العلل في النحو

أبو الحسن محمد بن عبد الله [ الوراق ]

العلل في النحو

المؤلف:

أبو الحسن محمد بن عبد الله [ الوراق ]


المحقق: مها مازن المبارك
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
الطبعة: ٢
ISBN: 1-57547-843-9
الصفحات: ٤١٦

فإن قال قائل : فلم صار قولك : من صحيح زيد (١) ، لا يجوز وجاز فيما نابت عنه أين ومتى؟

قيل له : لأن (كيف) هي الاسم الذي بعدها على ما ذكرناه ، وكان خبر المبتدأ الذي (٢) هو المبتدأ لا يحتاج إلى واصل يصل بينه وبين المبتدأ لم يحتج إلى حرف.

وأما (أين ومتى) فهما غير الاسم الذي بعدهما ولا بد لخبر المبتدأ ، إذا كان غير المبتدأ ، من واصلة توصل بينه وبين المبتدأ ألا ترى أنك لو قلت : زيد عمرو قائم ، فعمرو قائم غير زيد ، وليس بينه وبين الجملة علاقة (٣) فلم يحسن الكلام حتى تقول من أجله أو في داره ، فتعلق الجملة التي هي غير زيد بما ذكرناه من الضمير لأنها غير الأول وكذلك لما كانت (٤) (متى وأين) غير الاسم بعدهما احتاجا إلى حرف فاعلمه.

فإن قال قائل : كيف جاز الجزم (بمتى وأين) ولم يجر الجزم ب (كيف) كقولك : أين تكن أكن ، ومتى تقم أقم ، ولم يجر كيف تكن أكن (٥)؟

فالجواب في ذلك من وجوه : أحدها أن قول القائل : أين (٦) تكن أكن ، إنما شرط له متى كان في بعض البقاع

أن يكون هو أيضا في تلك البقعة ، وكذلك شرط في متى في أي زمان قام أن يقوم هو فيه وهذا غير متعذّر (٧).

__________________

(١) قوله : صحيح زيد ، نابت فيه كلمة (صحيح) مناب (كيف) فكما لم يجز دخول (من) على قولنا : صحيح زيد فكذلك لم يجز دخولها على كيف.

(٢) في الأصل كلمة لم أتبيّنها وقد أثبت ما يناسب المعنى.

(٣) في الأصل : علقة. فقد أثبت المناسب.

(٤) في الأصل (كانتا) وقد أثبت المناسب.

(٥) نقل ابن هشام جواز الجزم بها مطلقا عن قطرب والكوفيين. المغني : ٢٢٥.

(٦) في الأصل : كيف وقد أثبت المناسب.

(٧) في الأصل : معتذر.

١٠١

فأما (كيف) فهي سؤال عن حال فظاهر الشرط لو شرط بها يقتضي في أي حال كان المخاطب أن يكون السائل هو المستفهم فيها ، وهذا لا يجوز لأنه قد يكون المخاطب المسؤول عن أحوال كثيرة يتعذر أن يتفق للمجازى أن يكون عليها ، فلما كان متعذرا ذلك عليه سقط الجزاء ب (كيف) وجاز في (متى وأين).

فإن قال قائل : أليس قد أجزتم : كيف تكون أكون ، فظاهر هذا يقتضي ما منعتموه ، إذ جزمتموه (١)؟

قيل : الفرق بينهما أنا إذا رفعنا / الفعل بعد (كيف) فإنا نقدر أن هذا الكلام قد خرج عن حال عرفها المجازي فانصرف اللفظ إليها فلهذا صح الكلام.

فإن قيل : فهلا كان أيضا التقدير في الجزم هذا التقدير حتى يخرج عن حاله؟

قيل له : الأصل في الجزاء ب (إن) وأنت إذا قلت : إن تأتني آتك ، فوقت الإتيان غير معلوم ، فلما كان أصل الجزاء أن يقع مبهما وكذلك (متى وأين) قدرنا (كيف) أنها واقعة على حال معلومة عند المجازي خرجت من الإبهام وباينت حروف الجزاء فلهذا لم يجز الجزم بها على تقدير حال معلومة.

ووجه ثان في أصل المسألة أن الجزاء أصله يقع بالحروف إلا أن يضطر إلى الأسماء لما ذكرناه من الفائدة ، فإذا لم يضطر إلى استعمال الأسماء لم يجز أن يجازى بالأسماء ، ووجدنا (أيا) تنوب عن معنى (كيف) فاستغني بها عن (كيف). ألا ترى أن القائل إذا قال : في أي حال تكن أكن ، فهو في معنى : كيف تكن أكن ، فلما كانت (أي) تتضمن الأحوال وغيرها استغني بها عن (كيف).

وجه ثالث : أن الجزاء إنما هو ب (إن) وسنبين ذلك في بابه وإن لم يختص بالمعرفة دون النكرة ألا ترى أنك تقول : إن يقم زيد أقم ، وإن يقم رجل من

__________________

(١) في الأصل : جزتموه.

١٠٢

الناس أقم ، وكانت (متى وأين) يصح (١) أن يقع جوابهما معرفة ونكرة كقولك : أين زيد؟

فيقول : في الدار ، وإن شئت قلت : في دار في موضع كذا وكذا ، وكذلك حكم (متى) في الأوقات ، وأما (كيف) فلا يقع جوابها إلا نكرة فخالفت حروف الجزاء.

وأما (حيث) فالذي أوجب لها البناء أنها مبهمة لا تختص بمكان دون مكان فوجب أن تحتاج إلى ما يوضحها كما أن (الذي) اسم مبهم يحتاج إلى ما يوضحه فمن حيث وجب أن يبنى (الذي) وجب أن تبنى (٢) (حيث) ، والذي أوجب (الذي) أن يبنى أنه اسم لا يتم إلا بما يوضحه فجرى ما بعده مجرى بعض اسم مبني ، فوجب أن يبنى (الذي وحيث) لما فيهما (٣) من الشبه لبعض الأسماء وكذلك حكم [(إذ) لأنها للزمان كله بوقت دون وقت فاحتاج إلى إيضاح.

