) على قولك : زيد ضربته ، فلما دخل النفي على شيء قد استقر فيه الرفع كان بقاؤه على ما كان عليه حسنا.

فإن قيل : فهلّا كان الرفع المختار لأجل هذه العلّة؟

قيل له : إنما ذكرنا أن النفي يدخل على لفظ الإيجاب على طريق التقدير وليس ذلك بواجب ، ألا ترى أنك تقول : ما جاءني أحد ، ولو قدرت الكلام موجبا لم يجز ، فبان أن النفي قائم بنفسه وإن دخل (١) على الكلام الموجب ، فإذا كان كذلك يدخل النفي بطل الإيجاب ، وصار الحكم للنفي ، وحصل مضارعا للاستفهام ، واختير النصب بحصول مضارعته للاستفهام في اللفظ وحسن الرفع لما ذكرناه من التقدير.

واعلم أنك إذا جئت فيه بالأمر والنهي والمجازات فالرفع فيها بعيد كقولك : زيد اضربه ، وزيد لا تضربه ، وإن زيد تكرمه يأتك ، والنصب هو المختار والرفع قبيح ، وإنما قبح الرفع ؛ لأنها أشياء لا تكون إلا بالفعل ، فبعدت من الرفع ، وإنما جاز الرفع لأنك بدأت بزيد ، وشغلت الفعل عنه بضميره فامتنع عن العمل في زيد ، فشبه بقولك : زيد ضربته ، إذا كان الرفع لا يضير المعنى ، واستخف إذا كان فيه إسقاط تقدير فعل مضمر وهذا الذي ذكرناه يجوز في الأمر والنهي.

فإن قال قائل : من شرط خبر المبتدأ أن يجوز فيه الصدق والكذب والأمر والنهي لا يجوز أن يكون فيهما ، فكيف جاز أن يقعا خبرا للمبتدأ؟

قيل : جاز ذلك بحمل الكلام على معناه ، وذلك أن الأصل اضرب زيدا ، فإذا

__________________

(١) في الأصل : وإن ربما دخل على الكلام ... ، وربما هنا زائدة.

١٧٨

قدمت زيدا مرفوعا وشغلت الكلام بضميره فمعنى الكلام باق ، وإنما رفع بشبه لفظه بالمبتدأ أو الخبر ، فلما وجدنا مساغ جواز رفعه ؛ لأن فيه تقدير إسقاط تقدير الفعل جوزنا رفعه وحمل في الحكم على معناه ، وأما إذا رفعت الاسم بعد حرف الجزاء فلا يجوز أن ترفعه بالابتداء ، لأن حروف الشرط ألفاظ تقتضي الفعل فلا يجوز أن يخلو منه ، ومع ذلك فلو رفعت الاسم بالابتداء لم يجز جزم الفعل بعده لفصلك بين حرف الشرط وما قد عمل فيه الاسم ، لأن الجازم مع المجزوم كالجار مع المجرور أضعف حالا ، فلهذا لم يجز رفع الاسم بالابتداء ، وأما الأمر والنهي فليس قبل الاسم حرف يقتضي الفعل حتى يحتاج إلى إضمار فعل ، فلهذا فارق الجزاء الأمر والنهي وإن اشتركا في قبح الرفع فيهما.

فإن قال قائل : فبأي شيء يرفع الاسم بعد حرف الجزاء وقد شغلت الفعل بضمير ، وهو مفعول في المعنى؟

قيل له : يرفع على إضمار فعل ما لم يسمّ فاعله ، كأنك قلت : إن يكرم زيد تكرمه يأتك ، وإنما جاز ذلك ؛ لأن الفعل إذا لم يسم فاعله لا يتغير معنى ، ولو سميت فاعلا لم يكن ينقص عمله فجريا مجرى واحدا ؛ فوجب إضمار فعل ما لم يسم فاعله ليصح رفع زيد. فإن قال قائل : أليس / إذا رفعت زيدا بالفعل المضمر فقد جزمت الفعل الظاهر ب (إن) وقد فصلت بينهما فكيف جاز ذلك وقد امتنعت منه إذا لم يظهر الفعل؟

فالجواب في ذلك أن (إن) عملت في الفعل المضمر والفعل الظاهر تبيين له وتوكيد ، والفصل بين التوكيد والمؤكد والبيان والمبين بشيء يتعلق بالأول جاز ، فلهذا حسن جزم الثاني إذا أضمرت الفعل.

١٧٩

واعلم أن حكم (هلّا) و (إلّا) و (لو لا) و (لو ما) (١) في اختيار النصب بينهما كحكم حروف الجزاء كقولك : هلّا زيدا ضربته ، فإن رفعت فعلى إضمار فعل ما لم يسم فاعله ، ولا يجوز رفعه بالابتداء ؛ لأنها حروف تقتضي الفعل إذ كان فيها معنى الأمر والتحضيض فجرت مجرى الجزاء.

واعلم أن الفعل إذا كان لا يصل إلا بحرف جر لم يضمر ، ولكن يضمر فعل في معناه ؛ لأن حرف الجر لا يجوز إضماره ، وحرف الجر مع المجرور كالشيء الواحد ، وعمل حروف الجر كعمل حروف الجزم ، فكما لا يجوز إضمار الجازم ، فكذلك لا يجوز إضمار الجار ، وعلّة ذلك أجمع أنها عوامل ضعاف إذا كانت حروفا وإنما يحذف العامل لقوته كالفعل لجواز عمله مقدما ومؤخرا فلمّا (٢) كانت هذه الحروف لا يعمل فيها ما قبلها وهي جوامد في أنفسها لم يجز إضمارها ، إذ كان عملها مؤخرة أضعف من عملها فيما قبلها فاعرفه.

فإن قال قائل : فقد أجزتم إضمار رب في قوله :

وبلدة ليس بها أنيس (٣)؟

 ...

قيل له : إنما جاز ذلك ؛ لأن الواو صارت عوضا.

فإن قال قائل : فلم جوزتم إضمار من باتفاق النحويين في قولهم : بكم درهم اشتريت ثوبك؟ قيل له إنما جاز إضمار من هنا لدخول الباء في كم ؛ لأنهم استثقلوا إحاطة حرفين خافضين (٤) باسم ، والمعنى لا يشكل وقوّى من في هذا الكلام فكان قوة معناها في قولهم : بكم درهم ، عوضا منها.

__________________

(١) للتفصيل انظر : الجمل في النحو للزجّاجي ٣١١ ، وكتاب حروف المعاني للزجّاجي ٣ ـ ٥ والمغني ٣٠٢ ـ ٣٠٦.

(٢) في الأصل : فلم ، وقد أثبتت المناسب.

(٣) سبق هذا الشاهد ٧٧.

(٤) في الأصل خافظين.

١٨٠