العلل في النحو

أبو الحسن محمد بن عبد الله [ الوراق ]

العلل في النحو

المؤلف:

أبو الحسن محمد بن عبد الله [ الوراق ]


المحقق: مها مازن المبارك
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
الطبعة: ٢
ISBN: 1-57547-843-9
الصفحات: ٤١٦

ووجه آخر : وهو أن الفاعل قد بينا أنه مشبه للمبتدأ إذ كان هو والفعل جملة فحسن عليها السكوت ، كما أن [المبتدأ](١) والخبر جملة يحسن عليها السكوت فلما وجب للمبتدأ أن يكون مرفوعا حمل الفاعل عليه.

ووجه آخر : وهو أن الفاعل لما كان في الترتيب أسبق من المفعول وجب أن يعطى حركة أول الحرف مخرجا كما أنه قبل المفعول ، وإنما وجب الابتداء بالفاعل على المفعول لأن (٢) الفعل منه يحدث فصار أحق بالتقديم من المفعول فوجب لهذه العلّة أن يرتب قبله ، وأيضا فإن الفعل يستغني بالفاعل عن المفعول ، نحو : قام زيد ، فصار المفعول فضلة يذكر بعد الفاعل فلهذا وجب تقديم الفاعل عليه.

ووجه آخر في استحقاق الفاعل الرفع أن الفاعل أقوى من المفعول ؛ لأنه يحدث الفعل فوجب أن يعطى أقوى الحركات وهو الضم والمفعول لما كان أنقص أعطي أضعف الحركات وهو الفتح.

فإن قال قائل : بأي شيء يرتفع الاسم وينتصب؟

فالجواب في ذلك أن الاسم إنما يرتفع بالإخبار عنه ، فلهذا لم يختلف حاله في النفي والإثبات ؛ لأنه في كلا (٣) الحالين مخبر عنه ، والفعل هو العامل فيه وفي المفعول ، وبعض النحويين يجعل العامل في المفعول الفعل والفاعل معا (٤) ، وهذا خطأ ؛ لأن الفعل قد استقر أنه عامل في الفاعل فيجب أيضا أن يكون هو عاملا في المفعول ، لأن الفعل بمجرده لا يصح أن يعمل في المفعول ، فإذا استقر للفعل العمل لم يجز أن يضيف إليه في العمل ما لا تأثير له في هذا الباب ، إذ كان زيد

__________________

(١) كتبت في الأصل على الهامش.

(٢) في الأصل لأنه.

(٣) في الأصل : كل.

(٤) منهم الفراء كما جاء في شرح الكافية للاستراباذي ١ / ١٢٨.

١٤١

وعمرو وما أشبهها لا يصح أن يعملا في غيرهما من الأسماء ؛ لأنه لو جاز للاسم أن يعمل في الاسم لم يكن المفعول فيه أولى بالعمل من العامل فيه إذ هما مشتركان في الاسمية. فإن قال قائل : فهلّا اقتصروا على أن يكون الفاعل مقدما عن المفعول واستغنوا عن الإعراب؟

قيل له : لو فعلوا هذا لضاق الكلام عليهم ، وفي كلامهم الشعر الموزون ولا بد أن يقع فيه تقديم وتأخير لينتظم وزنه ، فجعلوا للفاعل علامة يعرف بها أين وقع وكذلك المفعول.

فأما إذا كانت الأسماء لا يتبين فيها الإعراب فالواجب أن يكون الفاعل المقدم والمفعول المؤخر ، كقولك : ضرب موسى عيسى ، فإن نعت أحدهما بما يتبين فيه الإعراب جاز التقديم والتأخير لزوال اللبس ، نحو : ضرب عيسى الظريف موسى ، وكذلك إن كان أحد الاسمين لا يصح أن يكون إلا فاعلا أو مفعولا جاء التقديم والتأخير ؛ لأن هذا المعنى بين في الإعراب نحو : كسرت الحبلى العصا ، فالكسر إنما يقع على العصا / دون المرأة فيجوز التقديم والتأخير.

فإن قال قائل : المفعول إذا تقدم على الفعل بقي مفعولا ، والفاعل إذا تقدم على الفعل خرج من أن يكون فاعلا وارتفع بالابتداء؟

فالجواب في ذلك : أن المفعول إذا تقدم على الفعل فليس ثم عامل آخر يوجب نصب المفعول ، فيجب ألا يخرج عما كان عليه في حال التأخير ، وأما الفاعل فإنه إذا تقدم على الفعل أمكن أن يقدر له عامل غير الفعل وهو الابتداء ، وعمله رفع كعمل الفعل في الفاعل فلما كان الابتداء سابقا لذكر الفعل وجب أن يعمل فيه.

وأما المفعول إذا تقدم على الفعل فليس ثم قبله عامل لفظي ولا وهمي غير الفعل الذي قدم قبله إذا خلا ذلك الفعل من ضمير ، ولا سبيل إلى ضمير حتى

١٤٢

يرجع إلى مذكور قبله فرتبة المفعول باقية مع التقديم لما ذكرناه ، ورتبة الفاعل ذاهبة مع التقديم من أجل الابتداء الذي لا يظهر له عامل لفظي.

فإن قال قائل : فهلا نوي بالفاعل التأخير ، وإذا نوي به التأخير لم يجز كونه مبتدأ؟

فالجواب في ذلك : أن هذا لا يصح وذلك أن شرط الفاعل إذا كان بعد الفعل أن يقوم مقامه غيره وهو موجود نحو : قام زيد ، فمحال أن تذكر فاعلا للقيام من غير عطف ولا تثنية مع وجود زيد ، فلما كان زيد إذا تقدم على الفعل بهذه المنزلة استحال وجود فاعل سواه فإذا جاز أن يكون لهذا الفعل فاعل سوى زيد علمنا بهذه الدلالة أن زيدا قد خرج من أن يكون فاعلا نحو قولك : زيد قام أبوه ، فالقيام للأب لا محالة ، فوجب أن يكون زيد مرتفعا بغير هذا الفعل وهو الابتداء.

ووجه آخر : وهو أن الفاعل لو كان مرتفعا بفعله إذا تقدم لم يختلف حال الفعل ، فلما وجدناه مختلفا علمنا أنه ليس مرتفعا بفعله إذا تقدم على الفعل وذلك ظهور علامة التثنية والجمع كقولك : الزيدان قاما ، والزيدون قاموا.

