العلل في النحو

أبو الحسن محمد بن عبد الله [ الوراق ]

العلل في النحو

المؤلف:

أبو الحسن محمد بن عبد الله [ الوراق ]


المحقق: مها مازن المبارك
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
الطبعة: ٢
ISBN: 1-57547-843-9
الصفحات: ٤١٦

فإن قال قائل : فلأي زمان تستعمل؟

قيل له : لنفي الحال والاستقبال (١) / كقولك : ليس زيد قائما أمس.

فإن قيل : فلم خصت بنفي الحال دون الماضي؟

قيل : لما كان الأصل فيها أن تتصرف في جميع الأزمنة الثلاثة ومنعت ما تستحقه من التصرف لشبه الحرف ، وجب أن يبقى لها أكثر حكمها ولا يزيلها الشبه من أكثر حكمها ؛ فجعلت لنفي زمانين ومنعت زمانا واحدا وهو الماضي (٢) ، لأن لفظ زمان الحال والاستقبال واحد لما تضمن من كثرة الفائدة ، ويجوز أن تكون لما تعينت لنفي الحال والاستقبال اللذين يدل عليهما لفظ الماضي استغنى عن أن يستعمل منها لفظ المضارع.

فإن قال قائل : فهلا استعمل لفظ المضارع ، وأسقط لفظ الماضي؟

ففي ذلك ثلاثة أجوبة :

أحدها أن الحروف أشبه بالفعل الماضي من المضارع ، لأن الماضي مبني كبنائها ، وقد بينا أن بدخول النفي أشبهت الحروف فوجب أن يستعمل اللفظ الذي أشبه الحروف دون ما لا يشبهها فلهذا خصت بالماضي.

والوجه الثاني : أن الماضي أخف في اللفظ من المستقبل فوجب أن يستعمل الأخف لأنّا نصل به إلى ما لا نصل بالأثقل.

والوجه الثالث : أن المضارع فرع على الماضي من جهة اللفظ ، ألا ترى أن لفظ الماضي ليس فيه زائد ولفظ المضارع يتضمن لفظ الماضي وزيادة حرف ، فكان استعمال لفظ الأصل أولى من استعمال لفظ الفرع.

__________________

(١) انظر في ذلك الصاحبي ١٤٠.

(٢) تفيد (ليس) نفي الحال ، ولا تنفي غيره إلّا بقرينة. انظر المغني.

١٢١

ويحتمل وجها رابعا : وهو أن هذا الفعل لما خولف به عن طريق أخواته من الأفعال جعل لفظه مخالفا لحكم ما ينفيه ؛ ليدل بهذا الخلاف في اللفظ على أنه قد ألزم وجها واحدا ، ولو استعملوا من (ليس) المضارع لم يكن في المستعمل على خروجه من الأصل وجاز أن يشك في استعمال لفظ الماضي ، فعدل به إلى جهة ترفع الشك من هنا.

فإن قال قائل : فلم لزمت بعض هذه الأفعال (ما) نحو : ما زال ، وما انفك ، وما برح ، وما فتئ ، وما دام ، وهل ل (ما) فيها حكم واحد؟

فالجواب في ذلك أن (ما) في دام وحدها مخالفة ل (ما) في باقي الأفعال ، وذلك أن (ما) في ما زال تبقى من سائر الأفعال للنفي وهي في (مادام) لغير النفي (١) وإن (ما) مع ذلك بمنزلة المصدر والنائب عن الفعل ، والدليل على ذلك أنه لا يصح الابتداء بها وإنما تستعمل متعلقة بفعل كقولك : إني أنتظرك ما دمت قائما ، والمعنى : وقت دوام قيامك ، فموضع الوقت نصب بانتظارك ، فلما حذفت الوقت صار موضع (ما دام) نصبا لقيامه مقام الوقت كما تقول : انتظرك خفوق النجم ، ولو كانت في مادام للنفي لوجب أن يبتدأ بها كما يبتدأ بأخواتها من الأفعال التي معها كقولك ما زال زيد قائما ، وما انفك عمرو ذاهبا فبان بذلك اختلاف حكم ما ذكرناه.

وإنما لزمت هذه الأفعال (ما) سوى دام لأن فيها معنى النفي ، وذلك أن قول القائل : زال زيد وبرح ، أي : انتفى من هذه المواضع ، وفتئ بمنزلة زال في المعنى ، وانفك معناه : افترق ، والافتراق / بمعنى الانتفاء لأنه زوال عن (٢) حال الاجتماع ،

__________________

(١) قال الخليل في حديثه عن (ما) في موضع الظرف : " قول الله تبارك وتعالى : (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ*) أي : بقاء السموات والأرض. وموضعها النصب". انظر كتاب الجمل في النحو : ٣٠٨.

(٢) في الأصل : على ، وقد أثبت ما يناسب الفعل من حروف الجر.

١٢٢

فلما كانت هذه الأفعال متضمنة لمعنى النفي ومن شرط النفي إذا دخل عليه نفي صار إيجابا ألا ترى أن قول القائل : ما زال زيد ذاهبا معناه أنه ذاهب فلهذا خصت بالنفي ، وغيرها من الأفعال لا تتضمن النفي وإنما هي للإيجاب المحض نحو : كان ، وأصبح وما أشبههما ، فإن أردت الإيجاب جردتهما من حروف النفي ، فإن أردت النفي أدخلت (ما) فاعلمه.

واعلم أن كان تستعمل على ثلاثة أوجه (١) : أحدها : أن ترفع الاسم وتنصب الخبر ، كما (٢) ذكرناه ، فهذه إنما هي عبارة عن الزمان فقط.

والوجه الثاني : أن تقع ملغاة من العمل والمعنى ، وقد تكون ملغاة من العمل دون المعنى ، وأحسن ذلك فيها إذا أردت الإلغاء أن تؤخرها أو توسطها ، فمما جاءت فيه ملغاة في المعنى واللفظ الإلغاء بعد التوكيد وتحسين اللفظ قوله تعالى : (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) [مريم : ١٩ / ٢٩](٣) ، والمعنى كيف نكلم من صار في المهد صبيا ، فصبيا نصب على الحال والعامل فيه نكلم والتقدير : كيف نكلم من هو في المهد في حال الصبا ، ولو جعلت كان معنى الماضي يخرج عيسى عليه‌السلام من أن يكون له اختصاص بهذا الحكم من بين سائر الناس ، ألا ترى أن جميع الناس قد كانوا صبيانا في المهود فدل بعجب القوم من قول مريم أن عيسى عليه‌السلام يتكلم في حال الصبا (٤) فأما ما تدخل فيه ملغاة في العمل دون المعنى فنحو قولك : زيد كان قائم ، والمعنى زيد قائم كان ، فقد أفادت (كان) معنى المضي وإن لم تعمل. واعلم أن (كان) متى ألغيت فلا بد لها من فاعل في

__________________

(١) للتفصيل انظر شرح ابن عقيل على الألفية ١ / ٢٨٨.

