شرح زيارة عاشوراء

عبدالرسول النوري الفيروزكوهي [ الفاضل المازندراني ]

شرح زيارة عاشوراء

المؤلف:

عبدالرسول النوري الفيروزكوهي [ الفاضل المازندراني ]


المحقق: السيد حسن الموسوي الدرازي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: وفا
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-8438-70-3
الصفحات: ٢١٥

قالت عليها السلام : فقلت للتي أظن أنها أكبر سنا : ما اسمك؟! قالت : اسمي مقدودة ، قلت : ولم سميت مقدودة؟! قالت : خلقت للمقداد بن الأسود الكندي (١) صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله.

فقلت للثانية : ما اسمك؟! قالت : ذرة ، قلت ولم سميت ذرة وأنت في عيني نبيلة (٢)؟! قالت : خلقت لأبي ذر الغفاري (٣) صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله.

فقلت للثالثة : ما اسمك؟! قالت سلمى ، قلت : ولم سميت سلمى؟! قالت : أنا لسلمان الفارسي (٤) مولى أبيك رسول الله صلى الله عليه وآله.

قالت فاطمة عليها السلام : ثم أخرجن لي رطبا أزرق كأمثال الخشكنانج (٥) الكبار ،

__________________

(١) المقداد بن عمرو المعروف بالمقداد بن الأسود توفي سنة ٣٣ ه ـ ، عذب في الإسلام وهاجر إلى الحبشة في الدفعة الثانية ، من الأركان من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام وهو من الذين لم ينقلبوا على أعقابهم بعد النبي صلى الله عليه وآله.

(٢) في المطبوع «وأنت نبيلة في عيني».

(٣) أبو ذر الغفاري جندب بن جنادة : من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهو أحد الأركان الأربعة ، رابع أو خامس من آمن برسول الله صلى الله عليه وآله بمكة ، نفاه عثمان بن عفان إلى الربذة وتوفي فيها سنة ٣٢ ه ـ.

(٤) سلمان الفارسي ، أبو عبد الله : ويقال له سلمان بن عبد الله ، كان اسمه روزبه بن خشبوذان ، لقب بسلمان المحمدي وسلمان الخير وسلمان ابن الإسلام ، أو الأركان الأربعة ، من حواري أمير المؤمنين عليه السلام ، له فضائل ومناقب كثيرة رويت في كتب الخاصة والعامة ، منها ما جاء في رجال الكشي أنه كان محدثا ، ومن المتوسمين ، وعلم الاسم الأعظم ، من المعمرين عاش ٣٥٠ سنة وقيل ٢٥٠ سنة ، توفي بالمدائن سنة ٣٤ ه ـ وقبره الآن مزار مشهور (أعيان الشيعة ٧ / ٢٧٩ ـ ٢٨٧).

(٥) الخشكنانج : خبزة تصنع من خالص دقيق الحنطة وتملأ بالسكر واللوز أو الفستق وتقلى (المعجم الوسيط) ، وجاء في حاشية الأصل : قيل أن الخشكنانج معرب خشكنانة أي نان خشكه وكان متعارفا في ذلك الزمان بقدر البيضة أو قريبا منها والله العالم (منه قدس سره).

٨١

أبيض من الثلج ، وأذكى ريحا من المسك الأذفر ، [فأحضرته] (١) ، فقالت لي : يا سلمان ؛ أفطر عليه عشيتك ...» (٢).

والقصة طويلة مذكورة في أول (مهج الدعوات) (٣) بالسند المتصل إلى (سلمان الراوي) عنها ، وإنما نقلنا هذه الجملة مع أنها أجنبية عما نحن فيه تشريفا لهذه الرسالة بكلماتها النورية المباركة الشريفة ، وتيمنا وتبركا بها ، وفي آخرها تتمة نافعة ، وفائدة جميلة ينبغي نقلها ، وهي قولها عليها السلام لسلمان : «ألا أعلمك كلاما بكلام علمنيه أبي محمد صلى الله عليه وآله كنت أقوله غدوة وعشية ، قال سلمان : قلت علميني الكلام يا سيدتي ، فقالت : إن سرك أن لا يمسك أذى الحمى ما عشت في دار الدنيا فواظب عليه ، ثم قال سلمان : علمتني هذا الحرز فقالت :

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله نور النور ، بسم الله نور على نور بسم الله الذي هو مدبر الأمور ، بسم الله الذي خلق النور من النور ، الحمد لله الذي خلق النور من النور ، وأنزل النور

__________________

(١) من المصدر.

(٢) معج الدعوات ص ٣٥ وعنه البحار (٩٢ / ٣٦) ومرسلا في الخرائج والجرائح (٢ / ٥٣٣).

