القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

فنقول : إنّ جواز عمل المجتهد المطلق برأيه في كلّ واحد واحد من المسائل موقوف على جواز اجتهاده في المسائل ، وجواز اجتهاده في المسائل موقوف على جواز اجتهاده في أنّه هل يجوز له الاجتهاد في المسائل أم لا.

وكذا المتجزّي جواز العمل على اجتهاده في شخص مسألة أحاط بمدركها موقوف على جواز اجتهاده في جنس المسائل التي أحاط بمداركها ، وهو موقوف على جواز اجتهاده في أنّه هل يجوز له الاجتهاد ، وهكذا نتنزّل الى الطّفل.

والحاصل ، أنّا نقول : لا بدّ أن يكون كلّ واحد من المكلّفين أخذ تكليفه بالاستدلال في حجّية المدرك ، فإن أمكن تحصيل العلم في الاستدلال ، فالمطلوب هو العلم ، وإلّا فهو الظنّ.

فعلى هذا ، فكما أنّ المجتهد المطلق يستدلّ على جزئيّات المسائل بظنّه في كلّ واحد منها ، وعلى حجّية ظنّه في كلّ واحد منها بكبرويّة الكليّة المأخوذة من الأدلّة المتقدّمة ، والمقلّد يستدلّ على جزئيّات المسائل بقول مجتهده ، وعلى حجّية قول مجتهده بكبرويّة الكليّة ، فكذلك الطّفل يستدلّ على جزئيّات المسائل بقول أبيه مثلا ، وعلى حجّية قول أبيه ممّا ذكرنا من الاستحسان ، وكما أنّ المقلّد لا بدّ أن يجتهد في تحصيل المجتهد ويكتفي بالظنّ في تعيينه مع فقدان الطّريق الى العلم ، فكذلك الطّفل يجتهد بفهمه في تعيين المعوّل والمرجع.

وكما أنّ تشكيك المشكّك بأنّ مجتهد المقلّد غير لائق للاتّباع يوجب تزلزل المقلّد عن اطمئنانه ويجب عليه التّفحّص والتفتيش والاجتهاد ثانيا لتحصيل مجتهد آخر أو إبطال تشكيك المشكّك ؛ فكذا حال الطّفل.

وكما أنّ استفراغ الوسع معتبر في تحصيل المجتهد ، ولا يجوز على المقلّد

٨١

العارف المسامحة في ذلك ، فكذلك الطفل ومن فوقه من العوامّ إذا شكّك له مشكّك بأن يقول : إنّ أباك لا يليق بالتقليد ، أو يجب عليك معرفة الأحكام وتحصيلها من مجتهد مقبول ، فيتزلزل اطمئنانه ولا يجوز له العمل بعد ذلك بهذا الظنّ ، بل لا يبقى حينئذ ظنّ.

كما أنّ المجتهد بعد ما استفرغ وسعه واستقرّ ظنّه على حكم فأخبره معتمد من العلماء أنّ في الكتاب الفلانيّ حديثا صحيحا يدلّ على خلاف ما ذكرت ، وأنّ فلانا ادّعى الإجماع في الكتاب الفلانيّ على خلاف ما ذكرت ، فيتزلزل ولا يجوز له العمل حتى يتفحّص ويتأمّل في ذلك ، ثمّ يعمل على ما اقتضاه.

وأمّا تفصيل الكلام في المقام الأوّل ، فهو أنّ المشهور بين فقهائنا أنّ الناس في غير زمان حضور الإمام عليه‌السلام صنفان : إمّا مجتهد وإمّا مقلّد له ، ومن لم يكن من أحد صنفين فعبادته باطلة وإن وافق الواقع ، ويؤدّي هذا المؤدّى قولهم : بأنّ الجاهل في الحكم الشرعيّ غير معذور.

وذهب جماعة من المتأخّرين ، منهم المحقّق الأردبيلي رحمه‌الله الى ثبوت الواسطة ومعذوريّة الجاهل ، وصحّة عباداته إذا وافقت الواقع.

حجّة المشهور : أنّ التكاليف (١) باقية بالضّرورة وسبيل العلم إليها مسدود ، ولا دليل على العمل بالظنّ إلّا ظنّ المجتهد ، لقضاء الإجماع والضّرورة بذلك والمقلّد له للزوم اختلال نظام العالم لو أوجبنا الاجتهاد على الجميع.

وفيه : أنّ وجوب الرّجوع الى المجتهد إن أريد بالنّسبة الى من تفطّنه لوجوب المعرفة ولم يقصر فطنته على الاكتفاء على من هو دون المجتهد ، فمسلّم ، وإن

__________________

(١) في نسخة الأصل (التكليف).

٨٢

أريد مطلقا ، فممنوع. لأنّ الغافل عن هذا المقدار من وجوب المعرفة الذي أوج معرفته أنّ ما يفعله أبوه وأمّه هو ما لا يحتمل البطلان ، وليس الصّلاة مثلا غير ما يفعلانه ، ولا تزلزل في خاطره في هذا المعنى ، كيف يكلّف بالرّجوع الى المجتهد ، ومعرفة المجتهد وتعيينه ، وهل هذا إلّا التكليف بما لا يطاق؟ ولذلك يكتفى في من بلغ فطنته الى لزوم الرّجوع الى المجتهد بحصول ظنّه بأنّ هذا الشّخص مجتهد ، ويكفيه ذلك وإن اتّفق في الواقع كونه غير مجتهد ، وهل ذلك إلّا لأنّ تكليفه بأزيد من ذلك تكليف بما لا يطاق ، إمّا لأجل أنّه غافل عن احتمال أن يكون شخص أفضل من ذلك ، أو عن احتمال أن يكون ذلك قاصرا في رتبة الاجتهاد ، وإمّا لأجل أنّه جاهل بحقيقة الاجتهاد ، فما الفرق بين ذلك وبين ما نحن فيه؟

فالطّفل في أوّل بلوغه ، على الفرض الذي ذكرنا في تعيين أبيه أو أمّه للرجوع إليه ، مثل هذا المقلّد في تعيين مجتهده.