فإن قال قائل : قد قالت العرب : أكلوني البراغيث ، فأظهروا علامة الجمع في الفعل وإن كان الفاعل ، كما يظهرونها إذا تقدم على الفعل؟ قيل له : إنما يحكى مثل هذا على طريق الشذوذ وليس بمستقيم في كلامهم ، ولو كان لا فرق بين تقديم الفاعل وتأخيره لوجب أن يستوي استعمال الفعل في كلامهم ، فلما اختلف على ما ذكرناه حال الفعل لم يصح الاعتراض بما يجري مجرى الشذوذ.

فإن قال قائل : فما السبب في إظهار علامة التثنية والجمع في الفعل إذا تقدمه الفاعل ولم يحسن إذا تأخر الفاعل؟

فالجواب في ذلك أن الفاعل إذا تقدم الفعل ارتفع بالابتداء ، ولا بد للفاعل من فعل ، فإذا لم يظهر الفاعل بعده استتر فيه ضمير الفاعل كقولك : زيد قام ،

١٤٣

والتقدير : زيد قام هو ، وإذا ثنيت زيدا ثنيت ضميره فقلت : الزيدان قاما ، وإذا جمعت زيدا جمعت الضمير فقلت : الزيدون قاموا ، وإذا تقدم الفعل لم يجعل فيه ضمير ، والأفعال لا تثنى في أنفسها ولا تجمع فلهذا أفردت لفظها فقلت : قام الزيدان (١) / وقام الزيدون.

فإن قال قائل : فلم استتر ضمير الواحد إذا كان لواحد ولم يستتر إذا كان لاثنين فصاعدا؟ فالجواب في ذلك أن الفعل لا يخلو من أن يكون له فاعل واحد وقد يخلو من اثنين فصاعدا ، فإذا قدمنا اسما مفردا قبل المفعول لم نحتج إلى إظهار الفاعل لدلالة تقدم الأسماء عليه وإحاطة العلم به ، فإنه لا بد للفعل من هذا الفاعل ، وأما إذا ثنيت الاسم ، فلو أفردت فعلهما لم يعلم أن الفعل للاثنين إذ قد يخلو من ذلك فوجب أن تظهر علامة التثنية لئلا يدخل الكلام لبس ، ولئلا يعتقد المخاطب انقطاع الفعل عن الاسمين المتقدمين وأنه خبر مبتدأ.

فإن قال قائل : فما وجه قول العرب : (أكلوني البراغيث)؟

قيل له : في ذلك وجوه :

أحدها : أن يكون الكلام على التقديم والتأخير أي : البراغيث أكلوني ، وهذا الأشبه به ، ووجه آخر : أنه يجوز أن يكون الإضمار على شريطة التفسير ، فيكون البراغيث بدلا من الواو ، ووجه ثالث : وهو الذي قصده سيبويه أن تكون الواو علامة للجمع كما التاء في الفعل علامة للتأنيث ويراد بها أن الفعل لمؤنث فكذلك يراد بالواو أن الفعل لجماعة.

فإن قال قائل : إذا كان الفعل ، قد يكون لواحد ، وقد يكون لجماعة ، كما يكون للمذكر والمؤنث فهلّا لزمت علامة التثنية والجمع في الفعل كما لزمت

__________________

(١) انظر الأصول ١ / ١٧٢ حيث ناقش ابن السرّاج هذه الفكرة (تثنية الأفعال وجمعها).

١٤٤

علامة التأنيث؟ فالفصل بينهما أن التأنيث لازم للاسم ؛ لأنه معنى لا ينفك منه المؤنث فوجب أن تلزم علامته ، وأما التثنية والجمع فليست بلازمة ؛ لأن ما يثنى ويجمع يجوز عليه الإفراد فلهذا لم تلزم علامتهما كما تلزم في الاسم فاعرفه.

واعلم أن الواو التي تكون علامة للجمع هي حرف وليست باسم ، والتي هي ضمير أسماء الفاعلين هي اسم لا حرف ، وإنما وجب أن تكون الأولى حرفا لأنها دخلت علامة كما تدخل تاء التأنيث علامة ، والعلامة حقها أن تكون بالحروف لا بالأسماء فلهذا افترقا.

فإن قال قائل : ما الدليل على أن لفظ التثنية والجمع اللاحقين للفعل هما علامة على ما ذكرتم وليستا بتثنية الفعل ولا جمعه؟

فالجواب في ذلك أن الأفعال لا تصح تثنيتها ولا جمعها من وجوه :

أحدها أن الفعل لو ثني وجمع من أجل أنه من اثنين أو جماعة لجاز أيضا أن يثنى ويجمع مع فاعل واحد ؛ إذ كان الفعل قد يتكرر من الفاعل الواحد كما يتكرر من الفاعلين ، فكان أولى بتثنيته وجمعه مع الواحد ؛ لأن الفاعل إذا كان أكثر من واحد جاز أن يقتصر بما ظهر من تثنية الفاعل وجمعه عن تثنية الفعل وجمعه ، فلما كان هكذا أسقط تثنية الفعل وجمعه من كلامهم علمنا أن الفعل في نفسه لا يثنى ولا يجمع.

ووجه آخر أن الفعل يدل على معنى وزمان وليس أحدهما (١) دون الآخر وصار في المعنى كأنه اثنان ، ومحال أن تدخل تثنية على تثنية فلهذا لم يثن.

ووجه آخر وهو ثالث : أن الفعل يدل على مصدر مبهم ، والمصدر المبهم لا يثنى ولا يجمع فكذلك ما يدل عليه ، وإنما سقطت / تثنية المصدر ؛ لأنه اسم لجنس

__________________

(١) في الأصل هما.

١٤٥

الضرب والأكل وما أشبههما ، والجنس يدل على الواحد فما فوقه فلا معنى للتثنية والجمع إلا أن تختلف أنواعه كقولك : ضربت زيدا ضربتين ، إذا كان أحدهما شديدا والآخر خفيفا ، وعلى هذا قوله تعالى : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) [الأحزاب : ٣٣ / ١٠](١) أي ظنونا مختلفة.