فأما (إذا) ففيها من الإبهام ما في (إذ)](٤) لأنها للزمان المستقبل كله ، وفيها مع ذلك شبه ب (إن) التي للجزاء من جهة المعنى ألا ترى أن (إذا) تحتاج إلى الجواب كاحتياج (إن) إلى ذلك فوجب لما ذكرناه أن يبنى.

فإن قال قائل : فهلّا أضفتم (حيث) إلى اسم مفرد نحو زيد وعمرو فقلتم : زيد حيث عمرو كما تضيفون أسماء الأماكن إلى اسم مفرد نحو خلف عمرو؟

قيل : قد بيّنا أنّ (حيث) مبهمة لا تختص بجهة دون جهة كاختصاص غير مبهم (٥) من أسماء الأماكن ، والأسماء الدالة على الشخص لاتخص الجهات وإنما

__________________

(١) مكررة في الأصل.

(٢) في الأصل : يبنى.

(٣) في الأصل : فيها.

(٤) كتبت في الأصل على الهامش.

(٥) في الأصل : مبهما ، وقد أثبت المناسب.

١٠٣

يعرف بما يضاف إليها ، فإذا قلتم : زيد خلف عمرو ، وعرفت هذه الجهة المخصوصة بعمرو فاختصت به من بين سائر الأشخاص ، فإذا قلت : زيد حيث عمرو ، تخبر عنه أنه في مكان عمرو ومكان عمرو مبهم يجوز أن يكون خلفه (١) وقدامه وفي جميع أقطاره ، فلم يخرج بهذه الإضافة إلى أن يختص جهة دون جهة ، فوجب بهذا المعنى أن يضاف إلى جملة ؛ لأن الجمل تتضمن معنى الفعل فتصير (حيث) مختصة فتتعين. ألا ترى أنك لو قلت : رأيتك حيث قام زيد ، اختصت حيث موضع القيام ، فلما صارت الجملة تفيد فيها تخصيصا أضيف / إليها ولم تضف (٢) إلى اسم مفرد إذ كان لا يختص. وإن شئت قلت إن (حيث) لما كانت مبهمة في المكان كإبهام (إذ) في الزمان ، فمن حيث جاز إضافة (إذ) إلى الجملة جاز إضافة (حيث) إليها لاشتراكهما في الإبهام (٣). فإن قال قائل : فلم جاز الضم في (حيث) وخالفت (أين وكيف) ، وقبل آخر كل حرف منهما ياء؟

قيل له : إن (حيث) قد أشبهت (قبل وبعد) من جهة وهو ما بيناه ، وهو أن أصل (حيث) أن تضاف إلى اسم مفرد كإضافة أخواتها من الظروف فلما منعت ما تستحقه من الإضافة وأضيفت إلى الجمل أشبهت (قبل وبعد) من حيث حذف منهما المضاف إليه ، فمن هذا الوجه حرك آخر (حيث) بالضم ، وإن كان الضم في (حيث) لالتقاء (٤) الساكنين وفي (قبل وبعد) لاستحقاق ذلك ومن كسر في (حيث) فعلى [أصل](٥) ما يجب من التقاء الساكنين ولم يحفل بالياء (٦).

__________________

(١) مكررة في الأصل.

(١) مكررة في الأصل.

(٢) انظر الأشباه والنظائر ٢ / ٤٣٤ ذكر ما افترق فيه إذ وإذا وحيث (مطبوعات المجمع).

(٣) في الأصل : لاتقاء.

(٤) كتبت في الأصل على الهامش.

(٥) قال ابن هشام في المغني : " وطيء تقول : حوث ، وفي الثاء فيهما : الضم تشبيها بالغايات ، لأن الإضافة إلى الجملة ... ، والكسر على أصل التقاء الساكنين ، والفتح للتخفيف" ١ / ١٤٠ ، وانظر حاشية الدسوقي ١ / ١٤٢ ـ ١٤٣.

١٠٤

فإن قال قائل : فمن [أين](١) استحقت (قبل وبعد) البناء؟ فالجواب في ذلك أن قبل وبعد يضافان إلى الأسماء والمضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد فلما حذف ما أضيفا إليه ودلّا عليه جرى مجرى بعض الاسم ، وبعض الاسم مبني فلهذا وجب أن يبنى.

فإن قال قائل : فلم استحقا أن يبنيا (٢) على حركة ولم يبنيا على السكون (كأين وكيف) (٣)؟ [فالجواب : أن ذلك](٤) لما بينا أن ما بني من الأسماء وله حال تمكن توجب (٥) أن ينبى على حركة وجب أن يبنى على حركة.

فإن قيل : لم كانت الحركة الضم دون الفتح والكسر؟ ففي ذلك جوابان :

أحدهما : أن (قبل وبعد) يدخلهما في حال النصب الإعراب والجر فلو بنيا على الفتح والكسر لجاز أن يتوهم أن حركتهما حركة إعراب ، فعدلا إلى الضم بهما ليزول هذا اللبس.

والجواب الثاني : أن الضم أقوى الحركات فلما كانت (قبل وبعد) قد حذف منهما المضاف حركا بأقوى الحركات ليكون ذلك عوضا من المحذوف.

فأما (من وما والذي) فإنما وجب بناؤها لأن (الذي) لا يتم إلا بصلة فصارت كبعض اسم ، (ومن وما) إذا كانا استفهاما أو جزاء فبناؤها أيضا واجب لتضمنهما معنى حرف الاستفهام ومعنى حرف الجزاء ، وبنيا على السكون لأنهما لم يكن لهما ولا ل (الذي) حال تمكن ، فأما (أي) فهي معربة في جميع الوجوه إلا في موضع

__________________

(١) زيادة ليست في الأصل ، وفي الأصل : فمن حيث استحقت قبل وبعد البناء؟

(٢) في الأصل : يبنى.

(٣) أي لم استحقا أن يبنيا على حركة كأين وكيف ولم يبنيا على السكون؟

(٤) زيادة ليست في الأصل.

(٥) في الأصل : يجب.