واحتجّوا أيضا : بالأخبار الدالّة على الرّجوع الى العلماء ، مثل مقبولة عمر بن حنظلة وغيرها ، وبمثل قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) ، وبمثل الأخبار الحاكية أنّ أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام إذا كانوا يسألونهم : عمّن نأخذ معالم ديننا؟ كانوا يقولون : عن زرارة ، أو يونس بن عبد الرّحمن مثلا (٢) ، ولم يجوّزوا الرّجوع الى غيرهم ، بل إنّهم نهوا عن تقليد العالم المتابع لهواه فضلا عن

__________________

(١) النحل : ٤٣.

(٢) راجع «رجال الكشّيّ» ٢ / ٨٥٨ و ٧٧٩ ، وكذا في زكريا بن آدم فقد روى في «الوسائل» ٢٧ / ١٤٦ الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ح ٢٧ ، عن علي بن المسيّب الهمداني قال : قلت للرضا عليه‌السلام : شقّتي بعيدة ، ولست أصل إليك في كل وقت فممّن آخذ معالم دينى؟ قال : من زكريّا بن آدم القميّ ، المأمون على الدّين والدّنيا.

٨٣

غير العالم ، وأمروا بالرّجوع الى العادل الزّاهد ، ونحو ذلك.

وفيه : أنّ نحو هذه كلّها خطابات متعلّقة بمن يفهم ذلك ويتفطّن له ويطّلع على هذه المضامين ، وكون الغافلين والجاهلين رأسا لغير المتفطّنين لأزيد ممّا بلغهم بديهة الذي يفعله النّاس وأبوهم وأمّهم مخاطبين بهذه الخطابات أوّل الكلام.

وأمّا العارفون بذلك ، المستمعون لهذه الخطابات والمتفطّنون لوجود هذه الخطابات أو احتمالها بحيث يحصل التزلزل في معتقدهم ، فنحن نقول أيضا : بأنّهم لو قصّروا في تحصيل ما يجب عليهم ، لكانوا معاقبين ، ولكان طاعاتهم باطلة غير مقبولة.

احتجّ الآخرون : (١) بالأصل وصعوبة حصول العلم بالمجتهد وشرائط [و] عدالته ، سيّما مع الإشكال في معنى العدالة والكاشف عنها والمثبت لها للأطفال في أوّل البلوغ وللنسوان ، بل ولكثير من العوامّ.

وفيه : أنّهم إن أرادوا بذلك الغافل بالمرّة أو العاجز عن إدراك ما ذكر ، كما هو غالب الوجود في المذكورين ، فهو كما ذكروه ، والأصل والعسر والحرج ، بل تكليف ما لا يطاق ، كلّها دليل على ذلك.

ولكن يرد عليهم أنّ تخصيص ذلك ما كان موافقا لنفس الأمر ، لا دليل عليه إذ هؤلاء ليس تكليفهم إلّا ما فهموه ، ولذلك لما (٢) لا يشترط في صحّة صلاة المجتهد موافقة صلاته لنفس الأمر.

ويظهر ما ذكرنا من عدم الفرق من بعض كلمات بعض هؤلاء أيضا كما سنشير إليه ، وإن كان صريح كلام المحقّق الأردبيلي رحمه‌الله اعتبار الموافقة لنفس الأمر.

__________________

(١) كالمقدس الأردبيلي.

(٢) في نسخة الأصل (لم).

٨٤

وأمّا مع فرض التّفطّن والإمكان ، فلا يتمّ الأصل للعلم باشتغال الذّمة وإمكان التّحصيل ، لأنّ العلم الإجمالي كاف في وجوب تحصيل التّفصيل كما في المثال المشهور بتكليف المولى عبده بالعمل على الطّومار الممهور ، ولا حرج فيه يوجب سقوط التكليف.

واحتجّوا أيضا : (١) بأنّ المأمور به هو نفس العبادة وكونها مأخوذة من الإمام عليه‌السلام أو من المجتهد ، غير داخل في حقيقته ، فمتى وجد في الخارج ، يحصل الامتثال ، والأصل عدم مدخليّته كونها مأخوذة منهم في ماهيّة العبادات.

وكلامهم هذا يقتضي كفاية ذلك ، وإن علم بوجوب المعرفة والتحصيل وقصّر فيه واكتفى بظنّه أو بتقليد من لا يجوز تقليده وهو صريح كلام بعضهم ، وقد يقيّد بعدم العلم بنهيه عن ذلك حين الفعل.

أقول : لا مناص في صحّة العبادات من قصد الامتثال كما حقّقناه سابقا في محلّه ، وهو المراد من قصد التقرّب ، ولا يصحّ قصد الامتثال إلّا مع معرفة كون ذلك الفعل هو ما أمر به الآمر ، فإذا لم يعرف ذلك فكيف يقصد به التقرّب ، وهذا هو الفارق بين الواجبات التوقيفيّة والواجبات التوصّلية ، كما بيّناه سابقا. فإن اعتبر هؤلاء مجرّد الموافقة وإن كان المصلّي عالما بوجوب التّحصيل ومقصّرا في ذلك ، فهو باطل لعدم تحقّق الامتثال العرفيّ للزوم الجزم بالإطاعة ، والمفروض أنّ مع العلم بوجوب التحصيل لا يبقى الاطمئنان بظنّه وتقليده ، فهو في الحقيقة ليس بظنّ كما أشرنا سابقا.

والحاصل ، أنّ الامتثال العرفيّ لا يحصل إلّا بقصد الامتثال ، وقصد الامتثال

__________________

(١) كالسيد صدر الدّين في شرحه «للوافية».