فإن قال قائل : هلّا غيرت أوائل الأفعال المستعارة نحو : مات زيد ، ورخص السعر ، لأن فاعلها لم يذكر ؛ كما يغير أول الفعل إذا لم يسم فاعله نحو : ضرب زيد.؟

فالجواب في ذلك : أن أفعال الاستعارة ينبغي أن يكون ما ارتفع بها فاعلا ؛ لأن المعنى قد علم وذلك أن الموت والرخص لا يصح أن يفعلهما غير الله تعالى عزوجل ، وكذلك إذا قلت : سقط الحائط ، لم يكن للحائط فعل في الحقيقة ، وإنما الفعل في ذلك لله تبارك وتعالى (٢) ، وعلم هذا غير خفي على أحد من الأمم ، فلما أمن اللبس في هذه الأفعال لم يحتج إلى فاعل وأما قولك : ضرب زيد عمرا ، فزيد فاعل للضرب وعمرو مفعول ، وقد يتأتى من عمرو الضرب ، فإن حذفت زيدا أقمت عمرا مقامه ، فلو لم تغير الفعل لم يعلم أعمرو فاعل أم مفعول؟ ، فلهذا وجب تغيير الفعل.

باب ما لم يسمّ فاعله

إن قال قائل : لم وجب إذا حذف الفاعل أن يقام مقامه اسم مرفوع.؟

فالجواب في ذلك أن الفعل لا يخلو من فاعل ، فلما حذف فاعله على الحقيقة استقبح أن يخلو من لفظ الفاعل فلهذا وجب أن يقيم مقام اسم الفاعل اسما مرفوعا ، ألا ترى أنهم قالوا : مات زيد ، وسقط الحائط فرفعوا هذه الأسماء وإن لم

__________________

(١) والآية هي (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا).

(٢) في الأصل : تبرك وتعلى ، على حذف الألف فيهما اختصارا وتخفيفا على عادتهم.

١٤٦

تكن فاعله في الحقيقة ، وإن شئنا جعلنا الرفع في المفعول الذي قام مقام الفاعل بعلّة أخرى وهي (١) حمله على الفاعل من جهة اشتراكهما في [أن](٢) الفعل صار خبرا عن المفعول الذي يتعدى الفعل إليه مفعولا آخر كما أقيم مقام الفاعل ، قيل : لا يجب ذلك ؛ لأن الفعل ليس يفتقر إلى المفعول كافتقاره إلى الفاعل ألا ترى أنك قد تقتصر على الفاعل وحده في الفعل المتعدي فلا تذكر المفعول كقولك : ضربت وأكرمت ، فإذا جاز إسقاطه في هذا الموضع من غير إقامة شيء مقامه ، فكذلك أيضا إذا أقيم مقام الفاعل لم يجب أن تقيم غيره مقامه.

فإن قال قائل : لم وجب ضم أول الفعل وكسر ثانيه إذا لم يسم فاعله وهلّا ترك الفعل على حاله؟ قيل له : إنما يجب تغيير الفعل إذا حذفت الفاعل ؛ لأن المفعول يصح أن يكون فاعلا للفعل ، [و](٣) هل المفعول فاعل في الحقيقة وقد قام مقام الفاعل ، فلهذا وجب تغيير الفعل ، وإنما خص أوله بالضم ؛ لأن الضم من علامات الفاعل ، وكان هذا الفعل دالا على فاعله فوجب أن يحرك بحركة ما يدل عليه.

وقد بيّنا في شرح كتاب سيبويه الكلام في هذا والخلاف فيه ، وإنما نذكر هنا النكت التي لا بد منها ولا يلزم عليها سؤال.

فإن قال قائل : فلم كسر ثانيه؟

قيل : لما حذف فاعله الذي لا يخلو منه جعل لفظ الفعل على بناء لا يشركه فيه بناء من أبنية الأسماء ولا من أبنية الفعل الذي / قد سمي فاعله فبني على هذه الصيغة لهذه العلّة ، ولو فتح ثانيه أو حرك بالضم لم تخرج عن الأمثلة التي في الأسماء.

__________________

(١) في الأصل : وهو.

(٢) في الأصل : من جهة اشتراكهما في الفعل صار خبرا ...

(٣) زيادة ليست في الأصل.

١٤٧

فإن قال قائل : فلم كانت الأفعال المعتلّة مكسورة الأوائل نحو : سير وقيل.؟

فالجواب في ذلك أن أصل أوائلها الضم وفيها ثلاث لغات للعرب (١) أجودها : كسر أوائلها ، والثانية بالإشارة إلى الضم من غير تحقيق ، والثالثة وهي أضعفها ضمها على الأصل ، وقلب ما يليها واوا نحو قولك : سور وقول وبوع وصوغ الخاتم إلا أن الكسر يستثقل في الواو والياء فقلبت إلى أول الكلمة وسكنت الواو والياء فتسلم لانكسار ما قبلها ، وأما الواو فتقلب لسكونها وانكسار ما قبلها ياء ، وأما من أشار إلى الضم فأرادوا الدلالة على أن أصل أوائل هذه الأفعال الضم ، وأما الذي يضم فيحذف الحركة من الواو والياء ولا ينقلها إلى ما قبلها فتسكن الواو والياء. وقيل : كل واحدة منهما ضمة فأما الواو فتسلم لانضمام ما قبلها ، وأما الياء فتنقلب واوا لانضمام ما قبلها ، وكذلك تنقلب إذا كان ما قبلها مضموما في سائر الكلام نحو قولك : موقن وأصله الياء ؛ لأنه من أيقنت ، وكذلك حكم الواو إذا سكنت وانكسر ما قبلها أن تنقلب ياء في جميع الكلام كقولك : ميزان وميعاد ، فأصل الياء الواو لأنها من الوعد والوزن ، وإنما اخترنا الوجه الأول وهو نقل الحركة إلى أول الكلمة ؛ لأنه أخف في اللفظ إذ كان ذوات الواو

__________________

(١) قال ابن مالك في ذلك :

واكسر أو اشمم فاثلاثيّ أعلّ

عينا ، وضمّ جا ك" بوع" فاحتمل

وقال ابن عقيل في شرحه عليه :

" إذا كان الفعل المبني للمفعول ثلاثيا معتل العين سمع في فائه ثلاثة أوجه :

١ ـ إخلاص الكسر ، نحو (قيل ، وبيع) ...

٢ ـ إخلاص الضم ، نحو (قول وبوع) ... وهي لغة بني دبير ، وبني فقعس [وهما من فصحاء بني أسد].