(٢) كتبت في الأصل : كاما.

(٣) والآية : (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ،) ذكر العكبري في التبيان الوجوه المختلفة في إعرابها ؛ فذكر الحال ، وزيادة كان ، كما ذكر كونها تامة وناقصة وبمعنى صار. ووجه الحال لا يحوج إلى معنى صار. انظر : إملاء ما منّ به الرحمن ١١٣.

(٤) وهذا الكلام مطابق تماما لما قال المبرد في المقتضب ٤ / ١١٧ ـ ١١٨ (لجنة إحياء التراث).

١٢٣

المعنى لأن الفعل لا يخلو من الفاعل فإذا قلت : زيد قائم كان ، فالمعنى كان الكون ، فالكون هو الفاعل لكان ، وهو بمعنى الجملة المتقدمة ومثله قول الشاعر (١) :

سراة بني أبي بكر تساموا

على كان المسوّمة العراب

أي على المسومة العراب كان تساميهم.

والوجه الثالث من أحكام كان أن تكون بمعنى وقع وحدث فتكون فعلا حقيقيا ، فيرتفع الاسم بعد كان كارتفاعه بعد قام بقام ، ولا تحتاج إلى خبر ومتى ذكرت بعدها اسما صفة نكرة كانت منصوبة على الحال كقولك : كان الأمر ، أي حدث ووقع ، فإن قلت : كان الأمر معجبا ، نصبت معجبا على الحال ، ومثله قوله تعالى (٢) : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) [النساء : ٤ / ٢٩] في قراءة من رفع التجارة ، أي إلا أن تقع التجارة ، ومثله قول الشاعر (٣) :

فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي

إذا كان يوم ذو (٤) كواكب أشهب

أي إذا وقع يوم.

واعلم أن (زال) التي تحتاج إلى اسم وخبر أصلها : فعل ، يفعل ، كعلم يعلم تقول

__________________

(١) البيت من البحر الوافر ، وجاء في : أسرار العربية ١٣٦ ، شرح المفصل ٧ / ٩٨ وورد عنده : جياد بني أبي بكر تسامى ، وشرح الكافية لابن جماعة ٤١٤ وورد الشطر الثاني عنده : على كان المطهمة الصلاب ، ارتشاف الضرب ٢ / ٩٨ ـ ٣ / ٢٩٠ ، أوضح المسالك ١ / ١٨١ ، المساعد على تسهيل الفوائد ١ / ٢٧٠ ، شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك ١ / ٢٢٥ الهمع ٢ / ١٠٠ ، الخزانة ٩ / ٢٠٧. وشرح البيت كما جاء في حاشية شرح ابن عقيل : إن سادات بني أبي بكر يركبون الخيول العربية التي جعلت لها علامة تتميز بها عما عداها من الخيول ... ١ / ٢٩١ (ط ٢).

(٢) والآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً). وقد قرأها بالرفع أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب ، وقرأها بالنصب عاصم وحمزة والكسائي وخلف ، المبسوط في القراءات العشر ١٧٨.

(٣) ونسب لمقاس العائذي في الكتاب ١ / ٤٧ ، وشرح أبيات سيبويه للنحاس ٢٣ ، وهو في المقتضب ٤ / ٩٦ ، وشرح أبيات سيبويه للسيرافي ١ / ٢٥٢ ، وأسرار العربية ١٣٥.

(٤) في الأصل : ذوا.

١٢٤

من ذلك : زال يزال ، كما تقول : خاف يخاف ، فأما التي تقول فيها زال يزول ، فليست من هذا الباب في شيء ولكنها تستعمل كغيرها (١) من الأفعال كقولك : زال زيد عن المكان يزول عنه ، وأما الأولى فلا تستعمل إلا / بحرف النفي لما ذكرناه.

وأما ما دام فقد تستعمل بغير (ما) إذا لم ترد المصدر والدلالة على الوقت كقولك : دام زيد على الشرب يدوم.

واعلم أن دام التي تستعمل مع (ما) لا يستعمل منها المستقبل ، لا يجوز أن تقول : ما يدوم زيد قائما ، وإنما ألزموه الماضي لأن القائل إذا قال : أنا أنتظرك ما دمت قائما ، فإنما يخبر عن حال وقت دوامه فلما كان هذا المعنى المقصود لا يحتمل إلا معنى واحدا لزم لفظا واحدا.

فإن قال قائل : فلم اخترتم أن يكون الاسم في هذه الأفعال معرفة؟

قيل له : لأن هذه الأفعال ، وباب (إنّ) إنما تدخل على المبتدأ والخبر ومن شرط الخطاب أن يكون مبنيا على المعادلة بين المتخاطبين فإذا أردت أن تخبر غيرك عن اسم بخبر لا يعرفه (٢) ، جاز أن ينصرف عن استماع خبره لأن الإنسان لا يهتم (٣) بخبر من لا يعرفه ، مع هذا فيكون المتكلم لم يعدل في المخاطبة إذ لم يستو علم من يخاطبه في معرفة المخبر عنه مع علمه ، فإذا كان المخبر عنه معرفة اهتم المخاطب بخبره وتساويا في المخاطبة ، فلهذا اختير أن يكون المبتدأ معرفة ، وإنما جوزوا في الشعر أن يكون الاسم نكرة لإن الاسم والخبر يرجعان إلى شخص واحد ؛ ولا تشبه هذه الأفعال الأفعال المؤثرة نحو قولك : ضرب زيد عمرا ، وإنما افترقت لدخول هذه الأفعال على المبتدأ والخبر ، فوجب أن يكون ترتيب ما تعمل فيه كترتيب المبتدأ والخبر.

__________________

(١) في الأصل : في غيرها.

(٢) في الأصل : لا تعرفه.

(٣) في الأصل : لا يتوهم.