٨٥

بالفعل لا يتمّ إلّا بمعرفة أنّ الفعل هو نفس المأمور به ، والمفروض أنّه لا يعلم ذلك لعلمه بوجوب التحصيل وعدم علمه بأنّ ذلك هو المأمور به ، بل ولا الظنّ أيضا كما أشرنا. ولو فرض حصول ظنّ فلا حجّية فيه مع الاحتمال الظّاهر كما أشرنا في المجتهد إذا أخبره عدل بوجود معارض لم يعثر عليه المجتهد.

ويدلّ على ذلك أيضا قولهم عليهم‌السلام : «لا عمل إلّا بالنيّة» (١) ، و : «إنّما الأعمال بالنيّات» (٢) ، وغيرهما.

وإن اعتبروه بشرط أن لا يتفطّن المكلّف لوجوب التحصيل ، ولا يحصل له العلم بذلك.

ففيه : أنّ اعتبار الموافقة هنا لا دليل عليه ، لأنّ التكليف بالموافقة حينئذ تكليف بما لا يطاق ، فليس ذلك تكليفا له ، فكيف يطلب منه ، مع أنّه لا معنى محصّل لموافقة نفس الأمر ، ولا يظهر أنّ المراد منه هو حكم الله الواقعيّ الذي عليه أحد إلّا الله ، أو ما وافق رأي المجتهد الذي في ذلك البلد ، أو أحد المجتهدين ، وما الدّليل على ذلك كلّه ، وما المبيّن والمميّز له. وحكم المجتهد بعد اطّلاعه بالموافقة وعدم الموافقة أيّ فائدة فيه لما فعله قبل ذلك. اللهمّ إلّا أن يقال المراد الحكم بلزوم القضاء وعدمه ، فيتبع ذلك رأي المجتهد الذي يقلّده بعد المعرفة ، فيحكم بأنّه فات منه الصلاة أو لم يفت ، وأنت خبير بأنّ الحكم بالفوات وعدم الفوات تابع لكون المكلّف حينئذ مكلّفا بشيء ثمّ فات منه ، وهو أوّل الكلام ، ولزوم القضاء على النّائم والنّاسي إنّما خرج بدليل هو النصّ.

__________________

(١) «الوسائل» ١ / ٤٦ ح ٨٣.

(٢) «الوسائل» ١ / ٤٨ ح ٨٩.

٨٦

وما يوجّه الفرق بأنّ مقتضى القول بعدم جواز التّرجيح بلا مرجّح أن يكون لخصوصيّة الهيئة الصّادرة من الشّارع مدخليّة في تكميل النّفس وحصول القرب الذي هو المطلوب من المأمور به ، فمع المخالفة لا يحصل ذلك ، كما في تركيب الأدوية عند أطبّاء الأبدان.

ففيه : مع أنّ تلك الهيئة المخترعة كما أنّه لا يجوز انتقاصها عمّا ركّبها عليه أطبّاء الأديان وترتفع خاصيّتها بذلك ، فكذلك لا يجوز خلوّها عن قصد التّقريب والامتثال الذي هو من كيفيّات هذا التّركيب وشرائطه. ومنع اشتراطه مكابرة كما يشهد به العرف والعادة والعقل والنقل أنّه يرد عليه أنّك ما تقول في مؤدّى ظنون المجتهدين في المسائل المختلف فيها ، فهل التّركيب واحد في نفس الأمر ، أو مختلف مجوّز كلّها بمقتضى تعدّد الآراء ، أو غير الموافق بدل عن الموافق كبدل الأدوية ، فإن كان واحدا فيرد ما ذكرت على المجتهد أيضا ، وإن كان مختلفا فيرد عليه بيان الفرق بين المجتهد وغيره.

وما الدّليل الذي جوّز ذلك في المجتهد ولم يجوّزه في غيره [غير] ، فهل دليل جواز عمل المجتهد برأيه وجواز تقليد الغير إيّاه إلّا لزوم تكليف ما لا يطاق لولاه؟ وقد عرفت أنّه موجود في غير المقصّر الجاهل الغافل أيضا كما بيّناه ، مع أنّ نيّة القربة قد تكون فيه أكمل من الذي علم وجوب التّحصيل واكتفى بظنّه المعلوم ، بل وهمه ، واتّفق موافقته للواقع.

وبالجملة ، الفرق بين الموافق للواقع وغيره حينئذ في الثّواب والعقاب والمدح والذمّ ، وغيرهما خلاف طريقة العدل كما أشار إليه بعض المحقّقين ، قال : إنّ أحد الجاهلين بوجوب معرفة الوقت إن صلّى في الوقت والآخر في غير الوقت ، فلا يخلو إمّا إن يستحقّا العقاب أو لم يستحقّا أصلا ، أو يستحقّ أحدهما دون

٨٧

الآخر. وعلى الأوّل ، يثبت المطلوب ، لأنّ استحقاق العقاب إنّما يكون لعدم الإتيان بالمأمور به على وجهه. وعلى الثاني ، يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا. ولو انفتح هذا الباب لجرى الكلام في واحد واحد من أفعال الصلاة ، ويفضي الأمر الى ارتفاع جلّ التكاليف ، وهذه مفسدة واضحة لا يشرع لأحد الاجتراء [اجتراء] عليه ، ومعلوم فساده ضرورة. وعلى الثالث ، يلزم خلاف العدل ، لاستوائهما في الحركات الاختياريّة الموجبة للمدح أو الذّمّ ، وإنّما حصل مصادفة الوقت وعدمه بضرب من الاتّفاق من غير أن يكون لأحد منهما فيه ضرب من التّعمل والسّعي وتجويز مدخليّة الاتّفاق الخارج عن المقدور في استحقاق المدح والذّمّ ممّا هدّم بنيانه البرهان ، وعليه إطباق العدليّة في كلّ زمان.