٣ ـ الإشمام ـ وهو الإتيان بالفاء بحركة بين الضم والكسر ـ ولا يظهر ذلك إلا في اللفظ ، ولا يظهر في الخط ..."

انظر شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك ٢ / ١١٤ ـ ١١٧ (دار الفكر ـ ط ٢).

وقد عدّ ابن هشام اللغة الثانية لغة شاذة ، انظر : شرح جمل الزجّاجي ١٦٤.

وأخطأ المحقق في الحاشية رقم (٢) في الصفحة نفسها (١٦٤) حين نسب ـ على لسان ابن عقيل ـ لغة الإشمام لبني دبير وبني فقعس.

١٤٨

كذوات الياء ، ويكون بعض الحروف المنقلبة (١) حاصلا في الكلمة ، فلهذا كان الوجه الأول مختارا ، والوجه الثاني يقرب من الأول ولفظ الوجه الأول موجود فيه ، وإنما فيه زيادة في الدلالة على أصل الكلمة ، وإنما لم تكن هذه الزيادة أقوى من الوجه الأول ؛ لأن على المتكلم مشقة في الإشارة إلى الضم مع حصول الكسر في الحرف فيصير كأنه جامع بين كسرة وضمة في حال واحدة ، وهذا محال ، فلما قارب في هذا الحكم لهذه الزيادة المحال وهو مع هذا فيه تكلف كان الأول السالم مما ذكرنا أجود إن شاء الله.

فإن قال قائل : كيف ساغت العبارة في قولكم : إن الأفعال تنقسم قسمين : أحدهما غير متعد ثم قلتم مع هذا ما لا يتعدى يتعدى إلى أربعة أشياء ، وهذا في الظاهر متناقض(٢)؟

فالجواب في ذلك أن هذه الأربعة الأشياء لا يقصر فعل من الأفعال أن يتعدى إليها فلما كانت هذه الأفعال كلها متساوية في التعدي إليها ، وكان بعضها يتعدى إلى زيادة عليها ، وبعضها لا يتعدى إلى هذه الزيادة صار ما جاز تعديته إلى زيادة عليها متعديا إذ زاد حكمه على الفعل الذي لا يجاوز هذه الأشياء الأربعة فلهذا ساغت العبارة بما سألت عنه.

فإن قال قائل : فمن أين وجب أن يكون كل فعل لا يقصر عن التعدي إلى هذه الأشياء الأربعة؟ قيل له : لأن كل فعل إنما يتعدى على حسب دلالته على ما يتعدى إليه ومتى لم يدل الفعل على / ما يتعدى إليه لم يصح تعديته إليه ، فإذا كان الأمر على ما ذكرنا وقد علمنا أن المصدر يدل على المصدر وعلى الزمان ، فقد

__________________

(١) في الأصل المنقلب.

(٢) قال ابن هشام : " كل فعل متعد أو غير متعد فإنه يتعدى إلى أربعة أشياء وهي : المصدر ، والظرف من الزمان ، والظرف من المكان ، والحال ...".

انظر شرح جمل الزجّاجي لابن هشام ١٢٩.

١٤٩

حصل فيه دلالة على المصدر فيتعدى إليه وهو المفعول المطلق ، وتعدى أيضا إلى الزمان وهو مفعول فيه ، لدلالته عليه وقد أحاط العلم أن الفعل لا بد له من مكان يعمل فيه ، فصار في الفعل أيضا دلالة على المكان إلا أن للفعل دلالته على الزمان وعلى المصدر من جهة لفظه ودلالته على المكان من جهة المعنى ولأن الفعل لا يخلو من فاعل ولا بد للفاعل من هيئة يكون عليها وهو الحال نحو قولك : قام زيد ضاحكا ، فصار في الفعل أيضا دلالة عليه (١) ، فلهذا نعدي كل فعل إلى هذه الأشياء الأربعة لاشتراك الفعل في الحكم الذي ذكرناه.

فإن قال قائل : فلم منعتم أن تقوم الحال مقام الفاعل؟

قيل : لأن كل فاعل يجوز أن يضمر ، فلو أقمت الحال مقام الفاعل لجاز إضمارها ، وكل مضمر بعد ذكره يجب أن يكون معرفة ، وهي لا تكون إلا نكرة ؛ فلهذا لم يجز أن تقوم مقام الفاعل.

وأما الظروف والمصادر فتكون معرفة ونكرة فلهذا جاز أن نقيمها مقام الفاعل ، وإذا لم تسم الفاعل في الأفعال غير المتعدية أقمت [المصدر](٢) والظرف من الزمان أو المكان مقام الفاعل ، والأحسن إذا أقمت هذه الأشياء مقام الفاعل أن تكون معرفة أو منعوتة كقولك : ذهب ذهاب حسن ، وذهب يوم الجمعة ، ولو قلت ذهب ذهاب أو ذهب ، ووقفت (٣) لم يحسن ؛ لأنه [لا](٤) فائدة في ذلك إذ كان الفعل يدل على وقوع ذهاب في وقت. واعلم أن الظروف متى أردت أن تقيمها مقام الفاعل فلا بد من أن تخرجها من حكم الظرف وتجعلها مفعولات كزيد وعمرو على سعة الكلام.

__________________

(١) في الأصل : على.

(٢) كتبت في الأصل على الهامش.

(٣) في الأصل : وقت.

(٤) زيادة ليست في الأصل يقتضيها السياق.