(٣) مهج الدعوات ومنهج العنايات : للسيد رضي الدين ابن طاووس (م ٦٦٤ ه ـ) ، فيه ذكر الأحراز والقنوتات والحجب والدعوات والتعقيبات وأدعية الحاجات ومهمات من الضراعات ، طبع مرات منها على الحجر سنة ١٢٩٩ ه ـ وأخرى في سنة ١٣٢٣ ه ـ ، ثم طبع محققا بتحقيق جواد قيومي سنة ١٤٢٢ ه ـ.

٨٢

على الطور في كتاب مسطور في رق منشور ، بقدر مقدور ، على نبي محبور ، الحمد لله الذي هو بالعز مذكور ، وبالفخر مشهور ، وعلى السراء والضراء مشكور ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

قال سلمان : فتعلمتهن فو الله لقد علمتهن أكثر من ألف نفس من أهل المدينة ومكة ممن بهم علل الحمى ، فكل برأ من مرضه بإذن الله تعالى.

ولعل هذه العبارة أعني «بأبي أنت وأمي» صدرت في زيارات الأنبياء للحسين عليه السلام من آدم وعيسى عليهما السلام ، إذ بعد فرض صدورها عن مثل جبرئيل ، فلم لا يجوز ذلك من آدم وعيسى عليهما السلام؟! والمانع في المقامين واحد والتوجيه واحد.

وبالجملة فإن تم هذا التوجيه وإلا فلابد من الالتزام بأن هذا التعبير في تعليم (علقمة) من باب التبديل بما يناسب حال الزائر من آحاد البشر ، وعبارة «الملائكة» كانت غير ذلك ، كتبديل «يوم تبركت به» بيوم قتل الحسين مثلا في غير عاشوراء ، وكذا قوله «وهذا يوم فرحت به» فيبدل «هذا» ب ـ «هو» وب ـ «يوم قتل الحسين عليه السلام» ، وسيأتي تفصيل ذلك في محله (١) إن شاء الله تعالى.

هذا ولكن بقي في المقام إشكال آخر لابد من التأمل في دفعه ، وهو أنه عليه السلام لم قال «إذا قلت ذلك فقد دعوت بما يدعو به من زاره من الملائكة» ولم يقل من زاره من الأنبياء؟!

__________________

(١) سيأتي في ص ١٣٧.

٨٣

مع أن الأنبياء أيضا يزورونه بهذه الزيارة لا بغيرها ، وإلا لزم ترجيح المرجوح على الراجح.

إما منهم في زيارتهم له ، وإما منه عليه السلام في تعليم (علقمة) ، واحتمال التساوي في الفضيلة بعيد جدا ، إذ لا داع حينئذ لاختراع زيرة أخرى مثلها مع تداول هذه بين الملائكة.

ثم لا وجه حينئذ لتعليمه الراوي زيارة الملائكة دون الأنبياء ، مع أن وظيفة آحاد الأمة التآسي والاقتداء بأنبيائهم لا بالملائكة.

٨٤

[شرح «وكتب الله لك بها ألف ألف حسنة ...»]

قوله عليه السلام : * (وكتب الله [لك] (١) بها ألف ألف حسنة ، ومحا عنك ألف ألف سيئة ، ورفع لك مائة ألف ألف درجة ـ إلى قوله ـ وكتب لك ثواب كل نبي ورسول وزيارة كل من زار الحسين) *.

عبارة (المصباح) هنا «وكتب الله لك بها ألف ألف درجة» والظاهر أن ما بين «كتب الله لك» إلى «مائة ألف ألف درجة» مما ذكر في (الكامل) قد سقط عن (المصباح) ، إذ قد عرفت أن رواية الكتابين رواية واحدة لا روايتان (٢).

فالعبارة الصادرة عن الإمام عليه السلام إحدى العبارتين لا محالة ، وإنما الإختلاف من قبل الرواة أو النساخ ، وحينئذ فاحتمال هذه الزيادة الكثيرة الطويلة سهو وخطاء بعيد جدا.

وأما احتمال السقط فليس بذلك البعيد ، كما هو المشاهد المحسوس كثيرا في الكتب ، مضافا إلى قاعدة التسامح (٣) في الثواب البالغ بعد إحراز صدق موضوع البلوغ كما مر سابقا (٤).

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط من الأصل.

(٢) تقدم في ص ٢٢.

(٣) قاعدة التسامح في السنن : تفيد أنه من أدى مستحبا لاعتقاده باستحبابه فله ثوابه وإن ثبت أن دليل استحبابه غير صحيح ، بل وحتى لو تبين أنه غير مستحب واقعا. (مصطلحات ألفاظ الفقه الجعفري ص ٣٢٧).