أقول : ولا بدّ من حمل كلام هذا المحقّق على صورة العلم بوجوب معرفة الصّلاة بشرائطها وأركانها ، بحيث يحصل له القطع أو الظنّ مع التّقصير فيه ، وأمّا الغافل فلا بدّ أن يختار فيه الشّق الثّاني.

وأجاب بعض الأفاضل : باختيار الشّقّ الثاني لو كان غافلا عن وجوب مراعاة الوقت وجاهلا بوجوب معرفة الصلاة بشرائطها وأركانها ، بحيث يحصل له القطع أو الظنّ.

وأمّا مع فرض العلم بوجوب المعرفة المذكورة ، فقال : إنّ الذي فعل في الوقت حينئذ ، معاقب على ترك السّعي لا على ترك الصلاة لإتيانه بها ، وليس التّحصيل والمعرفة من شرائطها ، بل هو واجب على حدة.

وأمّا الآخر فيعاقب على ترك السّعي وعلى عدم الإتيان بالصّلاة لعلمه بأنّه يجب عليه السّعي ليعلم الشّرائط ويأتي بالصّلاة التامّة ، فترك السّعي واستمرّ جهله فلم يأت بها مطابقة للواقع.

٨٨

ودفع لزوم كون الأمر الاتّفاقي موردا للمدح أو الذمّ بأنّا نقول : إنّ المدح على فعل الصّلاة النّاشئ عن العلم ، ولم نقل بأنّ الذي فعل في الوقت مستحقّ للمدح بفعله في الوقت ، بل نقول بأنّه لا عقاب لتركه مراعاة الوقت من جهة جهله بها ، ولا ملازمة بين كون شيء غير مستحقّ للذّم والعقاب عليه وكونه مستحقّا للممدوحيّة ، بأن يكون كلّ من لم يستحقّ العقاب على شيء يستحقّ المدح عليه كما في تارك الزّنا لغير الله تعالى ، فغاية الأمر أن يكون الجاهل بمراعاة الوقت المصلّى فيه أقلّ ثوابا من العالم الذي راعى الوقت وصلّى فيه ، لأنّ الثّاني تقرّب الى الله بفعلين ، والأوّل بفعل واحد.

أقول : وفيه مع ما فيه ممّا يظهر من التأمّل فيما تقدّم ، أنّ هذا بعينه الخروج عن قواعد العدل ، فإنّ الأوّل لم يصدر منه شيء أزيد من وقوع فعله في الوقت اتّفاقا ، وفي الباقي متساويان ندرأ العذاب عن أحدهما دون الآخر خروج عن العدل. وكذا حصول المدح لأحدهما على أفعال الصلاة دون الآخر ، مع أنّ خلوّ الطّاعة عن الرّجحان واستحقاق المدح أيضا غير معهود ، وقياسه بترك الزّنا قياس مع الفارق ، فإنّ ترك الزّنا من التّوصّليات ، بخلاف فعل الصلاة في الوقت.

وقد احتجّوا أيضا : بالأخبار الدالّة على دفع الكلفة والعقاب عمّا لا نعلم ، مثل قولهم عليهم‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (١). وقولهم عليهم‌السلام : «من عمل بما علم كفي ما لم يعلم» (٢). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وضع عن أمّتي تسعة

__________________

(١) «الوسائل» ٢٧ / ١٦٣ ح ٣٣٤٩٦.

(٢) «التوحيد» ص ٤١٦ ح ١٧.

٨٩

أشياء» ، وعدّ منها : «ما لا يعلمون» (١) ، ونحو ذلك.

وفيه : أنّ مدلول هذه الأخبار فيما جهلوه إجمالا وتفصيلا ، ولم يتفطّنوا لوجوب معرفته أو غفلوا عنه بعد الفحص والتّفتيش أيضا واضح ومسلّم لا غبار عليه. وأمّا فيما علم إجمالا وجوب المعرفة فيه وحصل احتمال ظاهر بوجوب الطّلب بالنّسبة الى بعض ما لا نعلمه ، فلا يصدق مدلولها لحصول العلم في الجملة ، وإن لم يكن تفصيلا ، ولذلك ترى الفقهاء لا يتمسّكون بعموم هذه الأخبار بعد قولهم بالعمل بأصل البراءة.

والعمل بأصل البراءة عندهم مشروط بالتّفحّص عن الأدلّة بقدر الوسع ، ومع حصول الظنّ بعدمها ، فحينئذ يعملون بمقتضاها لحصول العلم الإجمالي لهم باختلاف الأدلّة وتعارضها ، واشتغال الذمّة بشيء غير مبيّن.

والحاصل : أنّ بعد حصول العلم الإجمالي والتّفطّن بوجوب تحصيل المعرفة بالأحكام ، لا يجوز المسامحة ، والعمل بأيّ ظنّ يحصل ما لم تطمئنّ (٢) إليه النّفس بحيث لم يبق له تزلزل في الأمر.

ويدلّ على ذلك أيضا روايات كثيرة ، مثل ما رواه الشيخ في الصّحيح عن أبي عبيدة الحذّاء (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال : سألته عن امرأة تزوّجت رجلا ولها زوج ، قال : فقال عليه‌السلام : إن كان زوجها الأوّل مقيما معها في المصر التي هي فيه تصل إليه أو يصل إليها فإنّ عليها ما على الزّاني المحصن الرّجم». الى أن قال :

__________________

(١) «الوسائل» ٧ / ٢٩٣ ح ٩٣٨٠.

(٢) في نسخة الأصل (يطمئن).

(٣) «تهذيب الأحكام» ج ١ ص ٢٣ باب ١ حدود الزّنى ح ٦٠ و «الكافي» كتاب الحدود باب ١٢٢ ح ١.