١٠٥

سنبيّنه ، وإنما استحقت الإعراب لأنها متضمنة للإضافة وهي مع هذا متمكنة مستعملة في موضع الرفع والنصب والجر فلتمكنها في الإخبار عنها وتضمنها للإضافة استحقت الإعراب ؛ لأن الإضافة تقوم مقام التنوين وما تلحقه على هذا السبيل الإضافة فلا بد من أن يكون معربا فلهذا خالفت (من وما والذي).

وأما الموضع الذي تبنى فيه (أي) فهو أن تجريها مجرى (الذي) وتصلها باسم مفرد كقولك : لأضربن أيّهم قائم ، وكان الأصل : لأضربن أيّهم هو قائم (١) ، فيكون هو المبتدأ وقائم الخبر والجملة صلة ، (أي) ، كما تكون صلة (٢) (الذي) وحذف (هو) ، وهو قبيح وإنما قبح لأنه يجوز أن يقع موقعه أخوه وأبوه وما أشبه ذلك فيقع لبس في الكلام ، ومع هذا فإن المبتدأ لا بد له منه ، وإنما يجب الحذف للفضلات لما لا بد منه ، إلا أن العرب قلّ ما تستعمل حذف المبتدأ مع الذي ، وقد استعملوا حذفه مع أي (٣). /

قال سيبويه لما جاءت (أي) في هذا الموضع الذي ذكرناه مخالفة لما تجيء عليه أخواتها بنيت على الضم لمخالفتها أخواتها أعني (الذي ومن وما).

وقال الخليل رحمه‌الله هي معربة في هذا الموضع وإنما رفعت على المعنى للحكاية ، والتقدير عنده : لأضربن الذي يقال له أيهم قائم.

وقال يونس : الفعل ملغى وشبهه بأفعال القلوب التي يجوز إلغاؤها (٤) وقول يونس ضعيف جدا لأن ضربت فعل مؤثر ومحال أن يلغى ماله تأثير ، وقول الخليل

__________________

(١) يريد أن (أيّ) تبنى إذا كانت اسما موصولا وحذف صدر صلتها.

(٢) في الأصل : علّة وقد أثبت المناسب.

(٣) جاء في الأصول : " وإنما حذف المبتدأ من صلة (أي) مضافة لكثرة استعمالهم إياها ..." ٢ / ٣٢٤.

(٤) قال سيبويه : " وزعم الخليل أن أيّهم إنما وقع في اضرب أيّهم أفضل على أنه حكاية ، كأنه قال : اضرب الذي يقال له أيّهم أفضل ، ... وأما يونس فيزعم أنه بمنزلة قولك : أشهد إنك لرسول الله ... وأرى قولهم اضرب أيّهم أفضل على أنهم جعلوا هذه الضمة بمنزلة الفتحة في خمسة عشر ، و (بمنزلة) الفتحة في الآن (حين قالوا من الآن ـ

١٠٦

أقرب وإن كان فيه بعض البعد لأن تقدير الحكاية إنما يسوغ فيما جرى له ذكر ، ونحن نبتدئ الكلام بالمسألة التي ذكرناها ولم يبق ما يعمل عليه إلا قول يونس وقد طعن عليه أبو بكر ابن السراج (١).

فإن قال وجدت المفرد مما يستحق البناء ؛ فإذا أضيف أعرب نحو (قبل وبعد) فصارت الإضافة توجب إعراب الاسم ووجدنا (أيا) إذا أفردت أعربت وهذا نقض الأصول ، وهذا الذي حكيناه معنى قوله.

قال أبو الحسن : والذي قرره أبو بكر ليس بصحيح وذلك أن الإضافة تردّ الاسم إلى حال الإعراب إذا استحق البناء في حال الإفراد. فإذا كان الموجب للبناء في حال الإضافة ذلك الشيء كان حال الاسم مفردا أشد افتقارا إلى البناء ألا ترى أن (لدن) مبنية وهي مع هذا مضافة لأنها استحقت البناء في حال إضافتها ، وإذا كان ذلك على ما ذكرناه سقط ما اعتمد عليه أبو بكر (٢) وصح ما قال سيبويه ، وإنما وجب أن تعرب (أي) في حال الإفراد لأن الإضافة تعاقب التنوين وهي متضمنة للإضافة فلما زال لفظ الإضافة رجع التنوين ومتى حصل التنوين الذي هو علامة الانصراف في الاسم وجب أن يعرب.

فإن قال قائل : أليس الإضافة تقوم مقام التنوين ، فقد استويا فلم صار في حال الإضافة أولى من حال الإفراد؟

قيل له : لأنها إذا بنيت في حال الإضافة فإنما دخلها نقص واحد بالبناء ، فيحمل بناؤها في هذه الحال لخفة حكمه ، فإذا أفردت كرهوا أن يجمعوا عليها

__________________

ـ إلى غد) ، ففعلوا ذلك بأيّهم حين جاء مجيئا لم تجئ أخواته عليه إلا قليلا ، واستعمل استعمالا لم تستعمله أخواته إلا ضعيفا" الكتاب ٢ / ٣٩٩ ـ ٤٠٠ (هارون).

(١) انظر ذلك في الأصول ٢ / ٣٢٥ ، وأسرار العربية ٣٨٣.

(٢) قال أبو بكر بن السراج : " ... وأنا أستبعد بناء (أي) مضافة ، وكانت مفردة أحق بالنباء ..." الأصول ٢ / ٣٢٤.

١٠٧

حذف المضاف والبناء ، فإذا تمت بصلتها فلا بد من إعرابها وهذا يقوي ما قال سيبويه لأن معنى الحكاية لا يتغير بإظهار المبتدأ بعد (أيا). فلما وجدنا العرب تنصب (أيا) إذا تمت بصلتها وتضمها إذا حذفت منها المبتدأ علمنا أن الضم بناؤها دون ما سواه ، وتمامها أن تقول : لأضربن أيهم هو قائم ، وبعض العرب (١) يعربها وإن حذفت منها المبتدأ وهي لغة جيدة ووجهها أن (أيا) قد بينا تمكنها واستحقاقها الإعراب وسبب الحذف بعدها للاستخفاف ولا ينبغي أن يكون ما حذف للاستخفاف يؤثر في إزالة تمكن الاسم.