(٤) في ص ٣١.

٨٥

هذا ثم إن هذه الفقرة تتضمن بيان ثوابين ، أحدهما بإزاء خصوص هذه الزيارة المخصوصة المأثورة ، وهو ما ذكره أولا بقوله : «وكتبب الله لك بها ألف ألف حسنة ـ إلى قوله ـ وكتب» وهذا الثواب هو ما به فضل المأثور على المطلق ومزيته عليه ، والثاني بإزاء مطلق الزيارة ولو بألفاظ أخرى ينشئها الزائر من تلقاء نفسه حسبما سنح له ، وهو ما ذكره أخيرا بقوله «وكتب لك ثواب كل نبي ورسول».

وهذا الثواب الذي ذكرنا سابقا أنه عليه السلام فصله أولا بقوله «لقي الله عز وجل [يوم القيامة] بقواب ألفي ألف حجة» وأكده بقوله : «فمن فعل ذلك كتب له ثواب ألف ألف حجة» ثم أجمله ثانيا بقوله «وكان له ثواب مصيبة كل نبي ورسول».

وذكره ها هنا بقوله «وكان له ثواب مصيبة كل نبي ورسول» والمراد ثواب زيارة كل نبي ورسول ووصل وصديق وشهيد طباقا لما ذكره سابقا ، ترك الثلاثة الباقية هنا اكتفاء بذكرها فيما سبق ، فقد ذكر التفصيل في موضعين ، والإجمال أيضا في موضعين ، وهذا كما ترى يدل على كمال المبالغة والعناية والاهتمام بشأن هذه الزيارة الشريفة.

وقد ذكرنا سابقا أيضا أن المقصود هو ثواب مجموع الأمرين من مصيبتهم وزيارتهم ، وغن اقتصر على ذكر أحدهما في أد الموضعين ، والآخر في الآخر ، اكتفاء بالمذكور عن المحذوف كما مر مشروحا (١).

__________________

(١) في ص ٣٦.

٨٦

[شرح «وزيارة كل من زار الحسين بن علي منذ يوم قتل ...»]

قوله عليه السلام : * (وزيارة كل من زار الحسين بن علي عليه السلام منذ يوم قتل) *.

أي كتب لك ثواب زيارتهم ، يعني مثل ذلك الثواب ومعادله ، ولابد أن يكون المراد زيارتهم بغير هذه الزيارة التي يزور بها الملائكة ، وإلا لزم الدور ، إذ لا اختصاص لهذا العمل وهذا الثواب بشخص (علقمة) ، بل كل من زاره بهذه الزيارة كتب له ثواب زيارة كل من زار الحسين عليه السلام ، فثواب زيارة كل واحد هو مجموع ثواب زيارات جميع الزائرين ، فتعين مقدار ثواب كل واحد يتوقف على تعين مقدار ثواب الباقين وهذا دور ، وأيضا يلزم أن يكون الشيء جزء لجزئه ، وكلا لكله كما لا يخفى ، وبعبارة أخرى يلزم أن يكون جزء الشيء كله وبالعكس ، أي وكله جزئه.

فتعين أن يكون المراد بالزيارة المشبه بها زيارة كل من زار الحسين عليه السلام بغير هذه الزيارة الخاصة ، ولو كان مأثورا كسائر الزيارات المأثورة ، وهذا الثواب الجزيل كما ترى أمره عجيب غريب ، يكاد يخرج تصوره عن طوق البشر ، وهذه أيضا فضيلة أخرى لهذه الزيارة على غيرها.

وفقنا الله معاشر شيعة آل محمد لملازمة هذه الزيارة الشريفة ، بحق المزور وجده وأبيه وأمه وأخيه والطاهرين من ذريته وبنيه.

٨٧

وبالجملة فقد تبين أن لهذه الزيارة المخصوصة المأثورة فضيلتين على غيرها ولو كان مأثورا ، فمن زاره بها فقد أحرز الفضائل الثلاث ، ومن زاره بغيرها فله ما سلف في صدر الرواية فحسب.

هذا وإذ قد فرغنا عن شرح عبارة الرواية ، فلنرجع إلى شرح عبارة الزيارة وعبارة دعاء الوداع.

٨٨

[شرح «يا ثار الله وابن ثاره ...»]