٩٠

«فإن كانت جاهلة بما صنعت؟ قال : فقال : أليس هي في دار الهجرة؟ قلت : بلى ، قال : فما من امرأة اليوم من نساء المسلمين إلّا وهي تعلم أنّ المرأة المسلمة لا يحلّ لها أن تتزوّج زوجين. وقال : ولو أنّ المرأة إذا فجرت قالت : لم أدر ، أو جهلت أنّ الذي فعلت حرام ولم يقم عليها الحدّ ، إذا لتعطّلت الحدود».

وكذا في «الكافي» (١) وأيضا في الحسن لإبراهيم بن هاشم (٢) عن أبي أيّوب عن يزيد الكناسيّ قال : سألت أبا جعفر عليه الصّلاة والسّلام «عن امرأة تزوّجت في عدّتها؟ قال : إن كان تزوّجت في عدّة طلاق لزوجها عليها الرّجعة ، فإنّ عليها الرّجم ، وإن كانت تزوّجت في عدّة ليس لزوجها عليه الرّجعة فإنّ عليها حدّ الزّاني غير المحصن». الى أن قال : «قلت : أرأيت إن كان ذلك منها بجهالة؟قال : فقال عليه‌السلام : ما امرأة اليوم من نساء المسلمين إلّا وهي تعلم أنّ عليها عدّة في طلاق أو موت ، ولقد كنّ نساء الجاهليّة يعرفن ذلك».

«قلت : فإن كانت تعلم أنّ عليها عدّة في طلاق أو موت ولا تدري كم هي؟قال : فقال : إذا علمت أنّ عليها العدّة لزمتها الحجّة فتسأل حتّى تعلم».

وهكذا أيضا في «الكافي» و «الفقيه» (٣).

وما رواه المشايخ الثلاثة في كتبهم (٤) وسند بعضها معتبر عن الصّادق عليه‌السلام :

__________________

(١) «الكافي» ٧ / ١٩٢ ، كتاب الحدود باب ١٢٢ ح ٢.

(٢) عن ابن محبوب.

(٣) ٤ / ٤ باب ما يجب به التّعزير والحدّ و... (ح ٤٣).

(٤) «تهذيب الأحكام» ١ / ١٢١ باب ٥ ـ الأغسال المفترضات والمسنونات ح ٣٦ ، «الكافي» ج ٦ ص ٤٣٢ باب ٣٦ ح ١٠ ، «من لا يحضره الفقيه» ح ١ ، ص ٤٥ باب ١٨ ح ٦.

٩١

«إنّ رجلا جاء إليه فقال له : إنّ لي جيرانا لهم جوار يغنّين ويضربن بالعود فربّما دخلت المخرج فاطيل الجلوس استماعا منّي لهنّ؟ فقال عليه‌السلام له : لا تفعل. فقال : والله ما هو شيء آتيه برجلي ، إنّما هو سماع أسمعه بأذني».

فقال الصادق عليه‌السلام : «لله أنت ، أما سمعت الله يقول : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً)(١) فقال الرّجل : كأنّي لم أسمع بهذه الآية من كتاب الله عزوجل من عربيّ ولا عجميّ لا جرم أنّي قد تركتها وإنّي أستغفر الله تعالى».

فقال له الصادق عليه الصلاة والسلام : قم فاغتسل وصلّ ما بدا لك ، فلقد كنت مقيما على أمر عظيم ، ما كان أسوأ حالك لو متّ على ذلك ، استغفر الله واسأله التّوبة من كلّ ما يكره ، فإنّه لا يكره إلّا القبيح ، والقبيح دعه لأهله فإنّ لكلّ أهلا».

الى غير ذلك من الأخبار ، مثل ما دلّ على أنّه لا تنفع (٢) الطّاعة إلّا بولاية وليّ الله ، وبأن تكون (٣) جميع أعماله بدلالته إليه ، ومثل ما ورد : أنّه لا عمل إلّا بالفقه ، والمعرفة ، وبالعلم ، وبإصابة السّنّة. ويؤيّده الخبر المشهور (٤) : «إنّ القضاة أربعة والنّاجي منها واحد ، والباقي في النّار». فإنّ هذه الأخبار تدلّ على أنّ العلم الإجمالي كاف في التكليف بالتفصيل ، وتاركه معذّب.

والمراد بالخبرين الأخيرين الدّلالة الى العمل على حسب فهم المكلّف ، وكذلك إصابة السّنّة ، وإلّا فيلزم تكليف ما لا يطاق لو أريد ذلك على سبيل العموم ،

__________________

(١) الإسراء : ٣٦.

(٢) في نسخة الأصل (ينفع).

(٣) في نسخة الأصل (يكون).

(٤) «الكافي» كتاب القضاء باب ٢٥٢ ، أصناف القضاء ح ١ ، «التهذيب» نفس الباب ح ٥ ، «الفقيه» باب أصناف القضاء ح ١.

٩٢

ولزوم تكليف ما لا يطاق في الغافل والجاهل رأسا هو المخصّص لكلّ ما يمكن أن يستدلّ به من العمومات والإطلاقات لو سلّم عمومها ودلالتها ، لأنّ الظّنّي لا يعارض القطعيّ.

واحتجّوا أيضا : بروايات مثل ، ما ورد في حكاية عمّار (١) أنّه أصابه جنابة فتمعّك في التّراب. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كذلك يتمرّغ الحمار ألا صنعت كذا ، فعلّمه التيمّم».

ومثل ما ورد في حكاية براء بن معرور حيث تطهّر بالماء (٢) ، وصار ممدوحا بهذا مع أنّه لم يأخذه من الشّارع ، ونحو ذلك.

وفيه : أنّ هذه الأخبار ليست باقية على ظاهرها ، ولا بدّ من تأويلها لمخالفتها للدليل القطعيّ فيمن يتمكّن من التحصيل وتفطّن لوجوب معرفة الأحكام بالتفصيل. فالتنديم والتوبيخ على عمّار إنّما يرجع الى تقصيره في عدم السّؤال حتّى يفعل صحيحا ، وإن فرض أنّ عمار كان جاهلا بلزوم السّؤال ، وغافلا عن

__________________

(١) «الوسائل» ٣ / ٣٦٠ ح ٣٨٦٨.