١٢٥

وأما ضرب وأخواته من الأفعال فليست داخلة على شيء مستغن قبل دخولها عليه ، وإنما يخبر بها عن سبب ما يقع عليه وليس ذلك أبدا يوجب أن يكون الفاعل أبدا معرفة للمتكلم ولا للمخاطب ؛ لأنه لا تحتاج أن يكون الفاعل معرفة لأنه لا يهتم (١) بالفاعل أصلا ويكون اهتمامه وعنايته بالمفعول ، فإذا [كان](٢) كل واحد من الفعل والمفعول له حكم وفائدة تختص دون صاحبه لم يجب اعتبار معادلة الفاعل مع المفعول ، بل يجب أن يختبر اهتمام المخبر بالفاعل والمفعول فيقدم له ما يعلم أنه أهم عنده فاعلا كان أو مفعولا ، فلهذا اختلف حكم باب كان وحكم ما ذكرناه من الأفعال المؤثرة ، ومما جاء في الشعر في جعل الاسم نكرة والخبر معرفة قول الشاعر (٣)

كأن سلافة من بيت رأس

يكون مزاجها عسل وماء

العسل نكرة وهي اسم كان ، والمزاج معرفة وهو الخبر ، وإنما حسن مثل هذا لأن العسل اسم جنس فتعريفه كتنكيره في المعنى ، وقل ما يوجد في أشعارهم أن يكون الخبر معرفة محضة والاسم نكرة محضة لما ذكرناه من قبح ذلك.

فإن قال قائل : فلم يحسن في النفي أن تخبر بالنكرة نحو قولك : ما كان أحد مثلك ، وأحد نكرة ومن أي وجه كان في النفي ولم يجر في الإيجاب؟

__________________

(١) في الأصل : لا يتوهم.

(٢) زيادة ليست في الأصل ، يقتضيها السياق.

(٣) البيت لحسان بن ثابت وهو في شرح الديوان ٣ ، الكتاب ١ / ٤٩ ، ومعاني القرآن ٣ / ٢١٥ ، والكامل ١ / ١٦٤ ، والمقتضب ٤ / ٩٢ وجاء فيه أن المازني كان يروي البيت : يكون مزاجها عسلا وماء يريد : وفيه ماء ، وشرح أبيات سيبويه للنحاس ٢٠ ، وشرح أبيات سيبويه للسيرافي ١ / ٥٠ ، ونسب للمازني الرواية التي نسبها له المبرد في المقتضب ، وشرح المفصل ٧ / ٩٣ ، وشواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح ٣٦ ، ومغني اللبيب ٥٩١ ، وشرح الكافية لابن جماعة ٤١٧ ، وارتشاف الضرب ٢ / ٩٢ ـ ٣ / ٣٣٦ ، وشرح شواهد المغني للسيوطي ٢ / ٨٤٩ ، والهمع ٢ / ٩٦ ، والخزانة ٩ / ٢٢٤ ونسب لبعضهم زيادة (يكون). وهي لا تزاد بلفظ المضارع وقد وردت بعض روايات البيت : كأن خبيئة من بيت رأس ... ، أو كأن مدامة من بيت رأس ...

١٢٦

فالجواب في ذلك : أن موضع كان موضع الإخبار للفائدة ، فمتى حصل فيها فائدة للمخاطب جاز استعمالها ومتى بعدت / من الفائدة لم يجز استعمالها ، فلو قال قائل : كان رجل قائما ، لم يكن في هذا الكلام فائدة للمخاطب لأن المخاطب يعلم أن الدنيا لم تخل من رجل قائم ، ولو قال له : كان رجل في الدار قائما ، لكانت له في ذلك فائدة لأن المخاطب قد يجهل أن يكون في الدار رجل قائم إذا كانت الدار معينة ، فقد بان بما ذكرناه أنه لا تختلف المعرفة والنكرة في الإخبار عنها إذا كان في الخبر فائدة إلا من جهة الحسن والقبح ، وجاز أن يخبر عن النكرة لأن المخاطب مستفيد ما قد كان يجوز أن يجهله. ألا ترى أنك إذا تقول : ما كان أحد مثلك ، فقد يجوز أن يكون يعتقد أن له مثلا ثم يستفيد بخبرك عنه خلاف ما كان يعتقده ، فقد بان أن في هذا الخبر وإن كان نكرة فائدة ، وإن لم يجز استعمال عكس هذا في الواجب نحو : كان أحد مثلك ، لأن أحدا اسم عام والنفي يصح أن يقع على عموم الأشياء ولا يصح إيجابها ، ألا ترى أنك لو قلت : ما جاءني أحد ، لصح الكلام ، ولو قلت : جاءني أحد ، كان محالا إذا أردت بأحد الناس أجمعين وإنما اختص النفي بهذا لأنه قد يصح نفي الضدين ولا يصح إثباتهما نحو قولك : زيد ليس بالأبيض ولا الأسود ، ولا يجوز أن تقول : زيد أبيض أسود ، فجاز أن يختص النفي ببعض العبارات التي للعموم لأن في العموم اجتماع الأضداد ، كما جاز أن يختص بجواز نفي الضدين ، ولم يجز وقوع العموم المختص بالنفي في الإيجاب كما لا يجوز اجتماع الضدين في جوهر واحد (١).

فإن قال قائل : فلم جاز تقديم الخبر على هذه الأفعال ولم يجز تقديم الاسم؟

قيل له : إن الاسم المرفوع في هذه الأفعال مشبه بالفاعل والخبر مشبه بالمفعول ، ومن شرط المفعول أنه يجوز أن يتقدم على الفاعل والفعل ولا يجوز تقديم الفاعل

__________________

(١) انظر سيبويه ١ / ٥٤ هذا باب تخبر فيه عن النكرة بنكرة. (هارون).

١٢٧

على الفعل لما سنبيّنه في باب الفاعل والمفعول به ، فجوزنا تقديم الخبر على الفعل تشبيها بالمفعولات ، وامتنعنا من تقديم الاسم كما امتنعنا من تقديم الفاعل فاعلمه (١) ، واعلم أن سيبويه قد نص على جواز تقديم خبر ليس عليها في مسألة (٢) ، وإن كان فيها معنى النفي ، ووجه جوازه أنّ (ليس) فعل في نفسها وإنما منعت من التصرف للاستغناء عن نفي الزمان الماضي بغيرها ولما ذكرناه من العلل ، وهذا المعنى ليس ينقص به في ذاتها وهي مع ذلك تعمل في جميع الأسماء المعرفة والنكرة والمضمرة والظاهرة ، فوجب أن يجوز تقديم خبرها عليها كما يجوز في غيرها من الأفعال (٣). ولا يلزم جواز ما تعمل فيه نعم وبئس ، وفعل التعجب ، لأن نعم وبئس لا يعملان في المعارف غير الأجناس فقد نقصتا من درجة ليس فجاز أن يمتنع تقديم المفعول عليها. وأما فعل التعجب فقد أجروه وإن كان فعلا مجرى الأسماء فصغروه كما يصغرون الأسماء ، فبعد عن حكم الأفعال الحقيقية ، ومع هذا فلا يتصل بضمير الفاعل وإنما يضمر فيه الفاعل فقد نقص بما ذكرناه عن رتبة ليس ، ومع هذا لا يؤنث وهذا مما يوجب نقص فعل التعجب عن حكم ليس فقد افترقا في / جواز تقديم المفعول.