فنقول : قوله عليه السلام * (يا ثار الله وابن ثاره) *

في (الصحاح (١)) (٢) في مادة (ثأر) مهموز العين : «الثأر والثؤورة : الذحل» ، وقال : «ثأرت القتيل [و] (٣) بالقتيل ، ثأرا وثؤرة ، أي قتلت قاتله. (٤) والثائر : الذي لا يبقى على شيء حتى يدرك ثأره ، ويقال أيضا هو ثأره ، أي قاتل حميمه ، قال جرير (٥) :

[وامدح سراة بني فقيم إنهم] (٦)

قتلوا أباك وثأره لم يقتل

__________________

(١) الصحاح : واسمه تاج اللغة وصحاح العربية والمشهور بالصحاح ، لأبي النصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي (م ٣٩٨ ه ـ) ، وهو قاموس لغوي رتبه مؤلفه على ٢٨ بابا ، كل باب منها على ٢٨ فصلا على عدد الحروف ، ترتيبه الأبجدي على أواخر الكلم (المنجد في الأعلام ص ٣٤٤).

(٢) الصحاح (٢ / ٥٢٥) ولسان العرب (٣ / ٤).

(٣) من المصدر.

(٤) جاء في الصحاح بين هاتين الفقرتين : «قال الشاعر :

شفيت به نفسي وأدركت ثؤرتي

بني مالك هل كنت في ثؤرتي نكسا

(٥) هو جرير بن عطية بن حذيفة الخطفي بن بدر الكلبي اليربوعي ، أبو حزرة ، من تميم من أشعر أهل عصره ، ولد ومات في اليمامة ، وعاش عمره كله يناضل شعراء زمنه ويساجلهم فلم يثبت أمامه غير الفرزدق والأخطل ، كان عفيفا ، وهو من أغزل الناس شعرا ، مات سنة ١١٠ ه ـ (الموسوعة الشعرية).

(٦) صدر البيت هنا أضفته من لسان العرب وليس في الأصل ولا في الصحاح.

٨٩

وقوله : يا ثارات فلان أي قتلة فلان ، ويقال : ثأرتك بكذا أي أدركت به ثأري منك».

وفي (القاموس (١)) (٢) في تلك المادة أيضا : «الثأر الدم والطلب به وقاتل حميمك ، وثأر به : كمنع : طلب دمه كثأره وقتل قاتله».

وفي (ترجمته) «ثأر خون وطلب خون وكشنده خويشاوند تست وثأر به كمنع يعني طلب كرد خون او را مثل ثأره وكشت كشنده او را».

في (الطراز) (٣) في تلك المادة أيضا : «الثأر كفلس الذحل ، وطلبه وطالبه والمطلوب به ، وهو من عنده الذحل ، قال : قتلت به ثأري ، وأدركت ثأري وثأرت حميمي ثأرا كمنع قتلت قاتله فهو مثئور ومثئور به ، وزيدا بحميمي

__________________

(١) القاموس المحيط والقابوس الوسيط فيما ذهب من لغة العرب شماطيط : لمجد الدين محمد يعقوب الفيروز آبادي (ت ٧١٨ ه ـ) ، ترتيبه الأبجدي على أواخر الكلم ، أهم شروحه تاج العروس للزبيدي.

(٢) القاموس المحيط ص ٣٥٨.

(٣) الطراز الأول والكناز لما عليه من لغة العرب المعمول للسيد علي خان (ت ١١٢٠ ه ـ) صاحب شرح الصحيفة السجادية ، من أحسن ما كتب في اللغة لكنه لم يتجاوز النصف من حرف الصاد المهملة وانتهى إلى كلمة قمص وقد توفي قبل إتمامه ، تكلم في كل صيغة بكل ما لها من المعاني لك اصطلاح ، وذكر جميع استعمالاتها الحقيقية والمجازية في الكتاب ولاسنة والمثل وغيرها. فيذكر أولا المعاني اللغوية. ثم يقول : الكتاب ، ويذكر استعمالاته فيه ثم يقول : الأثر ، ويذكر استعمالاته في الحديث ، ثم يقول : المصطلح ويذكر المعنى الاصطلاحي. ثم يقول : المثل ، ويذكر استعمالاته في الأمثال. فهو جامع للسان العوام ولسان الخواص وغريب القرآن وغريب الحديث وغريب الأمثال ، هو قيد الطبع حاليا في قم المقدسة بتحقيق مؤسسة آل البيت لإحياء التراث بقم المقدسة (الذريعة ١٥ / ١٥٧).