فإن قيل : فلم قبح استعمال الذي إذا حذف من صلته المبتدأ ولم يقبح ذلك مع (أي)؟

قيل : يجوز أن يكون ذلك لأن (أيا) لا تنفك من الإضافة فيصير المضاف إليه كالعوض من حذف المبتدأ فلهذا كثر في (أي) الحذف من بين سائر أخواتها.

فإن قال قائل : قد ذكرت في الباب أن (إذا) لا بد أن يذكر بعدها فعل وقد وجدنا العرب تقول : خرجت فإذا زيد قائم وقائما؟

قيل له : إن (إذا) تستعمل على / ضربين أحدهما : أن تكون للزمان المستقبل ويدخل فيها معنى الشرط والجزاء فهذه التي لا بد أن يذكر بعدها الفعل.

والضرب الثاني أن تكون (إذا) بمعنى المفاجأة وظاهرها أن تكون ظرفا من المكان فهذه لا تحتاج إلى الفعل إذ ليس فيها معنى الشرط والجزاء فإذا قلت :

__________________

(١) قال سيبويه : " حدثنا هارون أن ناسا وهم الكوفيون يقرؤونها : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) وهي لغة جيدة ، نصبوها كما جرّوها حين قالوا : امرر على أيّهم أفضل ، فأجراها هؤلاء مجرى الذي إذا قلت : اضرب الذي أفضل ، لأنك تنزل أيا ومن منزلة الذي في غير الجزاء والاستفهام" الكتاب ٢ / ٣٩٩ (هارون) ، والأصول ٢ / ٣٢٤. وجاء في الهمع أن الكوفيين والخليل ويونس ذهبوا إلى إعرابها في قوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) وأولوها على الحكاية أو التعليق. مستدلين بقراءة النصب فيها ١ / ٣١٣ (دار البحوث العلمية).

١٠٨

خرجت فإذا زيد قائما (١) فزيد رفع بالابتداء و (إذا) في موضع خبره ، ونصبت قائما على الحال ، والعامل في الحال فعل تقديره : خرجت فحضرني زيد في حال قيامه ، أو فاجأني زيد فتكون (إذا) في موضع نصب بهذا الفعل فإن قال قائل : فلم لا تكون ظروف الزمان خبرا عن الجثث؟

قيل له : لأن المراد بالخبر فائدة المخاطب وإعلامه ما يجوز أن يجهله فإذا قيل : القتال (٢) اليوم ، فقد يجوز أن يخلو اليوم من القتال ، فإذا أخبرت المخاطب بوقوعه في اليوم فقد أخبرته ما كان يجوز أن يجهله ، وإذا قلت : زيد اليوم ، فالمعنى أن زيدا في اليوم ، ونحن نعلم والمخاطب أن زيدا لا يخلو من اليوم حيا كان أو ميتا وكذلك سائر الناس ، فلم يصر في الخبر فائدة وما لا فائدة فيه لا يجوز استعمال الكلام به ، فلهذا لم يجز أن تكون ظروف الزمان خبرا للجثث.

فإن قال قائل : فقد يقال : الهلال الليلة ، والهلال جثة ، والليلة ظرف من ظروف الزمان فقد جاز ذلك؟

قيل : إنما يقع هذا الكلام عند توقع حدوث الهلال ، فالتقدير : الليلة حدوث الهلال ، والحدوث مصدر حذف (٣) ، وأقيم الهلال مقامه توسعا واختصارا ، وكذلك يجوز أن تقول : اليوم زيد ، إذا كنت تتوقع قدومه ، أي : اليوم قدوم زيد ، والدليل على أن المراد ما ذكرناه أنه لا يجوز أن تقول : الليلة القمر ولا اليوم الشمس لأنهما لا يتوقعان ولا بد من طلوعهما.

فإن قال قائل : فما الذي أحوج أن تجعل العرب في الأسماء أسماء نواقص؟

__________________

(١) في الأصل : قائم ، ودليل ما أثبته قوله : " ... ونصبت قائما على الحال ...".

(٢) في الأصل : القتلال.

(٣) في الأصل : يحذف.

١٠٩

قيل له : يجوز أن يكون الذي أحوج إلى ذلك [أن](١) الأسماء النكرات تنعت بالجمل ، فجاؤوا (٢) باسم يحتاج أن يوصل بالجمل وهو في نفسه معرفة بالألف واللام أي (الذي) والجملة توضحه فتوصلها ب (الذي) إلى أن صارت الجملة في المعنى كالنعت للمعرفة فهذا الذي أحوج إلى ما ذكرناه ، وحملت (من وما وأي) على (الذي) ولم يصح الوصف بها ؛ لأنها لا معنى لها في نفسها ولا فيها ما يدل على العهد كالألف واللام في (الذي) (٣) فجرت مجرى الأسماء الأعلام وسنبين أحكام النعوت في بابها وأنه لا ينبغي أن ينعت إلا بفعل أو باسم فيه معنى الفعل والأسماء الأعلام خالية من ذلك فلهذا لم ينعت بها ولا بما جرى مجراها.

باب الحروف التي تنصب الأسماء والنعوت وترفع الأخبار

فإن قال قائل : لم وجب أن تنصب هذه الحروف الاسم وترفع الخبر ، هلّا رفعت الاسم ونصبت الخبر؟ وبالجملة لم وجب أن تعمل؟

فالجواب في وجوب عملها : أنها حروف تختص بالاسم ولا تدخل على الفعل وبعضها يحدث معنى في الاسم ، وأواخرها كأواخر الفعل الماضي ، فلما شاركت الفعل في لفظها ولزومها (٤) / الاسم وجب أن تعمل عمله ، والذي أوجب لها أن تعمل عملين الرفع والنصب (٥) أنها عبارة عن الجمل وليس لها معنى في العبارة

__________________

(١) زيادة ليست في الأصل يقتضيها السياق.

(٢) في الأصل : فجاءوا.

(٣) جاء في الأزهية أن الألف واللام دخلت على (الذي) للتعريف ، ويرى ابن هشام أن الألف واللام فيها زائدة لازمة على القول بأن تعريفها بالصلة. وللتفصيل انظر الأزهية : ٣٠١ باب الأصل في (الذي) واللغات فيها. والمغني : ١ / ٥٢.