فإن قال قائل : فعسى يتصل (٤) به ضمير الفاعلين ويؤنث ومع هذا فلا يجوز

__________________

(١) قال سيبويه : " وإن شئت قلت : كان أخاك عبد الله ، فقدمت وأخرت كما فعلت ذلك في ضرب لأنه فعل مثله ، وحال التقديم والتأخير فيه كحاله في ضرب ، إلا أن اسم الفاعل والمفعول فيه لشيء واحد". الكتاب ١ / ٤٥ (هارون).

(٢) انظر ذلك في الكتاب ١ / ٢٩ (بولاق).

(٣) ناقش ابن عقيل هذه المسألة وبيّن اختلاف النحويين في المنع والجواز فقال : " اختلف النحويون في جواز تقديم خبر (ليس) عليها ، فذهب الكوفيون والمبرد والزجاج وابن السراج وأكثر المتأخرين ـ ومنهم المصنف ـ إلى المنع ، وذهب أبو علي وابن برهان إلى الجواز ؛ فتقول : (قائما ليس زيد) واختلف النقل عن سيبويه ، فنسب قوم إليه الجواز ، وقوم المنع ، ولم يرد من لسان العرب تقدم خبرها عليها ...". انظر شرح ابن عقيل على الألفية ١ / ٢٧٧ ـ ٢٧٨ (ط ٢ دار الفكر).

(٤) في الأصل : يصل.

١٢٨

تقديم مفعوله عليه نحو قولك : عسى زيد أن يقوم ، فإن (يقوم) في موضع نصب بعسى ولا يجوز أن يتقدم المفعول نحو : أن يقوم عسى زيد؟

فالجواب في ذلك أن عسى ـ وإن كانت على ما ذكره السائل ـ فليست مما تعمل في جميع الأسماء ؛ لأنه لا يجوز أن يكون مفعولها إلا (أن) مع الفعل ولو قلت : عسى زيد القيام أو قياما ، لم يجز لأنها جعلت لتقريب الفعل ، وإذا دخلت على الفعل المضارع كان مستقبلا محضا ، فوجب أن يؤتى بلفظ الاستقبال المحض ليصح تقريبه ، ولم يجز اللفظ بنفس المصدر لأنه لا يدل على زمان بعينه ، فلما صارت عسى تختص بالعمل في بعض الأسماء دون بعض نقصت عن رتبة (ليس) فمنعت من تقديم مفعولها.

فإن قال قائل : فهل يجوز تقديم الخبر على ما دام وما زال (١)؟

قيل له : لا يجوز ذلك عندي فأما امتناعه في مادام فلأنه بمنزلة المصدر وما تعلق بالمصدر فمن صلته وما في الصلة لا تتقدم على الموصول لأنه يجري منه مجرى بعض الاسم ، وبعض الاسم لا يتقدم على بعض ، فلم يجز تقديم خبر ما دام وما زال ، ف (ما) الداخلة على زال للنفي وما دخل في حكم النفي لا يتقدم عليه ، لأن الموجب للنفي حرف ، والحروف ضعاف وليست لها قوة الفعل ، فلم يجز تقديم ما أوجبه حكمها عليها لضعفها ، فلهذا لم يتقدم الخبر على ما زال ولا على ما في أوله (ما) للنفي من سائر الأفعال.

فإن قال قائل : فلو كانت (ما) في ما زال للنفي لجاز أن تقول : ما [زال](٢) زيد إلا قائما ، فلما امتنعت هذه المسألة في ذلك علمنا أنها مخالفة لحكم (ما) الداخلة على كان في قولك : ما كان زيد إلا قائما؟

__________________

(١) للتفصيل انظر شرح ابن عقيل على الألفية ١ / ٢٧٤ ـ ٢٧٧ (ط ٢ دار الفكر).

(٢) في الأصل : ما زيد إلا قائما ... ، وزال زيادة ليست في الأصل يقتضيها سياق المعنى.

١٢٩

فالجواب في ذلك إن هذه المسألة إنما امتنعت من مازال لآن حكم الاستثناء أن يبطل حكم النفي إلا أنك إذا قلت : ما كان زيد قائما ، نفيت القيام ، وإذا قلت : ما كان زيد إلا قائما أثبت القيام ، فصار بمنزلة قولك : كان زيد قائما ، وكذلك لو جوزنا الاستثناء بعد (ما زال) لصار التقدير : زال زيد قائما ، وقد بيّنا أن ذلك لا يستعمل إلا بحرف النفي ، وإدخال حروف الاستثناء يبطل ما وضعت عليه ، فلهذا منعناها الاستثناء وليس امتناعها من جواز الاستثناء لما ذكرناه يخرج عن أن تكون للنفي لأن (ليس) لا تخلو إذا أدخلت على (زال) من أن تكون للنفي أو لغيره ، فلو كانت لغير النفي لم يجز أن تخرج (زال) عن موضعها في المعنى ، فلما وجدنا معناها ينقلب بدخول (ما) عليها ، علمنا أنها للنفي فوجب أن يجري عليها حكم النفي وإن كانت جملة الكلام في معنى الإيجاب ، وقد أجاز بعض النحويين (١) تقديم خبر ما زال عليها لما ذكرناه من الشبه وشبهها بالإيجاب.