(٢) في «الوسائل» ١ / ٣٥٤ باب ٣٤ استحباب اختيار الماء على الأحجار ... ح ٣ ، عن محمد بن علي بن الحسين في «الخصال» قال : كان الناس يستنجون بالأحجار ، فأكل رجل من الأنصار طعاما ، فلان بطنه ، فاستنجى بالماء ، فأنزل الله تبارك وتعالى فيه : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة : ٢٢٢) ، فدعاه رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخشي الرّجل أن يكون قد نزل فيه أمر يسوؤه ، فلمّا دخل ، قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل عملت في يومك هذا شيئا؟ قال : نعم يا رسول الله ، أكلت طعاما فلان بطني ، فاستنجيت ، بالماء ، فقال له : أبشر ، فإنّ الله تبارك وتعالى قد أنزل فيك : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) فكنت أنت أوّل التّوابين ، وأوّل المتطهّرين ويقال : إنّ هذا الرّجل كان البرّاء بن معزوب (في المصدر : البراء بن معرور) الأنصاري.

٩٣

حقيقة الحال وعاريا عن العلم بالتفصيل والإجمال ، فالرّواية دليل على جواز عمله بظنّه حينئذ.

ونحن لا نتحاشى عنه ، مع أن استعمال هذا اللّفظ وما في معناه شائع في العرف في إرادة بيان ما هو حقيق بأن يفعل ، وإلّا فلا معنى للتنديم والتوبيخ على الجاهل والغافل.

وأمّا الحكاية الأخرى ، فيظهر الجواب عنها بملاحظة ذلك بأنّ اتّفاق مطابقة ورود الشّرع على مقتضى فعلهم يكشف عن حسن ذلك الفعل بالذّات ووجود المصلحة فيه ، وإن كان مقصودهم من ذلك التنظيف لا التطهير الشّرعيّ أو أنّ ظنّهم أدّاهم الى هذا الاختيار باعتقاد أنّه حكم الله مع عدم تقصيرهم في تحصيل المعرفة ، فصاروا ممدوحين بهذا الفعل لمطابقته للمصلحة الواقعية.

وكذلك يظهر الجواب أيضا لو استدلّ بمثل ما رواه الكليني في «الكافي» (١) عن عبد الله بن عطاء قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : «رجلان من أهل الكوفة أخذا فقيل لهما : تبرّءا من أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فتبرّأ واحد منهما وأبى الآخر ، فخلّي سبيل الذي تبرّأ وقتل الآخر. فقال عليه‌السلام : أمّا الذي تبرّأ فرجل فقيه في دينه ، وأمّا الذي لم يتبرّأ فرجل تعجّل الى الجنّة». فإنّ الظّاهر أنّ الذي لم يتبرّأ كان جاهلا بوجوب التقيّة ووجه دخوله الجنّة أنّه غير مقصّر في ذلك لعدم تفطّنه.

وفذلكة المقام ، أنّ الثواب والعقاب على الفعل والترك إنّما يتبع العلم والجهل مع عدم التّقصير ، فدعوى كون من قلّد غير من هو أهل التقليد في الأحكام الشرعيّة معاقبا مأثوما مطلقا ، شطط من الكلام. ومدّعي ذلك ، إمّا لا بدّ له من القول

__________________

(١) ٢ / ٢٢٠ ح ٢١.

٩٤

بجواز تكليف الغافل ، أو دعوى عدم إمكان حصول هذا الفرد.

أمّا الأوّل : فلا خلاف في قبحه ، بل الأشاعرة مع نفيهم للقبح العقليّ لم يجوّزوه.

وأمّا الثاني : فهو يرجع الى النّزاع في الصغرى ، ونحن نتكلّم على فرض ثبوتها ، فلا بحث علينا ، مع أنّ هذه الدّعوى تشبه المكابرة ، إذ نحن نشاهد الفضلاء الفحول والمجتهدين في المعقول والمنقول ربّما غفلوا عمّا يلزمهم معرفته في الفروع والأصول فضلا عن الأطفال والنسوان وضعفاء العقول ، وكثيرا ما رأينا الصّلحاء الذين ليس همّهم إلّا معرفة الدّين وتحصيل الشّرائع باليقين ، وكان شغلهم مجالسة العلماء ، والتردّد في أبواب العرفاء ، والمسألة عن مسائل صلاتهم وطهارتهم وصيامهم ، ثمّ ظهر لهم أنّهم غفلوا عن السّؤال عن بعض ما هو من واجبات عباداتهم ، وكانوا يعملون بشيء من أحكامها على سبيل ظنّهم بصحّته من دون أخذ من العالم لأجل عدم تفطّنهم بالسّؤال وغفلتهم عن حقيقة الحال ، وربّما كان مخالفا لرأي مجتهده أيضا ، فكيف يدّعى عدم تحقّق فرض الغفلة. ألا ترى أنّهم لا يحكمون بكفر منكر الضّروريّات إذا أمكن في حقّه الشّبهة ، فإذا جوّزنا الشّبهة في الضّروريّات ، فكيف لا يجوز الغفلة في النظريّات والأمور الخفيّة.

نعم ، الغفلة في الأمور العامّة البلوى كمن زاول الشّريعة وخالط أهلها بعيد ، سيّما إذا نبّه عليه ، مضافا الى أنّ عموم البلوى تنبيه آخر كما أشرنا إليه في الرّوايات ، مثل صحيحة أبي عبيدة ، ورواية يزيد الكناسيّ المتقدّمتين ، فإنّ امرأة عرفت أنّ عليها التربّص بعد الطلاق بزمان مجهول لها مقداره حتّى تحلّ لزوج آخر ، فكيف يجوز لها التّزوّج باعتذارها إنّي لم أعرف مقدار الزّمان ، بل يجب عليها السّؤال لحصول العلم لها بالتكليف على الإجمال. ولو فرض وجود امرأة لم

٩٥

يقرع سمعها لزوم العدّة ، فلا ريب أنّها معذورة ، وقد يطلق المستضعف على مثل ذلك.