٩٠

قتلته ، فهو مثئور وأنا ثائر ، وثأر بالهمز كعدل ، وبدونه على أنه محذوف من الثأر ، كشاك من الشائك ، فلا يهمز لأنه ألف فاعل ـ إلى أن قال ـ والثارات جمع الثار بمعنى الذحل ، ومنه يالثارات الحسين عليه السلام يعني تعالين يا ثاراته وذحوله ، فهذا أو ان طلبكن ، وقيل وهي جمع ثار بمعنى الطالب للثار يناديهم ليعينوه ، وقيل بمعنى المطلوب به أي يا قتلته يناديهم تقريعا لهم وتفظيعا للأمر عليهم ، ـ ثم قال في نقل الأثر ـ «أشهد أنك ثار الله وابن ثاره» ، الثأر هنا الذحل جعلهما ثارين لله ، لأنه الطالب لدمائهما من قتلتهما في الدنيا والآخرة ، وخفى على بعضهم هذا المعنى فقال : لعله مصحف من ثائر الله وابن ثائره ـ وعلى صحة معناه فلا داعي إلى دعوى التصحيف إذ كان الثأر بمعنى الثائر أيضا ثم قال المثل (١) : «يا ينام من ثأر» ، أي من طلب الثأر حرم على نفسه النوم حتى يدرك ثأره».

والثأر في الكتابين كما ترى ثد فسر بالذحل ، والظاهر أن الذحل مشترك بين الحقد والعداوة وبين دم المقتول ظلما ، وبين طلب هذا الدم.

فما في (الصحاح) من التفسير محمول على المعنى الثالث ، كما أن ما في (الطراز) محمول على الثاني.

ففي (القاموس) (٢) : «الذحل : الثأر أو طلب مكافأة فجناية جنيت

__________________

(١) مجمع الأمثال للميداني (٣ / ٢٠٦) وفيه «من أثأر».

(٢) القاموس المحيط ص ١٠٠١ (مادة الذحل).

٩١

عليك ، أو عداوة أتيت إليك ، أو هو الدعداوة والحقد» انتهى ، وقد مر منه أنه فسر الثأر بالدم.

وفي (الصحاح) (١) : «الذحل : الحقد والعداوة ، يقال طلب بذحله أي بثأره».

وفي (المصباح (٢)) : «الذحل الحقد ـ إلى أن قال ـ وطلب بذحله ووترهم ودمائهم ، يطلب بذحله أي بثأره ، والذحل الثأر وكذا الوتر بالفتح ، وكرر للتأكيد ، والذحل الحقد والعداوة» (٣).

ولا يخفى أن الذحل الواقع في حيز الطلب في تلك العبارات لا معنى له إلا الدم المزبور بقرينة الطلب ، إذ لا يصح إرادة طلب العداوة كما هو واضح ، ثم إن المستفاد من مجموع ما ذكرنا هو أن الثأر يطلق على الدم المسفوك بغير حق أي دم المقتول ظلما ، وهو المراد في المقام ، سواء طلبه وليه من القاتل كدم أمير المؤمنين عليه السلام أم لا كدم أبي عبد الله الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه.

__________________

(١) الصحاح (٤ / ١٣٩١) (مادة ذحل).

(٢) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير : لأحمد بن محمد بن علي الفيومي ، جمع فيه غريب شرح الوجيز للرفاعي وأضاف إليه زيادات من لغة غيره ومن الألفاظ المشتبهات ، وقسم كل حرف منه باعتبار اللفظ إلى مكسور الأول ، ومضمومه ومفتوحه ، والى أفعال بحسب أوزانها ، ثم اختصره على النهج المعروف ليسهل تناوله ، وقيد ما يحتاج إلى تقيده بألفاظ مشهورة ، له عدة طبعات (كشف الظنون ٢ / ١٧١٠).

(٣) المصباح المنير (١ / ٢٠٦).

٩٢

فما في (القاموس) من التفسير بمطلق الدم فهو من باب سعد أنه نبت على ما هو عادة اللغويين من التفسير بالأعم ، ويشهد لهذا المعنى الأدعية المأثورة عنهم عليهم السلام.

ففي دعاء الندبة : «أين الطالب بذحول الأنبياء ، أين الطالب بدم المقتول بكربلاء» (١).

وفي الصلوات الطويلة المذكورة في (زاد المعاد) (٢) بعد دعاء الندبة عند الصلاة على الصديقة الطاهرة «اللهم كن الطالب لها ممن ظلمها واستخف بحقها ، اللهم وكن الثائر لها بدم أولادها».

وهذا من باب التجريد إذ الثائر هو طالب الدم المخصوص ، وعند الصلاة على أبي عبد الله الحسين عليه السلام (٣) : «السلام عليك يا أبا عبد الله ... وأشهد أن الله تعالى الطالب بثأرك».

وفي دعائه عليه السلام يوم عرفة «وانصرني على من ظلمني ، وارزقني [فيه] (٤) مآربي وثأري» كذا في (زاد المعاد) ، وفي (الصحيفة الحسينية (٥)) (٦) «وانصرني على من

__________________

(١) المزار الكبير ص ٥٧٩ والإقبال (١ / ٥٠٩) والبحار (٩٩ / ١٠٦).