١٥٠

فإن قال قائل : فما الفصل بين جعلها منصوبة على الظرف وبين أن تجعل مفعولات كزيد؟ قيل له : الفصل بينهما أنه إذا كانت منصوبة على الظرف تضمنت (في) وإنما تحذف (في) استغناء بدلالة الظرف عليه ألا ترى أن قولك : ئقمت اليوم ، إنما معناه (١) : قمت في اليوم ، فحذف (في) فوصل الفعل إلى اليوم ، وإنما ينفصل حكم الظرف وغيره من المفعولين في الإضمار إذا قيل لك أضمر اليوم ، قلت : قمت فيه ، فأظهرت حرف الجر ، وإذا قيل لك أضمر زيدا في قولك : ضربت زيدا ، قلت : ضربته ، فانفصل الإضمار في اللفظ ، وإنما أظهرت المضمر ؛ لأن لفظ المضمر يدل على اللفظ دون غيره فأظهرت (في) لتدل بها على أن المضمر ظرف فلما كان الظرف يتضمن في وهو مفعول شبه بالمفعول الذي لا يتضمن حرف الجر لاشتراكهما في كونهما مفعولين ، فصار حمل الظرف على المفعول يفيدنا تخفيف اللفظ وإسقاط حرف الجر من تقديرنا ، ولم يجز حمل المفعول على الظرف ؛ لأن تلك توجب فعلا في النية ، واللفظ إنما حمل المفعول على الظرف لما ذكرناه من الخفة فإذا جعلت الظرف مفعولا على سعة الكلام أضمرته كما تضمر المفعول / فقلت اليوم قمته ، كما تقول : زيد ضربته ، قال الشاعر (٢) :

ويوم شهدناه سليما وعامرا

قليل سوى الطعن النهال نوافله

فإن قال قائل : فما الذي أحوج إلى نقل هذه الظروف إذا أقيمت مقام الفاعل؟

قيل له : لأن الفعل لا يتعلق به الفاعل بواسطة بينه وبين الفعل ، فلو لم تنقل هذه الظروف إلى باب المفعول كما قد أقمناها مقام الفاعل وهي مع ذلك

__________________

(١) في الأصل : منعناه.

(٢) البيت من البحر الطويل جاء في الكتاب ١ / ١٧٨ ، الكامل ١ / ٤٩ ، المقتضب ٣ / ١٠٥ ـ ١٠٧ ، كتاب الشعر للفارسي ١ / ٤٥ ، أمالي ابن الشجري ٣ / ٢٢٦ ، شرح المفصل ٢ / ٤٦ ، ارتشاف الضرب ٢ / ٢٧٠ ، مغني اللبيب ٦٥٤ ، الهمع ٣ / ١٦٦ ، وقد نسبه بعضهم لرجل من بني عامر.

١٥١

متضمنة لحرف الجر وليس ذلك حد الفاعل ، وكذلك ينبغي أن يكون ما قام مقامه لا يحتاج إلى حرف الجر فهذا سبب نقل هذه الظروف.

فإن قال قائل : فالمصدر لا يتضمن حرف الجر فهل يحتاج إلى نقل؟

قيل له : نعم وإنما وجب نقله ؛ لأن الفعل يدل عليه ، وإنما نذكره بعد الفعل توكيدا كقولك : ضربت ضربا ، والذي أوجب لها النقل شيئان أحدهما : أن الفعل لا بد له من فاعل فصار اعتماد الكلام على الفاعل والمصدر لو لم يذكر لدل عليه الفعل ، فلم يجز أن تقيمه مقام الفاعل على أصله ؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يصير الفاعل لا يحتاج إليه ، فوجب أن تنقله إلى حكم المفعول الذي يدل الفعل عليه لتحصل الفائدة ، ولا يجوز إسقاطه.

والوجه الثاني : أن المصدر لما كان يذكر لتوكيد الفعل جرى مجرى الفعل فصار قولك : قمت قياما ، فلما كان الفعل لا يقوم مقام الفاعل ، وكذلك ما يقوم مقامه وهو المصدر لا يجوز أن تقيمه مقام الفاعل حتى تغيره وتنقله إلى حكم المفعول به.

واعلم أن الفعل الذي لا يتعدى يجوز أن تعديه بإدخال الهمزة على أوله كقولك : ذهب زيد ، ثم تقول : أذهب زيد ، ويجوز أن تعديه بحرف الجر فتقول : ذهب زيد بعمرو ، وهذان القسمان يطّردان ، ويجوز أن تعديه بتشديد عين الفعل كقولك : عرّف زيد عمرا ، وتقول : عرّفت زيدا عمرا ، فإذا عديت الفعل بحرف جر فلك أن تقيم الاسم المجرور مع الحرف مقام الفاعل كقولك : ذهب (١) بزيد ، فإن ذكرت بعده ظرفا أو مصدرا فأنت بالخيار إن شئت أقمت الظرف والمصدر مقام الفاعل ، فصار موضع حرف الجر مع المجرور نصبا ، وإن شئت أقمت حرف الجر مع الاسم مقام الفاعل ونصبت الظرف والمصدر ، وإنما كنت بالخيار ؛ لأن

__________________

(١) في الأصل : ذهبت.

١٥٢

الاسم المجرور إنما يحسن أن تقيمه مقام الفاعل بأن تقدره تقدير اسم غير مجرور ، كأنك قلت : أذهب زيد ، إذا كانت الباء والهمزة تقومان مقاما واحدا ، فلما كان المجرور يحتاج إلى تقدير فعل كما تحتاج الظروف والمصادر استوى حكمها ، فلهذا صارت بالخيار. وإن كان مع المجرور اسم ليس بظرف ولا مصدر لم يجز أن تقيم المجرور مع حرف الجر مقام الفاعل كقولك : أعطي بزيد درهم ، فإنما لم يجز ذلك ؛ لأن الدرهم مفعول يحتاج إلى ضرب من النقل فوجب إذا ذكر الفاعل أن يستعمل ما لا يحتاج إلى نقل إذ كان أسبق في الحكم مما يحتاج إلى نقل فلهذه العلّة لم يجز أن تقيم الظروف والمصادر مقام الفاعل إذ كان معها مفعول (١) غير مستعمل بحرف جر إذ كانت المصادر والظروف / تحتاج إلى نقل ، والمفعول به لا يحتاج إلى نقل.

واعلم أن المتعدي إلى مفعولين ينقسم قسمين أحدهما : أن تدخل على المبتدأ والخبر نحو ظننت وأخواتها ، والآخر : ألا يدخل على المبتدأ والخبر نحو أعطيت وكسوت (٢) ، وامتحانها بأن تسقط الفعل وإن كان ما بقي من المفعولين يصح منه كلام فهو القسم الأول ألا ترى أنك إذا تقول : ظننت زيدا أخاك ، فحذفت ظننت جاز (٣) أن تقول : زيد أخوك ، فإذا قلت : أعطيت زيدا درهما ، ثم حذفت أعطيت ، فالوجه أن تقيم مقام الفاعل المفعول الأول كقولك : أعطي زيد درهما ، وإنما كان الاختيار هذا ؛ لأن المفعول الأول فاعل في المعنى لأجل المفعول الثاني ؛ لأنه أخذه فوجب أن تقيم مقام الفاعل من هو فاعل في الحقيقة ، إلا أنه يجوز أن تقيم الثاني مقام الفاعل إذا لم يشكل أنه مأخوذ كقولك : أعطي درهم زيدا ، وإنما جاز ذلك لاشتراكهما في الفائدة وإن الفعل تعدى إليهما على طريقة

__________________

(١) في الأصل : مفعولا.