ولا ريب أنّ أكثر الأطفال في أوائل البلوغ وكثيرا من النّسوان والعوامّ في غالب أحكامهم يلحقون بالمستضعفين بهذا المعنى وإن لم يكونوا مستضعفين من جهة العقل ، بل قد عرفت أنّ الغفلة تحصل للعلماء والفضلاء أيضا ، فالنّزاع بين علمائنا مشهور ، والمحقّق الأردبيلي رحمه‌الله وموافقيه لا بدّ أن يكون فيمن حصل له العلم بالإجمال وتفطّن لوجوب التحصيل ، لكن قصّر في تحصيله وعمل بمقتضى ما قاله من لم يكن أهلا للفتوى وحقيقا بالتقليد ، أو بظنّه ، ولذلك شرطوا فيه موافقته الواقع ، وقد عرفت التّحقيق وأنّه ليس كما قالوه.

ثمّ إن قلت : إنّ ما ذكرت يوجب سدّ أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلّا للمقصّر المتقاعد عن التحصيل مع علمه بوجوب المعرفة ، فلا يجب نهي الغافلين عن الأعمال الشنيعة ولا أمرهم بالعبادات الصّحيحة ، فينتفي فائدة بعث الرّسل وإنزال الكتب.

قلت : ما ذكرته بعينه شبهة ترد على الله تعالى في أصل بعث الأنبياء وإنزال الكتب ، وتأسيس الأحكام وحلّها. إنّ هذه الأحكام والآداب والأعمال لها آثار وثمرات وخواصّ بها يستكمل نفس الإنسان ويحصل له بسبب استعمالها قرب الخالق المنّان ، ولطف الله تعالى يقتضي إبلاغ ذلك بحسب وسع عباده ومقتضى طاقتهم ، ألا ترى أنّ الأنبياء عليهم‌السلام لم يقدروا في أوّل زمان بعثهم على تبليغ جميع الأحكام الى جميع أهل العالم ، وخصوصيّات المكلّفين في كلّ واحد من البلاد.

وحكمته تعالى اقتضت تبليغ ذلك وتتميمه متدرّجا ، ومن لم يكمل عليه الحجّة ولم يتّضح له الحجّة منهم في زمانهم عليهم‌السلام ، فلا سبيل للمؤاخذة عليهم ، ومن قرع

٩٦

سمعه شيء من ذلك فيجب عليه التفحّص عنه بمقدار يصل فهمه الى وجوبه ويكتفي بمقدار يبلغ فطنته الى كفايته ، ومع ذلك فلو فرض اطّلاع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو من يقوم مقامه على غفلة خصوص شخص عمّا جاء به للخلق للإرشاد والتعليم فيجب عليه تنبيهه وإرشاده ، فكذلك الآمرون بالمعروف والنّاهون عن المنكر يجب عليهم تنبيه هؤلاء وإرشادهم طريقة الحقّ لأنّه هو مقتضى اللّطف ، ولا يستلزم ذلك كون ترك تلك الطّريقة وسلوك غيرها بمقتضى اجتهاده وبذل مجهوده معصيته حتّى يكون ردعه من باب النهي عن المنكر.

والحاصل ، أنّ مقتضى اللّطف تبليغ العمل الذي له خاصيّته وأثر بذاته لتحصيل الكمال ، وما يعلمه ذلك المكلّف بمقتضى وسعه وإن لم يكن عليه مؤاخذة لكن لا يترتب على عمله الأثر الذي يترتب على العمل الصّحيح الموافق لإرادة الشّارع ، وإن كان لا يخلو عن أثر وثواب أيضا لئلّا يلزم الحيف والجور.

والفرق بين من يأتي بالعمل على حدوده ، ومن لا يأتي بتمام حدوده مع اشتراكهما في عدم التّقصير في التحصيل لا يوجب الظّلم والحيف ، بل إنّما يوجب الظّلم والحيف إن قلنا بخلو عمل النّاقص عن الأجر رأسا ، ونحن لا نقول به.

وينتهي الكلام في هذا في الغالب الى تفاوت الاستعدادات ، وتفاوت العمل بتفاوت الاستعداد وتفاوت الأجر لذلك لا يوجب ظلما وإلّا فلا بدّ أن يتفاوت حال المعصوم عليه‌السلام من حال مؤمن لم يقصّر في تحصيل واجباته بحسب طاقته وهو كما ترى.

ولتفصيل هذا الكلام محلّ آخر ، ومنتهى الكلام فيه الى الخوض في لجج مسائل القدر وهو منهي عنه ، وما يتعلّق من المسألة بما نحن فيه فالمقصود منه واضح.

٩٧

هذا الكلام في الثّواب والعقاب. وأمّا الكلام في الإعادة والقضاء فهو مسألة فقهيّة تابعة للكلام في مسألة أصوليّة ، ويظهر لك حقيقة الحال فيه بما بيّناه في مسألة أنّ الأمر يقتضي الإجزاء ، ومسألة أنّ القضاء ليس بتابع للأداء ، وقد عرفت أنّ الحق أنّ القضاء إنّما يثبت بدليل جديد ، فكلّما لم يثبت فيه دليل على الوجوب فالأصل عدمه.

والذي يمكن أن يصير قاعدة في المقام مع قطع النّظر عن الأدلّة المختصّة بالمقامات الخاصة هو مثل ما ورد في صحيحة زرارة (١) عن الباقر عليه الصّلاة والسّلام : «ومتى ذكرت صلاة فاتتك صلّيتها».