(٢) زاد المعاد المعرب ص ٣١٠ ومصباح المتهجد ص ٤٠١ وجمال الأسبوع ٤٨٦ والبلد الأمين ص ٣٠٣ والبحار (٩١ / ٧٤).

(٣) المصادر السابقة.

(٤) ما بين المعقوفين ليس في المصادر.

(٥) الصحيفة الحسينية : للسيد محمد حسين المرعشي الشهرستاني الحائري المتوفى ١٣١٥ ه ـ ، جمع فيه من الكتب المعتبرة الأدعية التي وردت عن الإمام الشهيد أبي عبد الله الحسين عليه السلام ، طبع سنة ١٣٠٣ ه ـ.

(٦) الصحيفة الحسينية ص ٣٦.

٩٣

ظلمني ، وأرني فيه ثأري ومآربي» (١).

وأيا ما كان فالمراد طلب ثأري ، لكن المناسب على الأول : «وارزقني فيه أن أطلب ثأري» ، وعلى الثاني : «وأرني فيه أن تطلب ثأري» وقد مرت رواية المجلسي أيضا.

ولا يخفى على المتأمل في هذه العبارات أن الذحل والوتر والثأر كلها بمعنى الدم المخصوص المزبور ليس إلا ، وحينئذ فيتجه على العبارة إشكال ، وهو أن الثأر إذا كان معناه الدم المخصوص ، فكيف يصح إطلاقه على المنادى ، والتعبير به عنه ، إذ ليس المنادى كله ثأر ، بل الثأر جزء من أجزاء بدنه ، فينبغي إضافته إليه أولا ، كما مر في عبارة الدعاء ، أعني قوله : بثأرك ، وقوله : ثأري.

فيقال في المقام : «السلام عليك يا من ثأره ثار الله» ، ويمكن دفعه بأن إطلاق الثأر على المنادى مضافا إليه تعالى مبتني على تنزيل تمام شخصه بجميع أجزائه وأعضائه منزلة ثأره تعالى ، تعظيما وتشريفا له ، وإرادة لمزيد الاختصاص به ، وكمال العناية والاهتمام بشأنه ، كما أطلق (٢) «عين الله»

__________________

(١) رواه بهذا اللفظ أيضا الكفعمي في البلد الأمين ص ٢٥٣.

(٢) روى الصدوق قدس سره في التوحيد ص ١٦٤ عن عبد الرحمن بن كثير ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال إن أمير المؤمنين عليه السلام قال «أنا علم الله ، وأنا قلب الله الواعي ، ولسان الله الناطق ، وعين الله الناظرة ، وأنا جنب الله ، وأنا يد الله» ، وراجع أيضا البحار ٢٤ / ١٩١ (باب ٥٣ أنهم عليهم السلام جنب الله ووجه الله ويد الله وأمثالها).

٩٤

و «يده» و «أذنه» و «وجهه» و «جنبه» على أمير المؤمنين عليه السلام ، لأجل التنزيل المزبور في زيارته المعروفة ، وهو قوله (١) «السلام عليك يا عين الله الناظرة ، ويده الباسطة وأذنه الواعية ـ إلى أن قال ـ السلام على اسم الله الرضي ، ووجه المضيء وجنبه العلي» فهذا الإطلاق اللفظي مقيدا بهذه الإضافة ، وإن كان نوع تعظيم وتشريف بحسب اللفظ لكنه متفرغ على ذلك التنزيل المتفرع على التعظيم والتشريف والإختصاص بحسب المعنى.

ثم إن هذا الإختصاص المدلول عليه بالإضافة الموجب للتنزيل المزبور أوجب طلبه تعالى لهذا الدم من القاتل على أنه تعالى ولي الدم وصاحبه ، فيكون طلب طلب المستحق حقه من خصمه ، لا طلب الحاكم لحق أحد المتحاكمين المتخاصمين من الآخر ، فهذا الطلب طلب من باب الولاية ، لا من باب الحكومة ، لأن الطلب من باب الحكومة ثابت له تعالى في حق كل أحد.

لأنه الحكم العدل بين عباده ، ينتصف من الظالمين للمظلومين ، من غير فرق بين عبد حبشي ، وسيد قرشي ، فليس هذا خصيمة بالحسين عليه السلام ، ولا شرافة وكرامة وفضيلة له.

وعلى ما ذكرنا من الطلب من باب الولاية ينزل قوله عليه السلام في الدعاء

__________________

(١) المزار الكبير ص ٢١٧ والإقبال (٣ / ١٣٣) وجمال الأسبوع ص ٤٢ ومزار الشهيد ص ١٣٤ البحار (٩٧ / ٣٠٥).