(٢) انظر الكتاب ١ / ٣٧ ـ ٤١ (هارون) هذا باب الفاعل الذي يتعداه فعله إلى مفعولين.

(٣) في الأصل : وجاز.

١٥٣

واحدة ، ألا ترى أنك إذا قلت : أعطيت ، فليس في الكلام دلالة أن المعطى زيد وعمرو حتى تقول : زيدا وعمرا ، فتبينه وكذلك ليس في اللفظ دلالة على ما أعطي زيد حتى تبيّنه فتقول : درهما ، أو دينارا ، فلهذا جاز إقامة الثاني مقام الفاعل. فأمّا إذا كان الثاني مما يصح أن يكون آخذا للأول فلا يجوز أن تقيم مقام الفاعل إلا الأول لئلا ينقلب المعنى. ألا ترى أنك إذا قلت : أعطيت زيدا عمرا ، فإنما يعلم أن زيدا أخذ عمرا بترتيب اللفظ لأنك لو قدمت عمرا وأخرت زيدا لصار عمرو هو الآخذ لزيد فقد بان لك أن الفاعل منهما يعلم بترتيب اللفظ دون الإعراب فلهذا وجب أن تقيم الأول مقام الفاعل ، وأما قولك : أعطيت زيدا درهما فقد علم أن الدرهم مأخوذ ، ولا يجوز أن يكون آخذا لزيد فلم يشكل رفعه إذ كان معناه يدل على المراد.

وأما ظننت فالوجه أن تقيم المفعول الأول أيضا مقام الفاعل كقولك : ظننت زيدا أخاك ، فإذا لم تسم الفاعل قلت : ظنّ زيد أخاك ، وإنما اختير هذا الوجه ؛ لأن قولك ظننت أخاك يدل على أن زيدا معروف ، والأخوة مشكوك فيها ، لأن الشك إنما يقع في الخبر ، فلو قدمت الأخ وأخرت زيدا لصار ترتيب اللفظ يدل على هذا المعنى ، فلو جوزت التقديم والتأخير انقلب المعنى ، فلهذا لم يجز إلا أن تقول : ظننت زيدا أخاك ، فيكون الأول معرفة والثاني نكرة ، فيجوز على هذا الوجه أن تقيم [المفعول](١) الثاني مقام الفاعل إلا أن المبتدأ حقه أن يكون معرفة والخبر نكرة فصار من أجل هذه الدلالة ظاهر الكلام يدل على أن الشك وقع في خبر زيد لا في زيد.

وأما [ما](٢) يتعدى إلى ثلاثة مفعولين (٣) فإنه وجب أن يقوم الأول منهم مقام الفاعل ؛ لأنه الفاعل في المعنى ألا ترى أنك إذا قلت : علم زيد عمرا خير الناس ،

__________________

(١) كتبت في الأصل على الهامش.

(٢) زيادة ليست في الأصل يقتضيها السياق.

(٣) انظر الكتاب : ١ / ٤١ هذا باب الفاعل الذي يتعداه فعله إلى ثلاثة مفعولين (هارون).

١٥٤

وجب أن يكون زيد فاعلا ، فإن قلت : أعلم الله زيدا عمرا خير الناس ، صار زيد مفعولا فإذا لم تسم الفاعل وجب أن تقيم مقام الفاعل من كان فاعلا في الأصل.

واعلم أن الاسم إذا قام مقام الفاعل جرى / مجرى الفاعل في الإضمار والإظهار فنقول على هذا إذا أقمت نفسك مقام الفاعل ضربت ، كما تقول قمت إذا كانت فاعلا على الحقيقة وكذلك تقول : زيد ضرب ، فترفع زيدا بالابتداء أو يستتر ضميره في الفعل كما تقول : زيد قام ، وإنما وجب ذلك ؛ لأنه قام مقام الفاعل في اللفظ في حال الإضمار كما وجب أن يساويه في حال الإظهار.

باب ظننت وحسبت وعلمت وخلت وأخواتها

إن قال قائل : لم وجب أن تتعدى هذه الأفعال إلى مفعولين؟

قيل له : لأن أصلها أن تدخل على المبتدأ والخبر (١) ، والمبتدأ لا بد له من خبر فوجب لدخولها عليهما (٢) أن ينتصبا.

فإن قال قائل : أنت إذا قلت : ظننت زيدا خارجا ، فالشك إنما وقع في خروجه لا في زيد ، فلم وجب أن ينتصب زيد؟ (٣).

وأما الفائدة في ذكره فليعلم من الذي وقع الشك في خروجه ، فلو لم [يذكر](٤) زيد لم يعلم صاحب الخروج فلهذا وجب ذكر زيد وإنما عمل فيه

__________________

(١) انظر الأصول ١ / ١٨١. يقول ابن السرّاج :

" واعلم : أن ظننت وحسبت وعلمت وما كان نحوهن لا يجوز أن يتعدى واحد منها إلى أحد المفعولين دون الآخر. لا يجوز : ظننت زيدا ، وتسكت حتى تقول (قائما) وما أشبه. من أجل أنه إنما يدخل على المبتدأ والخبر ، فكما لا يكون المبتدأ بغير خبر ، كذلك (ظننت) لا تعمل في المفعول الأول بغير مفعول ثان".

(٢) في الأصل : عليها.

(٣) يعني بالسؤال ما الفائدة من ذكره ونصبه؟ أي (فلم وجب أن يذكر وأن يكون منصوبا).

(٤) كتبت في الأصل على الهامش.

١٥٥

الفعل نصبا إذ كان هو والخبر شيئا واحدا ، والفعل قد استغنى بفاعله فوجب نصبه إذ قد جرى مجرى المفعول المحض.