(٤) سبق الزجّاجي الورّاق إلى هذه العلّة حين قال : " ولم وجب أن تنصب (إنّ) الاسم؟ فالجواب في ذلك أن يقول : لأنها وأخواتها ضارعت الفعل المتعدّي إلى مفعول ، فحملت عليه فأعملت إعماله لمّا ضارعته ، فالمنصوب بها مشبّه بالمفعول لفظا ، والمرفوع بها مشبّه بالفاعل لفظا ...". الإيضاح ٦٤.

(٥) وهذا ما ذهب إليه البصريون ، أمّا الكوفيون فيجعلون الخبر باقيا على رفعه قبل دخولها انظر الإنصاف ٨٢ المسألة (٢٢) ، (ط ليدن).

١١٠

عن الاسم المفرد فلما اقتضت اسمين وجب أن تعمل لما ذكرناه فيها ، ولا يخلو عملها فيها من أحد ثلاثة أشياء ، إمّا أن ترفعهما جميعا [أو تنصبهما جميعا (١) أو ترفع أحدهما وتنصب الآخر ، فلم يجز رفعهما جميعا لأنها](٢) قد جرت مجرى الفعل في العمل والفعل لا يجوز أن يرفع فاعلين بغير اشتراك ولا تثنية ، فلو رفعت الاسمين لخالفت ما شبّهت (٣) به وهو الفعل ، ولم يجز أن تنصبهما جميعا لأن الفعل الذي شبهت به لا يجوز أن ينصب بغير فاعل يكون معه ، فلو نصبنا بها الاسمين لصارت بمنزلة فعل نصب مفعوله بغير فاعل وهذا لا يوجد في الأصل والفرع ، وأولى ألا يوجد فيه ، فلم يبق من الأقسام إلا أن تعمل في أحدهما رفعا وفي الآخر نصبا ليكون المرفوع كالفاعل ويكون المنصوب كالمفعول ، وإنما وجب أن يكون المرفوع (٤) مؤخرا والمنصوب مقدما وإن كان الأصل في الفعل أن يكون فاعله قبل مفعوله (٥) لوجهين أحدهما : أن لو رفعنا الأول ونصبنا الخبر لجرى المفعول مجرى الفاعل ، فكان يجوز إضماره ولو أضمرناه لم يخل من أن يكون المضمر غائبا أو متكلما أو مخاطبا وإضمار الغائب مستتر فيما عمل فيه كقولك : قام زيد ، فلو قيل لك : أضمر زيدا لقلت : قام ، فلو جاز أن ترفع (إن) وأخواتها الاسم الذي يليها لوجب أن يستتر ضميره فيها إذا كان غائبا ويظهر تاء المتكلم نحو قولك : أنت ، لو تكلم به ، فكان ذلك يؤدي إلى اللبس بأنت ، وإلى إضمار في

__________________

(١) قال ابن هشام في حديثه عن (إنّ): " ... وقيل : وقد تنصبهما في لغة كقوله :

إذا اسوّد جنح الليل فلتأت ولتكن

خطاك خفافا ؛ إن حرّاسنا أسدا

 ..." المغني ١ / ٣٦.

(٢) كتبت في الأصل على الهامش.

(٣) في الأصل : شبهته.

(٤) في الأصل : المفعول.

(٥) قال المالقي : في ذلك : " ... إلا أنه تقدم المنصوب لازم على المرفوع في بابها ، تنبيها على أن عملها بحق الشّبه لا بحق الأصل ، ولم تتصرف تصرف الأفعال ، فلا يجوز في معمولها تقدم آخرها على الأول ولا عليها لذلك" ١١٨ ـ ١١٩.

١١١

الحروف ، والحروف لا يجوز الإضمار فيها لأنها جوامد لا تتصرف ، وإنما جاز الإضمار في الأفعال لأن في أوائلها حروفا تدل على الضمير ، وحمل ما لا دلالة فيه على ما فيه الدلالة لاشتراكها في الفعلية فهذا الذي يجوز في الأفعال دون الحروف والأسماء (١).

فإن قال قائل : أليست قد شبهت بالفعل وهي حرف ومع هذا فقد رفعت الاسم ونصبت الخبر فلم يجب من حيث رفعت أن تضمر (٢) فيها مرفوعا فهلا عملت (إن) الرفع فيما يليها (٣).

قيل لم يكن على كونها حرفا دلالة إذ كان لفظها لفظ الفعل وعملها عمله ، وترك التصرف في الشيء لا يدل [على](٤) أنه حرف ، لأن من الأفعال ما لا تتصرف نحو : نعم وبئس ، فلو رفعت (إن) الاسم لم يعلم أنها حرف فجعل عملها فيما بعدها مخالفا لعمل الفعل ليدل بذلك على أنها حرف لو لا ما ذكرناه لكان حقها أن ترفع الاسم وتنصب الخبر لتجري مجرى الفعل الذي شبهت به.

وأما (ما) فلم تشبه الفعل من جهة اللفظ وإنما أشبهته من جهة المعنى فأعطيت عمله لأن اللبس يرتفع.

فأما ما ذكرناه في (إن) من الإضمار فليس يعرض في (٥) ما [لأن الضمير إذا اتصل به لا يوجب لبسا في اللفظ كما يوجبه في أن ، وإنما لم يلزم في (٦) ما](٧)

__________________

(١) لم يذكر المؤلف الوجه الثاني.

(٢) في الأصل : يضمر.

(٣) في الأصل : فيها.

(٤) زيادة ليست في الأصل.

(٥) في الأصل : فيما ، وهو هنا يتحدث عن الأداة (ما).

(٦) في الأصل : فيما.

(٧) كتبت على الهامش في الأصل.

١١٢

ولزم في (أن) من الإضمار فيها لأن (أن) تعمل في جميع اللغات عمل الفعل فكان يجب أن يقع الإضمار فيها كوقوعه في الفعل ولم يجز أن يستتر الضمير في (ما) ولا يتصل بها وإن عملت الرفع لأنه قد يبطل عملها في جميع اللغات إذا تقدم خبرها فلم يعتد بها وجرت مجرى ما لا يعمل / من الحروف فلهذا لم يجب فيها من الحكم ما وجب في (أن) وأخواتها ، وقد دخل في هذا الفعل من علّة مخالفة عملها لعمل الفعل في نصبها لما يليها ورفعها للخبر.