واعلم أن أمسى وأصبح وصار وأضحى قد تستعمل على وجه آخر فيقال : صار زيد إلى عمرو ، فليست هاهنا الداخلة على المبتدأ أو الخبر لأنك لو أسقطتها من الكلام لم يجز أن تقول : عمرو إلى زيد دون صار / فعلمنا بهذا التقدير أنها ليست الداخلة على الابتداء والخبر ولكنها داخلة لمعنى الانتقال والصيرورة ، ولذلك جاز فيها هذا الاستعمال ، وصار زيد إلى عمرو ، انتقل زيد إلى عمرو ، وكذلك قد تقول : أمسى زيد ، وأصبح عمرو ، وأضحى عبد الله ، وتسكت ويكون المعنى دخل زيد في وقت المساء ودخل عمرو في وقت الصباح ودخل عبد الله في وقت الضحى ، كما تقول : أظهر الرجل ، إذا دخل في وقت الظهيرة ، وبات تستعمل للّيل ، وأضحى للنهار ، وظلّ تستعمل فيهما جميعا ، وإن كان الأشهر أن تستعمل في النهار.

__________________

(١) وهم ابن كيسان والنحاس ، انظر شرح ابن عقيل على الألفية ١ / ٢٧٦ (ط ٢ دار الفكر).

١٣٠

باب ما

إن قال قائل : ما الذي منع من تقديم خبر (ما) عليها (١)؟

قيل له : لأنها (٢) حرف مشبه بالفعل ، فلم تبلغ قوتها أن تتصرف في معمولها إذ كانت هي في نفسها لا تتصرف (٣).

فإن قال قائل : فما الذي أوجب إبطال عملها إذا فصلت بين الاسم والخبر بإلا (٤)؟

قيل له : لأن إلا توجب الخبر فبطل معنى (ما) فإنما هي مشبهة بليس من جهة المعنى لا اللفظ ، فإذا زال المعنى بطل عملها ؛ لأن الشبه قد زال فرجعت إلى أصلها.

واعلم أن الأقيس في (ما) ألا تعمل شيئا وإنما كان الأقيس فيها هذا لأنها تدخل على الاسم والفعل كما تدخل حروف الاستفهام عليهما (٥) ، وإنما يعمل العامل في الجنس إذا استبدّ به دون غيره ، وهذا أصل في العوامل ، و (ما) في هذا ليست بالأسماء أولى منها بالأفعال ، ولكن أهل الحجاز لما رأوها بمعنى (ليس) تنفي ما في الحال والمستقبل أجروها مجراها في العمل ، وأصل موضع عمل الأفعال

__________________

(١) قال الخليل : " ولا يقدمون خبر (ما) عليه ، لا يقولون : قائما ما زيد ، لأنه لا يقدم منفي على نفي ..." انظر الجمل في النحو المنسوب للخليل ٣٠٥.

(٢) في الأصل : لأنه.

(٣) قال سيبويه : " فإذا قلت : ما منطلق عبد الله ، أو ما مسيء من أعتب ، رفعت. ولا يجوز أن يكون مقدما مثله مؤخرا ، كما أنه لا يجوز أن تقول : إنّ أخوك عبد الله على حد قولك : إن عبد الله أخوك ، لأنها ليست بفعل ، وإنما جعلت بمنزلته فكما لم تتصرف إنّ كالفعل كذلك لم يجز فيها كل ما يجوز فيه ولم تقو قوته فكذلك ما".

الكتاب ١ / ٥٩ (هارون).

(٤) انظر المصدر السابق ، الصفحة نفسها.

(٥) في الأصل : عليها.

١٣١

أن يكون فاعلها قبل مفعولها ، فرفع ما عملت فيه فقدم على منصوبها تشبيها ب (ليس) على أصل موضع عمل الأفعال ، فإذا زالت (ما) عن ترتيب الأصل زال عملها ورجعت إلى ما تستحقه من القياس ، وهذه العلّة كافية في (ما) وانصرافها عن العمل.

واعلم أن (إن) الخفيفة المكسورة الألف قد تدخل على (ما) زائدة ، إلا أنها متى دخلت عليها بطل عملها للفصل بينها وبين ما تعمل فيه ، إذ كانت حرفا ضعيفا ، وجرت في بطلان عملها إذا دخلت (إن) عليها مجرى (إنّ) إذا دخلت (ما) عليها نحو : إنما زيد قائم ، فصارت (إن) مع (ما) ك (ما) مع (إن) في قولك : إنما زيد قائم.

فإن قال قائل : أيجوز إدخال الباء على خبر (ما) إذا تقدم؟ وما الفائدة من إدخالها؟

فالجواب في ذلك أنه غير ممتنع إذا أدخل الباء على خبر (ما) إذا تقدم كقولك : ما بقائم زيد ، والأحسن تأخيرها ، وأما فائدة دخول الباء فلوجهين أحدهما : التوكيد للنفي.

والثاني : أن تقرر أنها جواب لمن قال : إن زيدا لقائم ، فالباء أدخلت بإزاء اللام في خبر (إن).

فإن قال قائل : فلم كانت الباء أولى بالزيادة من بين سائر الحروف؟ فالجواب في ذلك أنها حرف واحد لا تفيد إلا الإلصاق. فلما أرادوا نفي الخبر أدخلوا الباء على الخبر لإلصاق (١) المعنى بالباء فلهذا كانت أولى من سائر الحروف بالزيادة في هذا الموضع على ما بيّناه ، وإنما قبح أن تلي الباء (ما) لما كان قبح أن تلي لام التوكيد ل (إن) ، وأما السبب في قبح الموضعين أن اللام للتوكيد و (إن) للتوكيد فاستقبح الجمع بين توكيدين.

__________________

(١) في الأصل : للإلزاق.

١٣٢

والباء / قد بينا أنها لتوكيد (١) النفي فقبح أيضا أن يجمع بينهما لاشتراكهما في المعنى.

فإن قال قائل : فقد جوزت أن تلي (الباء) (ما) في قولك : ما بقائم زيد ، (واللام) لا يجوز أن تدخل على (أن) بحال فما الفصل بينهما؟

فالجواب في ذلك أن (اللام) مجردها يفيد التوكيد للجملة التي تدخل عليها كما تفيد (أن) ، وهما جوابان للقسم فقبح الجمع بينهما لاشتراكهما في معنى واحد ، وأما (الباء) فليست في نفسها للنفي وإنما هي مؤكدة لمعناها ، ولأجل مخالفتها في المعنى لحكم النفي جاز أن يليه ، فلهذا خالفت اللام (الباء) لما ذكرناه.