فإن قال قائل : فلم جاز التعدي في هذه الأفعال في الجملة وليست بمؤثرة في المفعول إذ كان الفاعل يخبر عما استقر في قلبه من علم أو شك؟

قيل له : هي وإن لم تكن مؤثرة فقد تعلق الظن بمظنون ، وليس كل فعل يعمل يكون مؤثرا ، ألا ترى أنك تقول : ذكرت زيدا ، وإن كان ميتا فإذا حصل الفعل تعلق بمفعول تعدى إليه ، فلهذا جاز أن تتعدى هذه الأفعال.

فإن قال قائل : فلم جاز إلغاؤها إذا توسطت بين المفعولين أو تأخرت (١)؟

قيل له : لأنك إذا ابتدأت بالاسم فقد حصل على لفظ اليقين [فلما](٢) كانت هذه الأفعال ضعيفة في العمل ووجب أن يحمل الخبر على ما اعتقد عليه الكلام وهو اليقين وجعل الفعل في هذا الموضع في تقدير الظرف وإن أوجب شكا في الجملة كقولك : زيد منطلق في ظني ، فلما كان قولك : في ظني لا يعمل فيما قبله ، جعلوا أيضا : زيد منطلق ظننت ، كأنك قلت : في ظني ، وأما من أعمل الفعل إذا توسط أو تأخر فلأنه حمل الكلام على ما في نيته من الشك ، فصار الفعل وإن تأخر مقدما في المعنى فلهذا جاز إعماله.

فإن قال قائل : فقد وجدنا العرب تقول : حسبت ذاك ، فتكتفي باسم واحد ، وكذلك تقول : حسبت أن زيدا منطلق ، ف (أنّ) وما (٣) بعدها في تقدير اسم لأنها بمنزلة المصدر كأنك قلت : حسبت انطلاق زيد [مؤكدا](٤) ، ولو لم تتكلم (٥) بهذا التقدير لم يصح؟

__________________

(١) انظر تفضيل ذلك في شرح ابن عقيل على الألفية ٢ / ٤٤ ـ ٤٧.

(٢) زيادة ليست في الأصل.

(٣) في الأصل : وأما.

(٤) زيادة ليست في الأصل.

(٥) في الأصل : لم تكلم ، وقد أثبت المناسب.

١٥٦

قيل : أما قولهم حسبت ذاك ففيه وجهان :

أحدهما : أن يكون ذاك إشارة إلى المصدر (١) كأنك قلت : حسبت ذاك الحسبان ، وكل فعل يجوز أن يقتصر على فاعله إن شئت عديته إلى المصدر أو الظرف أو الحال ، فلما كان ليس يراد به المبتدأ حتى تحتاج إلى خبر جاز قولك : حسبت ذاك فجرى مجرى حسبت فقط.

والوجه الثاني : أن ذاك يعبر عن الجملة ، فلما صار عبارة عن الجملة جاز أن يكتفي به عن المفعولين ، ألا ترى أن القائل يقول : زيد منطلق / فتقول له : قد بلغني ذاك ، تريد به ما تقدم من الجملة ، وأما (٢) اقتصارهم ب (إن) وما بعدها عن المفعولين فلأن (إن) تدخل على المبتدأ والخبر كدخول ظننت عليهما فلما حصل بعد (إن) ما تقتضيه هذه الأفعال استغنى الكلام بذلك ؛ لأن الفائدة قد حصلت ، وصار دخول (إن) لتوكيد الظن ، وأما إذا أسقطت لفظ الجملة بعد (إن) وجئت بلفظ المصدر لم يجز الاقتصار على ذلك ؛ إذ كانت ليست في لفظ الجملة وإنما هو اسم مفرد ، وقد بينا أن هذه الأفعال لدخولها على المبتدأ والخبر لا يقتصر بها على مفعول واحد ، وفي إيجاب المفعولين بعد هذه الأفعال علّة أخرى ، وهو أن قولك : حسبت زيدا منطلقا قد بينا أن الحسبان قد وقع في الانطلاق ، فلو اقتصرت على ذكر الانطلاق لم يعلم لمن هو ، ولو ذكرت زيدا وحده كنت قد أتيت باسم لم يقع فيه شك فاقتصرت عليه ، ولا يجوز أن تأتي بلفظ لا فائدة له فصار كل واحد من المفعولين لا بد له من الآخر فاعرفه.

فإن قال قائل : فلم صار بعض هذه الأفعال قد يجوز أن تتعدى إلى واحد مرة وإلى اثنين وهو ظننت ، ورأيت ، وعلمت ، ووجدت ، والقسم الثاني ليس له إلا طريقة واحدة؟

__________________

(١) انظر الأصول ١ / ١٨١ فقد أشار ابن السرّاج إلى ذلك وتحدث عنه.

(٢) في الأصل : وما.

١٥٧

قيل له : لأن حسبت ، خلت ، قد علمت أن بابها الشك ، وهو التعدي إلى مفعولين ، وحوّلت ظننت من باب الشك إلى باب التهمة إذ كان ذلك إخراجا لها عن أصلها ، وجواز هذا المعنى في واحدها يغني عن سائرها ، فلهذا خالفت ظننت أخواتها ، فأما علمت ، ورأيت ، ووجدت ، فاستعملت على المعنيين اللذين ذكرناهما في الشرح فجاز أن يختلف عملهما لاختلاف معناهما (١).

وأما الأفعال التي تتعدى إلى مفعولين إذا لم يسم فاعلها نحو : أعلمت ، وأريت ، وأنبئت ، ونبّئت ، فالأصل : علم ورأى ونبأ ونبّأ فلما دخلت عليها الهمزة وشددوا عين الفعل صارت متعدية إلى ثلاثة مفعولين ، وقد بينا أن المفعول كان في الأصل فلم يجز إلا تعديتها ، كان أبو عثمان المازني (٢) يجيز الاقتصار على المفعول الأول كقولك : أعلمت زيدا [وتنبأت وعلى هذا القياس يجوز ذلك في ثاني الأفعال ليجري الأمر فيها مجرى واحدا (٣). واعلم أن أعلمت](٤) إذ لم تسم الفاعل فيها ثم وسطتها بين المفعولين فالقياس فيها ألا تلغى (٥) كإلغاء ظننت لأنها قد صارت بالنقل الذي دخل فيها بمنزلة الفعل المتعدي في الحقيقة ، ألا ترى أنك إذا قلت : أعلمت زيدا عمرا خير الناس ، فقد أوصلت إلى زيد علما ، كما أنك إذا قلت : أعطيت زيدا درهما ، فقد أوصلت إلى زيد درهما فلهذا خالفت باب ظننت وأخواته فاعلمه.