فإن قال قائل : أليس إذا نصبت الاسم ورفعت الخبر فقد عملت في الخبر وقد قلت إن (ما) تعمل في الاسم رفعا يجب أن يستتر فيها ضميره وهذا الشرط غير موجود فيها ، وإن رفعت؟

فالجواب في ذلك أن الذي منع من استتار ضمير ما رفعته إذ كان مؤخرا أنه لا يجوز تقديمه إذا كان مظهرا فلما كان الظاهر لم يجز تقديمه إذا كان مظهرا لم يجز أيضا تقديم ضميره ، فلهذا لم يجز أن يستتر ضمير ما رفعته إذا كان مؤخرا ، ويجب استتاره لو وقع مقدما إذ لا مانع يمنع من ذلك.

فإن قيل : فهلّا كان المانع مما رفعته (أن) لو وقع متقدما هو أنها حروف لا يصح الإضمار فيها؟

قيل له : إنما يجب ما ذكرته لو كان لا طريق إلى إعمالها إلا على هذا الوجه ، فأما إذا جاز أن تعمل عمل الفعل على طريق يشبه عمل الفعل كان أولى من أن تعمل عمله ولا تجري مجراه.

فإن قيل : فما الذي منع من التقديم والتأخير؟

قيل له : ضعفها في أنفسها إذ كانت حروفا لا تصرف في أنفسها فإنما عملت بالتشبيه به فألزمت وجها واحدا.

١١٣

فإن قال : فلم خصت الظروف وحروف الجر بالفصل بينها وبين ما تعمل فيه؟

فالجواب في ذلك : أن الظروف وحروف الجر ليس مما تعمل فيها (إن) وذلك أنك إذا قلت : إن زيدا عندك ، فعندك منصوب بإضمار فعل تقديره استقر عندك ، فاستقر في التحقيق هو موضع الخبر والظروف مفعولة فيها ، فإذا قدمت فلم تقدم شيئا قد عملت فيه (إن) ، وإنما لم يجز تقديم ما عملت فيه (إن) لضعفها ، فأما تقديم ما عمل فيه غيرها فليس بمنكر إذا كان ذلك العامل فعلا ، والفعل يعمل في مفعوله مقدما ومؤخرا.

فإن قال قائل : أليس عندكم أنه لا يجوز كانت زيدا الحمى تأخذ ، لأن زيدا منصوب (١) بتأخذ وتأخذ الخبر كما أن الظرف منصوب باستقر ، واستقر هو الخبر ، فمنعتم من وقوع زيد بين كان واسمها لأنه بمنزلة الأجنبي فلم تجز الفصل بين كان واسمها إذا كان الفعل والفاعل كالشيء الواحد فهلّا منعتم من جواز الفصل بين إن واسمها بالظرف إذ قد صار كالأجنبي وحكم اسم إن كحكم اسم كان ، وإن كان أحدهما منصوبا والآخر مرفوعا لاشتراكهما في أنهما كانا مبتدأين دخلت عليهما إن وكان؟

فالجواب في ذلك : أن كان وإن حكمهما واحد فيما سألت عنه ونظير مسألتنا أنه يفصل بين كان واسمها بظرف قد عمل فيه الخبر كما جوزنا الفصل بين إن واسمها بظرف قد عمل فيه خبرها ، فلو قلت : كان خلفك زيد قائما ، لجاز ، ولو قلت : إن زيدا عمرا ضارب ، لم يجز في كان.

فإن قال قائل : من أين خالفت الظروف لسائر الأسماء حتى جاز الفصل بها؟

فالجواب في ذلك من وجهين :

__________________

(١) في الأصل : منصوبا.

١١٤

أحدهما : أن الظروف قد تقوم مقام الأخبار نحو قولك : إن زيدا خلفك ، فلما / كفت عن الخبر ، وقامت مقامه لم يضر كالأجنبي من الاسم ؛ وإن كانت في تقدير مفعول الخبر ، فجاز الفصل بها لأنها قد صارت كالخبر ، فأما غيرها من الأسماء فلا تقوم مقام الخبر فصار أجنبيا محضا فلم يجز أن تتخلل بين شيئين أحدهما (١) مع الآخر كالشيء الواحد.

والوجه الثاني : أن الظروف فيها اشتمال على الجملة التي تتعلق بها فقدمت الظروف وأخرت فقد صارت بهذا الاشتمال على الجملة والتعلق بها والاحتواء عليها بمنزلة بعض الجملة وما ليس بأجنبي من الاسم والخبر فجاز ذلك أن تفصل به ، فجاز الفصل بها ، ولم يجز بغيرها تقدير هذا المعنى والفصل به لأنه ليس له هذا المعنى الذي في الظروف.

فإن قال قائل : فما الذي أحوج إلى تقدير فعل مع الظروف غير الاسم المتقدم نحو قولك : إن زيدا خلفك ، والخلف غير زيد وهو في موضع خبره؟

قيل له : لا يجوز أن يكون ضمير فاعله وذلك الضمير يرجع إلى المخبر عنه ، فبان بما ذكرنا أن الخبر في الحقيقة استقر وأنه لا بد من تقديره لما ذكرناه. فأما الفعل الماضي والمستقبل إذا وقعا في خبر (إن) لم يتغيرا عن حالهما ؛ لأن (أن) قد بينا أنها من عوامل الأسماء ، وعوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال فسلمت الأفعال من عامل فيها ، فبقي الماضي على فتحه وارتفع المستقبل لوقوعه موقع الاسم.

فإن قال قائل : إذا كانت (إن) لا يجوز أن تعمل في الماضي والمستقبل كما لم تعمل في الظروف وقد جوزتم تقديم الظروف فهلا جوزتم تقديم الفعل؟

فالجواب في ذلك : أن الفعل وإن لم تعمل فيه (إن) فقد عملت في موضعه

__________________

(١) في الأصل : إحداهما.