٩٥

المتقدم «أشهد أن الله تعالى الطالب بثأرك» ومن هنا يظهر ما في كلام (الطراز) في شرح عبارة الرواية ، وهو قوله «جعلهما ثارين لله ، لأنه الطالب لدمائهما من قتلتهما» ، فقد علل الجعل المزبور الذي هو عبارة عن التنزيل المذكور بالطلب ، وقد عرفت أن الأمر بالعكس.

ثم إن قوله في رد من احتمل التصحيف في عبارة الرواية يدل على تسليمه لصحة إرادة اسم الفاعل من هذه العبارة ، وليت شعري كيف يصح أن يقال أنك ثائر الله ، وكيف يعقل ويتصور هذه الإضافة ، إذ قد عرفت أن الثائر إما قاتل الحميم ، وإما طالب دم القتيل من قاتله ، وأيا ما كان ، يستحيل إضافته إلى الله تعالى كما لا يخفى ، بل اللازم أن يعكس الإضافة ويقال : «أن الله ثائرك» أي طالب جمك من قاتلك ، فيطلق الثائر على الله تعالى كما في عبارة الدعاء المتقدمة ، أعني قوله «وكن الثائر اللهم بدم أولادها».

ثم إن لفظ الثأر كما عرفتت مهموز العين ، وقد ثبت في محله جواز تخفيف الهمزة الساكنة المتوسطة بقلبها إلى الحرف المجانس لحركة ما قبلها من ألف أو ياء أو واو ، ولأجل ذلك تكتب الهمزة بصورة ذلك الحرف المقلوب إليه ، كرأس ، وكأس ، وبئر ، وذئب ، وضئر (١) وبؤس ، وسؤل ، وسؤر (٢).

__________________

(١) الضئر : المرضعة.

(٢) السؤر : بقية الشيء.

٩٦

وقد قرء (أبو عمرو) (١) في (الرأس) [مريم ٤] ، و (البأس) [البقرة ١٧٧] ، و (كأس) [الإنسان ٥] كلها بتخفيف الهمزة (٢) كما في (تفسير النيشابوري (٣)) (٤).

وقرء (الكسائي) (٥) وجماعة (٦) في لفظ (الذئب) في المواضع الثلاثة (٧) في سورة يوسف بالتخفيف كما في (مجمع البيان (٨)) (٩) ، ولما كان الغرض من هذه

__________________

(١) أبو عمرو بن العلاء البصري : أحد القراء السبعة ، ولد في مكة ، لغوي نحوي من أقدم نحاة البصرة ، علم الخليل وعنه أخذ الأصمعي أبو عبيدة توفي بالكوفة سنة ١٥٤ ه ـ (المنجد ص ٢٠).

(٢) راجع التيسير في القراءات السبع ص ١٥٨ (باب ذكر مذهب أبي عمرو في ترك الهمز) ووافق أبا عمرو أبو جعفر وهو من القراء العشرة راجع تحبير التيسير ٢٢١.

(٣) غرائب القرآن ورغائب الفرقان ويعرف بتفسير النيسابوري : لنظام الدين حسن بن محمد القمي النيسابوري المعروف بنظام الأعرج ، اختصر فيه تفسير الفخر الرازي وضم إليه الكشاف وغيره من التفاسير فرغ من تأليفه سنة ٧٢٨ ه ـ طبع في طهران سنة ١٢٨٠ ه ـ في ٣ مجلدات ، وفي دهلي سنة ١٣١٣ ه ـ في مجلد واحد ، وطبع بهامش جامع البيان في تفسير القرآن للإمام ابن جرير الطبري في مصر سنة ١٩٠٠ م وطبع مستقلا في ١٠ مجلدات بتصحيح إبراهيم عطوه في مصر.

(٤) عند تفسير آية ٧٧ من سورة البقرة.

(٥) علي بن حمزة الكسائب الكوفي النحوي ، أبو الحسن : أحد القراء السبعة ، سمي بالكسائي لأنه أحرم في كساء ، مولى لبني أسد ، تعلم على يد الخليل بن أحمد ، مؤدب الأمين والمأمون ولدي الرشيد ، توفي برنبويه إحدى قرى الري حين توجه إلى خراسان مع الرشيد سنة ١٨٩ ه ـ (التيسير في القراءات السبع ص ٨).

(٦) وهم ورش وأبو عمرو وخلف وأبو جعفر (تجبير التيسير ص ٤١٣) وزاد في مجمع البيان الأعشى واليزيدي.