__________________

(١) في الأصل : معناها.

(٢) هو : أبو عثمان بكر بن محمد بن عثمان المازني (ت ٢٤٨ ه‍) ، وقد اختلف في اسم أبيه وتاريخ وفاته ، أخذ عن الأخفش. انظر : طبقات الزبيدي ٩٢ ، والإنباه ١ / ٢٤٦ ، والبغية ٢٠٢ ، وكتاب (أبو عثمان المازني ومذاهبه في الصرف والنحو) ، لرشيد عبد الرحمن العبيدي.

(٣) في الأصل : واحد.

(٤) كتبت في الأصل على الهامش.

(٥) نقل ذلك السيوطي معزوا إلى الورّاق (كما صرّح به الورّاق في علله) في كتابه الأشباه والنظائر (باب ذكر ما افترق فيه باب ظن وباب أعلم) ٤ / ٤٤ مؤسسة الرسالة.

وهذا المذهب أيضا أخذ به ابن السرّاج حيث أجاز الاقتصار على المفعول الأول مطلقا ، انظر : شرح الكافية للاستراباذي ٢ / ٢٧٦ ، وانظر : الهمع ، جواز حذف المفاعيل أو بعضها : ٢ / ٢٥٠ (دار البحوث العلمية)

١٥٨

باب نعم وبئس

إن قال قائل : لم وجب أن يلي نعم وبئس الجنس؟

ففي ذلك وجهان :

أحدهما : يحكى عن الزجاج أنهما لما وضعا للمدح والذم العام خصا بأن يليهما لفظ عام.

والوجه الآخر : أن لفظ الجنس إنما وجب تقديمه إلى جنب نعم وبئس ليدل بذلك على أن الممدوح قد حصل له من الفضل ما في الجنس فإذا قلت : نعم الرجل زيد ، دللت بلفظ الرجل أنه فاضل في الرجال وكذلك إذا قلت : نعم الظريف زيد ، دللت بذلك أن زيدا / ممدوح في الظرّاف ، فلهذا وجب تقدير الجنس.

فإن قال قائل : من أين جاز في نعم وبئس أربع لغات (١) وكذلك جميع ما ثانيه حرف حلقي مما هو على ثلاثة أحرف اسما كان أو فعلا نحو : فخذ ، وحروف الحلق ستة وهي الهمزة والهاء والحاء والخاء والعين والغين (٢)؟

فالجواب في ذلك أن حروف الحلق لما كان بعضها مستعليا وبعضها قريب من الألف ، فالهمزة مقاربة الألف والفتح قريب من الكسرة اتبع الفتح الكسر ليكون الكلام على طريقة واحدة كما يتبع الفتح الألف الممالة ، فلما جاز إتباع الكسرة تتابع في الفعل كسرتان فيسكن الثاني للاستثقال.

__________________

(١) اللغات الأربع هي : نعم بفتح النون وكسر العين ، ونعم بفتح النون وسكون العين ، ونعم بكسرهما ، ونعم بكسر النون وسكون العين. وانظر تفصيل هذه اللغات في المسألة الرابعة عشرة من كتاب الإنصاف.

قال سيبويه في اللغة الثالثة : " وأما قول بعضهم في القراءة إن الله نعما يعظكم به فحرك العين فليس على لغة من قال نعم فأسكن العين ، ولكنه على لغة من قال نعم فحرك العين ، وحدثنا أبو الخطاب أنها لغة هذيل".

الكتاب ٤ / ٤٣٩ ـ ٤٤٠ (هارون).

(٢) للتفصيل انظر المقتضب ٢ / ١٤٠ (لجنة إحياء التراث الإسلامي).

١٥٩

فإن قال قائل : إذا كان الإسكان جائزا في أصل الفعل قبل إتباعه ففيم الإسكان بعد ذلك؟ قيل له : لأن الإسكان بعد الإتباع أقوى ؛ لأن إسكان فتحة بعدها كسرة أقوى من إسكان كسرة قبلها فتحة لثقل الكسرتين ، فيجوز أن يكون اتبعوا ليكون أعدل في الإسكان.

فإن قال قائل : فمن أين زعمتم أن أصل هذين الفعلين : فعل ، وهلا كان على فعل أو فعل (١)؟ قيل له : الدليل على أن فعل لا يجوز إسكانه خفة (٢) الفتح فسقط أن يكون على فعل (٣) وجواز كسر أولهما دلالة فعل دون فعل ؛ لأن الثاني لو كان مضموما فيهما لم يجز كسر الأول ؛ لأنه لا كسر بعده فتكسر الأول للكسرة (٤) التي بعده ، ولا يجوز أن يكون الأصل فيهما كسر الأول وضم الثاني ؛ لأنه ليس في أبنيتهم ولا يوجد في كلامهم كسرة بعدها ضمة لازمة فوجب أن يكونا فعل لما ذكرناه. فإن قال قائل : فلم زعمتم أنهما فعلان ، وقد وجدنا العرب تدخل عليهما حرف الجر كقول الشاعر (٥) :

ألست بنعم الجار يؤلف بيته

 ...

وروي أن أعرابيا بشر بمولودة فقيل له : نعم المولودة مولودتك ، فقال : والله ما هي بنعم المولودة نصرتها بكاء وبرّها سرقة (٦)؟

__________________

(١) قال سيبويه : " وأصل نعم وبئس : نعم وبئس ، وهما الأصلان اللذان وضعا في الرداءة والصلاح ، ولا يكون منهما فعل لغير هذا المعنى". الكتاب ٢ / ١٧٩ (هارون).

(٢) في الأصل : لخفة ، وقد أثبت المناسب للسياق.

(٣) في الأصل : فعل.

(٤) مكررة في الأصل.

(٥) البيت من البحر الطويل وتمامه : أخا قلّة أو معدم المال مصرما

والبيت لحسان بن ثابت في ديوانه ، انظر شرح الديوان ٣٦٩ ، وهو في أسرار العربية ص ٩٧ ، وفي الإنصاف ١ / ٩٧ ، وفي شرح المفصل ٧ / ١٢٧.

(٦) انظر : شرح المفصل ٧ / ١٢٨ ، والكافية في النحو ٢ / ٣١١.

١٦٠