١١٥

رفعا ويصير في المعنى كأنّا قدمنا ما عملت فيه ، وأما الظروف فقد بينا أن العامل فيها استقر ، وليس ل (إن) عمل فيها ولا في موضعها فلذلك جاز تقديمها وكذلك حكم الجملة إذا حلت محل الخبر لا يجوز تقديمها فهذه هي العلّة [في المنع](١) من تقديم الفعل.

ووجه آخر وهو أن (أنّ) مشبهة بالفعل فكما لا يجوز أن يلي فعل فعلا فكذلك لا يجوز أن يلي ما شبّه به.

فإن قال قائل : فلم جاز العطف على موضع (أنّ ولكن) ولم يجز العطف على موضع باقي (٢) الحروف أعني أخواتها؟

فالجواب في ذلك أن (أنّ ولكنّ) لا يغيران معنى الابتداء ، و (كأن وليت ولعل) تحدث معاني من التشبيه والتمني والترجي فيزول معنى الابتداء ، فجاز العطف على موضع (أنّ ولكنّ) لبقاء المعنى مع دخولهما ولم يجز في (كأنّ) وأختيها لزوال المعنى معها واستيلاء المعاني المذكورة قبل هذا مع دخولها.

فإن قال قائل : هل العطف يقع علّى موضع (إن) وحدها أو على موضع زيد أو على موضعهما جميعا؟

قيل له : بل على موضعهما جميعا والدليل على ذلك أن (إن) عاملة فيما بعدها غير منفصلة منه وليس لها في نفسها حكم فيجوز العطف عليها ، فأما زيد في نفسه فلا يصح أن يقال موضعه رفع لأنا إنما نقول موضع الشيء رفع أو نصب إذا لم يبن فيه أثر العامل نحو قولك : إن هذا زيد ، ف (هذا) تقول : إن موضعه نصب ، لأن (إن) لم تؤثر في لفظ هذا ولو جاز أن تقول : إن موضع زيد رفع / لأدى ذلك إلى تناقض ، وذلك أنه لو جاز أن تقول : موضع زيد رفع لكنا إذا

__________________

(١) كتبت في الأصل على الهامش.

(٢) في الأصل : باق.

١١٦

قلنا : إن هذا زيد ، يجب أن تقول : إن هذا موضعه نصب ورفع لحلوله محل زيد في اللفظ والمعنى فقد بان بما ذكرناه أنه لا يصلح أن يكون موضع (إن) رفعا وحدها ولا موضع زيد ، وإنما استحقا هذا الحكم باجتماعهما.

وقد امتنع بعض النحويين من جواز العطف على موضع (لكن) لدخول معنى الاستدراك في إبطال حكم الابتداء كدخول (١) معنى التشبيه في (كأن) والتمني في (ليت) وهذا الذي قاله ليس بشيء وذلك أن (لكن) يستدرك بها بعد النفي (٢) فتصير الجملة المستدركة بمنزلة الابتداء والخبر ألا ترى أن القائل إذا قال : ما زيد ذاهبا لكن عمرو شاخص ، فأدى ما يستفيد لو قال : عمرو شاخص فصار حكم الاستدراك لا تأثير له في رفع حكم المبتدأ وإذا خففنا (لكن) كان رفع (٣) ما بعدها بالابتداء والخبر وحكم الاستدراك باق فثبت بما ذكرناه أن دخول هذا المعنى في (لكن) لا يؤثر في حكم المبتدأ.

فإن قال قائل : لم صار العطف على موضع (أن) أجود من العطف على الضمير المرفوع من غير توكيد؟

قيل : هو ضعيف في كل موضع وإنما ضعف لأن الفعل والفاعل كالشيء الواحد ، وربما يستتر الضمير الفاعل في الفعل فلو عطفنا على الضمير من غير توكيد لصرنا قد عطفنا على بعض الفعل أو على نفس الفعل فقبح العطف لهذا المعنى فإذا أكد الضمير صار التوكيد عوضا من اتصال الضمير بالفعل واختلاطه به فكأنا قد عطفنا على ظاهر.

وأما العطف على موضع (أن ولكن) فحسن في نفسه ، لأنه لا مانع يمنع منه ، فلما

__________________

(١) في الأصل : كدخوله.

(٢) للتفصيل في المسألة انظر : الرصف ٢٧٤ ـ ٢٧٦ ، والمغني ٣٢٤.

(٣) في الأصل : رفعا ، وقد أكثر الناسخ من هذه الأخطاء الإعرابية.

١١٧

كان العطف على الموضع يعرض فيه ما ذكرنا من القبح وكان العطف على موضع الضمير المرفوع في كل موضع قبيحا من غير توكيد فاجتمع مع شيء غير مستقبح وجب أن يكون العطف على الموضع أقوى من العطف على الضمير لسلامته من القبح ، وحصول القبح في العطف على الضمير ، يدل على صحة ما ذكرناه أنه لا فرق بين أن تقول : جاءني هذا وعمرو ، وبين قولنا : جاءني زيد وعمرو وإن كان زيد يتبين فيه الإعراب وهذا لا يتبين فيه الإعراب ، فكذلك حكم (إن) وما بعدها لا فرق بين العطف على الموضع وبين العطف على المبتدأ لو تجرد من (إن).

فإن قال قائل : فهل يجوز أن تعطف على الموضع قبل (١) تمام الخبر نحو قولك : إن زيدا وعمرو قائمان؟

قيل له : لا.

فإن قال : فما الفصل بين جوازه بعد تمام الخبر وامتناعه قبل الخبر؟

فالجواب في ذلك أن الذي منع من المسألة الأولى أن شرط ما يعمل في الاسم أن يعمل في الخبر ، فإذا قلنا : إن زيدا قائم ، فزيد نصب بإن وقائم رفع بإن ، وإذا قلنا : إن زيدا وعمرو قائمان ، وجب أن يرفع عمرو بالابتداء لأنه عطف على موضع الابتداء ووجب أن يعمل في خبر عمرو الابتداء وفي خبر زيد أن وقد اجتمعا في لفظة واحدة وهو قوله : قائمان فكان يؤدي إلى أن يعمل في اسم واحد عاملان وهذا فساد ، فلهذا صحت المسألة والفراء / يجيز مثل المسألة الأولى (٢) إذا كان اسمان أحدهما مكنى أو مبهم لا يتبين فيهما الإعراب نحو :

__________________

(١) في الأصل : فهل وهي لا تناسب المعنى المراد.