فإن قال قائل : أليس تقول : جاءني القوم كلهم أجمعون (٢) ، فتجمع بين توكيدين ، فهلّا جاز الجمع بين اللام و (إن)؟

فالجواب في ذلك أن أجمعين يفيد ما لا يفيده كلهم ، وذلك أن قول القائل : جاءني القوم كلهم ، يفيد مجيئهم ، والدليل على أنه لم يبق بعضهم ، وأجمعون يفيد ما أفاد كلهم ويزيد اجتماعهم في حال المجيء ، فلما اختلف (٣) معنيا التوكيدين جاز الجمع بينهما ، وقبح الجمع بين (اللام) و (إن) لا تفاقهما في المعنى.

فإن قال قائل : أليس قد تقول جاءني القوم أجمعون أكتعون أبصعون ، فكل هذه الألفاظ التي بعد أجمعين لا تفيد إلا ما تفيد أجمعون وقد جمعت بين توكيدين بمعنى واحد؟

فالجواب في ذلك : أن الأسماء التي بعد أجمعين لا معنى لها في نفسها ولا تستعمل بحال مفردة ، وإنما أتبع أجمعين بها لتحسين المعنى وتوكيده ، فلهذا جاز

__________________

(١) في الأصل : للتوكيد.

(٢) انظر الأصول ٢ / ٢١ ـ ٢٣ ، فقد تحدث ابن السرّاج عن التأكيد الذي يجيء للإحاطة والعموم (أجمعون ، كلهم).

(٣) في الأصل : اختلفت.

١٣٣

الجمع بينهما ، وتقول : ما زيد قائما ولا قاعدا أبوه ، فلك في قاعد الرفع والنصب ، فالنصب على أن تعطف قاعدا على قائم ، وترفع الأب بقاعد ، فعلى هذا الوجه إذا ثبتت المسألة قلت : ما الزيدان قائمين ولا قاعدا أبواهما ، أفردت الفعل ؛ لأنه فعل الأبوين ، ومن شرط الفعل إذا ظهر فاعله بعده ألا يثنى ولا يجمع ، وإن كان اسما أجروه مجرى الفعل في هذا الموضع فلهذا أفردته ، وأما قائم فإنما تثنية في المسألة ؛ لأن فيه فاعلا ومضمرا يرجع إلى زيد. وأما الرفع في قاعد فعلى أن تجعل الأب مبتدأ وقاعدا خبره ، فإذا قدرته هذا التقدير صار ابتداء وخبرا ، لأنك إذا أفردت ما بعد حرف العطف فالخبر مقدم قبح الرفع ، وإن لم تقدر ما بعد حرف العطف فالرفع واجب ؛ لأنه ابتداء وخبر ، وعلى هذا الوجه ثنى قاعدا فتقول : ما الزيدان قائمان ولا قاعدان أبواهما ، لأن النية في قاعدين التأخير ففيها ضمير فاعل في النية فلهذا وجب. وتقول ما كل إبراهيم أبو إسحاق ، تنون إبراهيم ولا تنون إسحاق وإن كانا (١) معرفتين أعجميين ، والفصل بينهما أن كل اسم مفرد فلا بد من أن يكون نكرة يدل على جنسه ؛ أعني المسمى باسمه إذا نحي به هذا النحو ، و (كل) إحاطة ، فإذا وقعت على علم نكرته ودلت بالواحد الذي تقع عليه على جنسه ، فلما جاء إبراهيم بعد كل صار نكرة أي أحد أمة كل واحد [منها](٢) يقال له إبراهيم انصرف ولحقه التنوين ، وأما إسحاق فلم يدخل عليه ما يزيله عن تعريفه فبقي على امتناعه / من الصرف ولو قلت : ما كل أبي إسحاق إبراهيم ، لصرفت إسحاق لوقوعه بعد كل ولم تصرف إبراهيم لبقاء تعريفه ، [ولم تصرف](٣) سوداء (٤) ولا بيضاء في الكتاب وإن وقعت

__________________

(١) في الأصل : كان.

(٢) زيادة ليست في الأصل ، يقتضيها السياق.

(٣) انقطاع في الكلام ، يدل على سقط. قال سيبويه : " ... وتقول ما كلّ سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة وإن شئت نصبت شحمة ، وبيضاء في موضع جر كأنك لفظت بكل فقلت لا كلّ بيضاء ...". الكتاب ١ / ٣٣ (بولاق).

١٣٤

بعد كل ، لأن كل اسم علم ممتنع من الصرف في المعرفة ، ينصرف في النكرة لخفة النكرة ، وكل صفة على فعلاء لا تنصرف في معرفة ولا نكرة ، فلهذا امتنع سوداء وبيضاء من الصرف ولم تؤثر فيه كل فاعرفه ، وتقول : ما زيد قائما بل قاعد ، ترفع قاعدا ؛ لأنه وقع بعد (بل) ، و (بل) فيها معنى الإضراب عن الأول والإثبات لما بعدها ، فصارت بمنزلة (إلا) فلهذا وجب الرفع في قاعد ، وتقول : ما زيد قائما ولا أبوه ، فترفع الأب بقيامه ، وأبو العباس يقدر هذه المسألة على تقدير : ما زيد آكلا شيئا إلا الخبز (١) ، وكذلك ما زيد قائما أحدا إلا أبوه والذي دعاه إلى هذا التقدير أن الاستثناء يجب أن يكون من الجملة و (إلا) بابها الاستثناء فيجب أن تقدر فيها ما يصح أن يكون الذي بعدها مستثنى (٢) منه وليس أحد وشيء وإن كانا مقدمين في المعنى من جهة اللفظ بل الأب مرتفع بقائم ، والخبر منتصب بالأكل لا على طريق البدل ، وإنما قال أبو العباس : ذلك من جهة المعنى ، يدلك على صحة ذلك أن أحدا لم يجر له ذكر فيجوز إضماره ، وكذلك الشيء يقبح إضماره ؛ لأنه مفعول لا يستتر في الفعل فعلم أن التقدير إنما هو من جهة المعنى لا اللفظ.

باب الابتداء وخبره

فإن قال قائل : لم استحق المبتدأ الرفع وبأي شيء يرتفع؟

فالجواب في ذلك : أن الرافع له التعرية من العوامل وليست بلفظ ، فالجواب في ذلك أن العوامل اللفظية إنما جعلت علامات للعمل لا أنها تعمل شيئا ، فإذا كان معنى العامل اللفظي إنما هو علامة فالعلامة قد تكون حدوث الشيء وعدمه ، ألا ترى أن ثوبين أبيضين متساويين لو أردنا أن نفصل بينهما فسودنا أحدهما لكان

__________________

(١) في الأصل : ما زيد آكلا شريرا إلا الخبز.