ولكنّ الاشكال في فهم معنى الفوات وفي التفرقة بين مثل المجنون وفاقد الطّهور والحائض والنّاسي والنّائم ، حيث يحكم على بعضها بالقضاء دون البعض ، وقد يفرق بين فقد الشّرط ووجود المانع ، فعدم الفوت عن المجنون مثلا لعدم الشّرط فلم يتعلّق به شيء حتّى يصدق الفوت ، وكذلك فاقد الطّهور على القول به بخلاف النّائم والنّاسي ، فإنّ النّوم والنّسيان مانعان ، والشّرط غير مفقود وهو التكليف ، وهو تكلّف واضح إذ ليس كون النّوم مانعا مثلا بأولى من كون اليقظة شرطا ، وليس انتساب سقوط التكليف الى فقدان الشّرط بأولى من انتسابه الى وجود المانع. فكما أنّ الحائض يمكن أن يكون سقوط صلاتها لأجل عدم الطهارة ، فيمكن أن يكون لأجل وجود الحيض ، فالأولى الرّجوع الى الفهم العرفيّ.

وإنّ إطلاق الفوات في العرف ينزل على أيّ شيء ، فما ثبت فيه الإطلاق

__________________

(١) الوسائل ٤ / ٢٩٠ ح ٥١٨٧.

٩٨

فيحكم بالقضاء ، وما ثبت عدمه وما شكّ فيه ، فلا يثبت القضاء.

لا يقال : لا مدخل للعرف فيما هو من الأحكام الشرعيّة ، فإنّ المدار في الإطاعة والامتثال على الظّنون كما يحكم به العقل والعادة ، فكما يحسن ، بل يجب على المسافر تهيئة السّفر والملاقي العدوّ أخذ السّلاح مع احتمال الفوات قبل الاحتياج الى الاستعمال ، فكذلك للصحيح السّالم العاقل المتفطّن التّهيؤ للعبادة قبل الوقت ، فمن كان في نظر أهل العرف من المستعدّين لتعلّق التكليف به ثمّ فات منه ، يصحّ إطلاق الفوات عليه ، كالنّائم والنّاسي في الصلاة ، بخلاف الصّغر والجنون ، ولذلك يقال في العرف للتاجر المالك للقنية الطالب للاسترباح إذا منع من سفر خاص : فات منه هذا الرّبح ، بخلاف الفقير الذي لا شيء له.

فنرجع الى ما نحن فيه ، ونقول : إنّ المكلّف الذي استقرّ رأيه على طاعة وعلم أنّ تكليفه ليس إلّا ذلك أو ظنّه كذلك بحيث اطمأنّ به من دون تزلزل ، فيكون ذلك تكليفه ، وإذا أتى به على ما فهمه فخرج عن عهدة تكليفه ولم يفت منه ما كان مكلّفا به عرفا ، فما الدّليل على وجوب القضاء خارج الوقت ، كما أنّ المجتهد والمقلّد له إذا ظهر لهما بعد الوقت خطأ ما فعلاه في الوقت بحسب ظنّهما ، وكما أنّ عدم مطابقة الواقع لا يضرّ بهما ، فلا يضرّ بالجاهل أيضا.

وأمّا الإعادة ، فالأظهر فيه أيضا العدم ، لأنّ الأمر يقتضي الإجزاء وكان مأمورا بما فعل ، وقد فعل.

والقول بأنّه مأمور بذلك ما دام متّصفا بصفة الجهل فهو دعوى خالية عن الدّليل ، بل الأمر مطلق ، والامتثال يحصل بالمرّة.

هذا واعلم أنّ الكلام فيما ذكرنا إنّما هو في الواجبات والمحرّمات والمباحات ونحوها وماهيّة العبادات وكيفيّتها ، وأمّا الصحّة والفساد المترتّبان على المعاملات

٩٩

والأسباب الشّرعيّة كالعقود والجنايات ونحو ذلك ، فنقول : يترتّب الآثار على الأسباب وإن لم يكن المكلّف عالما بترتّبها ، ولا يتوقّف الترتّب بالعلم بأنّ الشّارع رتّب هذا [على] ذلك.

ومرادنا بالواجبات والمحرّمات أيضا غير التوصّليات ، وإلّا فالواجبات التوصّلية أيضا لا يضرّ في ترتيب الآثار عليها جهالة كونها عن الشّارع ، فعليك بالتأمّل في مواقع المسألة والتّمييز ، والله الموفّق.

واعلم ، أنّ الكلام في هذه المسألة بالنّظر الى الغافل والجاهل الغير المقصّر يظهر ثمرته في وجوب الاستغفار وعدمه ، ولزوم القضاء وعدمه ، وأمّا بالنسبة الى الباحثين عنها ، فمسألة علميّة لا عمليّة.

نعم ، يثمر بالنّسبة إليهم في التبليغ والإرشاد وعدمه.

وأمّا تفصيل الكلام في المقام الثاني فهو أنّ المشهور جواز التّجزّي في الاجتهاد ، ومنعه جماعة.

والمراد بالمتجزّي عالم حصل له ما هو مناط الاجتهاد في بعض المسائل فقط بحسب علمه أو بحسب ظنّه وإن لم يكن كذلك في نفس الأمر ، بأن يكون قادرا على استخراج برهة من الأحكام من المأخذ فقط ، مثل إن يحصّل بتتبّعه أنّ الأخبار الدالّة على أحكام مسائل الوضوء أو مطلق الطهارة أو الصّلاة أيضا هي التي عثر عليها ، وعلم إجمالا أن لا معارض لها في الأخبار الدالّة على أحكام المناكح والمواريث والحدود والديات وغير ذلك ، وعلم أنّ آيات الأحكام في هذه المسألة إنّما هي التي علمها ، ولا معارض لها.

وكذلك علم مواقع الخلاف والوفاق في المسألة بالتتبّع في كتب القوم في مظانّ هذه المسائل وكان عالما بعلم الأصول وطريقة الاستدلال ، فيرجع ذلك الى

١٠٠