(٢) قال الفراء : " ... ولا أستحب أن أقول : إن عبد الله وزيد قائمان لتبيّن الإعراب في عبد الله وقد كان الكسائي يجيزه لضعف إنّ. وقد أنشدونا هذا البيت رفعا ونصبا ... وقيار ليس هذا بحجة للكسائي في إجازته (إن عمرا وزيد قائمان) لأن قيارا قد عطف على اسم مكنّى عنه ، والمكنّى عنه لا إعراب له فسهل ذلك" معاني القرآن ١ / ٣١١.

١١٨

إنك وزيد ذاهبان ، وإن هذا وعمرو منطلقان وما ذكرناه من الحجة فيما يتبين فيه الإعراب لا يغير حكم العامل عن عمله ، بل حكمه فيها وفيما يتبين فيه الإعراب سواء ، فإن قلت : إن زيدا وعمرو قائم ، فأردت الخبر جازت المسألة ، والأجود في تقديرها أن يكون المحذوف خبر الاسم الثاني ، وإنما أخبرنا الوجه الأول لأن الخبر يلي الاسم الثاني فلا يبقى علينا من التوسع في المسألة إلا حذف خبر الأول ولو قدرنا حذف الثاني لأوجب ذلك اتساعين في المسألة وهما حذف الأول والتقدير في الخبر المذكور والمتقدم ، وقد جاء في الشعر كقول الشاعر (١) :

فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإني وقيار بها لغريب

فأتى بخبر واحد اكتفاء بما ظهر ، وإنما جوزنا الوجه الثاني لأنه صحيح المعنى ، وهذا التقدير الذي جوزناه ليس بممتنع مثله في الكلام إن شاء الله ، ويدل على حسن الوجه الثاني إدخال اللام في قوله : لغريب وإنما يحسن دخول هذه اللام في خبر (إن) فأما دخولها في خبر المبتدأ فضعيف ، وإنما يجوز ذلك على تقدير مبتدأ محذوف كأنك وقيار لهو غريب ، لأن حق هذه اللام ألا تدخل على المبتدأ فلما رأيناها في هذا البيت داخلة على الخبر دلّ ذلك على أن الخبر للأول.

__________________

(١) نسبه لضابئ بن الحارث البرجمي سيبويه في الكتاب ١ / ٧٥ ، والمبرد في الكامل ١ / ٤١٦ ، والسيرافي في شرح أبيات سيبويه ١ / ٣٦٩ ، وابن الأنباري في الإنصاف ١ / ٩٤ ـ ٩٥ ، وابن يعيش في شرح المفصل ٨ / ٦٨ ، والسيوطي في شرح شواهد المغني ٢ / ٨٦٧ وأورد بعضا من قصيدته. وجاء البيت أيضا في : معاني القرآن للفراء ١ / ٣١١ ، وشرح أبيات سيبويه للنحاس ٣٣ وفي ١٤١ على أن الواو في معنى (مع) ، وأوضح المسالك ١ / ٢٥٦ ، ومغني اللبيب ٦١٨ و ٨١١ ، وابن هشام مع كونها (لغريب) خبرا ، وقيار مبتدأ ، واستدل بها على جواز العطف على اسم إنّ بالرفع بشرطين ، استكمال الخبر ، كون العامل أنّ ، إنّ ، لكنّ ، والهمع ٥ / ٢٩٠ ـ ٢٩١ ، والخزانة ١٠ / ٣١٢.

١١٩

باب الأفعال التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار (١)

إن قال قائل : لم وجب لهذه الأفعال أن ترفع الأسماء وتنصب الأخبار وليست بأفعال مؤثرة ، وإنما يخبر بها (٢) عما مضى ، ويخبر عما يستقبل ، ولا تخبر أنه قد وقع فعل على مفعول نحو قولك : كان زيد قائما؟

فالجواب في ذلك : أن هذه الأفعال لما كانت عبارة عن الجمل وجب من حيث كانت أفعالا أن تجري حكم ما بعدها كحكمه بعد الأفعال ، ولو أبطلنا عملها لحصل بعدها اسمان مرفوعان من غير عطف ولا تثنية وهذا لا يوجد له نظير في الأفعال الخفيفة فوجب أن يرفع أحد الاسمين ليكون المرفوع كالفاعل ، وتنصب الثاني ليكون كالمفعول فلهذا وجب أن ترفع الأسماء وتنصب الأخبار.

والدليل على أنها أفعال وجود التصرف فيها ، واتصال الضمير بها الذي لا يتصل إلا بالأفعال كقولك : كان يكون فهو كائن ومكون ، كما تقول : ضرب يضرب فهو ضارب ، وتقول : كنت ، كما تقول : ضربت ، فهذا دليل قاطع على أنها أفعال وكذلك أيضا (ليس) فعل لأنه تقول لست كما تقول ضربت.

فإن قال قائل : فما الذي منع ليس من التصرف (٣)؟.

فالجواب في ذلك أنه لما دخلها معنى النفي ضارعت (ما) التي للنفي ، حتى إن بعض العرب (٤) يجري (ليس) مجرى (ما) ، فلما دخلها شبه الحروف والحروف لا تتصرف ، لم تتصرف هي أيضا وألزمت وجها واحدا.

__________________

(١) أي الأفعال الناقصة ، ولم تكن هذه التسمية قد عرفت بعد.

(٢) في الأصل : يخبر عنه بهاعما ... ، وفيها زيادة لا فائدة منها.

(٣) انظر الكتاب ١ / ٤٦ (هارون) و ١ / ٥٧ هذا باب ما أجري مجرى ليس في بعض المواضع بلغة أهل الحجاز ثم يصير إلى أصله.

(٤) وهم أهل الحجاز الذين أعملوا (ما) عمل (ليس).

١٢٠