(٢) في الأصل : مستثنا.

١٣٥

المسود منفصلا من الآخر والآخر منفصلا منه ، وإن لم تكن فيه علامة ، فكذلك عدم العامل علامة أيضا ، فإذا قد ثبت أن التعرية من العوامل عامل فالذي يجب أن يبين لم خص بعمل الرفع دون غيره؟ وإنما خص بالرفع ؛ لأن المبتدأ أول الكلام ، فوجب لما استحق الإعراب أن يعطى أول حركة الحروف مخرجا وهو الضم.

ووجه آخر هو أن المبتدأ محدّث عنه كما أن الفاعل محدّث عنه ، فلما استحق الفاعل الرفع لعلّة سنذكرها في بابه حمل المبتدأ عليه.

وأما أبو إسحاق الزجاج فكان يجعل العامل في المبتدأ ما في نفس المتكلم من معنى الإخبار (١) ، قال ؛ لأن الاسم لما كان لا بدّ له من حديث يحدث به عنه صار هذا المعنى هو الرافع للمبتدأ. والصحيح ما بدأنا به ؛ لأنه لو كان الأمر كما رتبه أبو إسحاق لما جاز أن ينتصب الاسم بدخول عامل عليه ؛ لأن دخول العامل لا يغير معنى الحديث عن الاسم ، فلو كان ذلك المعنى عاملا لما جاز أن يدخل عامل وهو باق ، وأما العلّة الأولى فلا يلزم عليها هذا السؤال ؛ لأن العامل في / المبتدأ على ما رأيناه تعريته من العوامل اللفظية ، فمتى دخل عامل لفظي على المبتدأ زال العامل الذي هو التعرية فلم يدخل عامل على عامل.

فإن قال قائل : من أين وجب الرفع لخبر المبتدأ؟

فالجواب في ذلك أن المبتدأ لما كان لا بد له من خبر كما أن الفعل لا بد له من فاعل ، صار الخبر مع المبتدأ كالفاعل مع الفعل ، فكما وجب رفع الفاعل وجب رفع الخبر.

ووجه آخر أن المبتدأ لما كان العامل فيه التعرية من العوامل وليست بلفظ ،

__________________

(١) قال ابن يعيش في شرح المفصل : " وكان أبو إسحاق يجعل العامل في المبتدأ ما في نفس المتكلم ، يعني من الإخبار عنه ، قال : لأن الاسم لما كان لا بد له من حديث يحدث به عنه صار هذا المعنى هو الرافع للمبتدأ ...".١ / ٨٥ (الطباعة المنيرية).

١٣٦

وكان الخبر هو المبتدأ وجب أن يحمل عليه في الإعراب كما يحمل النعت على المنعوت (١).

فإن قال قائل : قد رأينا المبتدأ ينصب والخبر مرفوع كقولك : إن زيدا أخوك ، فلو كانت علّة رفعه أنه هو المبتدأ في المعنى ، وقد جرى كالنعت (٢) لوجب أن ينتصب كما ينصب المبتدأ؟!.

فالجواب في ذلك أنا قد احترزنا من هذا السؤال ، وذلك أنا جعلنا العلّة في جواز عمل الخبر على المبتدأ أن العامل في المبتدأ غير لفظي وإذا كان العامل لفظيا في هذا أعني : إن زيدا أخوك ، لم يلزم هذا السؤال وإنما انفصل العامل اللفظي في هذا الحكم ؛ لأن العامل مشبه بالفعل ، والفعل يقتضي فاعلا ومفعولا فلم يجز أن يتبع في مثل هذا الخبر المبتدأ إذا كان منصوبا ، لأنه لا يجوز أن يخلو الفعل من فاعل أو ما يقوم مقامه ، ولا يجوز أن يتجه بعامل لفظي نحو إن زيدا أخاك ، لأنه لا يكون للفعل فاعلان ، فلهذا لم يلزم السؤال عن العلّة الأولى ، وجاز أن يجعل الخبر كالمبتدأ في الإعراب ويشبه بالنعت من حيث كان العامل غير لفظي.

فإن قيل : قد علمنا بما ذكرت العامل في المبتدأ فما العامل في الخبر؟

ففي ذلك جوابان :

أحدهما أن الابتداء وحده عامل في الخبر كما كان في المبتدأ ، وإنما وجب أن يعمل في الخبر قياسا على العوامل اللفظية نحو : إنّ ، وكان ، وظننت ، فكل هذه عاملة في المبتدأ والخبر ، لأن نظير الابتداء ظننت ، لأن ظننت قد عملت في المبتدأ والخبر عملا واحدا وهو النصب (٣).

__________________

(١) عقد ابن الأنباري لذلك مسألة في كتابه الإنصاف ١ / ٤٤ القول في رافع المبتدأ ورافع الخبر ، وانظر اللباب ١ / ١٢٥ ـ ١٢٩ حيث فصل الحديث عن رافع المبتدأ والخبر.

(٢) في الأصل : النعت ، وهو يريد أن الخبر لو جرى على المبتدأ كما جرى النعت على المنعوت ...

(٣) في الأصل : الرفع.

١٣٧

والوجه الثاني أن يكون العامل في الخبر المبتدأ أو الابتداء جميعا ، وإنما وجب ذلك ؛ لأن المبتدأ لا ينفك من الابتداء فلا يصح للخبر معنى إلا بتقدمهما جميعا فوجب أن يكونا جميعا العاملين وكلا القولين جيد.

واعلم أن المبتدأ إذا كان خبره ظرفا أو اسما متعلقا بحرف جر فتقديمه وتأخيره سواء ، كقولك : زيد عندك ، وعندك زيد ، فزيد مرتفع بالابتداء في الوجهين جميعا ، وكذلك : المال لزيد ولزيد المال.

فإن قال قائل : أليس إذا قلنا زيد عندك ، فعندك منصوب بإضمار فعل تقديره زيد استقر عندك ، فإذا قدمت عندك على زيد فكيف يصلح أن ترفع زيدا بالابتداء وقد تقدمه استقر وهو فعل؟ فالجواب في ذلك أن استقر لو كان تقديره على ما سألت عنه لم يجز أن ترفع زيدا بالابتداء وإنما استقر مؤخر بعد ذكر الابتداء وخبره.