(٧) الآيات ١٣ ، ١٤ ، ١٧ من سورة يوسف.

(٨) مجمع البيان لعلوم القرآن : للشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي (ت ٥٤٨ ه ـ) وهو تفسير لم يعمل مثله ، عين كل سورة أنها مكية أو مدنية ، ثم يذكر مواضع الاختلاف في القراءة ، ثم يذكر اللغة والعربية ، ثم يذكر الإعراب ، ثم الأسباب والنزول ، ثم المعنى والتأويل والأحكام والقصص ، ثم يذكر انتظام الآيات ، طبع مرارا في إيران وبيروت (الذريعة ٢٠ / ٢٤).

(٩) مجمع البيان (٥ / ٢١٥) ، التبيان (٦ / ١٠٧) ، غرائب القرآن (١٢ / ٧٩).

٩٧

الزيارة المأثورة المحافظة على خصوص الألفاظ الصادرة عنه عليه السلام لئلا يفوت ما مر من ذلك الثواب الجزيل الموعود عليها ، كان اللازم الاحتياط بالجمع بين الأصل والتخفيف.

٩٨

[شرح «والوتر الموتور»]

قوله عليه السلام * (والوتر الموتور) *.

قد وردت هذه العبارة والعبارة السابقة في الزيارة الأخيرة (١) من زيارات شهر محرم المذكورة في (زاد المعاد) (٢) عقيب زيارة عاشوراء ، والعبارة هكذا «السلام عليك يا ثار الله وابن ثاره ، السلام عليك أيها الوتر الموتور».

في (الصحاح) (٣) : «الوتر بالكسر : الفرد ، والوتر بالفح : الذحل ، هذه لغة أهل العالية (٤) ، وأما (٥) لغة أهل الحجاز فبالضد منهم ، وأما (تميم) (٦) فبالكسر فيهما ـ إلى أن قال ـ والموتور : الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه ، تقول منه : وتره يتره ، وترا وترة».

__________________

(١) المعروفة بزيارة وارث.

(٢) زاد المعاد ص ٢٤٥ والبحار (٩٨ / ٢٢٢) ومستدرك الوسائل (١٠ / ٤١٣).

(٣) الصحاح (٢ / ٧١٨) (مادة «وتر»).

(٤) العالية : ما فوق أرض نجد إلى أرض تهامة وإلى ما وراء مكة ، وهي الحجاز وما والاها. (الصحاح ولسان العرب مادة (علا)).

(٥) في المصدر : «فأما».

(٦) تميم بن مر : قبيلة عربية من العدنانية ، لغتها العربية حجة بين لغات القبائل ، أنجبت أعظم شعراء الجاهلية منهم الأسود بن عفر وسلامة بن جندل وفي الإسلام الفرزدق وجرير (المنجد ص ١٨٠).

٩٩

وفي (القاموس) (١) : «الوتر بالكسر ، ويفتح الفرد والذحل ، [أو الظلم فيه] (٢) ، كالترة والوتيرة ـ ألى أن قال ـ والموتور : من قتل له قتيل فلم يدرك بدمه».

وفي (الطراز) : «الوتر كعهن الفرد وهي لغة (تميم) و (قيس) (٣) ، وكفلس لغة (قريش) والحجاز ، ومنه الوتر للذحل ، وهو الثأر لأن من وترته أي قتلت حميمه فقد أفردته منه ، وهو كعهن في لغة (تميم) والحجاز ، وكفلس في لغة العالية ، جمعه أوتار ، ووترت العدد وترا ، كوعد أفردته والرجل ترة كعدة ، ووترا كوعد قتلت حميمه وأفردته منه ـ ألى أن قال ـ وطلب وتره وترته ووتيرته ثاره وذحله ، وله عنده ترات جمع ترة ، كعدة وعدات ورجل موتور ، قتل له قتيل فلم يأخذ بدمه».

والمستفاد من هذه الكلمات أن الوتر يطلق على معنيين آخرين سوى الفرد ، أحدهما معنى مصدري حدثي ـ وهو قتل حميم الإنسان مع عدم تمكنه من أخذ دم قتيله ـ وهذا القيد لأجل أنه قد اشتق منه الموتور الذي قد صرحوا فيه بأنه من قتل له قتيل فلم يدرك بدمه ، ويؤيده عبارة الزيارة

__________________

(١) القاموس المحيط ص ٤٩٠ (مادة «وتر»).

(٢) من المصدر.

(٣) قيس عيلان : جد جاهلي من مضر بن نزار من عدنان ، بنوه قبائل كثيرة منهم : هوازن ، سيليم ، غطفان (المنجد ص ٤٤٤).

١٠٠