فإن قيل : / فمن أين لك أن التقدير يجب على ما ذكرت دون أن يكون على ما سألنا عنه؟

قيل له الدليل على ذلك أنّا نقول : إن عندك زيدا ، فتنصب زيدا بإن ، ولو كان استقر مقدرا بين عندك وزيد (١) لم يجز أن تتخطاه (إن) فتعمل في زيد ، فقد بان بما ذكرنا أن الظرف تقدم أو تأخر فلا يمنع الاسم من الابتداء ، وأما أبو الحسن الأخفش فكان يجيز أن يرفع زيدا بتقدير استقر إذا تقدمت الظروف (٢) ويجيز ما ذكرناه سيبويه فإذا لزم الأخفش ما ذكرناه من قولك : إن عندك زيدا ، لم يلزمه

__________________

(١) في الأصل : وزيدا.

(٢) انظر شرح الكافية في النحو للاستراباذي ١ / ٩٤ (دار الكتب العلمية) ، وفيه يبين قول الأخفش هذا ، وعده أحد قوليه ، أي أن له رأيا آخر في المسألة. وقد نسب هذا الرأي أيضا للكوفيين لاعتقادهم أن الخبر لا يتقدم على المبتدأ مفردا كان أو جملة.

١٣٨

على هذا المذهب الذي يرفع زيدا باستقر وتبطل المسألة ، وهذا القول ضعيف ، لأنه ليس أحد من العرب حكى عنه الامتناع من قولك : إن عندك زيدا ، وما أشبه هذا من المسائل ، فلو كان ما ذهب إليه الأخفش من أحد الوجهين صحيحا لوجب أن يحكى ذلك عن العرب ، ولو أسقطت عنه الإلزام من جهة العرب لكان القياس يؤيد قول سيبويه ويضعف قول الأخفش فيما يقرره به وذلك أنه لا خلاف في جواز تقديم خبر المبتدأ على المبتدأ نحو قولك : عمرا زيد ضارب فإذا ثبت جواز هذا فنرجع إلى قولنا : زيد عندك ، زيد مبتدأ بلا خلاف وعندك نائب عن الخبر وهو استقر والظرف مفعول فيه فإذا قدمنا الظرف فيجب أن يبقى المبتدأ على ما كان عليه ؛ لأن تقديم مفعول الخبر لا يوجب تقديم الخبر ألا ترى أنك تقول : زيد ضارب عمرا فإذا قدمت عمرا على زيد لم تخرج زيدا من أن يكون مبتدأ ولم يجب تقديم ضارب مع تقديم زيد ، وكذلك إذا قدمنا الذي يعمل فيه الخبر لم يجب تقديم الخبر فاعلمه.

واعلم أن المبتدأ إذا كان جثة لم يجز أن يكون خبره ظرفا لزمان كقولك : زيد يوم الجمعة ، وإنما امتنع عن ذلك ؛ لأن الغرض في الخبر إفادة المخاطب فلا يجوز أن يجهله ، قد علمنا أن زيدا وغيره من الأشخاص لا يخلو من الزمان حيا كان أو ميتا ، فلما كان هذا الخبر يعلمه المخاطب لم يستفد به شيئا ، فوجب أن يسقط التكلم به إذ لا فائدة فيه ، وأمّا إذا كان المبتدأ غير جثة فظرف الزمان يكون خبرا (١) كقولك : القتال يوم الجمعة ، وإنما صح ظرف الزمان أن يكون خبرا لّما

__________________

(١) انظر شرح المفصل ١ / ٨٩ (إدارة الطباعة اللمنيرية) ، وشرح الكافية للاسترباذي ١ / ٩٤ (دار الكتب العلمية) وجاء فيها : " واعلم أن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن اسم عين ولا حالا منه ولا صفة له لعدم الفائدة ، إلا في موضعين : أحدهما : أن يشبه العين المعنى في حدوثها وقتا دون وقت نحو : الليلة الهلال ، الثاني : أن يعلم إضافة معنى إليه تقديرا نحو قول امرئ القيس : اليوم خمر وغدا أمر ... ولو قلت : الأرض يوم الجمعة ، أو زيد يوم السبت ، لم يجز لأنه لا فائدة لتخصيص حصول شيء بزمان هو في غيره حاصل مثله ...".

١٣٩

ليس بجثة أعني المصادر للفائدة الواقعة في الخبر إذا كان القتال قد يخلو من يوم الجمعة ، فصار المخاطب مستقبلا للخبر فلهذا صح الكلام.

فإن قال قائل : أليس قد قالوا الهلال الليلة (١) ، والهلال جثة ، فما وجه ذلك؟

قيل له : إنما استعمل هذا الكلام عند توقع رؤية الهلال ، فإن كان جائزا أن يحدث وجائزا أن يظهر ضمن الكلام معنى الحدوث فصار التقدير : الليلة حدوث الهلال ، ثم حذفت الحدوث وأقمت الهلال مقامه ، فلم يخرج ظرف الزمان في هذه المسألة من أن يكون خبرا لمصدر دون جثة ، وعلى هذا الوجه يجوز أن تقول : اليوم زيد ، إذا كنت متوقعا لقدومه [فيصير التقدير : اليوم قدوم زيد ، والدليل على أن المراد عند العرب ما ذكرناه](٢) أنهم لا يقولون : القمر الليلة ، ولا الشمس اليوم لأنهما كائنان لا محالة.

باب الفاعل والمفعول به

إن قال قائل : لم وجب / أن يرفع الفاعل وينصب المفعول به؟

ففي ذلك أوجه :

أحدها : أنهم فعلوا هذا الفعل بين الفاعل والمفعول به (٣) ؛ لأن الفاعل أقل من المفعول في الكلام ، وذلك أن الفعل الذي يتعدى يجوز أن تعديه إلى أربعة أشياء ، فلما كان الفاعل أقل في الكلام من المفعول جعلت له الحركة الثقيلة وجعل لما تقدم (٤) في كلامهم الحركة الخفيفة ليعتدلا.

__________________

(١) انظر كتاب الشعر للفارسي ٢ / ٣٣٣ ، باب حذف المضاف وفيه يقول : " كقولهم : الليلة الهلال ، يريد : الليلة ليلة الهلال ..." والأصول ١ / ٦٣ ، وقد سأل السؤال نفسه الذي أثاره الورّاق هنا؟

(٢) كتبت في الأصل على الهامش.

(٣) في الأصل : أنهم فعلوا هذا الفعل بين الفاعل والمفعول به بالنصب لأن الفاعل ...

(٤) من أسلوب الكاتب استخدام (تقدم) بمعنى (أكثر).

١٤٠